عدد المشاهدات : 357
9 صفر 1436
إيفان سرغييفتش تورغينيف
(1818 ـ 1883) إيفان سرغييفتش تورغينيف Ivan Sergueievitch Tourgueniev كاتب روائي ومسرحي روسي. ولد في مدينة «أوريول» Oryol، وقضى طفولته المبكرة في ضيعة سباسكويه Spasskoye، وهي إحدى الضياع الكثيرة التي كانت تملكها أسرة أمه في ضواحي تلك المدينة، وكان أبوه ضابطاً متقاعداً. انتسب تورغينيف في عام 1833 إلى جامعة موسكو، ثم انتقل في العام التالي إلى جامعة بطرسبُرغ، وتخرج في قسم الآداب واللغات السلافية في كلية الفلسفة عام 1837، ولم يكتف بما حصله من معرفة فتابع دراسته خارج البلاد بصورة متقطعة، والتحق عام 1838 بجامعة برلين حيث درس الفلسفة والتاريخ واللغتين اليونانية واللاتينية. توظف في عام 1842 في وزارة الداخلية، وتعرف في العام التالي إلى مغنية الأوبرا الفرنسية بولين فياردو التي ربطته بها وبأسرتها صداقة متينة دامت طوال حياته، وتركت بصماتها على إنتاجه الفكري، ولعلها كانت العامل الرئيسي في تكرر سفره إلى خارج البلاد. وتفرغ تورغينيف للكتابة منذ عام 1845 واعتقل عام 1852 في بطرسبرغ لنشره مقالة جريئة يؤبن فيها نيكولاي غوغول[ر] Nikolai Gogol، وحكم عليه بالإقامة الجبرية في ضيعته حيث قضى ثمانية عشر شهراً. انتخب في عام 1878 نائباً لرئيس المؤتمر الأدبي الدولي الذي عقد في باريس، ومنحته جامعة أكسفورد درجة الدكتوراه الفخرية في الحقوق العرفية عام 1879، ثم انتخبه صندوق الأدباء في روسية عام 1880 ممثلاً عنه للاشتراك في الإشراف على تنظيم الاحتفال بإزاحة الستار عن تمثال بوشكين[ر] في موسكو.
تعرَّف تورغينيف في أسفاره إلى كثير من الأدباء والمفكرين الروس المهاجرين وإلى الكتّاب والفنانين الأوربيين، وخاصة الفرنسيين، ومنهم: ميريميه[ر]، وفلوبير[ر]، وزولا[ر]، ودوديه[ر]، والأخوان غونكور[ر]، وجورج صاند[ر]، وموباسان[ر]، وربطته ببعضهم وشائج صداقة حميمة. فمنذ أواسط الستينات اختار تورغينيف الإقامة في ألمانية ليكون قريباً من أسرة صديقته فياردو، وانتقل معها في نهاية عام 1871 ليقيم في ضاحية بوجيفال Bougival القريبة من باريس من دون أن ينقطع عن زيارة روسية بين الحين والآخر، وتوفي فيها ونقل جثمانه إلى روسية، ودفن في بطرسبرغ.
بدأ تورغينيف نشاطه الإبداعي شاعراً. ولم يلفت إليه الأنظار إلاّ بعد نشر قصيدته القصصية الطويلة «باراشا» (1843) Parasha التي امتدحها الناقد المعروف بلنسكي[ر]. وكتب في الأربعينات وبداية الخمسينات عدداً من المسرحيات أكثرها من نوع الملهاة متبعاً فيها تقاليد غوغول الواقعية، ومنها «عدم التبصر» (1843) Neostorojnost و«بلا نقود» (1846) Bezdenej’ye و«العالة» (1848) Nakhlebnik و«العازب» (1849) Kholostyak و«الريفية» (1851) Provintsialka، وكانت أشهرها: «شهر في الريف» (1850) Mesits V Derevné. ومعظم مسرحيات تورغينيف من النوع الاجتماعي ـ النفسي، وتتسم بالتصوير الواقعي للحياة المعيشية والطباع البشرية، وببساطة الحبكة ووضوحها، مع غنى الحدث الداخلي وحِدَّة المواقف النفسية. وقد مهّد مسرحه الطريق أمام اتجاهين في الدراما الروسية، أحدهما احتفى بتصوير الحياة الاجتماعية ـ المعيشية، ويتمثل في إبداع ألكسندر أوستروفسكي[ر]. والثاني غلب عليه الطابع الوجداني ـ النفسي الذي تتسم به مسرحيات أنطون تشيخوف[ر] الرئيسية.
تجلت موهبة تورغينيف أوضح ما يكون في أعماله القصصية والروائية. وقد بدأ كتابة القصة منذ الأربعينات من القرن التاسع عشر، وكانت أولاها قصة «أندريه كولوسوف» (1844). ونشر في الأعوام (1847-1851) ما ينيف على عشرين أقصوصة ومشهداً تصويرياً صدرت في عام 1852 في مجموعة واحدة بعنوان «مذكرات صياد»Zapiski Okhotnika، وجلبت له شهرة واسعة في الأوساط الأدبية الروسية، ثم الأوربية، وكانت السبب الحقيقي في الحكم عليه بالإقامة الجبرية. فقد كانت هذه الأقاصيص مفعمة بروح الاحتجاج على نظام القنانة، وتتضمن تقويماً عالياً للمواهب الشخصية والخصال الأخلاقية التي يتحلى بها الفلاح الروسي. ونشر تورغينيف في الخمسينات قصصاً صوّر فيها طباع مُلاّك الأراضي كما في قصتي «مومو» Mumu و«الخان» Postoyali Dvor، وعالج موضوعات تتصل بحياة الفئة الروسية المثقفة كما في قصتي «يوميات إنسان زائد» Dnevnik Lishnevo Cheloveka، و«ياكوف باسينكوف». وفي عام 1856 نشر تورغينيف أولى رواياته ووسمها باسم بطلها «رودين»، وأبرز فيها نموذجين يمثلان فئة المثقفين النبلاء التقدميين في الثلاثينات والأربعينات من القرن التاسع عشر: «الراديكالي التأمّلي» و«الليبرالي التنويري». وفي عام 1858 نشر قصة «آسيا» Asya، ثم نشر في العام التالي روايته الثانية «عش النبلاء» Dvoryanskoye Gnezdo، التي صوّر فيها شخصيات نموذجية من فئة النبلاء تطرح آراء متباينة حول السبيل الذي ينبغي أن تسلكه روسية في تطورها، متعاطفاً مع بطل الرواية «لافريتسكي» في تطلعاته النبيلة. وفي عام 1860 نشر قصة «الحب الأول» Pervaya Lubov، وروايته الثالثة «في العشية» التي كتبها عام 1859، أي عشية إلغاء نظام القنانة في روسية، وصوّر فيها ظاهرة جديدة تتمثل في إدراك بطل الرواية البلغاري وبطلتها الروسية ضرورة النضال على الصعيد العملي لتحرير الوطن والشعب. وفي عام 1862 نشر تورغينيف روايته الرابعة «آباء وبنون» Otsi I Deti التي تُعدّ قمة إبداعه إضافة إلى «مذكرات صياد». وصوّر فيها نماذج من طبقة النبلاء التي انغمست في الابتذال، وأبرز في شخصية بطل الرواية «بازاروف» نموذجاً يمثل القوى الديمقراطية المتنامية، وهو مثقف من الفئة المتوسطة يعتنق مبادئ المادية الوضعية، ولا يؤمن إلاّ بما يثبته العلم الطبيعي التجريبي، مما يجعل تفكيره يتسم بشيء من الفجاجة، ويُشتهر بلقب العدمي Nihilist. ونشر تورغينيف في الستينات قصتي «الأشباح» Prizraki و«كفى!» Dovolno! اللتين تشيع فيهما روح تشاؤمية. كما نشر روايته الخامسة «دخان» (1867) Dym التي ينتقد فيها فئة الموظفين الكبار الرجعيين، وكذلك المهاجرين السياسيين التقدميين. وفي سبعينات ذلك القرن نشر عدداً من القصص أهمها «الملك لير السُّهبي» Stepnoi Korol’Lear و«مياه الربيع» Vesniye Vodi (ترجمت أيضاً «فيوض الربيع» و«بونين وبابورين»). ونشر في عام 1877 آخر رواياته «الأرض البكر» Nov، (ترجمت إلى العربية «الأرض العذراء»)، وصوّر فيها نماذج من مناضلي حركة «الشعبيين» Narodniki. وكذلك كتب تورغينيف من عام 1877 إلى عام 1882 عدداً كبيراً من الخواطر التي سماها «أشعاراً منثورة»، ونشر في سنيّه الأخيرة بعض القصص التي تتدخل في أحداثها قوى غيبية ومنها «أنشودة الحب الظافر» (1881) و«كلارا ميليتش» (1883)، وهي آخر قصة نشرت له في حياته.
كان تورغينيف ينتمي إلى فئة المثقفين النبلاء التقدميين الذي فقدوا ثوريتهم، واعتنقوا مبدأ التغيير الاصلاحي التدريجي ونَشْرِ الثقافة والتنوير، وانعكس هذا في إبداعه. ولكنه كان يدرك بحسه الفني المرهف أَنَّ ممثلي هذه الفئة من النبلاء، بما يتسمون به من ميل إلى التأمل الذاتي واجترار المشاعر الرومانتيكية، والتردد في اللحظات الحاسمة، لم يعودوا في حقبة الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر قادرين على القيام بالمهام التي يتطلبها إصلاح المجتمع، أو تحقيق سعادتهم الشخصية في علاقاتهم الاجتماعية. ومع رفض تورغينيف الأفكار الثورية التي كان يتبناها الديمقراطيون الثوريون فإن الصدق الفني في تصوير الواقع جعله يقدم شخصياته بسماتها الحقيقية التي تبرز جوهرها كما في رواياته «في العشية» و«آباء وبنون» و«الأرض البكر». يمتاز أسلوب تورغينيف بالاعتماد على الفرد البطل الذي تدور حوله أحداث العمل الأدبي، وتحلت موهبته في استشفاف الظواهر الجديدة في مسيرة تطور المجتمع، ومعالجتها إبداعياً، وعكسها فنياً، وابتداع الوسائل المناسبة لذلك من بنية روائية ملائمة، وأسلوبية جديدة، ولغة منتقاة. وبرع في تصوير النماذج الأنثوية والطبيعة الإنسانية، واشتهر بطلاوة السرد، وعذوبة الجرس، وأناقة التعبير حتى صار أسلوبه في الكتابة باللغة الروسية مثلاً يحتذى. وقد طور تورغينيف الفن الروائي الروسي في الاتجاه الواقعي، وخاصة في مجال الرواية «الفكرية»، وأثر في معاصريه وفيمن أتى بعده من كتّاب الرواية والقصة من أمثال ليف تولستوي[ر] وتشيخوف[ر] وكورولينكو[ر]. وكان له فضل كبير في ترجمة أعمال الأدباء الروس إلى اللغات الأوربية، وترجمة مؤلفات الكتاب الأوربيين إلى الروسية، وقام هو نفسه بترجمة بعض هذه الأعمال.