
لعل أطرف القصص وأهمها ما تذكره كتب التاريخ والادب العربي في معرض التحدث عن موقف طائفة من فضليات نساء المسلمين « كن نصرن علياً في صفين » من معاوية ابن ابي سفيان بعد مصرع ابن ابي طالب. قال ابن عبد ربه :
« وفدت سودة ابنة عمارة بن الاشتر الهمدانية على معاوية .. فقال لها : أنت القائلة لأخيك ـ يوم صفين :
شمر كفعل أبيك يا ابن عمـارة / يوم الطعـان وملتقى الاقران
وأنصر علياً والحسين ورهطـه / وأقصد لهند وابنهـا بهــوان
إن الامام ـ أخا النبي محمد ـ / علم الهدى ومنارة الايمــان
فقد الجيـوش وسر أمام لوائـه / قدمـا بأبيض صـارم وسنان
قالت : مات الرأس وبتر الذنب. فدع عنك تذكار ما قد نسى .. هذا ابن ارطاة قدم بلادي ، وقتل رجالي وأخذ مالي ، فإما عزلته فشكرناك ، وإما لا فعرفناك ، فقال معاوية : والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك. فسكتت ثم قالت :
صلى الاله على روح تضمنه / قبر فاصبح فيه العدل مدفوناً
قد حالف الحق لا يغبى به ثمنا / فصار بالحق والايمان مقروناً
قال : ومن ذاك؟ قالت : علي بن أبي طالب. أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا. فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين. فوجدته قائما يصلي. فانفتل من الصلاة. ثم قال ـ برأفة وتعطف ـ ألك حاجة؟ فاخبر به خبر الرجل فرفع يده إلى السماء وقال : اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا ترك حقك.
ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيه : قد جاءكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشاءهم ، ولا تعثوا في الارض مفسدين (١).
ودخلت بكادة الهلالية على معاوية فسألها عن حالها ، قالت بخير. قال. غيرك الدهر؟ قالت : كذلك هو ذو غيره ، من عاش كبر ، ومن مات فقد.
قال عمرو بن العاص : هي والله القائلة ـ يوم صفين :
يا زيد دونك فأحتقر من دارنا / سبقـا حساما في الترب دفينا
قد كنت أدخره ليوم كريهـة / فاليـوم أبرزه الزمان مصونا
قال مروان وهي ـ والله ـ القائلة :
أترى ابن هند للخلافة مالكــا ! / هيهات ـ ذاك ـ وإن أراد ـ بعيد
قال سعيد بن العاص وهي القائلة :
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى / فوق المنابر ـ من أمية ـ خاطبا
فالله أخـر مدتـي فتطاولــت / حتى رأيــت من الزمان عجائبا
ثم سكتوا ، فقالت أنا والله قائلة ما قولوا. وما خفى عليك مني أكثر فضحك وقال ليس يمنعنا ذلك من برك. أذكري حاجتك. قالت. أما الآن فلا (2).
وكتب معاوية إلى عامله في الكوفة أن يوفد إليه الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ، وكانت شهدت ـ مع قومها ـ صفين. فلما دخلت عليه قال « الست الراكبة الجمل الاحمر والواقفة بين الصفين تحظين على القتال وتوقدين الحرب؟. والله ـ يا زرقاء ـ لقد شركت علياً في كل دم سفكة.
قالت. أحسن الله بشارتك. فمثلك من يبشر بخير. فضحك وقال : والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته. أذكري حاجتك. قالت : آليت على نفسي أن لا اسأل أميرا أعنت عليه أبداً (3).
ودخلت أم سنان بنت جشمة بن خرشة المذحجية على معاوية تكلمه في غلام من بني ليث حبسه مروان. « فقال لها معاوية كيف قولك.
عزب الرقاد فمقلتـي لا ترقـد / والليل يصدر بالهموم ويـورد
يا آل مذجح لا مقــام فشمروا / أن العــدو لآل أحمد يقصـد
هذا علــي كـالهلال تحفــه / وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائــق وابن عم محمد / أن يهدكــم بالنور منه تهتدوا
فقال رجل من جلسائه وهي القائلة :
أما هلكت ـ أبا الحسين ـ فلم تزل / بالحق تعـرف هاديــا مهديــا
فأذهب عليـك صلاة ربك ما دعت / ـ فوق الغصون ـ حمامة قمريـا
قد كنت ـ بعد محمد ـ خلفا كمـا / أوصي إليـك بنــا فكنت وفيـا
قالت لسان صدق ، وقول نطق. وكان ـ والله ـ علي أحب إلينا منك (4). ودخلت ـ على معاوية ـ عكرشة بنت الاطرش بن رواحه متوكئة على عكاز « فسلمت عليه بالخلافة. ثم جلست. فقال لها معاوية الآن يا عكرشة صرت ـ عندك ـ أمير المؤمنين !! قالت : نعم إذ لا علي حي (5). ، فعبرت بذلك عن الخسارة التي حلت بالمسلمين بعد مصرع الامام أحسن تعبير.
فقد مات علي. فمات العدل معه. وباستطاعة معاوية ـ ومن هم على شاكلته أن يصبحوا أمراء للمؤمنين.
وسأل معاوية ـ ذات يوم ـ درامية الحجونية عن سبب حبها لعلي وبغضها معاوية. فقالت. أو تعفيني ، قال لا أعفيك.
قالت أما إذا أبيت فأني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية. وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالامر وطلبتك ما ليس لك بحق. وواليت علياً على ما عقد له رسول الله من الولاء ، وحبه المساكين وإعظامه لاهل الدين. وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى ..
فقال : هل لك من حاجة؟ قالت او تفعل إذا سألتك؟ قال نعم.
قالت : تعطيني مئة ناقة فيها فحلها وراعيها.
قال : تصنعين بها ماذا؟ قالت أغذوا بألبانها الصغار واستحيي بها الكبار وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر ... قال أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئاً!!
قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (6).
إن هذه الحكايات ـ أن دلت على شيء ـ فإنما تدل على أن نفوس الناس أوعية تقبل الخير ـ على أسوء الفروض ـ كما تقبل الشر. فاذا ساد الشر في المجتمع وتبناه حكام السوء اختفت الفضيلة وقل ناصرها. والعكس صحيح كذلك. وبما أن التاريخ البشري بصورة عامة ، والتاريخ العربي الاسلامي بصورة خاصة قد غلبت على حكامه ـ باستثناء علي بن أبي طالب ـ شهوة الحكم والمحافظة على المصالح الذاتية ـ بنسب متفاوتة ـ فلا عجب أن رأينا نفوس الرعايا قد طبعت على الشر والهبوط عن مستويات الاخلاق الرفيعة.
المصادر :
1- ابن عبد ربه « العقد الفريد » ١ / ٢١١ ـ ٢١٢.
2- العقد الفريد ١ / ٢١٢ ـ ٢١٣.
3- المصدر نفسه ص ٢١٣ ـ ٢١٤.
4- العقد الفريد : ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥.
5- المصدر نفسه ص ٢١٥ ـ ٢١٦.
6- العقد الفريد ١ / ٢١٦ ، ٢١٧.