مساحات الالتقاء
لتفترض أنّ الخلاف العلمي بين عالم وآخر كان في درجته العليا٢٠% فهذا يعني أنّ مساحة الاتّفاق والتّطابق هي نسبة ٨٠% لكن المؤسف والمحزن في الأمر ، هو تجاهل مساحة الاتفاق الواسعة وتجاوزها ، للانشغال بمنطقة
لتفترض أنّ الخلاف العلمي بين عالم وآخر كان في درجته العليا٢٠% فهذا يعني أنّ مساحة الاتّفاق والتّطابق هي نسبة ٨٠% لكن المؤسف والمحزن في الأمر ، هو تجاهل مساحة الاتفاق الواسعة وتجاوزها ، للانشغال بمنطقة الخلاف المحدودة والوقوف عندها.
ففي الثقافة السائدة في أوساط الأُمّة ، هناك تركيز بارز على القضايا والمسائل الخلافية ، مع محدوديتها وثانويتها ، وهناك إهمال واضح للمتفق عليه مع سعته وأولويته.
ـ إنّ كلّ علماء الإسلام يتّفقون على أصول العقيدة ، وهي الإيمان بالله تعالى ، ونبوّة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه خاتم الرسل والأنبياء ، وبالمصير إلى الله ، والمعاد إليه في يوم القيامة ، وإن اختلفوا في بعض تفاصيل هذه العقائد.
كما يتفقون على معالم الشريعة ، وأركان الدين ، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فهذه المعالم والأركان ، يجمع علماء الإسلام على وجوبها ، ويتّفقون على مقوماتها الأساسية ، وخطوطها العريضة ، وإذا ما كان هناك اختلاف ، ففي بعض الجزئيات والتفاصيل من فروع مسائلها.
وينهل العلماء من منهل واحد ، هو الكتاب والسنّة ، حيث يجمع المسلمون على حجّيتهما ، ولزوم الأخذ لما ورد فيهما ، وتحريم أيّ مخالفة أو معارضة لهما.
وإنّ فهم نصوص الكتاب الكريم ، والسنّة الثابتة ، لا يكون إلا بالتدبّر والتأمّل والاجتهاد والنظر ، مع معذورية كلّ مجتهد في الأخذ بما وصل إليه نظره واجتهاده.
وضمن كلّ مذهب من المذاهب الإسلامية ، هناك اتّفاق على قواعد الاستنباط وضوابط الاجتهاد ، والكثير من التفاصيل العقيدية والفكرية.
هذا بالنسبة لأصول الدين ومعالم الشريعة.
ـ إنّ حفظ الإسلام ، وإعلاء كلمته ، وتطبيق أحكامه وتعاليمه ، هو الهدف المشترك لجميع علماء الدين.
ومما يهمّ العلماء جميعاً ، حماية مصالح الأُمّة الإسلامية ، وتحسين أوضاعها ، والدفاع عن مقدساتها وحقوقها ، وإعزاز مكانتها بين الأمم ، لتكون كما أرادها الله تعالى (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١).
ـ وهناك تحدّيات قائمة ، يشعر بها كلّ واحد من علماء الدين ، وأبرزها طغيان مدّ الأهواء والشهوات والانجراف المادي ، الذي يصدّ الناس عن التوجّه الروحي ، والالتزام الديني. والتيارات الفكرية المادّية التي تمتلك وسائل الإعلام ، ومراكز القوّة والقرار ، وتعمل بإمكانياتها الضخمة ضد الحالة الدينية.
وهناك قوى العدوان والاستكبار العالمي ، والتي تعلن مواجهتها للصحوة الإسلامية ، وتراها الآن الخطر الأكبر على الحضارة المادّية الرأسمالية ، وخاصّة بعد سقوط المعسكر الشرقي ، كما هو مفاد مقولة صموئيل هانتنغتون في صدام الحضارت.
وهناك القوى المصلحية والمتسلّطة في داخل الأُمّة الإسلامية ، والتي تمارس الاستبداد والقمع ، وتنفّذ خطط الأعداء ، بوعي أو بغير وعي ، وتقلّص دور العلماء في التبليغ والدعوة إلى الله.
وهناك أمراض التخلّف التي تعاني منها الأُمّة ، وأخطرها الجهل بالدين والحياة.
هذه التحدّيات الخطيرة القائمة ، والتي يفترض أن يستشعرها كلّ رجل دين ، يجب أن تكون دافعاً لتقارب علماء الدين ، وتعاونهم على مواجهتها.
والأهداف الكثيرة المشتركة التي يؤمنون بها جميعاً ينبغي أن توحد صفوفهم ، وتنظّم حركتهم باتّجاه تحقيقها.
وما دامت أصول العقيدة ، ومعالم الشريعة ، ومنابع الأحكام ، واحدة ، فإنّها تشكل أرضية خصبة للتوافق والتلاقي ، وتجاوز موارد الاختلاف في الفروع والجزئيات ، والمسائل الثانوية والتفصيلية.
والسؤال الذي يشغل بال المخلصين في الأُمّة هو : لماذا يغفل العلماء ويتجاهلون مساحات التلاقي الواسعة بينهم ، ومواقع الاتّفاق العريضة ، وينشغلون بنقاط الخلاف المحدودة والجانبية؟
إنّ ذلك يقعد بهم عن مواجهة التحدّيات القائمة ، ويضعفهم اتّجاهها ، كما يمنعهم من تحقيق أهدافهم الكبيرة ، ويعرقل سيرهم نحوها ، وقد يؤدّي النزاع والخلاف بينهم على الفروع والجزئيات إلى ضياع أصول الدين ، وأسسه ومعالمه.
والمطلوب ، كخطوة أولى ، إعادة النظر في طرح القضايا والمسائل الدينية من قبل العلماء ، ليكون التركيز والاهتمام بمواقع الاتّفاق أوّلاً ، واعتبارها هي الأصل والقاعدة والمنطلق.
وذلك يتيح الفرصة أكثر لتقريب الآراء في موارد الخلاف ، والتي يجب أن تبقى ضمن حجمها وحدودها الطبيعية ، دون تضخيم أو تهويل.
إنّ البدء من موارد الخلاف والتركيز عليها ، قد يحول دون استثمار مساحات اللقاء الواسعة ، بما يخلق من حساسيات وانفعالات.
بينما الانطلاق من مواقع الاتفاق ، يهيّئ النفوس لمعالجة موارد الخلاف بمرونة وموضوعية ، مما يتيح فرص التقارب ، وتضييق حالات الاختلاف.
وقد ظهرت في هذا العصر ، والحمد لله ، مبادرات طيبة ، من قبل المخلصين من علماء الأُمّة ، لإعادة صيغة اهتمامات العلماء ، باتّجاه التركيز على مساحات اللقاء ، وتحجيم موارد الاختلاف ، كمبادرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي انطلقت في القاهرة في الستينات من هذا القرن ، والمبادرة الجديدة المشابهة لها في جمهورية إيران.
وبرزت دعوات وحدوية لمفكّرين غيورين على مصلحة الدين ، ومستقبل الأُمّة ، تبشّر بـ فقه الوفاق الذي يركّز على تأصيل وحدة الأُمّة ، ومن أوائل الداعين إلى هذه الفكرة الرائدة ، والطرح الوحدوي ، سماحة المغفور له الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان ، حيث أوضح معالم هذا التوجّه في محاضرة له ضمن مؤتمر تكريم المفكّر الإسلامي الكبير ، السيّد عبد الحسين شرف الدين ، والذي انعقد في بيروت ( ١٨ ـ ١٩ شباط١٩٩٣ م ).
ودعا إلى نفس الفكرة والطرح الدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق وكلية الشريعة.
يقول الدكتور الزحيلي : ولم يتخلّص العلماء بالذات ، فضلاً عن العوام ، من العناية بالخلافات ، وضخّموا مسائل الاختلاف ، وهوّلوا وقائع النزاع ، وتركوا نقاط الاتّفاق والتلاقي ، وصنّفوا العديد من المصنّفات في بيان أسباب الاختلاف بين الفقهاء ، إما بحسن نيّة ليعذر الناس العلماء في ما اختلفوا فيه ، أو بسبب الولع بتّتبع الخلافات ، الأمر الذي أنسى الأُمّة في خزانة الفكر الإسلامي أو الإنساني ، ظاهرة الوفاق والتوحيد ، ورصدوا الكثير من مسوغات الخلاف ، ما جعل المسلم يعني بالاختلاف ، وينسى الاتّحاد أو الوحدة.
لذا لم أجد مصنّفاً واحداً في القديم والحديث ، عُني بالأمر البدهي أو الأصيل الإسلامي ، وهو وحدة الفكر والمصدر والاستنباط ، لحمل الناس عليه ، علماً بأنّ نقاط الاتفاق والاتّحاد أكثر بكثير من نقاط الخلاف والخصام والتعصّب المذهبي ...
إنّنا ، نحن العلماء ، آثمون أشدّ الإثم ، من حيث ندري أو لا ندري ، إذا لم نُعِد حساباتنا ، ونفكّر في مصائرنا ، ونعمل من جديد على إعادة وحدة الأُمّة في السياسة والاقتصاد ، والاجتماع والاعتقاد ، والاجتهاد والاستنباط ، والتربية والتعليم ، والتوجيه والتثقيف ، وبناء حياة مزدانة بكلّ عناصر القوة والمجد ، والجدية والنهوض من الكبوات ، ونسيان الخلافات الماضية التي ليس لإثارتها أو إحيائها أو التحدّث فيها أيّ معنى ، بل إنّها سُمٌّ زعافٌ ، وضرر محض ، يؤدّي لإحياء الحديث في تلك الخلافات التي تفرّق ولا تجمع ، وتهدم ولا تبني ، وتمزّق ولا ترقأ ، وتضعف ولا تقوّي أو تعالج ، وتثير النزاع ولا تؤاخي أو تضمد الجراح.
إنّني أشكّ في أمانة العالم أو المؤرّخ ، الذي يكثر من الحديث أو التحقيق أو الإعلان أو المقال الآن عن جراح الماضي ، وما أدّت إليه من الفرقة المذهبية ، والتشتّت الوجداني ، والضياع القائم ، وما على العالم أو الفقيه إلّا أن ينبه إلى العمل بأوجه اللقاء والتفاهم ، والترفّع عن الأحقاد والخصومات ، وتناسي الثارات ، والعمل على صعيد مشترك يحقّق الوحدة الإسلامية.
إنّني أعيد الحساب بنفسي ، لعلّ غيري يقلّدني ، ويبدأ الجميع في نسج فكر واحد ، وبناء مجد واحد ، والتصدّي لعدو شرس خطير واحد ، فهل من متذكّر أو مستجيب؟!
إنّ الصلح في الفكر والتراث وكلّ النزاعات ، ولاسيما أمام المخاطر ، هو جوهر صفاء الدعوة إلى الله والى الإسلام الحقّ ، وإلى الوجود الدولي الإسلامي الواحد (2).
المصادر :
1- آل عمران (٣) : ١١٠.
2- مجلة المنهاج العدد٣ ، السنة ١ ، ١٩٩٦ م تحت مقال بعنوان (نقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية بقلم الدكتور وهبة الزحيلي).
تازه های المقالات
ارسال نظر
در ارسال نظر شما خطایی رخ داده است
کاربر گرامی، ضمن تشکر از شما نظر شما با موفقیت ثبت گردید. و پس از تائید در فهرست نظرات نمایش داده می شود
نام :
ایمیل :
نظرات کاربران
{{Fullname}} {{Creationdate}}
{{Body}}