من معاجز الإمام السجّاد عليه السلام
ينقل أنّ أحد الصيّادين وكان يحمل غزالاً صغيراً وإذا به يشاهد الأُسارى والأطفال فوقف هنيئة ليتفرّج عليهم.
ينقل أنّ أحد الصيّادين وكان يحمل غزالاً صغيراً وإذا به يشاهد الأُسارى والأطفال فوقف هنيئة ليتفرّج عليهم.
ولمّا شاهد الأطفال الغزال الصغير جاءوا إلى الإمام السجّاد عليه السلام وقالوا له : نريد غزالاً ، فقال الإمام عليه السلام للصيّاد : أتبيع هذا الغزال؟! قال : نعم ، ولكن لن أبيعه إلّا ليزيد ، فهو غزال جميل وإذا بعته ليزيد فسيكرمني ويحسن إليّ في عطائه.
فقال الإمام عليه السلام : بعه إليّ وبأيّ ثمن تريد ، فتعجّب الصيّاد وبقى متحيّراً من كلام الإمام عليه السلام ، وبينما هو كذلك إذا بالإمام عليه السلام يأخذ بعض الحجارة الصغيرة وناولها إيّاه ، حقّق الصيّاد فيما أعطاه الإمام عليه السلام فوجدها مجموعة من الجواهر الثمينة فلم يجد بدّاً من أن يقدّم الغزال للإمام عليه السلام ويرحل.
ثمّ إنّ خبر الغزال شاع في الشام ووصل إلى يزيد اللعين ، فطلب الصيّاد وأمره أن يقصّ عليه الحدث.
وحيث إنّ الصيّاد أصبح من الموالين الخلّص للإمام عليه السلام بعد مشاهدته لكرامته العجيبة فقد نقل القضية وأكّد أمام الملأ على كرامة الإمام السجّاد عليه السلام عند الله تعالى ولذا فإنّ يزيد أمر بقتله وإخفاء أمره حتّى لا يطّلع الناس على هذه الكرامة. ولم تمض سوى أيّام قليلة إذا بخبر قتل الصيّاد يصل إلى الإمام السجّاد عليه السلام ، فجاء إلى قبره وأشار إليه وقال : قم بإذن الله ، فخرج الصيّاد من قبره سالماً كأن لم يكن به شيء أصلاً (١).
«الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين ، صدق الله تعالى إذ يقول (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ) (2) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الأُسارى أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأُمور لك متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (3).
أمن العدل يابن الطلقاء (هذه إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه واله لأبي سفيان جدّ يزيد الذي عفا عنه الرسول صلى الله عليه واله هو وأتباعه فقال صلى الله عليه واله : «إذهبوا فأنتم الطلقاء») تخديرك إماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، يحدى بهنّ من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حميّ. وكيف تُرجى المراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء (هذه إشارة إلى هند آكلة الأكباد حيث إنّها مثّلث بحمزة سيّد الشهداء عليه السلام فأخرجت كبده وحاولت أن تأكله إلّا أنّها لم تستطع ذلك.) ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!
وكيف لا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً / ثمّ قالوا : يا يزيد لا تشل
منتحياً على ثنايا أبي عبدالله عليه السلام تنكتها بمخصرتك؟
وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرّية آل محمّد ونجوم الأرض من آل عبدالمطّلب؟!
أتهتف بأشياخك؟ زعمت تناديهم ، فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت.
اللهمّ خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ما فريت إلّا جلدك ولا جززت إلّا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله صلى الله عليه واله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيته وانتهاك حرمته في لحمته وعترته ، وليخاصمنّك حيث يجمع الله تعالى شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ لهم بحقّهم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (4).
فحسبك بالله حاكماً ، وبمحمّد خصماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، أن بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدر حرّى.
ألا فالعجب كلّ العجب بقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فتلك الأيدي تنظف من دمائنا ، وتلك الأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتنابها العواسل وتعفوها الذئاب ، وتؤمّها الفراعل ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وأنّ الله ليس بظلّام للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.
فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لاتمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، ولا تغيب شنارها ، فهل رأيك إلّا فند وأيّامك إلّا عدد ، وشملك إلّا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمدلله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والرحمة ، ولآخرنا بالشهادة والمغفرة.
وأسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، وحسن المآب ، ويختم بنا الشرافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونم النصير» (5).
آنذاك قام الإمام الباقر وكان إمّا عمره سنتين وشهور أو خمس سنوات وكان مع الأسارى مقيّداً فحمد الله وأثنى عليه وقال : يزيد لي أن أتكلم.
فتعجّب اللعين من جرأته وجسارته وقال : قل ماذا تريد؟
فقال الإمام عليه السلام : لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه حيث شاورهم في موسى وهارون ، فإنّهم قالوا له : أرجه وأخاه ، وقد أشار هؤلاء بقتلنا ، ولهذا سبب. فقال يزيد : وما السبب؟ فقال عليه السلام : إنّ هؤلاء كانوا الرشدة وهؤلاء لغير رشدة ، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلّا أولاد الأدعياء فأمسك يزيد مطرقاً (6).
ففي أحد الأيّام طلب الإمام السجّاد عليه السلام من يزيد أن يأذن له كي يخطب في الناس في إحدى الجمع فأذن له.
وفي يوم الجمعة أمر الطاغية أحد الوعّاظ ـ الذين اشتروا سخط الله برضا المخلوق ـ أن يصعد المنبر وينال من الإمام علي عليه السلام وأولاده ويمدح آل أبي سفيان ويثني عليهم.
وفي ذلك الحال طلب الإمام عليه السلام من يزيد أن يفي بوعده إلّا أنّه أخذ يتهرّب ويراوغ وكان ابنه معاوية حاضراً فقال له : دعه يصعد المنبر ، فما يحسن هذا الغلام؟!
فقال يزيد : إنّك لا تعرف من هذا إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً ، وهو لا ينزل إلّا بفيضحتي وفيضحة آل أبي سفيان وأخاف أن يحصل من خطبته فتنة علينا (7) ، فأصرّ الناس عليه أن يأذن له فأذن ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال :
«أيّها الناس ، أُعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع ، أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً صلى الله عليه واله ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة.
فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حمل الزكاة بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائترز وارتدى ، ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى.
أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلّا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النببيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين ، أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، والمنصوربميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخيّ ، بهلول زكيّ أبطحيّ ، رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جناناً ، وأطبقهم عناناً ، وأجرأهم لساناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة ، طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنصّ والاستحقاق ، مكّيّ مدنيّ ، أبطحيّ تهاميّ ، خيفيّ عقبيّ ، بدري أُحدي ، شجري مهاجري ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، غالب كلّ غالب ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسول.
قال : ولم يزل يقول «أنا أنا» حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذّن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.
فلمّا قال المؤذّن : «الله أكبر» قال علي بن الحسين :
كبّرت كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس ، لا شيء أكبر من الله.
فلمّا قال : «أشهد أن لا إله إلّا الله» قال الإمام السجّاد عليه السلام :
شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.
فلمّا قال : «أشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه واله» التفت الإمام السجّاد من أعلى المنبر إلى يزيد وقال :
يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قتل إنّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟
ولمّا فرغ المؤذّن من الأذان والإقامة ، تقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.
روى الخطبة أرباب السير والتاريخ ، فمنهم من ذكرها تفصيلاً كابن أعثم والخوارزمي ومحمّد بن أبي طالب ومنهم من ذكر معظمها كابن شهر آشوب والمجلسي ومنهم من ذكر بعضها مثل أبي الفرج الأصفهاني ومنهم من أشار إليها واكتفى بذكر مقدّمتها مثل ابن نما والسيّد ابن طاووس.
ولذلك فقد أحضر أُمراء العسكر أمثال شبث بن ربعي ، ومصائب بن وهيبة ، وشمر ابن ذي الجوشن ، وسنان بن أنس ، وخولي بن يزيد ، وقيس بن ربيع وغيرهم وبدأ يحاسبهم واحداً بعد الآخر.
ففي البدء التفت إلى قيس بن ربيع وقال : أنت قتلت الحسين بن علي عليه السلام فأجابه قائلاً : أنا لم أقتله أبداً ، ولعنة الله على قاتله.
فقال يزيد : من قتله؟ قال : مصائب.
وإذا بيزيد يلتفت إلى مصائب ويقول : أنت قتلت الحسين بن علي؟ فأجابه مثل جواب صاحبه ، ثمّ تداول الأمر كلّ يلقي باللوم على صاحبه إلى أن وصل الأمر إلى خولي الذي حار ماذا يجيب يزيد ، فالكلّ ينظر إليه شرزاً ، وفجأة اتّفق الجميع على جواب واحد وقالوا : إنّ قاتل الحسين بن علي عليه السلام هو قيس بن ربيع.
فالتفت إليه يزيد وخاطبه بكلّ خشونة وقال : أأنت قتلت الحسين؟! فقال قيس : إنّني أعرف قاتله جيّداً ولن أقول من هو إلّا بعد أن يتفضّل عليَّ الأمير بالأمان.
وبعد أن أعطاه يزيد الأمان قال : إنّ قاتل الحسين بن علي هو من جيّش الجيوش ورفع راية الحرب ضدّه ، فتساءل يزيد قائلاً : ومن هو؟ فقال قيس : أنت يايزيد فانتفض يزيد من كلامه وترك المجلس قاصداً منزله ، ولمّا دخل الدار أخذ رأس سيّد الشهداء عليه السلام وجعله في طشت من ذهب ولفّه في قطعة من القماش واحتفظ به في غرفته الخاصّة.
ثمّ إنّه أخذ يلطم على رأسه ويقول : «ما لي ولقتل الحسين» (8).
يقول الملّا حسين الكاشفي في كتابه «روضة الشهداء» إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام لمّا طلب من يزيد أن يسلّمه قاتل أبيه ليقتصّ منه أخذ قتلة الإمام الحسين عليه السلام يتبرّؤون من قتله ويلقي كلّ منهم باللوم على صاحب إلى أن وصل الأمر إلى شمر اللعين فاتّهم يزيداً بقتل سيّد الشهداء عليه السلام (9).
وفي أحد الأيّام طلب أحد الأطفال ماءً ، فأحضرت إليه إحدى الشاميات قدحاً وخاطبة العقيلة قائلة : بالله عليك إلّا ما أذنت لي أن أسقيه بيدي ، فإنّ رعاية الأيتام توجب قضاء الحوائج وحصول المرام.
فتساءلت منها العقيلة وقالت : ما هي حاجتك؟
قالت : إنّني من خدمة الصدّيقة الزهراء عليها السلام ، وقد سكنت هذه البلاد ، ومنذ أمد بعيد ليس لي خبر من أهل البيت عليهم السلام ، فكم إنّني مشتاقة لرؤيا سادتي وموالي : زينب بنت علي والحسين بن علي ، فلعلّ الله ببركة دعاء هذا الطفل يقضي حاجتي ويمنّ عليّ بخدمتهم في بقيّة أيّام حياتي؟!
ولمّا سمعت العقيلة منها هذا الكلام ضجّت بالبكاء وتأوّهت واجتذبت حسرة وقالت : يا أمة الله ، لقد قضى الله حاجتك ، ها أنا زينب بنت أميرالمؤمنين عليه السلام ، وهذا رأس الحسين عليه السلام على باب دار يزيد.
يقول البعض : عندما سمعت الشامية من العقيلة هذا الكلام أُسقط في يدها وصرخت صرخة ثمّ سقطت مغشيّاً عليها.
ولمّا أفاقت أخذت تنعى الإمام الحسين عليه السلام منادية : واحسيناه ، واسيّداه ، وا إماماه وا غريباه ، وا قتيلاً فأبكت ببكائها كلّ صديق وعدو (10).
فتساءلت العقيلة عليها السلام الهاشمية منها وقالت : ولماذا الأسارى والغرباء بالذات؟!
فقالت المرأة : أيّام طفولتي كنت أعيش في مدينة الرسول صلى الله عليه واله وقد ابتليت بمرض صعب العلاج عجز الأطبّاء الحاذقون عن علاجه.
وحيث إنّ والدي من الموالين لأهل البيت عليهم السلام فقد أخذاني إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام وطلبا من الصدّيقة الزهراء أن تتوسّل إلى الله في شفائي. وبينما هم كذلك إذا بالإمام الحسين عليه السلام يقبل فأشار عليه والده أمير المؤمنين عليه السلام أن يمسح بيده المباركة على رأسي ثمّ يرفع يديه بالدعاء ويتوسّل إلى الله تعالى في شفائي.
وما أن مسح الإمام الحسين عليه السلام يده المباركة على رأسي ورفع يديه بالدعاء لشفائي وإذا بصحّتي تتحسّن وتذهب آلامي تماماً وإلى اليوم لم أر مرضاً قطّ.
واليوم وبعد أن جار علينا الزمان أصبحت غريبة في هذه الديار وقد فرّق الدهر بيني وبين سادتي وموالي أهل البيت عليهم السلام ولذا فقد نذرت وتعاهدت مع الله تعالى إنّني متى ما رأيت غريباً أو أسيراً أُحسن إليه وأطلب من الله تعالى مقابل ذلك سلامة سيّدي ومولاي أبي عبدالله الحسين عليه السلام الذي أسأل الله أن يمنّ عليّ بلقائه والتشرّف بزيارته.
ولمّا سمعت العقيلة زينب عليها السلام منها هذا الكلام تأوّهت وارتفع صوتها بالبكاء وقالت : يا أمة الله اعلمي أنّ ساعات انتظارك قد ولّت وأنّ نذرك قد تحقّق ، أليس كنت تتمنّين رؤيا أهل البيت عليهم السلام فهؤلاء الأسارى هم أهل البيت عليهم السلام ، وأنا زينب بنت أمير المؤمنين عليها السلام ، وذاك رأس الحسين بن علي عليه السلام منصوباً على دار يزيد.
وحيث إنّ المرأة لم تكن تتوقّع أنّ الزمان سيجور على أهل البيت عليهم السلام هكذا فقد أسقط في يدها وخرّت مغشيّاً عليها ـ وبعد أن أفاقت ـ رمت بنفسها على قدمي العقيلة زينب عليها السلام وأخذت تقبّلهما وهي تبكي وتقول : وا سيّداه ، وا إماماه ، وا غريباه (11).
اختلف المؤرخّون في نقل هذه القضيّة ، فالبعض منهم قال : إنّ زوجة يزيد بنت عبدالله بن كريز عندما سمعت صوت العقيلة زينب عليها السلام في مجلس يزيد ذهلت لعظم المصاب ودخلت المجلس حاسرة الرأس فألقى يزيد ردائه على رأسها. وقد وبّخت يزيد ونالت منه لفعله الشنيع بشدّة حتّى حار ماذا يجيبها فأشار عليها أن تدخل وتنعى الإمام الحسين عليه السلام وتبكي عليه.
ونقل بعض المؤرخين قصّة مجيئها إلى خرابة الشام بكيفية أُخرى لم أجد لهذا النقل مصدر معيّن ولذا فقد أعرضت عن نقل القضية وآثرت الاقتصار على القصّة المذكورة في الكتب المعتبرة.
على كلّ فقد يقال إنّ هناك قرينة تدلّ على أنّ هند المذكورة لم تكن ابنة عبدالله بن كريز وهذه القرينة هي :
ورد في كتاب «ناسخ التواريخ» اثربيانه للغزوات التي وقعت في عهد عمر وبالذات عند تطرّقه إلى وقائع فتح قلعة أبي القدس فقال : إنّ عيون أبو عبيدة بن الجرّاح ـ قائد العسكر ـ أخبروه أنّ هناك سوقاً مهمّاً للنصارى في مقابل قلعة أبي القدس وعمّا قريب ستعقد ابنة أبي القدس ، فإذا هجمنا عليهم واستولينا على السوق فسنظفر بغنائم كثيرة.
فبعث أبو عبيدة جعفر الطيّار بقيادة خمسمائة فارس إليهم ، ومن بعده أرسل خالد ابن الوليد ليؤازره حتّى فتحوا القلعة وأسروا ابنة أبي القدس.
فأرسل عبدالله بن جعفر إلى أبي عبيدة بأنّني لا أُريد من الغنائم شيئاً سوى هذه المرأة ، وإذا بأبي عبيدة يجيبه : إنّ الأمر بيد عمر فأرسلوا إليه كي يأذن له فيها فبعث إليهم من يخبرهم عن موافقته.
وبالفعل فقد أخذ عبدالله المرأة كغنيمة إلى أن سمع معاوية السوء عن حسنها وجمالها فطلبها من عبدالله لابنه يزيد بعد أن أرسل مبلغاً طائلاً لعبدالله إلّا أنّه رفض أن يأخذ درهماً واحداً منها وأرسل الجارية إلى معاوية كهدية.
وهنا يمكن أن يقال : إنّ هذه الجارية هي التي أتت إلى خرابة الشام وزارت الأسارى ، وبالطبع فإنّ هذه الجارية عاشت سنين عديدة في بيت عبدالله بن جعفر والعقيلة زينب وتربّت على أيديهما حتّى دارت الأيّام وأُدخل أهل البيت عليهم السلام الشام كأسارى فقيل لها : إنّ بعض الأسارى الخارجيين أُودعا في الخرابة فأحبّت أن تتفرّج عليهم وتنظر من أي الأسارى هم ولذا فقد استأذنت يزيد في ذلك فأذن لها إلّا أنّه أمرها أن تذهب إليهم ليلاً.
ولمّا أرخى الليل سدوله أخذوا لها كرسيّاً وأدخلوها على الأسارى وما أن رأت حالهم رقّت لهم وتساءلت قائلة : مَن كبيركم؟ فأشاروا إلى العقيلة زينب عليها السلام.
قالت : من أي الأسارى أنتم؟ قالت العقيلة زينب عليها السلام : من أهل المدينة. قالت : كلّ المدن تسمّى بالمدينة ، فمن أي المدن أنتم؟ قالت : من مدينة رسول الله صلى الله عليه واله ، وإذا بها تجلس على الأرض ، فتساءلت منها عقيلة الهاشميين عليهم السلام قائلة : لماذا جلست على الأرض؟ قالت : احتراماً لمدينة رسول الله صلى الله عليه واله ، ثمّ أنّها قالت : بالله عليك أخبرني أتعرفين أحداً من محلّة بني هاشم؟
فقالت السيّدة زينب عليها السلام : لقد ترعرعت وكبرت في محلّة بني هاشم. فتأوّهت الجارية وقالت : لقد زديتني همّاً فوق همّي أُقسم عليك بالله العظيم ألم تمرّي بدار مولاي أمير المؤمنين عليه السلام أو زرتي سيّدي ومولاتي زينب بنت علي عليهما السلام؟ فلم تطق العقيلة تحمّل كلامها وأجهشت بالبكاء وقالت : حقّك ألّا تعرفيني أنا زينب بنت علي عليه السلام.
ثمّ إنّها قالت : أتسألين عن الحسين عليه السلام فذاك رأسه منصوباً على دار يزيد ، وإذا بالدنيا تضيق في عيني المرأة ويرتفع صوتها بالبكاء والعويل ، بل إنّها أخذت تصيح كما يصيح المجانين ثمّ خرجت إلى قصر يزيد حاسرة الرأس مذهولة وهي تصيح قائلة : يابن معاوية! رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله منصوباً على باب داري ، واحسيناه ، وا مظلوماه ، وا قتيل أولاد الأدعياء ، والله يعزّ ذلك على رسول الله وعلى أميرالمؤمنين عليهما السلام.
فاضطرب الطاغية يزيد ولاحظ أنّ جميع قد سخطوا عليه حتّى أهله وعياله فأخذ يتظاهر بالندامة من أفعاله الضالّة ويقول : مالي ولحسين بن علي؟!
ولذا فإنّه لم يجد بدّاً من أن يغيّر طريقة تعامله مع أهل البيت عليهم السلام فقال لزوجته : اذهبي واسكنيهم في منزل أفضل من الخرابة التي هم فيها ، فأسرعت المرأة إلى العقيلة زينب عليها السلام وهي تقول : ليتني عميت ولم أراكم على هذه الحالة.
ثمّ إنّها أخذتهم إلى منزل آخر وأوصت النساء قائلة : يا نساء بني مروان ويا بنات بني سفيان لا أراكم بعد اليوم تضحكون فرحاً ، فوالله إنّ هؤلاء ليسوا بخوارج بل إنّهم ذرّية رسول الله صلى الله عليه واله وأولاد فاطمة وعلي المرتضى عليهم السلام (12).
ولمّا أصبح الصباح استدعى حرم رسول الله صلى الله عليه واله وقال لهنّ : أيّهما أحبّ إليكنّ ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة ولكم الجائزة السنيّة. قالوا : نحبّ أوّلاً أن ننوح على الحسين عليه السلام قال : افعلوا ما بدا لكم. ثمّ أخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلّا ولبست السواد على الحسين عليه السلام وندبوه على ما نقل سبعة أيّام (14).
يقول ابن نما : وكنّ النساء مدّة مقامهنّ بدمشق ينحن عليه بشجو وأنّة ويندبن بعويل ورنّة ومصاب الأسرى عظم خطبة والأسى لكم الثكلي عال طبه ، وأسكن في مساكن لا يقين من حرّ ولا برد حتّى تقشّرت الجلود وسال الصديد بعد أن كنّ في الخدور وظلّ الستور ، والصبر ظاعن والجزع مقيم والحزن لهنّ نديم (15).
المصادر:
1- من الرسول صلى الله عليه واله إلى الإمام زين العابدين عليه السلام تأليف الشيخ علي الفلسفي.
2- الروم : ١٠.
3- آل عمران : ١٧٨.
4- آل عمران : ١٦٩.
5- مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٣ ، وانظر : مثير الأحزان : ١٠١ ، الملهوف : ٢١٥ ، الاحتجاج ٢ / ١٢٣ ، الحدائق الوردية لحميد بن زيد اليماني ، بحار الأنوار ٤٥ / ١٣٣ ، أعلام النساء ٢ / ٩٥ لعمر رضا كحالة ، وغيرهم. المترجم.
6- إثبات الوصيّة ص ١٤٥.
7- راجع نفس المهموم ص ٤٥٠.
8- اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج ٣ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.
9- راجع مقتل أبي مخنف ص ٢١٨ ـ ٢٢٠.
10- رياحين الشريعة للعلّامة الشيخ ذبيح الله محلاتي المتوفّى سنة ١٤٠٦ ه ج ٢ ص ١٨٧.
11- رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٨٨.
12- رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٩١.
13- مثير الأحزان ص ١٠٤ ، بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٤٠ ، الملهوف ص ٨٢.
14- بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٩٦.
15- بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٩٦ ، نور الأبصار ص ١٣٥.
ولمّا شاهد الأطفال الغزال الصغير جاءوا إلى الإمام السجّاد عليه السلام وقالوا له : نريد غزالاً ، فقال الإمام عليه السلام للصيّاد : أتبيع هذا الغزال؟! قال : نعم ، ولكن لن أبيعه إلّا ليزيد ، فهو غزال جميل وإذا بعته ليزيد فسيكرمني ويحسن إليّ في عطائه.
فقال الإمام عليه السلام : بعه إليّ وبأيّ ثمن تريد ، فتعجّب الصيّاد وبقى متحيّراً من كلام الإمام عليه السلام ، وبينما هو كذلك إذا بالإمام عليه السلام يأخذ بعض الحجارة الصغيرة وناولها إيّاه ، حقّق الصيّاد فيما أعطاه الإمام عليه السلام فوجدها مجموعة من الجواهر الثمينة فلم يجد بدّاً من أن يقدّم الغزال للإمام عليه السلام ويرحل.
ثمّ إنّ خبر الغزال شاع في الشام ووصل إلى يزيد اللعين ، فطلب الصيّاد وأمره أن يقصّ عليه الحدث.
وحيث إنّ الصيّاد أصبح من الموالين الخلّص للإمام عليه السلام بعد مشاهدته لكرامته العجيبة فقد نقل القضية وأكّد أمام الملأ على كرامة الإمام السجّاد عليه السلام عند الله تعالى ولذا فإنّ يزيد أمر بقتله وإخفاء أمره حتّى لا يطّلع الناس على هذه الكرامة. ولم تمض سوى أيّام قليلة إذا بخبر قتل الصيّاد يصل إلى الإمام السجّاد عليه السلام ، فجاء إلى قبره وأشار إليه وقال : قم بإذن الله ، فخرج الصيّاد من قبره سالماً كأن لم يكن به شيء أصلاً (١).
خطبة العقيلة زينب عليها السلام
عندما كان يزيد يهزأ بأهل البيت عليهم السلام ويتغطرس بأنفه شامتاً تصدّت العقيلة زينب عليها السلام إليه بخطبتها الغرّاء وكشفت للعالم بأسره شدّة طغيانه وانحرافه فقالت عليها السلام :«الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين ، صدق الله تعالى إذ يقول (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ) (2) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الأُسارى أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأُمور لك متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (3).
أمن العدل يابن الطلقاء (هذه إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه واله لأبي سفيان جدّ يزيد الذي عفا عنه الرسول صلى الله عليه واله هو وأتباعه فقال صلى الله عليه واله : «إذهبوا فأنتم الطلقاء») تخديرك إماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، يحدى بهنّ من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حميّ. وكيف تُرجى المراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء (هذه إشارة إلى هند آكلة الأكباد حيث إنّها مثّلث بحمزة سيّد الشهداء عليه السلام فأخرجت كبده وحاولت أن تأكله إلّا أنّها لم تستطع ذلك.) ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!
وكيف لا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً / ثمّ قالوا : يا يزيد لا تشل
منتحياً على ثنايا أبي عبدالله عليه السلام تنكتها بمخصرتك؟
وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرّية آل محمّد ونجوم الأرض من آل عبدالمطّلب؟!
أتهتف بأشياخك؟ زعمت تناديهم ، فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت.
اللهمّ خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ما فريت إلّا جلدك ولا جززت إلّا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله صلى الله عليه واله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيته وانتهاك حرمته في لحمته وعترته ، وليخاصمنّك حيث يجمع الله تعالى شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ لهم بحقّهم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (4).
فحسبك بالله حاكماً ، وبمحمّد خصماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، أن بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدر حرّى.
ألا فالعجب كلّ العجب بقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فتلك الأيدي تنظف من دمائنا ، وتلك الأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتنابها العواسل وتعفوها الذئاب ، وتؤمّها الفراعل ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وأنّ الله ليس بظلّام للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.
فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لاتمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، ولا تغيب شنارها ، فهل رأيك إلّا فند وأيّامك إلّا عدد ، وشملك إلّا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمدلله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والرحمة ، ولآخرنا بالشهادة والمغفرة.
وأسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، وحسن المآب ، ويختم بنا الشرافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونم النصير» (5).
الإمام الباقر يعظ يزيد
حينما أُدخل أهل البيت عليهم السلام مجلس يزيد أخذ اللعين يتجاسر عليهم ويقول لجماعته : لقد أمرت بقتل كافّة رجالهم ، فلم يبق سوى هؤلاء النسوة والأطفال المقيّدين ، فماذا تشيرون أن أفعل بهم؟ فقال الجميع وبلا تردّد : مر بقتلهم كي لا يبقى من نسل علي أحد فوق الأرض.آنذاك قام الإمام الباقر وكان إمّا عمره سنتين وشهور أو خمس سنوات وكان مع الأسارى مقيّداً فحمد الله وأثنى عليه وقال : يزيد لي أن أتكلم.
فتعجّب اللعين من جرأته وجسارته وقال : قل ماذا تريد؟
فقال الإمام عليه السلام : لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه حيث شاورهم في موسى وهارون ، فإنّهم قالوا له : أرجه وأخاه ، وقد أشار هؤلاء بقتلنا ، ولهذا سبب. فقال يزيد : وما السبب؟ فقال عليه السلام : إنّ هؤلاء كانوا الرشدة وهؤلاء لغير رشدة ، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلّا أولاد الأدعياء فأمسك يزيد مطرقاً (6).
خطبة الإمام السجّاد عليه السلام
لا يخفى أنّ لدخول أهل البيت عليهم السلام الشام أثراً كبيراً في افتضاح يزيد وكشف ألا عيبه الخفية التي كانت منطلية على البسطاء من الناس.ففي أحد الأيّام طلب الإمام السجّاد عليه السلام من يزيد أن يأذن له كي يخطب في الناس في إحدى الجمع فأذن له.
وفي يوم الجمعة أمر الطاغية أحد الوعّاظ ـ الذين اشتروا سخط الله برضا المخلوق ـ أن يصعد المنبر وينال من الإمام علي عليه السلام وأولاده ويمدح آل أبي سفيان ويثني عليهم.
وفي ذلك الحال طلب الإمام عليه السلام من يزيد أن يفي بوعده إلّا أنّه أخذ يتهرّب ويراوغ وكان ابنه معاوية حاضراً فقال له : دعه يصعد المنبر ، فما يحسن هذا الغلام؟!
فقال يزيد : إنّك لا تعرف من هذا إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً ، وهو لا ينزل إلّا بفيضحتي وفيضحة آل أبي سفيان وأخاف أن يحصل من خطبته فتنة علينا (7) ، فأصرّ الناس عليه أن يأذن له فأذن ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال :
«أيّها الناس ، أُعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع ، أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً صلى الله عليه واله ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة.
فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حمل الزكاة بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائترز وارتدى ، ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى.
أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلّا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النببيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين ، أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، والمنصوربميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخيّ ، بهلول زكيّ أبطحيّ ، رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جناناً ، وأطبقهم عناناً ، وأجرأهم لساناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة ، طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنصّ والاستحقاق ، مكّيّ مدنيّ ، أبطحيّ تهاميّ ، خيفيّ عقبيّ ، بدري أُحدي ، شجري مهاجري ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، غالب كلّ غالب ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسول.
قال : ولم يزل يقول «أنا أنا» حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذّن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.
فلمّا قال المؤذّن : «الله أكبر» قال علي بن الحسين :
كبّرت كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس ، لا شيء أكبر من الله.
فلمّا قال : «أشهد أن لا إله إلّا الله» قال الإمام السجّاد عليه السلام :
شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.
فلمّا قال : «أشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه واله» التفت الإمام السجّاد من أعلى المنبر إلى يزيد وقال :
يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قتل إنّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟
ولمّا فرغ المؤذّن من الأذان والإقامة ، تقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.
روى الخطبة أرباب السير والتاريخ ، فمنهم من ذكرها تفصيلاً كابن أعثم والخوارزمي ومحمّد بن أبي طالب ومنهم من ذكر معظمها كابن شهر آشوب والمجلسي ومنهم من ذكر بعضها مثل أبي الفرج الأصفهاني ومنهم من أشار إليها واكتفى بذكر مقدّمتها مثل ابن نما والسيّد ابن طاووس.
يزيد يتبرّأ من جناياته
عندما افتضح يزيد الطاغية أمام الملأ العام واطّلع الناس على سوء جناياته وأفعاله القبيحة لجأ إلى العوبة جديدة أراد أن يغطّي بها مساوئه ألا وهي التبرّي من قتل الإمام الحسين عليه السلام والقاء العبأ واللوم على العسكر.ولذلك فقد أحضر أُمراء العسكر أمثال شبث بن ربعي ، ومصائب بن وهيبة ، وشمر ابن ذي الجوشن ، وسنان بن أنس ، وخولي بن يزيد ، وقيس بن ربيع وغيرهم وبدأ يحاسبهم واحداً بعد الآخر.
ففي البدء التفت إلى قيس بن ربيع وقال : أنت قتلت الحسين بن علي عليه السلام فأجابه قائلاً : أنا لم أقتله أبداً ، ولعنة الله على قاتله.
فقال يزيد : من قتله؟ قال : مصائب.
وإذا بيزيد يلتفت إلى مصائب ويقول : أنت قتلت الحسين بن علي؟ فأجابه مثل جواب صاحبه ، ثمّ تداول الأمر كلّ يلقي باللوم على صاحبه إلى أن وصل الأمر إلى خولي الذي حار ماذا يجيب يزيد ، فالكلّ ينظر إليه شرزاً ، وفجأة اتّفق الجميع على جواب واحد وقالوا : إنّ قاتل الحسين بن علي عليه السلام هو قيس بن ربيع.
فالتفت إليه يزيد وخاطبه بكلّ خشونة وقال : أأنت قتلت الحسين؟! فقال قيس : إنّني أعرف قاتله جيّداً ولن أقول من هو إلّا بعد أن يتفضّل عليَّ الأمير بالأمان.
وبعد أن أعطاه يزيد الأمان قال : إنّ قاتل الحسين بن علي هو من جيّش الجيوش ورفع راية الحرب ضدّه ، فتساءل يزيد قائلاً : ومن هو؟ فقال قيس : أنت يايزيد فانتفض يزيد من كلامه وترك المجلس قاصداً منزله ، ولمّا دخل الدار أخذ رأس سيّد الشهداء عليه السلام وجعله في طشت من ذهب ولفّه في قطعة من القماش واحتفظ به في غرفته الخاصّة.
ثمّ إنّه أخذ يلطم على رأسه ويقول : «ما لي ولقتل الحسين» (8).
يقول الملّا حسين الكاشفي في كتابه «روضة الشهداء» إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام لمّا طلب من يزيد أن يسلّمه قاتل أبيه ليقتصّ منه أخذ قتلة الإمام الحسين عليه السلام يتبرّؤون من قتله ويلقي كلّ منهم باللوم على صاحب إلى أن وصل الأمر إلى شمر اللعين فاتّهم يزيداً بقتل سيّد الشهداء عليه السلام (9).
تجدّد المآسي في الشام
نقل عن كتاب «بحر المصائب» أنّه لمّا أُودع أهل البيت عليه السلام في خرابة الشام كان هناك ثمانية عشر طفلاً وطفلة تضوّرون من شدّة الجوع والعطش وكلّهم يطلب الغوث والمساعدة من العقيلة زينب عليها السلام.وفي أحد الأيّام طلب أحد الأطفال ماءً ، فأحضرت إليه إحدى الشاميات قدحاً وخاطبة العقيلة قائلة : بالله عليك إلّا ما أذنت لي أن أسقيه بيدي ، فإنّ رعاية الأيتام توجب قضاء الحوائج وحصول المرام.
فتساءلت منها العقيلة وقالت : ما هي حاجتك؟
قالت : إنّني من خدمة الصدّيقة الزهراء عليها السلام ، وقد سكنت هذه البلاد ، ومنذ أمد بعيد ليس لي خبر من أهل البيت عليهم السلام ، فكم إنّني مشتاقة لرؤيا سادتي وموالي : زينب بنت علي والحسين بن علي ، فلعلّ الله ببركة دعاء هذا الطفل يقضي حاجتي ويمنّ عليّ بخدمتهم في بقيّة أيّام حياتي؟!
ولمّا سمعت العقيلة منها هذا الكلام ضجّت بالبكاء وتأوّهت واجتذبت حسرة وقالت : يا أمة الله ، لقد قضى الله حاجتك ، ها أنا زينب بنت أميرالمؤمنين عليه السلام ، وهذا رأس الحسين عليه السلام على باب دار يزيد.
يقول البعض : عندما سمعت الشامية من العقيلة هذا الكلام أُسقط في يدها وصرخت صرخة ثمّ سقطت مغشيّاً عليها.
ولمّا أفاقت أخذت تنعى الإمام الحسين عليه السلام منادية : واحسيناه ، واسيّداه ، وا إماماه وا غريباه ، وا قتيلاً فأبكت ببكائها كلّ صديق وعدو (10).
نذر امرأة
ورد في كتاب «بحر المصائب» أيضاً أنّ امرأة جاءت عند العقيلة زينب عليها السلام وقدّمت إليها طبقاً فيه طعام إلّا أنّ عقيلة الهاشميين تصوّرت أنّه صدقة وقالت : ألا تعلمين أنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت عليهم السلام؟! فأجابتها المرأة قائلة : والله ليس هذا بصدقة ، وإنّما هو نذر للأسارى والغرباء.فتساءلت العقيلة عليها السلام الهاشمية منها وقالت : ولماذا الأسارى والغرباء بالذات؟!
فقالت المرأة : أيّام طفولتي كنت أعيش في مدينة الرسول صلى الله عليه واله وقد ابتليت بمرض صعب العلاج عجز الأطبّاء الحاذقون عن علاجه.
وحيث إنّ والدي من الموالين لأهل البيت عليهم السلام فقد أخذاني إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام وطلبا من الصدّيقة الزهراء أن تتوسّل إلى الله في شفائي. وبينما هم كذلك إذا بالإمام الحسين عليه السلام يقبل فأشار عليه والده أمير المؤمنين عليه السلام أن يمسح بيده المباركة على رأسي ثمّ يرفع يديه بالدعاء ويتوسّل إلى الله تعالى في شفائي.
وما أن مسح الإمام الحسين عليه السلام يده المباركة على رأسي ورفع يديه بالدعاء لشفائي وإذا بصحّتي تتحسّن وتذهب آلامي تماماً وإلى اليوم لم أر مرضاً قطّ.
واليوم وبعد أن جار علينا الزمان أصبحت غريبة في هذه الديار وقد فرّق الدهر بيني وبين سادتي وموالي أهل البيت عليهم السلام ولذا فقد نذرت وتعاهدت مع الله تعالى إنّني متى ما رأيت غريباً أو أسيراً أُحسن إليه وأطلب من الله تعالى مقابل ذلك سلامة سيّدي ومولاي أبي عبدالله الحسين عليه السلام الذي أسأل الله أن يمنّ عليّ بلقائه والتشرّف بزيارته.
ولمّا سمعت العقيلة زينب عليها السلام منها هذا الكلام تأوّهت وارتفع صوتها بالبكاء وقالت : يا أمة الله اعلمي أنّ ساعات انتظارك قد ولّت وأنّ نذرك قد تحقّق ، أليس كنت تتمنّين رؤيا أهل البيت عليهم السلام فهؤلاء الأسارى هم أهل البيت عليهم السلام ، وأنا زينب بنت أمير المؤمنين عليها السلام ، وذاك رأس الحسين بن علي عليه السلام منصوباً على دار يزيد.
وحيث إنّ المرأة لم تكن تتوقّع أنّ الزمان سيجور على أهل البيت عليهم السلام هكذا فقد أسقط في يدها وخرّت مغشيّاً عليها ـ وبعد أن أفاقت ـ رمت بنفسها على قدمي العقيلة زينب عليها السلام وأخذت تقبّلهما وهي تبكي وتقول : وا سيّداه ، وا إماماه ، وا غريباه (11).
اختلف المؤرخّون في نقل هذه القضيّة ، فالبعض منهم قال : إنّ زوجة يزيد بنت عبدالله بن كريز عندما سمعت صوت العقيلة زينب عليها السلام في مجلس يزيد ذهلت لعظم المصاب ودخلت المجلس حاسرة الرأس فألقى يزيد ردائه على رأسها. وقد وبّخت يزيد ونالت منه لفعله الشنيع بشدّة حتّى حار ماذا يجيبها فأشار عليها أن تدخل وتنعى الإمام الحسين عليه السلام وتبكي عليه.
ونقل بعض المؤرخين قصّة مجيئها إلى خرابة الشام بكيفية أُخرى لم أجد لهذا النقل مصدر معيّن ولذا فقد أعرضت عن نقل القضية وآثرت الاقتصار على القصّة المذكورة في الكتب المعتبرة.
على كلّ فقد يقال إنّ هناك قرينة تدلّ على أنّ هند المذكورة لم تكن ابنة عبدالله بن كريز وهذه القرينة هي :
ورد في كتاب «ناسخ التواريخ» اثربيانه للغزوات التي وقعت في عهد عمر وبالذات عند تطرّقه إلى وقائع فتح قلعة أبي القدس فقال : إنّ عيون أبو عبيدة بن الجرّاح ـ قائد العسكر ـ أخبروه أنّ هناك سوقاً مهمّاً للنصارى في مقابل قلعة أبي القدس وعمّا قريب ستعقد ابنة أبي القدس ، فإذا هجمنا عليهم واستولينا على السوق فسنظفر بغنائم كثيرة.
فبعث أبو عبيدة جعفر الطيّار بقيادة خمسمائة فارس إليهم ، ومن بعده أرسل خالد ابن الوليد ليؤازره حتّى فتحوا القلعة وأسروا ابنة أبي القدس.
فأرسل عبدالله بن جعفر إلى أبي عبيدة بأنّني لا أُريد من الغنائم شيئاً سوى هذه المرأة ، وإذا بأبي عبيدة يجيبه : إنّ الأمر بيد عمر فأرسلوا إليه كي يأذن له فيها فبعث إليهم من يخبرهم عن موافقته.
وبالفعل فقد أخذ عبدالله المرأة كغنيمة إلى أن سمع معاوية السوء عن حسنها وجمالها فطلبها من عبدالله لابنه يزيد بعد أن أرسل مبلغاً طائلاً لعبدالله إلّا أنّه رفض أن يأخذ درهماً واحداً منها وأرسل الجارية إلى معاوية كهدية.
وهنا يمكن أن يقال : إنّ هذه الجارية هي التي أتت إلى خرابة الشام وزارت الأسارى ، وبالطبع فإنّ هذه الجارية عاشت سنين عديدة في بيت عبدالله بن جعفر والعقيلة زينب وتربّت على أيديهما حتّى دارت الأيّام وأُدخل أهل البيت عليهم السلام الشام كأسارى فقيل لها : إنّ بعض الأسارى الخارجيين أُودعا في الخرابة فأحبّت أن تتفرّج عليهم وتنظر من أي الأسارى هم ولذا فقد استأذنت يزيد في ذلك فأذن لها إلّا أنّه أمرها أن تذهب إليهم ليلاً.
ولمّا أرخى الليل سدوله أخذوا لها كرسيّاً وأدخلوها على الأسارى وما أن رأت حالهم رقّت لهم وتساءلت قائلة : مَن كبيركم؟ فأشاروا إلى العقيلة زينب عليها السلام.
قالت : من أي الأسارى أنتم؟ قالت العقيلة زينب عليها السلام : من أهل المدينة. قالت : كلّ المدن تسمّى بالمدينة ، فمن أي المدن أنتم؟ قالت : من مدينة رسول الله صلى الله عليه واله ، وإذا بها تجلس على الأرض ، فتساءلت منها عقيلة الهاشميين عليهم السلام قائلة : لماذا جلست على الأرض؟ قالت : احتراماً لمدينة رسول الله صلى الله عليه واله ، ثمّ أنّها قالت : بالله عليك أخبرني أتعرفين أحداً من محلّة بني هاشم؟
فقالت السيّدة زينب عليها السلام : لقد ترعرعت وكبرت في محلّة بني هاشم. فتأوّهت الجارية وقالت : لقد زديتني همّاً فوق همّي أُقسم عليك بالله العظيم ألم تمرّي بدار مولاي أمير المؤمنين عليه السلام أو زرتي سيّدي ومولاتي زينب بنت علي عليهما السلام؟ فلم تطق العقيلة تحمّل كلامها وأجهشت بالبكاء وقالت : حقّك ألّا تعرفيني أنا زينب بنت علي عليه السلام.
ثمّ إنّها قالت : أتسألين عن الحسين عليه السلام فذاك رأسه منصوباً على دار يزيد ، وإذا بالدنيا تضيق في عيني المرأة ويرتفع صوتها بالبكاء والعويل ، بل إنّها أخذت تصيح كما يصيح المجانين ثمّ خرجت إلى قصر يزيد حاسرة الرأس مذهولة وهي تصيح قائلة : يابن معاوية! رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله منصوباً على باب داري ، واحسيناه ، وا مظلوماه ، وا قتيل أولاد الأدعياء ، والله يعزّ ذلك على رسول الله وعلى أميرالمؤمنين عليهما السلام.
فاضطرب الطاغية يزيد ولاحظ أنّ جميع قد سخطوا عليه حتّى أهله وعياله فأخذ يتظاهر بالندامة من أفعاله الضالّة ويقول : مالي ولحسين بن علي؟!
ولذا فإنّه لم يجد بدّاً من أن يغيّر طريقة تعامله مع أهل البيت عليهم السلام فقال لزوجته : اذهبي واسكنيهم في منزل أفضل من الخرابة التي هم فيها ، فأسرعت المرأة إلى العقيلة زينب عليها السلام وهي تقول : ليتني عميت ولم أراكم على هذه الحالة.
ثمّ إنّها أخذتهم إلى منزل آخر وأوصت النساء قائلة : يا نساء بني مروان ويا بنات بني سفيان لا أراكم بعد اليوم تضحكون فرحاً ، فوالله إنّ هؤلاء ليسوا بخوارج بل إنّهم ذرّية رسول الله صلى الله عليه واله وأولاد فاطمة وعلي المرتضى عليهم السلام (12).
رؤيا السيّدة سكينة عليها السلام
يقول الشيخ ابن نما ، رأت السيّدة سكينة في منامها وهي بدمشق وهي بدمشق كأنّ خمسة نجب من نور قد أقبلوا وعلى كلّ نجيب شيخ ، والملائكة محدقة بهم ومعهم وصيف يمشي فمضى النجب وأقبل الوصيف إليّ وقرب منّي وقال : يا سكينة إنّ جدّك يسلّم عليك ، فقلت : وعلى رسول الله السلام أيا رسول رسول الله من أنت؟ قال : وصيف من وصائف الجنّة. فقلت : من هؤلاء المشيخة الذين جاءوا على النجب؟ قال : الأوّل آدم صفوة الله عليه والسلام ، والثاني إبراهيم خليل الله عليه السلام والثالث موسى كليم الله عليه السلام ، والرابع عيسى روح الله عليه السلام ، والخامس جدّك رسول الله صلى الله عليه واله ، فقلت : وأين هم قاصدون؟ قال : إلى أبيك الحسين عليه السلام فأقبلت أسعى في طلبه لأُعرّفه ما صنع بنا الظالمون بعده ، فبينا أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هواجد من نور في كلّ هودج امرأة ، فقلت : من هذه النسوة المقبلات؟ قال : الأوّل حواء أُمّ البشر ، والثانية آسية بنت مزاحم ، والثالثة مريم بنت عمران ، والرابعة خديجة بنت خويلد ، والخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرّة وتقوم أُخرى جدّتك فاطمة بنت محمّد أُمّ أبيك ، فقلت : والله لأخبرنّها ما صنع بنا ، فلحقتها فوقفت بين يديها أبكى ، وأقول : يا أُمّاه جحدوا الله حقّنا ، يا أُمّاه بدّدوا والله شملنا ، يا أُمّاه استباحوا والله حريمنا ، يا أُمّاه قتلوا والله الحسين أبانا. فقلت : كفّي صوتّك يا سكينة فقد أحرقت كبدي وقطعت نياط قلبي. هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتّى ألقى الله به. ثمّ انتبهت وأردت كتمان ذلك المنام وحدّثت به أهلي فشاع بين الناسش (13)رؤيا هند زوجة يزيد
نقل عن هند زوجة يزيد أنّها قالت : أخذت مضجعي فرأيت باباً من السماء وقد فتحت والملاكة ينزول كتائب كتائب إلى رأس الحسين عليه السلام وهم يقولون : السلام عليك يا أبا عبدالله السلام عليك يابن رسول الله ، فبينا أنا كذلك إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء وفيها رجال كثيرون وفيهم رجل درّي اللون قمري الوجه ، فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين عليه السلام يقبّلها وهو يقول : يا ولدي قتلوك أتراهم ما عرفوك ومن شرب الماء منعوك ، يا ولدي أنا جدّك رسول الله وهذا أبوك علي المرتضى وهذا أخوك الحسن وهذا عمّك جعفر وهذا عقيل وهذان حمزة والعبّاس. ثمّ جعل يعدّد أهل بيته عليهم السلام واحداً بعد واحد. تقول هند : فانتبهت من نومي فزعة مرعوبة وإذا بنور قد انتشر على رأس الحسين عليه السلام ، فجعلت أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيت مظلم وقد دار وجهه إلى الحائط وهو يقول : ما لي وللحسين ، وقد وقعت عليه الهمومات فقصصت عليه المنام وهو منكّس الرأس.ولمّا أصبح الصباح استدعى حرم رسول الله صلى الله عليه واله وقال لهنّ : أيّهما أحبّ إليكنّ ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة ولكم الجائزة السنيّة. قالوا : نحبّ أوّلاً أن ننوح على الحسين عليه السلام قال : افعلوا ما بدا لكم. ثمّ أخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلّا ولبست السواد على الحسين عليه السلام وندبوه على ما نقل سبعة أيّام (14).
يقول ابن نما : وكنّ النساء مدّة مقامهنّ بدمشق ينحن عليه بشجو وأنّة ويندبن بعويل ورنّة ومصاب الأسرى عظم خطبة والأسى لكم الثكلي عال طبه ، وأسكن في مساكن لا يقين من حرّ ولا برد حتّى تقشّرت الجلود وسال الصديد بعد أن كنّ في الخدور وظلّ الستور ، والصبر ظاعن والجزع مقيم والحزن لهنّ نديم (15).
المصادر:
1- من الرسول صلى الله عليه واله إلى الإمام زين العابدين عليه السلام تأليف الشيخ علي الفلسفي.
2- الروم : ١٠.
3- آل عمران : ١٧٨.
4- آل عمران : ١٦٩.
5- مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٣ ، وانظر : مثير الأحزان : ١٠١ ، الملهوف : ٢١٥ ، الاحتجاج ٢ / ١٢٣ ، الحدائق الوردية لحميد بن زيد اليماني ، بحار الأنوار ٤٥ / ١٣٣ ، أعلام النساء ٢ / ٩٥ لعمر رضا كحالة ، وغيرهم. المترجم.
6- إثبات الوصيّة ص ١٤٥.
7- راجع نفس المهموم ص ٤٥٠.
8- اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج ٣ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.
9- راجع مقتل أبي مخنف ص ٢١٨ ـ ٢٢٠.
10- رياحين الشريعة للعلّامة الشيخ ذبيح الله محلاتي المتوفّى سنة ١٤٠٦ ه ج ٢ ص ١٨٧.
11- رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٨٨.
12- رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٩١.
13- مثير الأحزان ص ١٠٤ ، بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٤٠ ، الملهوف ص ٨٢.
14- بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٩٦.
15- بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٩٦ ، نور الأبصار ص ١٣٥.
المقالات مرتبط
تازه های المقالات
ارسال نظر
در ارسال نظر شما خطایی رخ داده است
کاربر گرامی، ضمن تشکر از شما نظر شما با موفقیت ثبت گردید. و پس از تائید در فهرست نظرات نمایش داده می شود
نام :
ایمیل :
نظرات کاربران
{{Fullname}} {{Creationdate}}
{{Body}}