عمر المختار

ینسب عمر المختار إلى قبیلة المنفه إحدى کبریات قبائل المرابطین ببرقة، ولد عام 1862م فی قریة جنزور بمنطقة دفنة فی هضبة المرماریکا فی الجهات الشرقیة من برقة، وقد وافت المنیة والده مختار بن عمر وهو فی طریقه إلى مکة المکرمة بصحبة زوجته عائشة.
تلقى عمر المختار تعلیمه الأول فی زاویة جنزور، ثم سافر إلى الجغبوب لیمکث فیها ثمانیة أعوام للدراسة والتحصیل، وقد أظهر المختار من الصفات الخلقیة السامیة ما جعله محبوباً لدى شیوخ السنوسیة وزعمائها متمتعاً بعطفهم وثقتهم، وعندما غادر السید المهدی الجغبوب إلى الکفرة سنة 1895م، اصطحب معه عمر المختار.
یقول عمر المختار "إننا نقاتل لأن علینا أن نقاتل فی سبیل دیننا وحریتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، ولیس لنا أن نختار غیر ذلک، إنا لله وإنا إلیه راجعون".
شارک عمر المختار فی الجهاد بین صفوف المجاهدین فی الحرب اللیبیة الفرنسیة فی المناطق الجنوبیة (السودان الغربی) وحول وادای. وقد استقر المختار فترة من الزمن فی قرو مناضلاً ومقاتلاً، ثم عین شیخاً لزاویة عین کلک لیقضی فترة من حیاته معلماً ومبشراً بالإسلام فی تلک الأصقاع النائیة. وبعد وفاة السید محمد المهدی السنوسی عام 1902م تم استدعاؤه حیث عین شیخاً لزاویة القصور.
ولقد عاش عمر المختار حرب التحریر والجهاد منذ بدایتها یوماً بیوم، فعندما أعلنت إیطالیا الحرب على ترکیا فی 29 سبتمبر 1911م، وبدأت البارجات الحربیة بصب قذائفها على مدن الساحل اللیبی، درنة وطرابلس ثم طبرق وبنغازی والخمس، کان عمر المختار فی تلک الأثناء مقیما فی جالو بعد عودته من الکفرة حیث قابل السید أحمد الشریف، وعندما علم بالغزو الإیطالی سارع إلى مراکز تجمع المجاهدین حیث ساهم فی تأسیس دور بنینه وتنظیم حرکة الجهاد والمقاومة إلى أن وصل السید أحمد الشریف قادماً من الکفرة. وقد شهدت الفترة التی أعقبت انسحاب الأتراک من لیبیا سنة 1912م أعظم المعارک فی تاریخ الجهاد اللیبی، أذکر منها على سبیل المثال معرکة یوم الجمعة عند درنة فی 16 مایو 1913م حیث قتل فیها للأیطالیین عشرة ضباط وستین جندیا وأربعمائة فرد بین جریح ومفقود إلى جانب انسحاب الإیطالیین بلا نظام تارکین أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم، ومعرکة بو شمال عن عین ماره فی 6 أکتوبر 1913، وعشرات المعارک الأخرى. وحینما عین أمیلیو حاکماً لبرقة، رأى أن یعمل على ثلاث محاور، الأول قطع الإمدادات القادمة من مصر والتصدی للمجاهدین فی منطقة مرمریکا، والثانی قتال المجاهدین فی العرقوب وسلنطه والمخیلی، والثالث قتال المجاهدین فی مسوس واجدابیا. ولکن القائد الإیطالی وجد نار المجاهدین فی انتظاره فی معارک أم شخنب وشلیظیمة والزویتینة فی فبرایر 1914م، ولتتواصل حرکة الجهاد بعد ذلک حتى وصلت إلى مرحلة جدیدة بقدوم الحرب العالمیة الأولى.
بعد الإنقلاب الفاشی فی إیطالیا فی أکتوبر 1922، وبعد الإنتصار الذی تحقق فی تلک الحرب إلى الجانب الذی انضمت إلیه إیطالیا. تغیرت الأوضاع داخل لیبیا واشتدت الضغوط على السید محمد إدریس السنوسی، واضطر إلى ترک البلاد عاهداً بالأعمال العسکریة والسیاسیة إلى عمر المختار فی الوقت الذی قام أخاه الرضا مقامه فی الإشراف على الشئون الدینیة.
بعد أن تأکد للمختار النوایا الإیطالیة فی العدوان قصد مصر عام 1923م للتشاور مع السید إدریس فیما یتعلق بأمر البلاد، وبعد عودته نظم أدوار المجاهدین، فجعل حسین الجویفی على دور البراعصة ویوسف بورحیل المسماری على دور العبیدات والفضیل بوعمر على دور الحاسة، وتولى هو القیادة العامة.
بعد الغزو الإیطالی على مدینة اجدابیا مقر القیادة اللیبیة، أصبحت کل المواثیق والمعاهدات لاغیة، وانسحب المجاهدون من المدینة وأخذت إیطالیا تزحف بجیوشها من مناطق عدة نحو الجبل الأخضر، وفی تلک الأثناء تسابقت جموع المجاهدین إلى تشکیل الأدوار والإنضواء تحت قیادة عمر المختار، کما بادر الأهالی إلى إمداد المجاهدین بالمؤن والعتاد والسلاح، وعندما ضاق الإیطالیون ذرعا من الهزیمة على ید المجاهدین، أرادوا أن یمنعوا عنهم طریق الإمداد فسعوا إلى احتلال الجغبوب ووجهت إلیها حملة کبیرة فی 8 فبرایر 1926م، وقد شکل سقوطها أعباء ومتاعب جدیدة للمجاهدین وعلى رأسهم عمر المختار، ولکن الرجل حمل العبء کاملاً بعزم العظماء وتصمیم الأبطال.
ولاحظ الإیطالیون أن الموقف یملی علیهم الإستیلاء على منطقة فزان لقطع الإمدادات على المجاهدین، فخرجت حملة فی ینایر 1928م، ولم تحقق غرضها فی احتلال فزان بعد أن دفعت الثمن غالیا. ورخم حصار المجاهدین وانقطاعهم عن مراکز تموینهم، إلا أن الأحداث لم تنل منهم وتثبط من عزمهم، والدلیل على ذلک معرکة یوم 22 أبریل التی استمرت یومین کاملین، انتصر فیها المجاهدون وغنموا عتادا کثیرا. وتوالت الإنتصارات، الأمر الذی دفع إیطالیا إلى إعادة النظر فی خططها وإجراء تغییرات واسعة، فأمر موسولینی بتغییر القیادة العسکریة، حیث عین بادولیو حاکماً على لیبیا فی ینایر 1929م، ویعد هذا التغییر بدایة المرحلة الحاسمة بین الطلیان والمجاهدین.
تظاهر الحاکم الجدید للیبیا فی رغبته للسلام لإیجاد الوقت اللازم لتنفیذ خططه وتغییر أسلوب القتال لدى جنوده، وطلب مفاوضة عمر المختار، تلک المفاوضات التی بدأت فی 20 أبریل 1929م، وعندما وجد المختار أن تلک المفاوضات تطلب منها مغادرة البلاد إلى الحجاز ومصر أو حتى البقاء فی برقة والإستسلام مقابل الأموال والإغراءات، رفض کل تلک العروض، وکبطل شریف ومجاهد عظیم عمد إلى الإختیار الثالث وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة.
تبین للمختار غدر الإیطالیین وخداعهم، ففی 20 أکتوبر 1929م وجه نداء إلى أبناء وطنه طالبهم فیه بالحرص والیقظة أما ألاعیب الغزاة. وصحت توقعات عمر المختار، ففی 16 ینایر 1930م ألقت الطائرات بقذائفها على المجاهدین، وقد دفعت مواقف المختار ومنجزاته إیطالیا إلى دراسة الموقف من جدید وتوصلت إلى تعیین غرسیانی لیقوم بتنفیذ خطة إفناء وإبادة لم یسبق لها مثیل فی التاریخ فی وحشیتها وفظاعتها وعنفها وقد تمثلت فی عدة إجراءات ذکرها فی کتاب "برقة المهدأة":
قفل الحدود اللیبیة المصریة بالأسلاک الشائکة لمنع وصول المؤن والذخائر.
إنشاء المحکمة الطارئة فی أبریل 1930م.
فتح أبواب السجون فی کل مدینة وقریة ونصب المشانق فی کل جهة.
تخصیص مواقع العقیلة والبریقة من صحراء غرب برقة البیضاء والمقرون وسلوق من أواسط برقة الحمراء لتکون مواقع الإعتقال والنفی والتشرید.
العمل على حصار المجاهدین فی الجبل الأخضر واحتلال الکفرة.
إنتهت عملیات الإیطالیین فی فزان بإحتلال مرزق وغات فی شهری ینایر وفبرایر 1930م ثم عمدوا إلى الإشباک مع المجاهدین فی معارک فاصلة، وفی 26 أغسطس 1930م ألقت الطائرات الإیطالیة حوالی نصف طن من القنابل على الجوف والتاج، وفی نوفمبر اتفق بادولیو وغرسیانی على خط الحملة من اجدابیا إلى جالو إلى بئر زیغن إلى الجوف، وفی 28 ینایر 1931م سقطت الکفرة فی أیدی الغزاة، وکان لسقوط الکفرة آثار کبیرة على حرکة الجهاد والمقاومة.
وفی 11 سبتمبر 1931م نشبت معرکة عند بئر قندولة والودیان المجاورة استمرت یومین، ووقع عمر المختار فی الأسر، ومن أسلنطة أرسل بحراسة قویة إلى مرسى سوسه حیث نقلته مرکب حربیة فی نفس الیوم إلى بنغازی. وصل غرسیانی إلى بنغازی یوم 14 سبتمبر قادماً من روما عن طریق طرابلس، وأعلن عن انعقاد "المحکمة الخاصة" یوم 15 سبتمبر 1931م، وفی صبیحة ذلک الیوم وقبل المحاکمة رغب غرسیانی فی الحدیث مع عمر المختار، یذکر کتاب (برقة المهدأة):
(وعندما حضر أمام مکتبی تهیأ لی أن أرى فیه شخصیة آلاف المرابطین الذین التقیت بهم أثناء قیامی بالحروب الصحراویة. یداه مکبلتان بالسلاسل، رغم الکسور والجروح التی أصیب بها أثناء المعرکة، وکان وجهه مضغوطا لأنه کان مغطیا رأسه (بالجرد) ویجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال یخیل لی أن الذی یقف أمامی رجل لیس کالرجال له منظره وهیبته رغم أنه یشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مکتبی نسأله ویجیب بصوت هادئ وواضح.) وکان أول سؤال وجهه له غرسیانی لماذا حاربت بشدة متواصلة الحکومة الإیطالیة؟ فکان ردّ عمر المختار "من أجل دینی ووطنی."
ویستطرد غرسیانی حدیثه "وعندما وقف لیتهیأ للإنصراف کان جبینه وضاء کأن هالة من نور تحیط به فارتعش قلبی من جلالة الموقف أنا الذی خاض معارک الحروب العالمیة والصحراویة ولقبت بأسد الصحراء. ورغم هذا فقد کانت شفتای ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فانهیت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقدیمه إلى المحاکمة فی المساء، وعند وقوفه حاول أن یمد یده لمصافحتی ولکنه لم یتمکن لأن یدین کانت مکبلة بالحدید."
انعقدت محاکمة عمر المختار بعمار الحزب الفاشیستی (مجلس النواب البرقاوی أیام إمارة السید ادریس على برقة) وکانت المشنقة قد جهزت قبل انعقاد المحکمة، ونفذ حکم الإعدام شنقاً فی 16 سبتمبر 1931م فی مدینة سلوق أمام جموع غفیرة من أبناء وطنه. وسیظل المختار حیا أبدا فی قلوب الشرفاء من هذه الأمة.
سیرة ذلک الرجل سیرة عطرة، روحها إیمان وحب شدید لقیوم السماوات والأرض، ورغبة أکیدة فی الشهادة فی سبیل الله، مظهرها قتال مریر للمستعمر حتى آخر قطرة من الدماء. لعل هذه الأمة التی أنجبت الأبطال أمثال الشریف والمختار والبارونی وبالخیر وسیف النصر وغیرهم وأنجبت الصنادید أمثال احواس ورفاقه، لا تبخل فی إنجاب أبطال آخرین سیغیروا مجرى التاریخ وتزدهر على آیدیهم البلاد ویقوى کیانها وتستطیع الوقوف من جدید.
المصدر : تحقیق راسخون 2014