إن سلسلة الروايات التي تزعمها سيف بن عمر قد انقطعت عند الطبري بانتهاء معركة الجمل، ولعل البعض سوف يعتقد أن مرحلة التزييف في التاريخ الإسلامي سوف تنتهي عند ذلك، وتبدأ الحقائق بالظهور من الآن فصاعداً. ولكن الواقع أن التزييف لم يتوقف في هذه المرحلة، ولكنه اتخذ شكلا آخر من خلال تصدي المؤلفين الذين جاءوا بعد الطبري لتلك الحوادث بالتحليل، والذي كان يصب عادة في المجرى السابق الذي تبناه سيف بن عمر في محاولة تبرأة معاوية وبني اُمية وأشياعهم من الخروج عن جادة الصواب، ومحاولة تصويب أعماله ودعاواه التي تذرّع بها للخروج عن الطاعة وشق العصا، لذا فسوف تتركز أبحاثنا القادمة للكشف عن محاولات التزييف هذه، وإبراز النيات الحقيقية والدوافع لهذا الخروج، مع مناقشة آراء بعض المؤلفين الذين تصدوا لهذه المرحلة، حتى يتم استخلاص الحقائق كاملة، وسوف أبدأ باستعراض بعض آراء القاضي ابن العربي والشيخ محب الدين الخطيب حول هذه المسألة، باعتبارهما انموذجين يمثل أحدهما التيار المحافظ القديم، ويمثل الآخر التيار نفسه ولكن في العصر الحاضر، ولأن كتاب العواصم من القواصم كان هو الذي حفزني ودفعني الى البحث عن الحقيقة.
قال ابن العربي:
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعاً، وأما كونه لهذا السبب(يقصد الطلب بدم عثمان)، فمعلوم كذلك قطعاً، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب الحق عنده، فإن ظهر له قضاء وإلاّ سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه، وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا.
ولئن اتُّهم علي بقتل عثمان، فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ وهو متهم به، أو قل معلوم قطعاً أنه قتله، لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفاً. وهبك أن علياً وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم، ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته! فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا اُولئك طلبوا حقاً وقد فعلوا حقاً، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام، وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأس مال في الحال ولا مبالاة عندهم بالاسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردّة ليست معصية، لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أن يتعدى حد عثمان وإشارته، فأي ذنب لهم فيه! وأي حجة لمروان وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره، يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح، والمطالبون ينظرون! ولو كان بهم قوة أو آووا الى ركن شديد، لما مكّنوا أحداً أن يراه منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير، ما صبروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي. ولكن عثمان سلّم نفسه، وتُرك ورأيه، وهي مسألة اجتهاد كما قدّمنا، وأي كلام كان يكون لعلي لو كتبت عنده البيعة، وحضر وليّ عثمان وقال الخليفة له: يا ايها، وما تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون! ماذا كان يقول إلاّ: أثبت وخذ. وفي يوم كان يثبت. إلاّ أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقاً للقتل. وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبداً، وكان يكون الوقت أمكن للطلب وأرفق في الحال وأيسر وصولا الى المطلوب.
والذي يكشف الغطاء في ذلك، أن معاوية لما صار إليه الأمر، لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحداً إلاّ بحكم، إلاّ من قتل في حرب بتأويل أو دسٍّ عليه فيما قيل، حتى انتهى الأمر الى زمان الحجاج وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة، فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أضحوا له يطلبون.
والذي تثلج صدوركم، أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر في الفتن، وأشار وبيّن، وأنذر الخوارج وقال "تقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق"، فبيّن أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه، وقال تعالى (وإنْ طائِفتانِ مِنَ المؤمنينَ اقتَتَلوا فَأصلِحُوا بَينَهُما فإِن بَغَتْ إحداهُما على الاُخرى فَقاتِلوُا التي تَبغي حتى تَفيء إلى أَمرِ اللهِ فإنْ فاءَتْ فَأَصلِحُوا بَينَهُما بِالعَدلِ وَأَقْسِطوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ)(1)، فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم إسم الاُخوة بقوله بعده: (إنما المؤمنون إخوةٌ فَأصلِحُوا بَينَ أَخَويكُمْ)(2)، وقال (صلى الله عليه وآله) في عمار: "تقتله الفئة الباغية"، وقال في الحسين(3): "ابني هذا سيّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فحسّن له خلعه نفسه واصلاحه.
وكذلك يروى أنه أَذن في الرؤيا لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة.
فهذه كلها اُمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا تعدّت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة، والمخطئ أجراً واحداً. وما وقع في الروايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا- فلا تلتفتوا الى حرف منها، فإنها كلها باطلة!(4).
لقد أدلى ابن العربي باعترافات خطيرة تكشف الحقيقة عن مجريات الاُمور، والتي لا يجد الباحث بداً من الاعتراف بها لتوفر الأدلة عليها، ولكنه وكما قلنا سابقاً، فعل كما يفعل الكثير من الباحثين والمؤلفين -خاصة من المعاصرين- عاد فقلب ظهر المجن للحقيقة، وبدأ يردد نفس النغمة السابقة، محاولا جهد الامكان نفي التهمة عن بعض الشخصيات التي لعبت دوراً سلبياً في تلك الأحداث، مثل عثمان ومعاوية. ورغم أننا ناقشنا الكثير من الاُمور التي تدين تلك الشخصيات، إلاّ أن هناك اُموراً اُخرى لابد من توضيحها.
لقد اعترف ابن العربي أولا بأن جميع الصحابة في المدينة متهمون بقتل عثمان أو على الأقل على الرضا بقتله وتسليمه دون أن يتولوا الدفاع عنه، ولكنه عاد وبرّر عملهم هذا بأنه قد تم بموافقة عثمان أو بالأحرى بأمر عثمان الذي كان متبعاً في ذلك أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أمره بالاستسلام لقتلته وعدم محاولة مدافعتهم! وهذا العذر هو الشيء الوحيد الذي يتذرع به معظم المؤلفين لتبرير عمل الصحابة وخذلانهم لعثمان، ويتشبث المؤلفون المعاصرون بهذا العذر تشبث الغريق بالقشة، ولكننا عندما نعرض ذلك على العقل والمنطق والشرع، نجده عذراً متهافتاً تم اختلاقه للخروج من هذه الورطة! إذ أن استسلام الخليفة لقاتليه بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) يعني أن النبي هو المسؤول الأول عن الفتنة التي نشبت بعد مقتل عثمان، والحروب الطاحنة التي دارت بين المسلمين، والذين كان خليقاً بهم أن يكفوا عن هذا القتال، وكان خليقاً بالمطالبين بدم عثمان أن يكفوا عن طلبهم، طالما أن عثمان نفسه لم يحقن دمه امتثالا لأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا أدري إن كان هناك عاقل واحد بين المسلمين يصدّق أن النبي (صلى الله عليه وآله) يأمر بمثل هذه المفسدة، وينصح خليفة المسلمين بالاستسلام الى البغاة الذين جاءوا لقتله بغياً وعدواناً ودون سبب مشروع. وإذا كان الأمر يتطلب من كل خليفة أن يستسلم لأي خارج عليه فإن الخلافة تكون بلا معنى، بل إن منصب الخلافة نفسه كان سيبقى شاغراً أبد الدهر، لأن أي زمان لا يخلو من شذاذ الآفاق والفوضويين الذين سيبادرون الى قتل كل خليفة يحاول أن يردعهم عن مفاسدهم، وإذا كان عمل عثمان صحيحاً، فلماذا لم يقتدي به من جاء بعده من الخلفاء! لماذا لم يستسلم علي ابن أبي طالب للذين خرجوا عليه! ولماذا لم يستسلم جميع الخلفاء ابتداء من معاوية وانتهاء بآخر خليفة جلس على كرسي الخلافة بهذه السنّة التي سنّها عثمان بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله)!
الحقيقة هي التي نطق بها ابن العربي أولا، حين قال عن موقف الصحابة من قتل عثمان، فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا اولئك طلبوا حقاً وقد فعلوا حقاً!
أما معاوية، فلم ينكر ابن العربي، ولا يقدر غيره أن ينكر أنه ادعى المطالبة بدم عثمان، وأنه لم يكن محقاً في طلبه ذاك، إذ أن تكليفه الشرعي كان يفرض عليه طاعة ولي أمره -كما أمر الله سبحانه وتعالى- فكان عليه أن يبدأ أولا بالامتثال لأمر الخلع الذي جاءه من الخليفة، فيخلع نفسه من منصبه، ثم يقدم على الخليفة ويعرض عليه ظلامته، ويطلب منه محاكمة المتهمين بقتل عثمان وإقامة الحد عليهم إن ثبتت عليهم التهمة بقتل عثمان ظلماً، فيأخذ العدل مجراه وتنتهي المشكلة، ولكن معاوية فضّل اتّباع سنّة الجاهلية على سنّة الاسلام، فراح يطالب بالثأر وتسليم قتلة عثمان إليه ليقتلهم دون محاكمة، ورفض في سبيل ذلك كل المحاولات التي قام بها بعض الصحابة للحيلولة دون نشوب الحرب بين المسلمين مجدداً.
أما اعتراف ابن العربي بأن معاوية قد كفّ عن ملاحقة قتلة عثمان عندما صار إليه الأمر، وأن بني اُمية ما كانوا يفعلون في ملكهم ما أضحوا له يطلبون، فان هذا الاعتراف هو أكبر دليل إدانة بحق معاوية، ويكشف عن نياته الحقيقية بكل وضوح، فإن تهاونه في ملاحقة قتلة عثمان يدل على إحدى اثنتين:
1 - إما أن يكون معاوية متيقناً من أن هؤلاء قد قتلوا عثمان بغياً عليه، وأن دعواه في المطالبة بدم عثمان صادقة وصادرة عن قناعة لا يشوبها ريب، تبرّر خوض تلك الحرب الضروس الذي سالت فيها أنهار من دماء المسلمين من الطرفين، فيكون معاوية بتهاونه عن إقامة الحد على اُولئك القتلة، قد عطّل حدّاً من حدود الله لا ينبغي التهاون فيه، لأن في تعطيل الحدود خروجاً على أمر الله ورسوله وتعطيلا للشريعة وإفساداً للمجتمع الاسلامي، وتشجيعاً لأهل البغي، فتكون جريمة معاوية في هذه الحالة، ليست بأقل خطراً من جريمته في الخروج على السلطة الشرعية وإراقة دماء المسلمين.
2 - وإما أن يكون معاوية متيقناً من أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة فعلا، وأنهم فعلوا حقاً، وأن مطالبته بدم عثمان لم تكن تصدر عن الواقع، فيكون معاوية مسؤولا أمام الله، وأمام التاريخ عن كل الدماء التي اُريقت بسبب ذلك، فضلا عن خروجه على السلطة الشرعية بغير وجه حق، والتي ترتبت عليها أعظم المفاسد.
إن الحقيقة التي يحاول معظم الذين ألّفوا في هذا الشأن -قديماً وحديثاً- أن يغمضوا أعينهم عنها، هي أن الطلب بدم عثمان لم يكن إلاّ وسيلة غير شريفة لتبرير غاية أكثر منها لؤماً، ألا وهي محاولة الوثوب على كرسي الخلافة الذي فشل كل من طلحة والزبير في الوصول إليه، ونجح معاوية وحقق غايته منه، فلما نال ما يشتهي وحقق الغاية من رفع شعاره الكاذب، انتفت الحاجة الى هذا الشعار، فكف معاوية عن ملاحقة المتهمين بقتل عثمان، لأن معاقبتهم لم تكن هي الغاية الحقيقية من رفع ذلك الشعار. فمعاوية لم يعف عمن تبقى من قتلة عثمان تكرماً منه وتفضلا -لأن ذلك لا يجوز شرعاً- ولكنه بعد أن وجد أنه قد حقق مبتغاه، تخلى عن دعوته!
البغاة
لقد دأب معظم الذين ألّفوا في الحوادث التي وقعت بين معاوية وعلي، الى محاولة تبرئة معاوية بهذه الآية من سورة الحجرات حول اقتتال طائفتين من المؤمنين، وكأن ما جرى بين علي ومعاوية كان هو السبب في نزول هذه الآية! وهم بذلك يحاولون إضفاء صفة الايمان على معاوية وحزبه، والادعاء بأن كلتي الطائفتين كانتا على حق، إلاّ أن طائفة علي كانت أدنى الى هذا الحق، وذلك حين يربطون الحديث النبوي الشريف بشأن الخوارج بهذه الآية الكريمة، رغم أن التلاعب قد طال بعض ألفاظ هذا الحديث، من أجل الايحاء بما يدعم دعواهم، فإن الحديث قد ورد بقوله (صلى الله عليه وآله): "تقتلهم أولى الطائفتين بالحق"(5).
قال الشوكاني: قوله "اولاهما بالحق"، فيه دليل على أن علياً ومن معه هم المحقّون، ومعاوية ومن معه هم المبطلون، وهذا أمر لا يمتري فيه منصف، ولا يأباه إلاّ مكابر متعسّف(6).
أما الآية من سورة الحجرات، فقال السيوطي في تفسيرها:
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال:
إن الله أمر النبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين، أن يدعوهم الى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض; فإن أجابوا، حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا الى أمر الله ويقرّوا بحكم الله...(7) فالله سبحانه وتعالى يأمر بالاصلاح بين الطائفتين وفق حكم الله، ولكن إذا بغت إحداهما ولم تستجب لحكم الله، فينبغي مقاتلتها، لأنها تكون باغية، حتى إذا ما أذعنت لحكم الله، فعندئذ يحكم بينهما وفق كتاب الله، وتعود الطائفتان الى الاُخوة الاسلامية التي تزعمها معاوية الى حكم الله؟ وهل كان معاوية بالفعل مخطئاً متأولا في هذه الحرب، كما يدّعي البعض؟! إن استقصاء الحقائق كفيل بالكشف عن كل ذلك، حتى يمكننا أن نحكم على الاُمور وفق حكم الله.
وقد علّق الشيخ محب الدين الخطيب على أقوال ابن العربي قائلا:
لما طالب علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه، احتكموا إليه في قتلة عثمان، وطلبوا منه أن يقيم حدّ الله عليهم، أو أن يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم الحد، وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي، بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق، صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم، فكان علي يرى - بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه باباً لا يستطيع سدّه بعد ذلك.
وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل (القعقاع بن عمرو) التميمي، وتحدث بها مع اُم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) طلحة والزبير، فأذعنوا لها وعذروا علياً، ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم الى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين، فالمطالبون بإقامة حدّ الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل أو من أهل الشام; وتقصير علي في إقامة حد الله، كان عن ضرورة قائمة ومعلومة، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين...(8)
إن تعليق محب الدين الخطيب يعطينا صورة عن مدى التهافت والتناقض الذي قد وقع المؤلفون والباحثون من أصحاب هذا الاتجاه فيه، فالخطيب لا ينفك يتشبت بروايات سيف بن عمر حول الموضوع، وبالتالي فهو يبني تحليلاته للاُمور وفق النظرة التي تتبنى الروايات المكذوبة، والتي تصب في نهاية الأمر الى الاتجاه الذي يحاول أن يجعل علي بن أبي طالب هو المسؤول الحقيقي عن تلك الأحداث المفجعة. رغم اختلاق التبريرات التي تدعي أنها تبرئ علياً!
لقد ناقشنا فيما سبق الأساطير التي اختلقها سيف بن عمر في سرده لأحداث معركة الجمل ومقدماتها وبيّنا تهافتها وسقوطها أمام الروايات التي جاءت عن الثقاة، وعن الدور الخيالي الذي قام به القعقاع بن عمرو في الأحداث مما لا نجد له ذكراً إلاّ عند الطبري برواية سيف.
أما اعتذار الخطيب لعلي بن أبي طالب بأنه لم يستطيع الاقتصاص من قتلة عثمان لأنهم صاروا في العراق بين أفراد قبائلهم التي تحميهم، فإنهم في المدينة لم يكونوا بين قبائلهم، وكان باستطاعة علي - لو أراد- وبمساعدة الصحابة أن يقضي عليهم، لأنهم -وكما اعترف ابن العربي- لا يغلبون أربعين ألفاً من الصحابة، فلماذا تأخر علي في اقامة الحد عليهم إذاً!
إن ادعاء الخطيب بأن علياً خاف أن يفتح على نفسه باباً يصعب غلقه إذا ما اقتص من قتلة عثمان! ولكن الباب الذي كان سيفتح عليه في هذه الحالة لم يكن أكثر خطراً من الأبواب التي فتحها عليه أصحاب الجمل وصفّين، ودارت تلك المعارك الطاحنة بين الفريقين، ولو كان هذا السبب الذي يدعيه الخطيب منطقياً، فقد كان بإمكان علي بن أبي طالب أن يتحالف مع أصحاب الجمل من جهة، ومع معاوية وأهل الشام من جهة اُخرى، فيصبح لديه بذلك جيش جرّار لا يستطيع قتلة عثمان وعشائرهم مهما بلغوا من القوة والمنعة أن يواجهوا علياً وحلفاءه اولئك، وعندئذ كانت تنتهي المشكلة من أساسها ويعاقب قتلة عثمان، وتصفو الخلافة لعلي، فلماذا لم يفعل ذلك؟!
أما الشيخ الخضري فيعلق على تلك الأحداث بقوله:
ففي الشام كان الأمير معاوية بن أبي سفيان بن اُمية أميراً على الشام في عهد عمر وعثمان، وكان محبوباً من أهله، فلما وقع إليه مقتل عثمان واستخلاف علي، لم يرض أن يدخل في بيعته لأسباب:
1 - إنه كان يتهم علياً بشيء من أمر عثمان!
2 - آوى قتلته في جيشه.
3 - إنه كان بين الرجلين نفور أدى الى أن علياً يرى ضمن أول واجباته عزل معاوية عن إمارة الشام. وليس ذلك من السهل على رجل اعتاد الامارة والعزّة...(9)
فإيواء علي بن أبي طالب لقتلة عثمان - إن كانوا حقاً بغاة ظالمين- يوقعه تحت طائلة حكم الحديث النبوي الشريف الذي يتوعد بشدّة كل من يؤوي محدثاً في المدينة المنورة!
فعن عاصم، قال: قلت لأنس بن مالك: أحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة؟
قال: نعم، ما بين كذا الى كذا، فمن أحدث فيها. قال: ثم قال لي: هذه شديدة "من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا". قال: فقال ابن أنس: "أو آوى محدثاً"!(10).
ومن العجيب أن علي بن أبي طالب نفسه يروي حديثاً في هذا المعنى. فعن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي(رضي الله عنه) فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة -صحيفة فيها أسنان الابل وأشياء من الجراحات- فقد كذب. قال: وفيها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "المدينة حرم ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفاً"!(11).
أما اعتذار الخطيب وغيره لعلي بن أبي طالب بأنه كان يتربص بقتلة عثمان الفرصة للايقاع بهم، فهو ادعاء غير صحيح، وتكذبه الشواهد وما عُرف من سيرة علي بن أبي طالب، فقد قال الخضري:
رأى علي أن يكون أول أعماله عزل جميع ولاة عثمان قبل أن تصل إليه بيعة أهل الأمصار، وقد حذّروه عاقبة ذلك، المغيرة بن شعبة أولا وابن عباس ثانياً، فأبى ذلك إباءً تاماً، كأنه قد وقر في نفسه أن هؤلاء العمال لا يصلحون لأن يلوا شيئاً من أمر المسلمين، مع أنه قَبِل أن يؤخر الحد على قتلة عثمان حتى يهدأ الناس، مع أن هذا حد من حدود الله...(12)
فالخضري يبدي تعجبه عن تعجل علي عزل معاوية مع أنه لم يحدث حدثاً يشابه قتل الخليفة، بينما يتباطأ في إقامة الحد على قتلة عثمان، لأنه كغيره من الذين ألّفوا في هذا الشأن، يظلون أسرى للمتبنيات التي ورثوها على مرّ الأجيال، دون أن يفكروا في تمحيص هذا التاريخ جيداً!
إن علي بن أبي طالب قد عبّر عن حقيقة ما جرى من الأحداث، حين رفض طلب الاُمويين المقيمين في المدينة إقامة الحد على قتلة عثمان، وقال بأنه لو لزمه إقامة الحد عليهم اليوم، للزمه بالأمس! فلو كان علي بن أبي طالب مقتنعاً بوجوب إقامة الحد على قتلة عثمان، لما توانى عن إقامة هذا الحد في اليوم الأول من استلامه منصب الخلافة، بل كان سيجعل هذا أول عمل يقوم به بعد البيعة.
أما الرواية التي أشار إليها الخضري، فهي عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج; فخرجت الى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل الى عبدالله بن عامر والى معاوية والى عمال عثمان بعهودهم، تقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنهم يمهدون البلاد ويسكّنون الناس، فأبيتُ ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يُولّى.
قال: ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطئ، ثم عاد إلي الآن فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت عليك وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك رأياً، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان.
قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الاولى فقد نصحك، وأما المرة الآخرة فقد غشّك! قال علي: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون بمن ولي الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلّبون عليك، فينتفض عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك!
فقال علي: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير لي في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان، فوالله لا اُولي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف. قال ابن عباس: فاطعني وادخل دارك والحق بما لك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله إن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غداً. فأبى عليّ، فقال لابن عباس: سر الى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني اُمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيحكّم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل ما حُمل عليك حُمل علي، ولكن اكتب الى معاوية فمنّه وعِدهُ. فأبى عليّ وقال: والله ما كان هذا أبداً...(13)
فإذا كان علي بن أبي طالب لا يتردد لحظة في عزل عمال عثمان وفي مقدمتهم معاوية وهو يعلم مدى خطورة هذا العمل، وأن الشام والعراق قد تنتقضان عليه؟ فكيف يؤخر إقامة الحد على قتلة عثمان خوفاً من بضع مئات من الرجال، وتحت يده اُلوف الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم؟!
إنّ الأعذار التي يسوقها المؤلفون لمعاوية، هي نفس الأعذار التي تذرّع بها معاوية، ومحاولتهم حلّ التناقض في مواقف علي لا تأتي بالنتيجة المرجوة، لأنها مبتنية أساساً على الزيف، وهي التي تصوّر الاُمور على نقيضها تماماً، ومما يثبت صحة كلامنا هو ما نلاحظه على أقوال اولئك المؤلفين، إذ يقول محب الدين الخطيب مثلا: وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين، لأنه لم يبتدئها، ولم يأت لها الاّ بعد خروج علي من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير الى الشام -كما تقدم- ولذلك لما قُتل عمار، قال معاوية: إنما قتله من أخرجه...(14)
إن الخطيب يصوّر الأمر بشكل معكوس تماماً، ويحاول الايحاء بأن معاوية لم يكن هو الباغي، لأنه لم يبتدئ الحرب، وإنما الباغي الحقيقي - في نظره- هو علي بن أبي طالب، فهو لم يسلم قتلة عثمان ولم يُقم الحد عليهم، وهو الذي خرج بجيشه الى معاوية، فموقف معاوية هو موقف المدافع عن الحق وليس الباغي كما يصوّره الخطيب!
وعلى الرغم من أن ابن كثير الدمشقي لا يألو جهداً هو الآخر في تبرير مواقف معاوية، إلاّ أنه لا يملك إلاّ الاعتراف بالحقائق التاريخية إذ يقول:
وفي رواية أن معاوية لما أمر أبا الأعور بحفظ الشريعة، وقف دونها برماح مشرعة، وسيوف مسلّلة، وسهام موتورة، جاء أصحاب علي علياً فشكوا إليه ذلك، فبعث صعصعة بن صوحان الى معاوية يقول له: إنّا جئنا كافّين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدّمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه اُخرى: منعتمونا الماء!(15).
فعلي بن أبي طالب وإن كان قد خرج بجيشه الى صفّين، إلاّ أنه لم يأمر هذا الجيش ببدء القتال، وكان هدفه -كما في معركة الجمل- هو محاولة إقناع الطرف الآخر بالاقلاع عن بغيه والدخول في الطاعة لحقن دماء المسلمين من الطرفين، وذلك بإرسال المفاوضين الى معاوية لاقناعه بالرجوع عما ينويه، حيث قال ابن كثير مستكملا فصول القصة:
وأقام علي يومين لا يكاتب معاوية ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير ابن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي السهمي، فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه الى الطاعة والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.
فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع الى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرّق جماعة هذه الاُمة، وأن تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية: هلاّ أوصيت بذلك صاحبكم! فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بالأمر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك الى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك. فقال معاوية: ويطلّ دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً!
ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم، فبدره شبث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في إفتياته على من هو أشرف منه وكلامه بما لا علم له به! ثم أمر بهم فاُخرجوا من بين يديه، وصمّم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوماً، فعند ذلك نشبت الحرب(16).
أما كلام شبث بن ربعي - الذي اقتطعه ابن كثير واعتبره تطاولا على معاوية- وكشف بذلك عن مكنون نفسه بتأييد موقف معاوية، فقد ذكره الطبري، قال: فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية، إني قد فهمتُ ما رددتَ على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب! إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستحيل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلاّ قولك: قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه; فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأتَ عنه بالنصر، وأحببتَ له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربَّ متمنّي أمر وطالبه الله عزّوجل يحول دونه بقدرته، وربما اُوتي المتمنّي اُمنيّته وفوق اُمنيته، واللهِ مالكَ في واحدة منهما خير، لئن أخطأتَ ما ترجو إنك لشرّ العرب حالا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحق من ربّك صُليّ النار! فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله(17).
وقد شقّ هذا الكلام على ابن كثير، لما فيه من كشف لنوايا معاوية الحقيقية، فاقتطعه من النص الذي ينقله عن الطبري -كعادته-، واتهم شبثاً بإساءة الادب مع معاوية الذي هو أشرف منه!
والذي يتبين من كلام شبث بن ربعي، أن خذلان معاوية لعثمان كان أمراً معلوماً من الجميع، وقد مرّ فيما سبق أن عثمان بن عفان كتب الى معاوية يستمده عندما اُحيط به، إلاّ أن معاوية تريّث وكره مخالفة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد علم اجتماعهم -على حد تعبير رواية الطبري-...(18)
كما قال ابن أبي الحديد:
لما أرسل عثمان الى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسري وقال له: إذا أتيت ذا خشب، فأقم بها ولا تتجاوز، ولا تقل: يرى الشاهد مالا يرى الغائب; فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب! قال: فأقام بذي خشب حتى قُتل عثمان، فاستقدمه حينئذ معاوية; فعاد الى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه، وإنما صنع ذلك معاوية ليُقتل عثمان، فيدعو الى نفسه.
وعندما أهل شهر محرّم، اتفق الطرفان على هدنة، وتبادلوا الرسل فيما بينهم رجاء الصلح، "فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة الى معاوية، فلما دخلوا; حمد الله عديُّ بن حاتم ثم قال: أما بعد، فإنّا أتيناك ندعوك الى أمر يجمع الله عزّوجل كلمتنا واُمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيّد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثراً، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عزّوجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فأنت يا معاوية لا يصيبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.
فقال معاوية: كأنك إنما جئت مهدداً لم تأتِ مصلحاً! هيهات يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشّنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان(رضي الله عنه) وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عزّوجل به، هيهات يا عدي بن حاتم، قد صلبت بالساعد الأشد(19).
والملاحظ أن عدي بن حاتم لم يدفع عن نفسه تهمة المشاركة في قتل عثمان، كما أن معاوية لم يُقم الحد عليه بعد توليه السلطة!
وقد تكلم شبث بن ربعي وزياد بن خصفة ويزيد بن قيس بكلام مقارب لكلام عدي، ودعيا معاوية الى الاُلفة والجماعة، فكان جواب معاوية أن قال: أما بعد، فإنكم دعوتم الى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنّا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرّق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نردّ عليه ذلك، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمّار تقتله؟!
فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك! والله لو اُمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان،ولكن كنت قاتله بقاتل مولى عثمان...
ونلاحظ هنا إشارة اُخرى، وهي إتهام معاوية عمار بن ياسر بالاشتراك في قتل عثمان، لذا أقسم معاوية على استعداده لقتل عمار، ومن الجدير بالذكر أن الموقف من عمار بن ياسر يعتبر الفيصل في تمييز الطائفة المحقّة من الطائفة الباغية، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله)
المصادر :
1- الحجرات: 9.
2- الحجرات: 10.
3- الصحيح: الحسن (المؤلف).
4- العواصم من القواصم: 168.
5- صحيح مسلم 2: 745.
6- نيل الأوطار 4: 348.
7- الدر المنثور 7: 56.
8- العواصم من القواصم: الهامش 821.
9- الدولة الاُموية: 257.
10- صحيح مسلم 2: 994.
11- صحيح البخاري 2: 26 باب حرم المدينة، مسند أحمد 1: 81، تاريخ ابن عساكر 42: 396، مسند أبي يعلى 1: 462.
12- الدولة الاُموية: 257.
13- تاريخ الطبري 4: 439.
14- كتاب العواصم من القواصم: هامش 293.
15- البداية والنهاية 7: 256.
16- البداية والنهاية 7: 256.
17- الطبري 4: 573.
18- الطبري 4: 368.
19- الطبري 5: 5.
قال ابن العربي:
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعاً، وأما كونه لهذا السبب(يقصد الطلب بدم عثمان)، فمعلوم كذلك قطعاً، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب الحق عنده، فإن ظهر له قضاء وإلاّ سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه، وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا.
ولئن اتُّهم علي بقتل عثمان، فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ وهو متهم به، أو قل معلوم قطعاً أنه قتله، لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفاً. وهبك أن علياً وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم، ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته! فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا اُولئك طلبوا حقاً وقد فعلوا حقاً، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام، وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأس مال في الحال ولا مبالاة عندهم بالاسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردّة ليست معصية، لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أن يتعدى حد عثمان وإشارته، فأي ذنب لهم فيه! وأي حجة لمروان وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره، يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح، والمطالبون ينظرون! ولو كان بهم قوة أو آووا الى ركن شديد، لما مكّنوا أحداً أن يراه منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير، ما صبروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي. ولكن عثمان سلّم نفسه، وتُرك ورأيه، وهي مسألة اجتهاد كما قدّمنا، وأي كلام كان يكون لعلي لو كتبت عنده البيعة، وحضر وليّ عثمان وقال الخليفة له: يا ايها، وما تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون! ماذا كان يقول إلاّ: أثبت وخذ. وفي يوم كان يثبت. إلاّ أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقاً للقتل. وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبداً، وكان يكون الوقت أمكن للطلب وأرفق في الحال وأيسر وصولا الى المطلوب.
والذي يكشف الغطاء في ذلك، أن معاوية لما صار إليه الأمر، لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحداً إلاّ بحكم، إلاّ من قتل في حرب بتأويل أو دسٍّ عليه فيما قيل، حتى انتهى الأمر الى زمان الحجاج وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة، فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أضحوا له يطلبون.
والذي تثلج صدوركم، أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر في الفتن، وأشار وبيّن، وأنذر الخوارج وقال "تقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق"، فبيّن أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه، وقال تعالى (وإنْ طائِفتانِ مِنَ المؤمنينَ اقتَتَلوا فَأصلِحُوا بَينَهُما فإِن بَغَتْ إحداهُما على الاُخرى فَقاتِلوُا التي تَبغي حتى تَفيء إلى أَمرِ اللهِ فإنْ فاءَتْ فَأَصلِحُوا بَينَهُما بِالعَدلِ وَأَقْسِطوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ)(1)، فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم إسم الاُخوة بقوله بعده: (إنما المؤمنون إخوةٌ فَأصلِحُوا بَينَ أَخَويكُمْ)(2)، وقال (صلى الله عليه وآله) في عمار: "تقتله الفئة الباغية"، وقال في الحسين(3): "ابني هذا سيّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فحسّن له خلعه نفسه واصلاحه.
وكذلك يروى أنه أَذن في الرؤيا لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة.
فهذه كلها اُمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا تعدّت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة، والمخطئ أجراً واحداً. وما وقع في الروايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا- فلا تلتفتوا الى حرف منها، فإنها كلها باطلة!(4).
لقد أدلى ابن العربي باعترافات خطيرة تكشف الحقيقة عن مجريات الاُمور، والتي لا يجد الباحث بداً من الاعتراف بها لتوفر الأدلة عليها، ولكنه وكما قلنا سابقاً، فعل كما يفعل الكثير من الباحثين والمؤلفين -خاصة من المعاصرين- عاد فقلب ظهر المجن للحقيقة، وبدأ يردد نفس النغمة السابقة، محاولا جهد الامكان نفي التهمة عن بعض الشخصيات التي لعبت دوراً سلبياً في تلك الأحداث، مثل عثمان ومعاوية. ورغم أننا ناقشنا الكثير من الاُمور التي تدين تلك الشخصيات، إلاّ أن هناك اُموراً اُخرى لابد من توضيحها.
لقد اعترف ابن العربي أولا بأن جميع الصحابة في المدينة متهمون بقتل عثمان أو على الأقل على الرضا بقتله وتسليمه دون أن يتولوا الدفاع عنه، ولكنه عاد وبرّر عملهم هذا بأنه قد تم بموافقة عثمان أو بالأحرى بأمر عثمان الذي كان متبعاً في ذلك أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أمره بالاستسلام لقتلته وعدم محاولة مدافعتهم! وهذا العذر هو الشيء الوحيد الذي يتذرع به معظم المؤلفين لتبرير عمل الصحابة وخذلانهم لعثمان، ويتشبث المؤلفون المعاصرون بهذا العذر تشبث الغريق بالقشة، ولكننا عندما نعرض ذلك على العقل والمنطق والشرع، نجده عذراً متهافتاً تم اختلاقه للخروج من هذه الورطة! إذ أن استسلام الخليفة لقاتليه بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) يعني أن النبي هو المسؤول الأول عن الفتنة التي نشبت بعد مقتل عثمان، والحروب الطاحنة التي دارت بين المسلمين، والذين كان خليقاً بهم أن يكفوا عن هذا القتال، وكان خليقاً بالمطالبين بدم عثمان أن يكفوا عن طلبهم، طالما أن عثمان نفسه لم يحقن دمه امتثالا لأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا أدري إن كان هناك عاقل واحد بين المسلمين يصدّق أن النبي (صلى الله عليه وآله) يأمر بمثل هذه المفسدة، وينصح خليفة المسلمين بالاستسلام الى البغاة الذين جاءوا لقتله بغياً وعدواناً ودون سبب مشروع. وإذا كان الأمر يتطلب من كل خليفة أن يستسلم لأي خارج عليه فإن الخلافة تكون بلا معنى، بل إن منصب الخلافة نفسه كان سيبقى شاغراً أبد الدهر، لأن أي زمان لا يخلو من شذاذ الآفاق والفوضويين الذين سيبادرون الى قتل كل خليفة يحاول أن يردعهم عن مفاسدهم، وإذا كان عمل عثمان صحيحاً، فلماذا لم يقتدي به من جاء بعده من الخلفاء! لماذا لم يستسلم علي ابن أبي طالب للذين خرجوا عليه! ولماذا لم يستسلم جميع الخلفاء ابتداء من معاوية وانتهاء بآخر خليفة جلس على كرسي الخلافة بهذه السنّة التي سنّها عثمان بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله)!
الحقيقة هي التي نطق بها ابن العربي أولا، حين قال عن موقف الصحابة من قتل عثمان، فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا اولئك طلبوا حقاً وقد فعلوا حقاً!
أما معاوية، فلم ينكر ابن العربي، ولا يقدر غيره أن ينكر أنه ادعى المطالبة بدم عثمان، وأنه لم يكن محقاً في طلبه ذاك، إذ أن تكليفه الشرعي كان يفرض عليه طاعة ولي أمره -كما أمر الله سبحانه وتعالى- فكان عليه أن يبدأ أولا بالامتثال لأمر الخلع الذي جاءه من الخليفة، فيخلع نفسه من منصبه، ثم يقدم على الخليفة ويعرض عليه ظلامته، ويطلب منه محاكمة المتهمين بقتل عثمان وإقامة الحد عليهم إن ثبتت عليهم التهمة بقتل عثمان ظلماً، فيأخذ العدل مجراه وتنتهي المشكلة، ولكن معاوية فضّل اتّباع سنّة الجاهلية على سنّة الاسلام، فراح يطالب بالثأر وتسليم قتلة عثمان إليه ليقتلهم دون محاكمة، ورفض في سبيل ذلك كل المحاولات التي قام بها بعض الصحابة للحيلولة دون نشوب الحرب بين المسلمين مجدداً.
أما اعتراف ابن العربي بأن معاوية قد كفّ عن ملاحقة قتلة عثمان عندما صار إليه الأمر، وأن بني اُمية ما كانوا يفعلون في ملكهم ما أضحوا له يطلبون، فان هذا الاعتراف هو أكبر دليل إدانة بحق معاوية، ويكشف عن نياته الحقيقية بكل وضوح، فإن تهاونه في ملاحقة قتلة عثمان يدل على إحدى اثنتين:
1 - إما أن يكون معاوية متيقناً من أن هؤلاء قد قتلوا عثمان بغياً عليه، وأن دعواه في المطالبة بدم عثمان صادقة وصادرة عن قناعة لا يشوبها ريب، تبرّر خوض تلك الحرب الضروس الذي سالت فيها أنهار من دماء المسلمين من الطرفين، فيكون معاوية بتهاونه عن إقامة الحد على اُولئك القتلة، قد عطّل حدّاً من حدود الله لا ينبغي التهاون فيه، لأن في تعطيل الحدود خروجاً على أمر الله ورسوله وتعطيلا للشريعة وإفساداً للمجتمع الاسلامي، وتشجيعاً لأهل البغي، فتكون جريمة معاوية في هذه الحالة، ليست بأقل خطراً من جريمته في الخروج على السلطة الشرعية وإراقة دماء المسلمين.
2 - وإما أن يكون معاوية متيقناً من أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة فعلا، وأنهم فعلوا حقاً، وأن مطالبته بدم عثمان لم تكن تصدر عن الواقع، فيكون معاوية مسؤولا أمام الله، وأمام التاريخ عن كل الدماء التي اُريقت بسبب ذلك، فضلا عن خروجه على السلطة الشرعية بغير وجه حق، والتي ترتبت عليها أعظم المفاسد.
إن الحقيقة التي يحاول معظم الذين ألّفوا في هذا الشأن -قديماً وحديثاً- أن يغمضوا أعينهم عنها، هي أن الطلب بدم عثمان لم يكن إلاّ وسيلة غير شريفة لتبرير غاية أكثر منها لؤماً، ألا وهي محاولة الوثوب على كرسي الخلافة الذي فشل كل من طلحة والزبير في الوصول إليه، ونجح معاوية وحقق غايته منه، فلما نال ما يشتهي وحقق الغاية من رفع شعاره الكاذب، انتفت الحاجة الى هذا الشعار، فكف معاوية عن ملاحقة المتهمين بقتل عثمان، لأن معاقبتهم لم تكن هي الغاية الحقيقية من رفع ذلك الشعار. فمعاوية لم يعف عمن تبقى من قتلة عثمان تكرماً منه وتفضلا -لأن ذلك لا يجوز شرعاً- ولكنه بعد أن وجد أنه قد حقق مبتغاه، تخلى عن دعوته!
البغاة
لقد دأب معظم الذين ألّفوا في الحوادث التي وقعت بين معاوية وعلي، الى محاولة تبرئة معاوية بهذه الآية من سورة الحجرات حول اقتتال طائفتين من المؤمنين، وكأن ما جرى بين علي ومعاوية كان هو السبب في نزول هذه الآية! وهم بذلك يحاولون إضفاء صفة الايمان على معاوية وحزبه، والادعاء بأن كلتي الطائفتين كانتا على حق، إلاّ أن طائفة علي كانت أدنى الى هذا الحق، وذلك حين يربطون الحديث النبوي الشريف بشأن الخوارج بهذه الآية الكريمة، رغم أن التلاعب قد طال بعض ألفاظ هذا الحديث، من أجل الايحاء بما يدعم دعواهم، فإن الحديث قد ورد بقوله (صلى الله عليه وآله): "تقتلهم أولى الطائفتين بالحق"(5).
قال الشوكاني: قوله "اولاهما بالحق"، فيه دليل على أن علياً ومن معه هم المحقّون، ومعاوية ومن معه هم المبطلون، وهذا أمر لا يمتري فيه منصف، ولا يأباه إلاّ مكابر متعسّف(6).
أما الآية من سورة الحجرات، فقال السيوطي في تفسيرها:
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال:
إن الله أمر النبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين، أن يدعوهم الى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض; فإن أجابوا، حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا الى أمر الله ويقرّوا بحكم الله...(7) فالله سبحانه وتعالى يأمر بالاصلاح بين الطائفتين وفق حكم الله، ولكن إذا بغت إحداهما ولم تستجب لحكم الله، فينبغي مقاتلتها، لأنها تكون باغية، حتى إذا ما أذعنت لحكم الله، فعندئذ يحكم بينهما وفق كتاب الله، وتعود الطائفتان الى الاُخوة الاسلامية التي تزعمها معاوية الى حكم الله؟ وهل كان معاوية بالفعل مخطئاً متأولا في هذه الحرب، كما يدّعي البعض؟! إن استقصاء الحقائق كفيل بالكشف عن كل ذلك، حتى يمكننا أن نحكم على الاُمور وفق حكم الله.
وقد علّق الشيخ محب الدين الخطيب على أقوال ابن العربي قائلا:
لما طالب علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه، احتكموا إليه في قتلة عثمان، وطلبوا منه أن يقيم حدّ الله عليهم، أو أن يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم الحد، وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي، بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق، صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم، فكان علي يرى - بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه باباً لا يستطيع سدّه بعد ذلك.
وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل (القعقاع بن عمرو) التميمي، وتحدث بها مع اُم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) طلحة والزبير، فأذعنوا لها وعذروا علياً، ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم الى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين، فالمطالبون بإقامة حدّ الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل أو من أهل الشام; وتقصير علي في إقامة حد الله، كان عن ضرورة قائمة ومعلومة، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين...(8)
إن تعليق محب الدين الخطيب يعطينا صورة عن مدى التهافت والتناقض الذي قد وقع المؤلفون والباحثون من أصحاب هذا الاتجاه فيه، فالخطيب لا ينفك يتشبت بروايات سيف بن عمر حول الموضوع، وبالتالي فهو يبني تحليلاته للاُمور وفق النظرة التي تتبنى الروايات المكذوبة، والتي تصب في نهاية الأمر الى الاتجاه الذي يحاول أن يجعل علي بن أبي طالب هو المسؤول الحقيقي عن تلك الأحداث المفجعة. رغم اختلاق التبريرات التي تدعي أنها تبرئ علياً!
لقد ناقشنا فيما سبق الأساطير التي اختلقها سيف بن عمر في سرده لأحداث معركة الجمل ومقدماتها وبيّنا تهافتها وسقوطها أمام الروايات التي جاءت عن الثقاة، وعن الدور الخيالي الذي قام به القعقاع بن عمرو في الأحداث مما لا نجد له ذكراً إلاّ عند الطبري برواية سيف.
أما اعتذار الخطيب لعلي بن أبي طالب بأنه لم يستطيع الاقتصاص من قتلة عثمان لأنهم صاروا في العراق بين أفراد قبائلهم التي تحميهم، فإنهم في المدينة لم يكونوا بين قبائلهم، وكان باستطاعة علي - لو أراد- وبمساعدة الصحابة أن يقضي عليهم، لأنهم -وكما اعترف ابن العربي- لا يغلبون أربعين ألفاً من الصحابة، فلماذا تأخر علي في اقامة الحد عليهم إذاً!
إن ادعاء الخطيب بأن علياً خاف أن يفتح على نفسه باباً يصعب غلقه إذا ما اقتص من قتلة عثمان! ولكن الباب الذي كان سيفتح عليه في هذه الحالة لم يكن أكثر خطراً من الأبواب التي فتحها عليه أصحاب الجمل وصفّين، ودارت تلك المعارك الطاحنة بين الفريقين، ولو كان هذا السبب الذي يدعيه الخطيب منطقياً، فقد كان بإمكان علي بن أبي طالب أن يتحالف مع أصحاب الجمل من جهة، ومع معاوية وأهل الشام من جهة اُخرى، فيصبح لديه بذلك جيش جرّار لا يستطيع قتلة عثمان وعشائرهم مهما بلغوا من القوة والمنعة أن يواجهوا علياً وحلفاءه اولئك، وعندئذ كانت تنتهي المشكلة من أساسها ويعاقب قتلة عثمان، وتصفو الخلافة لعلي، فلماذا لم يفعل ذلك؟!
أما الشيخ الخضري فيعلق على تلك الأحداث بقوله:
ففي الشام كان الأمير معاوية بن أبي سفيان بن اُمية أميراً على الشام في عهد عمر وعثمان، وكان محبوباً من أهله، فلما وقع إليه مقتل عثمان واستخلاف علي، لم يرض أن يدخل في بيعته لأسباب:
1 - إنه كان يتهم علياً بشيء من أمر عثمان!
2 - آوى قتلته في جيشه.
3 - إنه كان بين الرجلين نفور أدى الى أن علياً يرى ضمن أول واجباته عزل معاوية عن إمارة الشام. وليس ذلك من السهل على رجل اعتاد الامارة والعزّة...(9)
فإيواء علي بن أبي طالب لقتلة عثمان - إن كانوا حقاً بغاة ظالمين- يوقعه تحت طائلة حكم الحديث النبوي الشريف الذي يتوعد بشدّة كل من يؤوي محدثاً في المدينة المنورة!
فعن عاصم، قال: قلت لأنس بن مالك: أحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة؟
قال: نعم، ما بين كذا الى كذا، فمن أحدث فيها. قال: ثم قال لي: هذه شديدة "من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا". قال: فقال ابن أنس: "أو آوى محدثاً"!(10).
ومن العجيب أن علي بن أبي طالب نفسه يروي حديثاً في هذا المعنى. فعن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي(رضي الله عنه) فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة -صحيفة فيها أسنان الابل وأشياء من الجراحات- فقد كذب. قال: وفيها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "المدينة حرم ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفاً"!(11).
أما اعتذار الخطيب وغيره لعلي بن أبي طالب بأنه كان يتربص بقتلة عثمان الفرصة للايقاع بهم، فهو ادعاء غير صحيح، وتكذبه الشواهد وما عُرف من سيرة علي بن أبي طالب، فقد قال الخضري:
رأى علي أن يكون أول أعماله عزل جميع ولاة عثمان قبل أن تصل إليه بيعة أهل الأمصار، وقد حذّروه عاقبة ذلك، المغيرة بن شعبة أولا وابن عباس ثانياً، فأبى ذلك إباءً تاماً، كأنه قد وقر في نفسه أن هؤلاء العمال لا يصلحون لأن يلوا شيئاً من أمر المسلمين، مع أنه قَبِل أن يؤخر الحد على قتلة عثمان حتى يهدأ الناس، مع أن هذا حد من حدود الله...(12)
فالخضري يبدي تعجبه عن تعجل علي عزل معاوية مع أنه لم يحدث حدثاً يشابه قتل الخليفة، بينما يتباطأ في إقامة الحد على قتلة عثمان، لأنه كغيره من الذين ألّفوا في هذا الشأن، يظلون أسرى للمتبنيات التي ورثوها على مرّ الأجيال، دون أن يفكروا في تمحيص هذا التاريخ جيداً!
إن علي بن أبي طالب قد عبّر عن حقيقة ما جرى من الأحداث، حين رفض طلب الاُمويين المقيمين في المدينة إقامة الحد على قتلة عثمان، وقال بأنه لو لزمه إقامة الحد عليهم اليوم، للزمه بالأمس! فلو كان علي بن أبي طالب مقتنعاً بوجوب إقامة الحد على قتلة عثمان، لما توانى عن إقامة هذا الحد في اليوم الأول من استلامه منصب الخلافة، بل كان سيجعل هذا أول عمل يقوم به بعد البيعة.
أما الرواية التي أشار إليها الخضري، فهي عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج; فخرجت الى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل الى عبدالله بن عامر والى معاوية والى عمال عثمان بعهودهم، تقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنهم يمهدون البلاد ويسكّنون الناس، فأبيتُ ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يُولّى.
قال: ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطئ، ثم عاد إلي الآن فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت عليك وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك رأياً، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان.
قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الاولى فقد نصحك، وأما المرة الآخرة فقد غشّك! قال علي: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون بمن ولي الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلّبون عليك، فينتفض عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك!
فقال علي: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير لي في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان، فوالله لا اُولي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف. قال ابن عباس: فاطعني وادخل دارك والحق بما لك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله إن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غداً. فأبى عليّ، فقال لابن عباس: سر الى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني اُمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيحكّم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل ما حُمل عليك حُمل علي، ولكن اكتب الى معاوية فمنّه وعِدهُ. فأبى عليّ وقال: والله ما كان هذا أبداً...(13)
فإذا كان علي بن أبي طالب لا يتردد لحظة في عزل عمال عثمان وفي مقدمتهم معاوية وهو يعلم مدى خطورة هذا العمل، وأن الشام والعراق قد تنتقضان عليه؟ فكيف يؤخر إقامة الحد على قتلة عثمان خوفاً من بضع مئات من الرجال، وتحت يده اُلوف الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم؟!
إنّ الأعذار التي يسوقها المؤلفون لمعاوية، هي نفس الأعذار التي تذرّع بها معاوية، ومحاولتهم حلّ التناقض في مواقف علي لا تأتي بالنتيجة المرجوة، لأنها مبتنية أساساً على الزيف، وهي التي تصوّر الاُمور على نقيضها تماماً، ومما يثبت صحة كلامنا هو ما نلاحظه على أقوال اولئك المؤلفين، إذ يقول محب الدين الخطيب مثلا: وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين، لأنه لم يبتدئها، ولم يأت لها الاّ بعد خروج علي من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير الى الشام -كما تقدم- ولذلك لما قُتل عمار، قال معاوية: إنما قتله من أخرجه...(14)
إن الخطيب يصوّر الأمر بشكل معكوس تماماً، ويحاول الايحاء بأن معاوية لم يكن هو الباغي، لأنه لم يبتدئ الحرب، وإنما الباغي الحقيقي - في نظره- هو علي بن أبي طالب، فهو لم يسلم قتلة عثمان ولم يُقم الحد عليهم، وهو الذي خرج بجيشه الى معاوية، فموقف معاوية هو موقف المدافع عن الحق وليس الباغي كما يصوّره الخطيب!
وعلى الرغم من أن ابن كثير الدمشقي لا يألو جهداً هو الآخر في تبرير مواقف معاوية، إلاّ أنه لا يملك إلاّ الاعتراف بالحقائق التاريخية إذ يقول:
وفي رواية أن معاوية لما أمر أبا الأعور بحفظ الشريعة، وقف دونها برماح مشرعة، وسيوف مسلّلة، وسهام موتورة، جاء أصحاب علي علياً فشكوا إليه ذلك، فبعث صعصعة بن صوحان الى معاوية يقول له: إنّا جئنا كافّين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدّمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه اُخرى: منعتمونا الماء!(15).
فعلي بن أبي طالب وإن كان قد خرج بجيشه الى صفّين، إلاّ أنه لم يأمر هذا الجيش ببدء القتال، وكان هدفه -كما في معركة الجمل- هو محاولة إقناع الطرف الآخر بالاقلاع عن بغيه والدخول في الطاعة لحقن دماء المسلمين من الطرفين، وذلك بإرسال المفاوضين الى معاوية لاقناعه بالرجوع عما ينويه، حيث قال ابن كثير مستكملا فصول القصة:
وأقام علي يومين لا يكاتب معاوية ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير ابن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي السهمي، فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه الى الطاعة والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.
فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع الى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرّق جماعة هذه الاُمة، وأن تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية: هلاّ أوصيت بذلك صاحبكم! فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بالأمر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك الى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك. فقال معاوية: ويطلّ دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً!
ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم، فبدره شبث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في إفتياته على من هو أشرف منه وكلامه بما لا علم له به! ثم أمر بهم فاُخرجوا من بين يديه، وصمّم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوماً، فعند ذلك نشبت الحرب(16).
أما كلام شبث بن ربعي - الذي اقتطعه ابن كثير واعتبره تطاولا على معاوية- وكشف بذلك عن مكنون نفسه بتأييد موقف معاوية، فقد ذكره الطبري، قال: فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية، إني قد فهمتُ ما رددتَ على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب! إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستحيل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلاّ قولك: قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه; فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأتَ عنه بالنصر، وأحببتَ له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربَّ متمنّي أمر وطالبه الله عزّوجل يحول دونه بقدرته، وربما اُوتي المتمنّي اُمنيّته وفوق اُمنيته، واللهِ مالكَ في واحدة منهما خير، لئن أخطأتَ ما ترجو إنك لشرّ العرب حالا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحق من ربّك صُليّ النار! فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله(17).
وقد شقّ هذا الكلام على ابن كثير، لما فيه من كشف لنوايا معاوية الحقيقية، فاقتطعه من النص الذي ينقله عن الطبري -كعادته-، واتهم شبثاً بإساءة الادب مع معاوية الذي هو أشرف منه!
والذي يتبين من كلام شبث بن ربعي، أن خذلان معاوية لعثمان كان أمراً معلوماً من الجميع، وقد مرّ فيما سبق أن عثمان بن عفان كتب الى معاوية يستمده عندما اُحيط به، إلاّ أن معاوية تريّث وكره مخالفة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد علم اجتماعهم -على حد تعبير رواية الطبري-...(18)
كما قال ابن أبي الحديد:
لما أرسل عثمان الى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسري وقال له: إذا أتيت ذا خشب، فأقم بها ولا تتجاوز، ولا تقل: يرى الشاهد مالا يرى الغائب; فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب! قال: فأقام بذي خشب حتى قُتل عثمان، فاستقدمه حينئذ معاوية; فعاد الى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه، وإنما صنع ذلك معاوية ليُقتل عثمان، فيدعو الى نفسه.
وعندما أهل شهر محرّم، اتفق الطرفان على هدنة، وتبادلوا الرسل فيما بينهم رجاء الصلح، "فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة الى معاوية، فلما دخلوا; حمد الله عديُّ بن حاتم ثم قال: أما بعد، فإنّا أتيناك ندعوك الى أمر يجمع الله عزّوجل كلمتنا واُمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيّد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثراً، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عزّوجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فأنت يا معاوية لا يصيبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.
فقال معاوية: كأنك إنما جئت مهدداً لم تأتِ مصلحاً! هيهات يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشّنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان(رضي الله عنه) وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عزّوجل به، هيهات يا عدي بن حاتم، قد صلبت بالساعد الأشد(19).
والملاحظ أن عدي بن حاتم لم يدفع عن نفسه تهمة المشاركة في قتل عثمان، كما أن معاوية لم يُقم الحد عليه بعد توليه السلطة!
وقد تكلم شبث بن ربعي وزياد بن خصفة ويزيد بن قيس بكلام مقارب لكلام عدي، ودعيا معاوية الى الاُلفة والجماعة، فكان جواب معاوية أن قال: أما بعد، فإنكم دعوتم الى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنّا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرّق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نردّ عليه ذلك، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمّار تقتله؟!
فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك! والله لو اُمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان،ولكن كنت قاتله بقاتل مولى عثمان...
ونلاحظ هنا إشارة اُخرى، وهي إتهام معاوية عمار بن ياسر بالاشتراك في قتل عثمان، لذا أقسم معاوية على استعداده لقتل عمار، ومن الجدير بالذكر أن الموقف من عمار بن ياسر يعتبر الفيصل في تمييز الطائفة المحقّة من الطائفة الباغية، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله)
المصادر :
1- الحجرات: 9.
2- الحجرات: 10.
3- الصحيح: الحسن (المؤلف).
4- العواصم من القواصم: 168.
5- صحيح مسلم 2: 745.
6- نيل الأوطار 4: 348.
7- الدر المنثور 7: 56.
8- العواصم من القواصم: الهامش 821.
9- الدولة الاُموية: 257.
10- صحيح مسلم 2: 994.
11- صحيح البخاري 2: 26 باب حرم المدينة، مسند أحمد 1: 81، تاريخ ابن عساكر 42: 396، مسند أبي يعلى 1: 462.
12- الدولة الاُموية: 257.
13- تاريخ الطبري 4: 439.
14- كتاب العواصم من القواصم: هامش 293.
15- البداية والنهاية 7: 256.
16- البداية والنهاية 7: 256.
17- الطبري 4: 573.
18- الطبري 4: 368.
19- الطبري 5: 5.