الفقة الاسلامي والفقة الغربي
من الضروري هنا استعراض مواقف الباحثين في الدراسات المقارنة مع الفقه الغربي ؛ حيث انقسموا إلى فريقين : أحدهما : ذهب إلى أنّ الفقه الإسلامي سبق الفقه الجرماني بالاعتراف بحوالة الدَّين ، كالشيخ مصطفى الزرقاء .
من الضروري هنا استعراض مواقف الباحثين في الدراسات المقارنة مع الفقه الغربي ؛ حيث انقسموا إلى فريقين :
أحدهما : ذهب إلى أنّ الفقه الإسلامي سبق الفقه الجرماني بالاعتراف بحوالة الدَّين ، كالشيخ مصطفى الزرقاء .
وثانيهما : اعتبر أنّ الفقه الإسلامي لا يزال يعيش مرحلة الفقه الروماني ، فلم يقبل الفقه الإسلامي - بحسب هذا الفريق - لا حوالة الدَّين ولا حوالة الحقّ ، وأنّ ما يسمّى في الفقه الإسلامي حوالةً ليس حوالةً بالمعنى الحقيقي ، كالدكتور عبد الرزّاق السنهوري .
ولا بدّ لنا هنا من مناقشة هذين الاتجاهين .
نقد نظريّة الشيخ مصطفى الزرقاء:
أمّا القول الأوّل الذي يرى تقدّم تصوير الحوالة في الفقه الإسلامي على الفقه الجرماني بمئات السنين ، فذهب إلى تفسير الحوالة في الفقه الإسلامي بقسمٍ خاصّ منها ، وقال بأنّ هذا القسم الخاصّ يستبطن كلتا الحوالتين : حوالة الحقّ ، وحوالة الدَّين .وتوضيح ذلك : أنّ الحوالة تنقسم إلى قسمين :
فتارةً : تكون الحوالة على البريء ، أي على شخصٍ غير مشغول الذمّة بحسب مصطلح الفقه الجعفري ، وتسمّى بـ ( الحوالة المطلقة ) بحسب الفقه الحنفي .
واُخرى : تكون حوالةً على مدين ، أي حوالة الدائن على المدين ، وتسمّى هذه الحوالة في الفقه الحنفي بـ ( الحوالة المقيّدة )(1) .
ويرى الشيخ الزرقاء أنّ كلتا الحوالتين حوالةُ دينٍ ؛ لأنَّ تغيير المدين موجود في كلتيهما ؛ فالشخص كان مديناً للدائن ، وبعد الحوالة يصبح المحال عليه دائناً للمحال ؛ فقد تبدّل هنا مدين هذا المحتال .
غاية الأمر أنّ الشيخ الزرقاء يرى أنّ ( الحوالة المقيّدة ) هي الحوالة التي تعترف بها أكثر مذاهب فقه الجمهور ، أمّا ( الحوالة المطلقة ) فلا يعترف بها إلّا الفقه الحنفي خاصّة على نحو خاصّ(2) .
أمّا حوالة الحقّ في الفقه الإسلامي ، فهي غير موجودة ابتداءً في تبديل الحقّ ، بمعنى أنّ الدائن هو الذي يحوّل لا المدين ؛ فالحوالة الموجودة في الفقه الإسلامي تحوّل الدائن من قبل المدين ، لا أنّ الدائن يحوّل لشخص آخر ؛ فهذه الحوالة غير موجودة في الفقه الإسلامي .
من هنا ، يمكن أن نقول : إنّه يمكن تحصيل حوالة الحقّ في بيع الدَّين ؛ فإنَّ الشخص إذا كان دائناً وباع دينه لشخصٍ آخر ، يتغيّر الدائن في هذه المعاملة البيعيّة ، وهذا ما لا تعترف به المذاهب الأربعة ، فحوالة الحقّ هنا غير ممكنة ؛ ولذا قال الشيخ مصطفى : إنّنا نجد حوالة الحقّ في نفس حوالة الدَّين في قسمها الثاني ، وهو الحوالة على مشغول الذمّة ، أي الحوالة المقيّدة ؛ فإنّها تستبطن في الحقيقة كلا الأمرين : حوالة الدَّين وحوالة الحقّ ؛ فإنّك حينما تحيل دائنك على مدينك تغيّر المدين والدائن بمقتضى هذه الحوالة(3) .
إلا أنّ ذلك لا يفيد هنا ، ولا يمكن لنا الانسجام معه ؛ فقد قلنا : إنّ الفقه الإسلامي الذي شرّع حوالة الدَّين والحقّ ، لم يشرّع هذه الحوالة ليتغلَّب على المشكلة التي عاشها الفقه الغربي ؛ فإنّه لم يبتلِ بها أساساً ؛ فهي مشكلة نشأت عن آليّات خاصّة في الفقه الغربي على مستوى تصوير مفهوم الدَّين ، حيث كان الدَّين في هذا الفقه التزاماً ، والالتزام أمرٌ شخصي وذاتي ، والأمر الشخصي الذاتي كيف يتبدّل وتتغيّر أطرافه مع انحفاظه ؟ !
من هنا عاش الفقه الغربي مشكلة الحوالة ، وهي مشكلة غير موجودة من رأس في الفقه الإسلامي ؛ فما يتراءى من جملةٍ من الفقهاء المسلمين من أنّ الفقه الإسلامي سبق إلى التغلّب على المشكلة فانتهى إلى نفس ما انتهى إليه الفقه الجرماني(4) ، غير صحيح ؛ فإنّ الفقه الإسلامي قد انتهى إلى الحوالة بوصفها نتيجةً منطقيّة منبثقة من تصوّره للدَّين والذمّة ، دون أن يواجه مشكلةً من هذه الناحية .
وإذا كانت هناك مشكلة في الفقه الإسلامي تشبه المشكلة التي وقعت في الفقه الغربي فهي في موضعين آخرين ، لا في حوالة الدَّين ، وهما :
المشكلة الاُولى : ضمان العهدة ؛ فهناك مسألة في كتاب الضمان ، حاصلها : أنّ الغاصب الذي يغصب عيناً قبل التلف لم تشتغل ذمّته ، بل اشتغلت عهدته ، وهنا : هل يمكن لشخصٍ آخر أن يضمن عهدة الغاصب أم لا ؟ !
إنّ هذه العهدة قد تثار فيها مشكلة باعتبارها أمراً شخصيّاً ، وهذه المشكلة تتراءى من بعض كلمات فقهائنا ، وتكمن في أ نّه كيف ينقل الضمان ؟ ! لأنّ الضمان نقلٌ ، والعهدة كيف تتنقل من هذا الشخص إلى شخصٍ آخر ؟ !
لكن مع هذا ، فقد تغلّب الفقه الإسلامي على هذه المشكلة . وحتّى الذين أفتوا بالبطلان لم يفتوا به من ناحية هذه المشكلة ؛ فقد استطاع الفقه الإسلامي أن يتصوّر المسؤوليّة في الأمر العيني أيضاً ، حيث إنّ نفس العين تدخل في العهدة بتبع المسؤوليّة ، وكأنّ العين في العهدة ، فالنقل أيضاً نقلٌ للعين ، لا للعهدة ، والعهدة تظلّ مستقلّةً بالتبع ، كما في باب الذمّة ، حيث ينتقل المال الكلّي من ذمّةٍ إلى ذمّة اُخرى ، فكذلك الحال أيضاً في ضمان العهدة ، حيث تنتقل نفس العهدة من وعاء عهدةٍ إلى وعاء عهدةٍ اُخرى . أمّا الالتزام والمسؤوليّة ، فيلحقه ذلك بالتبع ، لا أ نّه يكون هو المنقول ابتداءً .
هذه هي الصناعة التي أعطيت للفقه الإسلامي ، فتغلّب بها على هذه المشكلة أيضاً .
المشكلة الثانية : وراثة الحقوق الماليّة ، من قبيل حقّ الخيار ؛ فهناك إشكال يثار أيضاً في مسألة إرث حقّ الخيار ، فيقال : إنّ المتوفّى كان يملك فسخ العقد ، فإذا ورّث هذا الحقّ ، فكيف يمكن هذا ؟ وما هو معناه مع أ نّه فِعْلُ المورِّث وحقّه ؟ فلا معنى لملكيّة الوارث له ؛ فالوارث يمكنه أن يملك شيئاً من ملك المورِّث بحيث يبقى بعد موت مورّثه ، أمّا أن يفسخ العقد ، فهذا شيء لا يبقى بعد موت المورّث حتّى يورثه .
هذه المشكلة تشبه - بخطوطها العامّة - تلك المشكلة ، من حيث إنّ هذا الفعل فعلٌ شخصيّ للمورّث ، فكيف تنتقل ملكيّته منه إلى الوارث ؟ !
وقد قلنا في مقام تحقيق هذه الشبهة : إنّ هذا الفعل له حيثيّتان أيضاً طبقاً لطرز تعبيرنا في علم الاُصول : فهناك حيثيّة « المعنى اسم المصدري » ، وهي التي تمثّل جهة ماليّته ، وهناك حيثيّة « المعنى المصدري » التي تمثّل جهة اكتسابه والتصاقه بالميّت ، والإرث يكون بلحاظ الحيثيّة الثانية لا الاُولى ، على تفصيل لا مجال له هنا .
هذا كلّه في غير الحوالة ، أمّا في الحوالة فلم يكن للمشكلة وجود أساساً .
أمّا في ما يخصّ تصوير الشيخ الزرقاء لحوالة الحقّ والدّين ، فقد وقع في مشكلة في الحوالة على المدين ؛ باعتبار أنّ الحوالة الالتزاميّة لا تنشأ من تحوّل الدائن ، كما أنّ بيع الدَّين عند فقهاء أهل السنّة غير جائز(لم يختلف فقهاء أهل السنّة في عدم جواز بيع الدّين من غير مَن عليه الدّين ، واختلفوا في جواز بيعه ممّن هو عليه ، وجمهورهم - بوجهٍ عامّ - لا يجيزه إلّافي أحوال معيّنة ، خلافاً للحنفيّة . وبيعُ الدّين بدين لغير مَن هو عليه ولو حالّاً ممنوعٌ عند المالكيّة ، وقد جوّزوا بيعه بمعيّن يتأخّر قبضه ولم يجوّزوا بيعه بالنقد) ، فتصوَّر حوالة الدَّين(5)
وحوالة الحقّ في عمليّةٍ واحدة مزودجة ، وهي الحوالة على المدين ، فالمدين حينما تحوّل دائنه على مدين آخر تبدّل الدَّين والدائن(6) .
وهذا التصوّر غير معقول في نفسه ؛ لأنّه يلزم منه اجتماع دينين للمحتال على المحال عليه .
ولو أ نّنا تصوّرنا هنا تبديلين : تبديلاً للدائن ، وتبديلاً للمدين ، للزم دينان للمحتال على المحتال عليه ؛ وذلك لأنّ المحتال له دينٌ في ذمّة المحيل ، والمفروض أنّ هذا الدَّين لم يسقط ، وإنّما انتقل منه إلى غيره ، أي انتقل إلى ذمّة مدين المدين . كما أنّ ذاك المال الذي كان للمدين الأوّل في ذمّة المدين الثاني تبدّل دائنه : فبدل أن يكون الدائن له هو المدين الأوّل ، أصبح المالك له هو دائن مدين الأوّل - أي المحتال - وبهذا يكون قد حصل للمحتال دينان في ذمّة المحتال عليه : أحدهما تحوّل من ذمّةٍ اُخرى عليه ، والآخر تحوّل ملكه من مالكٍ آخر إليه ، فيلزم في المقام اجتماع هذين الدَّينين للمحتال في ذمّة المحال عليه لو قمنا بالتحفّظ على ذاتَي هذين الدّينين وبدّلنا اطرافهما .
وبتعبير آخر : معنى الالتزام بحوالة الحقّ وحوالة الدَّين في هذه المعاملة هو الالتزام بأنّ ذات الدَّين في الالتزام محفوظ ، وإنّما تحوّل الطرف ؛ ففي أحد الدَّينين تحوّل المدين ، فيما تحوّل الدائن في الدَّين الآخر . هذا فيما لو التزمنا بانحفاظ ذات الدَّين مع تبدّل الأطراف ، وهذا خُلف طبيعة هذه الحوالة .
من هنا نعرف أنّ ذات الدَّينين لم تجتمعا في المقام ، وإنّما وقع فناء في أحد هذين الدَّينين وبقي الدَّين الآخر ، لا أنّ ذات الدَّين باقية فيهما مع تبديل الأطراف .
ولهذا ذهب جماعة من فقهاء الجمهور إلى أنّ الحوالة معاوضة(7) ، فكأنّ المدين الأوّل يشتري ما للدائن في ذمّته بما له في ذمّة الآخر . وقد مال فقهاؤنا إلى أنّ الحوالة ليست معاوضة(8) ، ونِعم ما قالوا .
وقال جماعة من فقهاء العامّة : إنّ الحوالة وفاءٌ بحسب الحقيقة(9) ، وقال المتبصّرون من فقهائنا : إنّها ليست - بحسب الارتكاز العقلائي - وفاءً ، ونِعم ما قالوا ، إلّاأ نّهم قالوا : إنّها معاملة برأسها(10) ، ولم يدخلوا في شرح صناعي لتحليل هذه المعاملة ، كأ نّهم كانوا يرَون إمكان الاكتفاء بالتغيير العنواني واللفظي لاسمها .
تحقيق موجز لمعنى الحوالة وحقيقتها :
وتحقيق حقيقة هذه الحوالة وتفصيل الكلام في ذلك ليس هنا موضعه ، بل موضعه الحوالة ، إلّاأ نّنا نتعرّض هنا لذلك بنحو الإجمال فنقول : إنّ هذا المدين المحيل إنّما يحيل دينه بنقل المال الذي عليه من وعاءٍ إلى وعاء ، أي ينقله من وعاء ذمّته إلى وعاء ذمّة مدينه أو بريئه ، وحينئذٍ :
أ - إن كان المحتال عليه بريئاً ، أي كان مالك ذمّته ، فلا يأذن حينئذٍ بأن يدخل إلى ذمّته مال أجنبي إلّاباستئذانٍ منه ، فيحتاج إلى إذنه ، فلو أذن فيحمل الشخص المدين بيده المال الذي كان موجوداً في ذمّته ويلقيه في ذمّة ذاك الشخص الآخر .
ب - وأمّا إذا كان الآخر مديناً ، فلا يكون مالكاً لذمّته بهذا المقدار ، أي بمقدار ما يشغل ذمّته ، بل المالك لها بهذا المقدار هو نفس المدين الأوّل - الذي هو دائن هذا المدين - ، فهو يحمل - بلا إذن منه - المال الموجود في ذمّته ويوقعه في نفس الموضع الذي كان يشغل دينه الذي يملكه .
وهذه العمليّة بنفسها يتحقّق بها إفناءٌ واشتغال ، أي إفناءٌ لدينه السابق ، وهذا ما يكون بيده ؛ لأنّه مالكٌ له ، وإشغال بهذا ؛ لأنّه - باعتباره دائناً - يملك هذا المقدار من هذه الذمّة ، فله أن يشغله بدينٍ آخر ؛ ولهذا يشترطون أن تتّحد الصفة والمقدار والخصوصيّة ، حيث يكون له حقٌّ بهذا المقدار لا أكثر .
وهذه نتيجةٌ تحتاج إلى الكثير من التفصيل والتوضيح والتحقيق ، الأمر الذي نوكله إلى محلّه .
نقد نظريّة الدكتور عبد الرزّاق السنهوري:
ذهب الدكتور عبد الرزّاق السنهوري(11) إلى أنّ الفقه الإسلامي لم يعرف معنى الحوالة ، وكأنّ شأنه في ذلك شأن الفقه الروماني ، واستعرض قولاً لفقهاء - مثل الشيخ الزرقاء(12) - كانوا يدّعون أنّ الفقه الإسلامي عرف حوالة الدَّين ولم يعرف حوالة الحقّ . ولعلّ الدكتور السنهوري ينكر معرفة الفقه الإسلامي بالحوالتين معاً ، فمن العجيب أن يقال : إنّه عرف حوالة الدَّين ولم يعرف حوالة الحقّ ، مع أنّ هذا خلاف نسق التطوّر الطبيعي للفكر الفقهي ؛ فإنّ الفقه الغربي عرف أوّلاً حوالة الحقّ ، ثمّ حوالة الدَّين . وعليه ، فلو عرف الفقه الإسلامي أوّلاً حوالة الدَّين ولم يعرف حوالة الحقّ ، كان ذلك بدعاً في الصناعة الفقهيّة .إلّاأنّ الواقع(لا زال الكلام للدكتور السنهوري ببيان الشهيد الصدر قدس سره) هو أنّ الفقه الإسلامي لم يعرف حوالة الدَّين وحوالة الحقّ معاً ، وإنّما عرف حوالة الحقّ فقط في باب الإرث ؛ فإنّ الوارث يرث حقّ أبيه إذا كان للمورِّث دين ، فالوارث يحلّ محلّه . وأمّا إذا كان الوارث مديوناً ، فالمورّث لا يحلّ في المديونيّة . إذن : ففي باب الإرث عرف حوالة الحقّ ولم يعرف حوالة الدَّين ، وهذا منسجمٌ مع التطوّر الفقهي .
أمّا في غير باب الإرث ، فلم يعرف الفقه الإسلامي كلتا الحوالتين(13) ، الأمر الذي استدعى نقد الشيخ الزرقاء بأ نّه إذا لم يعرف الحوالة مطلقاً ، فكيف عقد الفقهاء في كتبهم الفقهيّة كتاباً مستقلّاً أسموه كتاب الحوالة ؟ !(14)
وهنا يمكن لنا تقسيم نظريّة الدكتور السنهوري إلى قسمين :
أحدهما : في نفي معرفة الفقه الإسلامي بحوالة الدَّين .
وثانيهما : في نفي معرفته بحوالة الحقّ .
يرى الدكتور السنهوري أنّ حوالة الدَّين لم يعرفها الفقه الإسلامي بالمعنى الصحيح الذي عرفها به الفقه الغربي في نهاية تطوّره ، وخلاصة كلامه ترجع إلى شاهدين(15) :
الشاهد الأوّل : إنّه لو كان الفقه الإسلامي يريد بالحوالة معناها الحقيقي الدقيق الذي عرفه الفقه الغربي الحديث - وهو نقل الالتزام من ذمّة المدين إلى شخص آخر - فلماذا إذن لا يقول بالحوالة على البريء ؟ ! وأيّ فرقٍ بين الحوالة المطلقة وبين الحوالة المقيّدة ؟ ! مع أنّ الفقه الإسلامي - في نظر الدكتور السنهوري الذي لم يلتفت إلى الفقه الجعفري ، قاصراً نظره على فقه المذاهب الأربعة - يُبطل الحوالة على البريء ، عدا الفقه الحنفي ، مع تلعثم في هذا الفقه وتلكّع - على حدّ تعبير الدكتور السنهوري نفسه - ينتج في نهاية المطاف عدم القول بالحوالة .
وبعبارة اُخرى : إنّ هذا الفقه لو كان يقرّ بانتقال الدّين من مدين على آخر ، فلماذا يفرّق إذن بين الحوالة على البريء وبين الحوالة على المدين ، ويقول : إنّ الحوالة على البريء باطلة ، ويشترط في صحّة الحوالة أن تكون حوالةً على المدين ، وهو الشرط الذي ذهبت إليه ثلاثة مذاهب من المذاهب الأربعة في الفقه الإسلامي المنظور للدكتور السنهوري ، بينما الفقه الرابع - وهو الفقه الحنفي - يقول : إنّه لم يشترط ، ولكنّ روح الشرط كانت - بحسب النتيجة - محفوظةً عنده ؛ فاعتقاد هذا الفقه بعدم صحّة الحوالة على البريء بنفسه دليل على أنّ تصوّره للحوالة يختلف عن صورتها الواقعيّة ، وإلّا فالمقتضى الواقعي للحوالة هو عدم التفريق بين الحوالة على البريء وبين الحوالة على المدين ؟
الشاهد الثاني : لو كان الفقه الإسلامي يقول : إنّ نفس الدَّين ينتقل من مدينٍ إلى آخر ، للزم على ذلك أن تحفظ فرعيّات هذا الدَّين ؛ لأنّ نفس هذا الدَّين محفوظ ؛ فيلزم أن تكون فرعيّاته محفوظةً كما هي كذلك في الفقه الغربي ، بينما هي ليست كذلك في الفقه الإسلامي .
إذن : لو كان ما يسمّى بالحوالة في الفقه الإسلامي حوالةً في الحقيقة لا إفناءً لدين وإيجاداً لدين جديد ، فلماذا لا تثبت بعد الحوالة توابعُ الدَّين الأوّل كما تثبت عند الفقه الغربي ؟ ! فإذا كان عند الدائن رهنٌ على ذلك الدّين، فإنّ الفقه الإسلامي لا يعترف ببقاء الرهن بعد الحوالة . وإذا كان الدّين عبارة عن ثمن كتاب اشتراه مثلاً ، فللمشتري أن يمتنع عن أداء الثمن إلى أن يأخذ الكتاب ، لكن بعد الحوالة يكون للبائع أخذ الثمن من المحال عليه ولو قبل أداء الكتاب ، ولا يجوز هناك هذا الامتناع . كما للبائع أن يمتنع عن إعطاء الكتاب إلى أن يأخذ دينه - وهو الثمن - ، ولا يجوز له هذا الامتناع بعد الحوالة .
وقد ذكر في مقام بيان عدم معرفة الفقه الإسلامي لحوالة الحقّ أنّ الفقه الإسلامي لم يذكر ذلك تحت عنوان حوالة الحقّ .
نعم ، تبقى مسألة بيع الدَّين وهبته ، وهذا ما لا يقرّه أيٌّ من المذاهب الأربعة عدا الفقه المالكي(16) ، وهو وإن كان يذكر عنوان بيع الدّين ، لكنّ واقع المقصود ليس ذلك ، وإنّما بيع الدّين عبارة عن الوفاء مع الحلول ، فليس بيعاً حقيقةً ، وإلّا لما كان هناك وجهٌ للتفصيل بين بيع الدَّين بالدّين وبين بيعه بالعين ؛ حيث يصحّحون الثاني دون الأوّل ، وإنّما الوجه في هذا التفصيل هو أنّ بيع الدّين عبارة عن الوفاء مع الحلول ، أي أنّ المشتري يفي دين المديون ويحلّ هو محلّ الدائن ، وحيث إنّه في بيع الدّين بالدين لا يوجد وفاء في المقام ، لذا لم يصحّ عندهم بيع الدّين بالدّين .
وذكر السنهوري هنا أيضاً(17) أنّ الفقه الإسلامي عرف حوالة الحقّ في خصوص باب الإرث ؛ فاعترف بأنّ الوارث يقوم مقام المورّث في الدّين الذي يطلبه المورّث من الآخرين ، وإنّما عرف حوالة الحقّ هنا مع أ نّه لم يعرفها في غير باب الإرث من ناحية أنّ الوارث كأ نّه وجود امتداديٌّ للمورّث ؛ فكأنّ الأمر فيه أسهل . والفقه الإسلامي الذي اعترف بحوالة الحقّ في باب الإرث لم يعترف بحوالة الدّين فيه ، فلا يقيم الوارث مقام المورّث إذا كان مديوناً كما يصنعه الفقه الغربي ، وهذا هو السير المترقّب لكلّ فقه ، وهو أن يعرف حوالة الحقّ قبل حوالة الدّين ؛ لأنّ التصاق خيط الدّين بالدائن أحقّ من التصاقه بالمديون ؛ فتبديل الدائن أهون .
أقول : إنّ ما ذكره السنهوري من هذه المطالب في المقام لا يخلو عن مناقشات :
1 - أمّا ما ذكره من أنّ الفقه الإسلامي الذي لم يعرف حوالة الحقّ لا يمكنه أن يعرف حوالة الدّين ؛ لكون السير الطبيعي للفقه هو العكس ، أي أن يعرف حوالة الحقّ قبل حوالة الدّين ، فيرد عليه : إنّ هذا خلط بين تصوّرات الفقه الإسلامي عن الدّين وبين تصوّرات الفقه الغربي ؛ فإنّ الفقه الغربي(18) يرى الدّين مجرّد خيط بين الدائن والمدين لا مالاً موجوداً في ذمّة المدين ، وحينئذٍ يصعب عليه تصوّر تبديل أحد طرفَي الالتزام ؛ لأنّ ذلك الالتزام متقوّم بطرفيه ، ثمّ يتصوّر تبديل الدائن قبل تصوّره لتبديل المدين ؛ لكون التصاق الخيط بالدائن أخفّ من التصاقه بالمدين .
أمّا الفقه الإسلامي فهو - كما مضى - لا يواجه هذه المشكلة رأساً ؛ فإنّه يرى الدّين عبارة عن مال موجود في الذمّة ، وحوالة الدّين عبارةٌ عن نقل هذا المال من مكانٍ إلى مكان ، أي من ذمّة إلى ذمّة ، من قبيل نقل المال الخارجي من غرفة إلى غرفة ، وحوالة الحقّ عبارة عن تبديل مالك هذا المال الموجود في الذمّة . وهذان أمران لا يرتبط أحدهما بالآخر ، فيجوز للفقه أن يتصوّر أحدهما دون الآخر ، سواءٌ أكان ما تصوّره عبارة عن حوالة الحقّ دون حوالة الدين أم العكس .
2 - وأمّا ما ذكره من الدليل الأوّل على عدم معرفة الفقه الإسلامي لحوالة الدّين - وهو أ نّه : لماذا يفرّق بين الحوالة على البريء وبين الحوالة على المدين ؟ ! و [ إنكار ] المذاهب الأربعة الحوالة على البريء ( عدا الفقه الحنفي مع تلعثم وتلكّؤ ) يرجع إلى عدم الاعتراف - فإنّ الملاحظة عليه :
إنّ السنهوري اقتصر على فقه السنّة ، أمّا فقهاء الشيعة فجملة منهم يلتزمون بالحوالة على البريء . نعم ، جملة منهم ينكرونها ، وليس إنكارهم لصعوبةٍ في تصوير أصل الحوالة ، بل لدعوى أنّ الحوالة على البريء ترجع إلى الضمان ، فلا يبقى عندنا حوالة على البريء ؛ وذلك أ نّه يوجد عندنا في الفقه بابان : باب الضمان ( بأن يضمن شخص دين شخص ) وباب الحوالة ، والفرق بين الضمان وبين الحوالة هو أنّ الحوالة تصدر من المديون إلى مَن يقع عليه الدّين بعد الحوالة ، والضمان بالعكس ؛ فهو شيء يصدر من نفس من يقع عليه الدّين . ويقال : إنّ الحوالة على البريء يرجع روحها إلى الضمان ؛ فإنّه في الحقيقة يصدر من الذي يقع عليه الدّين بهذه المعاملة تقبّلٌ للدّين ، وهذا عبارة عن الضمان ، فلا تتصوّر الحوالة على البريء بنحوٍ يفترق عن الضمان .
هذا ما يذكر في المقام ، وهو - كما ترى - غير مربوط بصعوبة أصل تصوير الحوالة .
والحقّ : إنّ الحوالة على البريء أيضاً صحيحة ولا ترجع إلى باب الضمان ، وبيان ذلك خارج عن عهدة هذا البحث التعطيلي في هذا الشهر وموكولٌ إلى بحث الحوالة .
3 - وأمّا ما ذكره من الدليل الثاني على عدم معرفة الفقه الإسلامي لحوالة الدّين - وهو عدم اعترافه ببقاء تبعات الدّين الأوّل بعد الحوالة - فيرد عليه :
إنّ عدم بقاء تلك التبعات يرجع إلى سبب آخر غير تبدّل الدّين بدين آخر ، وعدم تصوير نقل نفس الدّين الأوّل إلى ذمّة اُخرى ؛ وذلك أنّ المال المرهون - بحسب مرتكزات العرف - وثيقة يقصد بها التأ كّد من إفراغ المديون ذمّته وأداء وظيفته ، لا التأ كّد من وصول المال الموجود في ذمّته إلى الدائن .
وبتعبيرٍ آخر : إنّه وثيقة بلحاظ الذمّة لا بلحاظ المال الموجود في الذمّة ، وحيث أفرغ الشخص بعد الحوالة ذمّته وعمل بوظيفته ، فلم يبقَ موضوع للرهن .
وبتعبير ثالث : إنّ الرهن كان بلحاظ الذمّة الاُولى وقد تبدّلت الذمّة ، فهذا هو الوجه في عدم بقاء الرهن على حاله ، لا تغيّر الدّين ولا عدم كون المال المرهون ملكاً للمحال عليه ؛ فإنّه لا يشترط في الرهن كون المال المرهون مملوكاً للراهن . ولا أرى مانعاً من أن يجعل الرهن - بالتصريح - رهناً على نفس المال بحيث يبقى حتّى بعد نقله من ذمّة إلى ذمّة اُخرى .
وأمّا عدم جواز تأجيل إعطاء الثمن إلى أن يؤخذ المثمن بعد الحوالة - مع أ نّه كان يجوز ذلك قبلها - ، فالصحيح أنّ جواز تأجيل الثمن إلى أن يؤخذ المثمن حقٌّ ثابت بحسب الشرط الضمني العقلائي ، وبقاء هذا الحقّ بعد الحوالة وعدمه مربوطٌ بسعة هذا الشرط وضيقه :
فإن كان شرطاً لاستحقاق تأجيل الخروج عن عهدة المال ما لم يؤخذ المثمن ، فقد انتهى أمد هذا الشرط ؛ فإنّ المشتري قد خرج عن عهدة المال بالحوالة ، وبقي المال ديناً للبائع على المحال عليه لا يجوز التراخي في أدائه .
وإن كان شرطاً لجواز تأجيل إعطاء ذات الثمن إطلاقاً إلى أن يؤخذ المثمن ، صحّ التأجيل حتّى بعد الحوالة .
والمرتكز عقلائيّاً هو الأوّل ؛ ولذا يبطل جواز التأجيل بعد الحوالة . ولا أرى مانعاً من جعل الشرط - بالتصريح - بالنحو الثاني ، فيبقى جواز التأجيل بعد الحوالة .
وإذا قلنا : إنّ جواز تأجيل الثمن إلى أن يؤخذ المثمن حكمٌ تعبّديٌّ لا من باب الشرط الضمني ، فلا بدّ في مقام فهم بقائه إلى ما بعد الحوالة وعدمه من الرجوع إلى مفاد دليل ذلك الحكم سعةً وضيقاً .
وقد ظهر ممّا ذكرناه الكلام في الأثر الثالث ، وهو جواز تأخير إعطاء المثمن إلى أن يؤخذ الثمن ، وعدم بقاء هذا الأثر بعد حوالة الثمن على شخص آخر أو بقائه .
4 - وأمّا ما ذكره من أنّ الفقه الإسلامي عرف حوالة الحقّ في باب الإرث ولم يعرف حوالة الدّين فيه جرياً على ما هو المقتضى الطبيعي للسير الفقهي ، ففيه : ما مضى من أنّ المقتضي الطبيعي للسير الفقهي هنا إنّما يكون في الفقه الغربي دون الفقه الإسلامى ، وإنّما لم يعرف الفقه الإسلامي حوالة الدّين في باب الإرث - بينما عرفها الفقه الغربي - لعلّةٍ اُخرى ، وذلك باعتبار الاختلاف بين
طبيعة الفقهين ؛ وذلك أنّ الفقه الغربي يرى الدّين عبارة عن مجرّد الالتزام ، وإذا مات المديون فالفقه الغربي لا يجعل الوارث قائماً مقامه في كلّ ديونه وإتلافاته زائداً على التركة ؛ فهذا ظلم واضح ، وإنّما يجعله قائماً مقامه بمقدار التركة .
أمّا الفقه الإسلامي ، فيرى الدّين عبارة عن مال موجود في الذمّة ، وذمّة الشخص لا تموت بموت ذات الشخص ؛ فإنّها وعاءٌ اعتباريٌّ قابل للبقاء حتّى بعد الموت . لذا لا حاجة إلى قيام الوارث مقام المورّث في الدّين ؛ فإنّ الوارث إنّما يقوم مقام المورّث في ما يكون المورّث ميْتاً بلحاظه ، وهذا هو الحال بلحاظ أمواله الخارجيّة وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره ؛ ولذا عرف الفقه الإسلامي حوالة الحقّ في باب الإرث .
وأمّا بلحاظ الديون الثابتة على الميّت ، فذمّة الميّت باقية على حياتها ما لم يوفَّ دينه ، ولا مجال لقيام الوارث مقامه ويوفّىََ دينه من تركته ثمّ يورَّث المال ، كما قال تعالى : «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أوْ دَيْنٍ ».
والحقّ : أنّ التركة تبقى ملكاً للميّت ويوفّى دينه بها ، لا أنّ الديون تتعلّق بالتركة . هذا وإن لم تفِ تركته بمقدار دينه بقيت ذمّته مشغولة إلى أن يتبرّع متبرّع عنه .
المصادر :
1- الصنائع ( الكاشاني ) 6 : 16 ؛ وانظر : تحرير المجلّة 2 : 296
2- المدخل الفقهي العامّ 3 : 62 . /الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3 : 428
3- المدخل الفقهي العام 3 : 65
4- المصدر السابق 3 : 57 وما بعد
5- اُنظر : الموسوعة الفقهيّة 9 : 176 - 177
6- المدخل الفقهي العامّ 3 : 65
7- المجموع ( النووي ) 13 : 431
8- تذكرة الفقهاء 14 : 425 ؛ مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 4 : 219
9- روضة الطالبين وعمدة المفتين ( النووي ) 4 : 228
10- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 26 : 165
11- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3 : 421 ، 436 - 437
12- المدخل الفقهي العامّ 3 : 57 - 68
13- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3 : 421 - 422 ، 437
14- المدخل الفقهي العام 3 : 68
15- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3 : 420 - 422 ، 436 - 437
16- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3 : 434
17- المصدر السابق 3 : 422
18- المنظور إليه هو الفقه الروماني لا تمام مذاهب الفقه الغربي الحديث
تازه های المقالات
ارسال نظر
در ارسال نظر شما خطایی رخ داده است
کاربر گرامی، ضمن تشکر از شما نظر شما با موفقیت ثبت گردید. و پس از تائید در فهرست نظرات نمایش داده می شود
نام :
ایمیل :
نظرات کاربران
{{Fullname}} {{Creationdate}}
{{Body}}