فتى الإسلام علي بن أبي طالب

في السنة السادسة للهجرة عزم النبي صلى الله عليه وآله على اداء العمرة ، وكان من المفروض ان تسمح قريش لهم بذلك اسوة بسائر القبائل العربية ، ولكن مشركي مكّة رفضوا ذلك بعناد ، وعسكر النبي صلى الله عليه وآله في الحديبية قرب
Saturday, August 6, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
فتى الإسلام علي بن أبي طالب
 


في السنة السادسة للهجرة عزم النبي صلى الله عليه وآله على اداء العمرة ، وكان من المفروض ان تسمح قريش لهم بذلك اسوة بسائر القبائل العربية ، ولكن مشركي مكّة رفضوا ذلك بعناد ، وعسكر النبي صلى الله عليه وآله في الحديبية قرب المكّة وارسل وفداً يشرح لهم اهداف زيارته ، و تأزم الوضع بشكل انذر بوقوع حرب مدمّرة ، وخيراً اتفق الفريقان على ابرام معاهدة سلام جاء فيها :
1ـ انهاء حالة الحرب مدّة عشر سنين .
2ـ ان يرجع النبي صلى الله عليه وآله واصحابه هذا العام دون عمرة على أن يعودوا في العام القادم ، وتلتزم قريش باخلاء مكّة مدّة ثلاثة أيام .
وعندما اراد علي بن أبي طالب عليه السلام تحرير بنود الاتفاق وكتب : « بسم الله الرحمن الرحيم ، اعترض المفاوض الوثني واصرّ على كتابة « باسمك اللهم » وكتب علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو واعترض الأخير أيضاً قائلاً بل اكتب اسمك واسم ابيك ، ولم تطاوع نفس علي ان يمحو صفة الرسالة عن سيدنا محمد فاخذ النبي صلى الله عليه وآله الصحيفة ومحاها بنفسه والتفت إلى علي وقال بحزن :
ـ ان لك مثلها يا علي !
لقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله ينظر إلى المدى البعيد إلى ابعد من ثلاثين سية قادمة ؛ سوف يحارب علي في صفين « القاسطين » معاوية واتباعه وسوف يضطر علي إلى وقف القتال والتفاوض .
وعندما يحرر عبد الله بن عباس بنود الاتفاق ويكتب : هذا ما صالح عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، سوف يعترض المفاوض الشامي قائلاً : لو شهدت بان علياً أمير المؤمنين ما قاتلته ، بل اكتب علي بن أبي طالب ويرفض عبد الله بن عباس ذلك فيأخذ علي صحيفة الاتفاق ويمحو « امير المؤمنين » وهو يستعيد تفاصيل ما وقع في « الحديبية » .
أغار بنو بكر على قبيلة خزاعة ليلاً ، وكانت قريش قد مدّت المعتدين بالرجال والسلاح ، وذلك في شعبان سنة 8 هـ ، ولجأت خزاعة إلى الحرم المكي ولكن المعتدين استمروا في عدوانهم منتهكين حرمة البيت العتيق .
دخلت السنة السابعة من الهجرة ، وكلمة الإسلام تطوف ربوع الجزيرة العربية كفراشة تبشر بالربيع القادم .
وتهيأ سيدنا محمد صلى الله عليه وآله ومعه ألفان من الذين أمنوا إلى قضاء عمرة الحج ، واخليت مكّة للزائرين ؛ وكان زعماء قريش يراقبون عن كثب أفواج المسلمين وهي تنحدر من شمال مكّة إلى بطن الوادي ؛ كان عبد الله بن رواحة (عبد الله بن رواحة بن امرئ القيس من بني مالك بن ثعلبة كنيته أبو محمد ، صحابي جليل القدر ومن الشعراء الراجزين كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وآله بشعره ، ويثير حماس المسلمين والمجاهدين وكان احد النقباء الاثني عشر في بيعة العقبة استشهد في معركة مؤتة 8 هـ حيث مرقد الآن) (1)
كان عبد الله بن رواحة آخذاً بخطام ناقة النبي ، وعندما انكشف البيت للوافدين تصاعدت هتافات التوحيد من اعماق القلوب المومنة :
ـ لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ... ودخل النبي المسجد والتفت إلى اصحابه قائلاً :
ـ رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوّة .
واستلم الركن ثم بدأ يهرول حول البيت ، وهرول المسلمون خلف النبي صلى الله عليه وآله سبعة اشواط وكان منظراً ادهش الوثنيين ... وربّما تساءل بعضهم كيف امكن لهذا الطريد الذي خرج قبل سبع سنوات فارّاً يعود الآن ومعه الفان من انصاره فيدخل مكّة دخول الفاتحين ...
وفي تلك اللحظات دوّت نداءات لها مغزاها الخالد وتجاوبت جنبات الوادي لهتافات المسلمين :
ـ لا إله إلا الله وحده .. نصر عبده .. واعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده ..
وشعر الوثنين بالغيظ والحقد وتذكروا تلك الأيام المريرة في ذلك الشتاء القارس ، واستعادوا تفاصيل ذلك المشهد الخالد يوم سقط بطل الوثنية عمرو بن عبد ود عند قدمي فتى الإسلام علي بن أبي طالب .
وكان همّ سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله أن يرسم صورة مشرقة لثقافة الإسلام الجديدة ، ولا شك أن بعض اولئك الوثنيين قد تأثر لمنظر المسلمين وهم يطوفون حول الكعبة ؛ وهم يصطفّون للصلاة فتنساب آيات السماء معبّرة بليغة جميلة .
ومرّت ثلاثة أيام ، وارسلت قريش وفداً يذكر النبي بانتهاء الأجل الذي نصّت عليه معاهدة « الحديبية » وعرض النبي صلى الله عليه وآله أن يقيم مأدبة طعام لأهل مكّة ، فرفضت قريش اقتراح النبي وطلبت من المسلمين مغادرة مكّة .
جعفر الطيار :
جعفر شقيق علي من السابقين إلى الإسلام قاد الهجرة الثانية إلى الحبشة ، وكان لخطابه أمام النجاشي ابلغ الأثر في تجذير الإسلام وكسب تعاطف ملك الحبشة الذي اسلم فيما بعد . وتزامنت عودته إلى المدينة مع انتصارات الإسلام في خيبر ، قال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله فيه : اشبهت خلقي وخُلُقي ، كان يلقب بأبي المساكين لاحسانه إلى الفقراء . (2)
في جمادي الأولى من السنة الثامنة للهجرة الشريفة وقعت معركة مؤتة في شمال الجزيرة العربية عندما اصطدم الجيش الإسلامي بحشود الرومان والتي قدّر بعض المؤرخين انها ناهزت المئتي ألف جندي ، حيث هوى زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة شهداء ، فيما قاد خالد بن الوليد الذي اسلم حديثاً عملية انسحاب ناجحة .
وجاء نصر الله :
خرقت قريش صلح الحديبية بتحريضها « بني بكر » على (تذكر كتب السيرة انه ذهب إلى ابي بكر والى عمر وعثمان فلم يجد لديهم تجاوباً ، كما ذهب إلى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقد اجارت اختها زينب أبا العاص بن الربيع يوم كان مشركاً ، غير أنها رفضت ان تتدخل . ) قبيلة خزاعة حليفة المسلمين ، وحاول بعض سادة قريش تدارك الموقف وفي طليعتهم أبو سفيان ، الذي شدّ الرحال إلى المدينة لاستقبال الزمن وتجديد معاهدة الحديبية مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله .
غير أنه قد فات الأوان فقد سبقه وفد خزاعة الذي اطلق صيحه استغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله مذكّراً اياه بالتحالف .
والتقى أبو سفيان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله .
قال أبو سفيان :
ـ جئت أجدد العهد وازيد في أمده .
سأل النبي :
الهذا جئت يا أبا سفيان ؟!
أجاب أبو سفيان بخبث :
ـ نعم .
فسأل النبي صلى الله عليه وآله :
ـ فهل حدث عندكم ما يوجب ذلك ؟
اجاب أبو سفيان وهو يخفي الحقائق الدامية :
ـ كلا .. نحن على صلحنا في الحديبية لا نغير ولا نبدّل .
وشعر أبو سفيان أن النبي صلى الله عليه وآله يعرف ما حصل فانطلق إلى ابنته رملة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وفوجئ بموقف لم يكن يتوقعه ابداً فقد طوت أم حبيبة فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقالت بشجاعة :
ـ انه فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وانت امرؤ مشرك نجس .
فقال الوثني متظاهراً بالأسى :
ـ لقد اصابك بعدي شرّ .
فاجابت المرأة المؤمنة :
ـ بل هداني الله إلى الإسلام .
واردفت تدعوه إلى النور :
ـ واعجباً لك وانت سيد قريش وكبيرها تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً .
فقال أبو سفيان وهو يتشظى حقداً :
ـ بل الأعجب انكِ تريدين ان اترك دين آبائي واتبع دين محمد !! .
اخفق أبو سفيان في مهمّته ، ولكنه اضحى كالغريق الذي يتشبث بأي شيء من اجل النجاة ؛ فراح يستنجد بهذا وذاك دون جدوى ؛ وانطلق الزعيم الوثنى إلى علي بن أبي طالب فلم يجد لديه استعداداً للوساطة فاستشاره فيما يتوجب عليه أن يفعل في هذه الظروف السيئة فقال علي :
ـ انك من سادة كنانة ... ولا أرى لك إلا أن تقوم فتجير بين الناس ... ولا اظن ان ذلك يجديك شيئاً .
وهكذا عاد أبو سفيان إلى مكّة صفر اليدين ؛ واعتبرته قريش فاشلاً في رحلته وراح بعضهم يتهكم منه قائلاً :
ـ لقد لعب فيك علي بن أبي طالب .
وفي ظروف بالغة السرّية كان النبي يعدّ العدّة للزحف باتجاه مكّة وكان أكبر همّه أن يفاجئ قريش بحشود هائلة فيضطرها إلى الاستسلام دون اراقة للدماء ؛ وبالرغم من كل الاجراءات فقد تسرّب النبأ إلى أحد الصحابة (حاطب بن ابي بلتعة .) فسطّر اخباره المثيرة في رسالة وبعث بها إلى مكّة ، وكان قد استأجر امرأة لهذا الغرض .
وهبط الوحي يفضح هذه المؤامرة ، فبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم علياً والزبير على وجه السرعة لتدارك الموقف ، وفي منطقة الحليفة (على بعد أميال من المدينة المنوّرة .) أوقف الفارسان المرأة ، واستجوبها الزبير ابن العوام ، فاقسمت انها لا تحمل أية رسالة وانخرطت في البكاء ، فقال الزبير لعلي بعد أن فتش الرحل تفتيشاً دقيقاً .
ـ ليس معها شيء ارجع بنا إلى رسول الله نخبره .
فقال علي بلهجة تتدفق ايماناً بصدق النبوّات :
ـ يخبرني رسول الله ان معها كتاباً ويأمرني بأخذه فتقول لا شيء معها !!
واقبل علي على المرأة مهدداً :
ـ والله لأن لم تخرجي الكتاب لاكشفنك ، وانهارت المرأة وهي ترى سيف علي فقالت :
ـ اعرض عني .
واستخرجت المرأة الكتاب من جدائلها .
واجتمع المسلمون في المسجد وقد بان الغضب على وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم :
أيها الناس ! لقد كنت سألت الله ان يخفي اخبارنا عن قريش وان رجلاً منكم كتب اليهم يخبرهم ... فليقم صاحب الكتاب قبل أن يفضحه الوحي .
وساد صمت رهيب ، وكرّر النبي دعوته ، واخيراً نهض حاطب وهو يرتجف كسعفة في ريح باردة :
ـ انا صاحبه يارسول الله .
ودمعت عيناه وهو يقول :
والله اني لمسلم مؤمن بالله ورسوله ما غيّرت وما بدّلت ولكني امرأ ليس لي في مكّة عشيرة ولي فيها أهل وولد فاردت أن اصانعهم .
وأمر النبي باخارجه من المسجد ، وراحت الجماهير تدفعه إلى خارج المسجد ، وهو ينظر إلى سيدنا محمد بعينين فيهما ذلّة الانكسار ؛ وتدفق نبع الإنسانية في قلب رسول السماء فأمر باعادته واوصاه الا يعود إلى مثلها ابداً .
واستكمل المسلمون استعداداتهم العسكرية وبلغت الحشود عشرة آلاف مقاتل ، وغادر الجيش الإسلامي المدينة المنوّرة في رمضان المبارك سنة 8 هـ .
وصلت القوات الزاحفة مرتفعات « مرّ الظهران » (تبعد عن مكّة 24 ميلاً عربياً أي ما يعادل 48 كم .) المطلّة على مكّة ، واراد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم التهويل من ضخامة الزحف الإسلامي فأمر جنوده بايقاد النار فوق المرتفعات ، وشعر أبو سفيان بالانهيار وهو يراقب النار وهي تضيء الصحراء المترامية .
ولم يجد الوثنيون سوى الإستسلام وفتح أبواب مكّة للفاتحين .
وفوجئ أهل مكّة بمنظر سيدنا محمد وهو يدخل مكّة على ناقته مطرقاً برأسه تواضعاً ولم تبد عليه أية ملامح تدلّ على نشوة النصر ولا شهوة الانتقام ، لقد اتسع قلبه الكبير لكل الناس حتى لأولئك الذين آذوه وعذبوه وشرّدوه عن مرابع صباه ؛ ولقد كان بامكانه ان يحيل مكّة إلى خرائب ، ولكن محمد صلى الله عليه وآله وسلّم لم يكن يفكر بافتتاح المدائن ابداً فهمّة الوحيد أن يفتح القلوب ويقود الإنسان الحائر إلى ينابيع النور والأمل والحرّية .
الزلزال : لقد كانت لحظات مثيرة تلك التي شهدت انهيار الأوثان العربية ، وسط هتافات الله أكبر التي ملأت فضاء مكّة ؛ وراح سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم يطوف حول البيت على ناقته «القصوى »ومئات الأصنام تتهاوى بين يديه لتتحول إلى انقاض .
ها هو حفيد إبراهيم عليه السلام يدخل المعبد وبيده فأس يهشم بها وجوه الآلهة المزيفة ، وكان « هبل » ما يزال جاثماً فوق الكعبة يحدّق ببلاهة والتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى علي عليه السلام وتسلّق وليد الكعبة البيت الذي شهد ميلاده قبل ثلاثين سنة .
وتهشم هبل تحت وقع ضربات على ، كان أبو سفيان يراقب تحطّم الآلهة بمرارة ، ولعل تلك اللحظات كانت من اصعب ما واجهه أبو سفيان في حياته .
التفت الزبير إليه قائلاً :
ـ يا أبا سفيان لقد كسر هبل ...
واردف وهو يستعيد هتافات أبي سفيان في أحد : أُعلُ هُبل !
ـ اما انك قد كنت منه يوم أحد في غرور .
قال أبو سفيان بضيق :
ـ دع عنك هذا يا ابن العوام .. لو كان مع إله محمد إله غيره لكان غير ما كان .
وارتقى بلال سطح الكعبة في مشهد مثير فهذا العبد المملوك قد جعل منه الإسلام بطلاً من ابطال الإنسانية ، ولم يكن هناك من اسم احب إليه من اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم .
ودوّت هتافات الأذان الخالد معلناً : ان لا إله إلا الله .. الله أكبر .. (تمتم بعضهم قائلين بغيظ : ليتنا متنا قبل هذا اليوم ، ولم نسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة !! ) .
حتى إذ وصل بلال إلى اسم حبيبه رفع صوته كاشدّ ما يكون قائلاً : اشهد أن محمداً رسول الله .
وسيئت وجوه الذين في قلوبهم مرض .
لقد دمّر الزلزال اوثانهم ومرغ كبرياءهم بالوحل واحال مصالحهم وامجادهم إلى مجرد انقاض وبدد أحلامهم المريضة فاذا هي هشيم تذروه الرياح .
لنراقب عن كثب هذا المشهد المضيء لنرى كيف يحاول رسول السماء انقاذ الإنسان من براثن النفوس الجاهلية ، ها هو سهيل بن عمرو يحثّ الخطى مذعوراً إلى منزله لقد دخل جيش محمد مكة فاتحاً وقد حانت لحظة القصاص اغلق سهيل باب المنزل باحكام وجلس يترقب ، قال لولده وكان قد اسلم من قبل (قبل صلح الحديبية ) .
ـ اذهب يا عبد الله وخذ لي أماناً من محمد .. اني لا آمن على نفسي ..
واضاف وهو يستعيد تفاصيل الماضي البعيد :
ـ لأنني لم أجد احداً اساء إليه إلا واشتركت معه .. وقد حضرت مع قريش بدراً وأحداً .
وتناسى الابن البار كل اساءات والده ، وانطلق إلى ينابيع النور والرحمة إلى حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ، قال النبي :
ـ هو آمن .
والتفت إلى اصحابه يوصيهم بتناسي الماضي وفتح صفحة جديدة وبدء حياة جديدة :
ـ من لقي منكم سهيلاً فلا يشدّن النظر إليه ... ان سهيلاً له عقل وشرف .
وأكبر المسلمون موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ازاء سهيل .. سهيل الذي آلم قلب النبي في مفاوضات الحديبية ... وتذكروا كلماته وهو يطالب بمحو رسول الله من نص المعاهدة قائلاً : لو كنت اعلم أنك رسول الله ما قاتلتك .. بل اكتب اسمك واسم ابيك !
وردّ النبي بحزن : والله أني رسول الله وان كذبتموني !!
وجاء عبد الله يبشر أباه بالطمأنينة والأمن والسلام .
واهتز سهيل للموقف النبيل ، وحطّم الإنسان في اعماقه السلاسل وهتف :
ـ كان والله براً صغيراً وكبيراً .

فتى الإسلام علي بن أبي طالب


حادثان :
مكث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله والمسلمون في مكة خمسة عشر يوماً ، ولعلّ علي بن أبي طالب الذي تخطى الثلاثين ، قد تجوّل في ربوعها الزاخرة بالذكريات وربّما ذهب إلى حراء جبل النور ، إلى الغار الذي كان يأوي اليه مع أخيه وسيّد العظيم ؛ غير أن «الشيخ » الغارق في السنين والحوادث لم يتذكر سوى حادثتين فقط ... فرك جبينه بيده المعروقة وقال :
ذهب علي وهو بكامل زيّه الحربي .. يجتاز الازقّة إلى منزل أخته ام هانئ وعندما دخل فوجئت المرأة وكانت قد اجارت رجلين (اجارت أم هانئ حموين لها مشركين هما عبدالله بن أبي ربيعة والحرث بن هشام من بني مخزوم .) من مكّة خائفين فاجارتهما .
قالت أم هانئ وهي تخاطب الجندي المسلم المدجج بالسلاح :
أنا أم هاني بنت عم رسول الله !
واماط علي اللثام ، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه شقيقته التي خفّت اليه تعانقة . وفي تلك اللحظة وقعت عيناه على المشركين فاخترط سيفه هتفت أم هاني :
ـ أنت أخي وتصنع معي ذلك .. لقد اجرتهما .
قال علي :
ـ اتجيرين المشركين ؟!
القت أم هانئ عليهما ثوباً واعترضت اخيها :
ـ إذا اردت قتلهما فاقتلني معهما .
ولم يجد علي سوى مغادرة المنزل .
وانطلقت أم هانئ بعد أن هدّأت من خوف الرجلين إلى خيمة النبي ... لم تجده هناك ووجدت فيها ابنته فاطمة ..
وجلست أم هانئ تشكو ما فعله اخوها وزوج ابنة النبي :
ـ ما لقيت من ابن امي لقد اجرت حموين لي .. فتفلّت عليهما ليقتلهما !
قالت فاطمة :
ـ لأنهما يستحقان ذلك ، ... وما يجدر بكِ أن تجيري المشركين .
وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ولما رأى أم هانئ هتف مستبشراً :
ـ مرحباً بأم هانئ .
وشكت له أم هانئ ما حصل فقال رسول الإنسانية :
ـ قد أجرنا من أجرت وآمنا من آمنت .
وعادت ام هانئ إلى منزلها تحمل البشرى للرجلين الخائفين .
كانت القبائل العربية تترقب ما سيسفر عنه الصراع بين محمد وقومه من قريش ، وكانت مكّة بكل ثقلها الديني والقبلي تمثل أم القرى ، فهي مركز الوثنية وحصنها الحصين .
بنو جذيمة :
ومن هنا جاء فتح مكّة ليسجل النصر الحاسم والنهائي للإسلام في مواجهة العقيدة الوثنية ، وهكذا جاء اعتناق قريش للإسلام ايذاناً ببداية عهد جديد ، ولكن ذلك لم يكن يمنع من وجود بعض الجيوب المشركة هنا وهناك في طوايا جزيرة العرب .
وفي خطوة لنشر الإسلام على نطاق أوسع جهز النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قوّة مقاتلة مؤلفة من ثلاثمئة وخمسين جندي ضمت الأنصار والمهاجرين لدعوة « بني جذيمة » إلى الإسلام ؛ وكان على رأس القوّة الإسلامية « خالد بن وليد » .
وللأسف فقد استيقظت في نفس القائد المسلم ذكريات الجاهلية وتحرّكت في اعماقه روح الثأر من الذين قتلوا عمّه (الفاكه بن المغيرة وكان بنو جذيمة قد قتلوا أيضاً عوفاً والد عبد الرحمن .) في غابر الأيام .
وهرع بنو جذيمة إلى السلاح ؛ فقال خالد وقد بيّت لهم الغدر :
ـ ضعوا السلاح فان الناس قد اسلموا .
وصاح جحدم وهو رجل من بني جذيمة :
ويلكم يا بني جذيمة انه خالد بن الوليد والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسر ، وما بعد الأسر إلا ضرب الاعناق ، ولكن بنو جذيمة مالوا إلى السلام وقال بعضهم :
يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا !! فان الناس قد اسلموا ووضعت الحرب وآمن الناس .
والقى جحدم سلاحه ، وهنا أمر خالد بأسرهم ، وقتل جماعة منهم ؛ واعترض عبد الرحمن بن عوف بشدّة قائلاً :
انك عملت بأمر الجاهلية في الإسلام .
قال خالد مخادعاً :
ـ لقد اخذت بثأر أبيك .
أجاب عبد الرحمن مستنكراً :
ـ كذبت .. لقد قتلت قاتل أبي يومذاك ... ولكن ثأرت لعمك « الفاكه » واخترط خالد سيفه وشهر عبد الرحمن هو الآخر سيفه ، وتدخل بعض المسلمين فاصلحوا بينهما .
وصلت الأنباء المثيرة إلى مكّة وتألم النبي بشدّة لهذا الانتهاك والغدر .. ورفع يديه إلى السماء قائلاً :
ـ اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد .
واستدعى النبي أخاه علياً وسلّمه « مالاً » :
ـ يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم وانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك .
وانطلق علي مضارب بني جذيمة في خطوة اصلاحية ودفع تعويضات عن ضحايا الحادث وبعض الخسائر الأخرى .
قال علي :
ـ هل بقي لكم بقية من دم أو مال .
اجاب المنكوبون وقد طابت خواطرهم .
ـ لا .
نظر علي فوجد لديه بقية من المال قد زاد ، فقدّمها اليهم احتياطاً مما لا يعلم ولا يعلمون ، وعاد إلى رسول الله يشرح له تفاصيل مهمّته فقال النبي :
ـ اصبت واحسنت .
ورفع يديه إلى السماء مرّة أخرى تعبيراً عن استنكاره الشديد لما حصل :
ـ اللهم اني أبرأ إليك مما صنع خالد .
قالها ثلاث مرات .
تحت لهيب الحمّى ... والنبي يقطع الخطوات الأخيرة من حياته في كوكب الحوادث ؛ عيناه مشدودتان إلى الافق البعيد .. الافق المغمور بالطمأنينة والسلام ؛ والقلب يخفق لآخر الامم وقد ذرّ الشيطان قرنيه .
الحجرة الطينية المتواضعة تكتظ برجال رافقوا النبي وها هم يجتمعون حوله ، وآلاف الأفكار تصطرع في الرؤوس ، وقد « اقبلت الفتن كقطن الليل المظلم » .
نظر النبي إلى اصحابه .. دمعت عيناه .. ها هي لحظة الوداع قادمة من بعيد انها تقترب ، وها هي الفتن مقبلة .
تمتم النبي بصوت واهن :
ـ ائتوني تصحيفة ودواة لاكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً .
ونهض صحابي .. فاعترضه رجل فيه غلظة :
ـ أرجع .. لقد غلب رسول الله الوجع .. انه يهجر .. حسبنا كتاب الله .
الجسد يغلي تحت وطأه الحمى .. غامت المرئيات وولج النبي عالماً آخر اغضبته كلمات صاحبه .
ولمّا افاق وجد اصحابه يتنازعون ، قال رجل :
ـ ألا نأتي لك بدواة يا رسول الله !
اجاب النبي بحزن :
ـ أبعد الذي قلتم .
أدار آخر الأنبياء وجهه إلى الحائط .. ونهض الرجال وكان ابن عم له یبكي (عبد الله بن عباس) .. يبكي بمرارة ؛ لقد اضاع المسلمون مجدهم .. ولسوف يبكون .. يذرفون الدموع غزاراً قبل أن يعثروا عليه .
*الجمعة 25 | صفر | 11 هـ :
جاءت فاطمة .. فتاة تحمل ملامح مريم .. النبع الدافق رحمة وحناناً .. جاءت « أم أبيها » (كلمة مأثورة عن النبي في حق ابنته .) .. تعود أباها .. اراد آخر الأنبياء أن ينهض اجلالاً للمرأة المثال .. لسيدة كل امرأة في التاريخ .. ولكن الجسد الواهن لم يستجب للارادة .. هتف وقد شاعت الفرحة في وجهة .
ـ مرحباً يا بنتي ..
أخذ النبي بيدها واجلسها إلى يمينه ؛ همس في اذنها بكلمات .. شهقت الفتاة بعبرات واخضلّت الاجفان بالدمع .. كسماء تمطر بحزن ..
وهمس الأب بكلمات .. انقشعت الغميوم .. واشرقت شمس الأمل تبعث النور والدفء .. اشرقت ابتسامة في الوجه المضيء .. تعجبت عائشة .. حفصة .. أم سلمة .. وكل النسوة .. نهضت فاطمة .. لحقتها عائشة :
ـ لقد خصّك بسرّ .. تضحكين تارة وتبكين أُخرى !!
اخبريني بما قال لكِ .
قالت فاطمة وما تزال قطرات الدمع عالقة باهدابها :
ـ ما كنت لأفشي سرّ رسول الله .

السبت 26 | صفر | 11 هـ :

ترك أسامة جيشه في « الجرف » (شدّد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على اهمية هذه الحمله العسكرية واسند قيادتها إلى أسامة بن زيد بعد أن تناهت الأنباء حول حملة اضطهاد ينفذها الرومان حيال المسلمين وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كبار الصحابة بالانضواء باستثناء وصيه علي بن ابي طالب ، وهو أمر يدعو إلى التأمل في حوادث تلك الفترة العاصفة من التاريخ . وكانت مهمّة « اسامة » كما وردت في كتب التاريخ ان يوطئ الخيل تخوم البلقاء ( الأردن ) والدواروم من ارض فلسطين قريباً من « مؤتة » حيث سقط والده « زيد بن حارثة » شهيداً .)
ودخل منزل تموج في نفسه الهواجس ، فهناك من الصحابة من نتذمّر من قيادته لحداثة سنّة ، وهناك من يتعلّل بحالة النبي قال اسامة وهو مطرق الرأس :
ـ بأبي أنت وأُمي .. اتأذن ان امكث اياماً حتى يشفيك الله
ـ لا يا أُسامة .. انفذ بجيشك حتى توطئ خيلك ارض البلقاء والداروم حيث قتل أبوك .
ورأى النبي صاحبيه .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بألم :
ألم أمركم بانفاذ جيش اسامة ؟!
اجاب الأول : كنت في « الجرف » وقد جئت اجدّد بك العهد .
وقال الثاني : أما أنا فلم اخرج .. لا أريد أن أسأل عنك الاعراب في الصحراء !
تضاعفت آلام محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ... غلت العروق بسبب الحمى والغضب تمتم بحزن : انفذوا جيش اسامة ... انفذوا جيش اسامة .. أنفذوا ...

الأحد 27 | صفر | 11 هـ :

خفّت الحمّى ... وشعر آخر الأنبياء بشيء من النشاط يسري في جسده الواهن ؛ تاقت روحه العظيمة إلى مسجد أُسس بنيانه على التقوى ؛ كان الوقت ضحى ، طلت النبي من ابني عمّه (علي والفضل) .
ان يساعداه ؛ وبالرغم من العصابة التي شدّها حول رأسه إلاّ ان الحمى قد خفّت قليلاً ... وها هو النبي يمشي الهويني بين علي
والفضل ، وشاعت الفرحة بين اصحابه ...
اتجه آخر رسل السماء إلى فارتقاه وكان يتساند على يد الفضل حتى استوى قال النبي اصحابه بنظرات تشّع رحمة وقال :
احمد اليكم الله .. ايها الناس . من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه ومن كنت اخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ..
ولا يقل رجل أني أخاف الشحناء من رسول الله ألا وان الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني الا وان احبكم اليّ من أخذ مني حقاً ان كان له .. أو حلّلني فأتيت الله وأنا طيب النفس ...

الاثنين 28 | صفر | 11 هـ :

دهمت الحمّى الجسد الواهن ، والروح العظيمة توشك على الرحيل ؛ القلب الكبير يخفق بعنف .. واخفقت مياه الآبار في اطفاء النار المشتعلة ..
ارتفع صوت بلال يدعو إلى الصلاة ... وخف بلال الى بيت الرجل الذي علّمه كيف يحيا ... وقف إزاء الباب وهتف بشوق :
ـ الصلاة يرحمكم الله :
قال النبي وهو ينوء تحت وطأة الحمّى :
ـ يصلّي بالناس بعضهم فاني مشغول بنفسي ..
هتفت عائشة : مروا أبابكر !
وهتفت حفصة : مروا عمر !
وتألم النبي فما يزال اصحابه في المدينة وقد أمروا بالجهاد .. مايزال جيش اسامة في المدينة وقد أمر أن يذهب إلى تخوم « البلقاء » .
ونهض رسول الله ... وساعده علي والفضل ... وكانت قدماه تخطان في الأرض ... ووجد صاحبه في الغار في المحراب فنحّاه ..
وعاد النبي إلى منزله ينوء بحمى الرحيل ...
وضع النبي رأسه في حجر اخيه ... وتوهجت الذكريات البعيدة تذكر مشاهد مضيئة ... انبعثت من بين غبار الأيام وتراب السنين ... تذكر يوم كان صبياً في حجر محمد ... تذكر رحلاته إلى جبل حراء ويوم هبط جبريل يحمل آخر الرسالات ... وتذكر اللحظات التي ودّعه فيها يوم فرّ من مكّة ... تذكر سنوات الجهاد والعناء ... ويوم تحطمت الأصنام وعنت الوجوه للواحد القهّار ... ها هو محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم يذوي ... يخبو بريق عينيه ... يشع اسمه في القلوب ... كل القلوب ... نهضت فاطمة احتراماً للرجلين ابيها وبعلها .. احتراماً للحظات الوداع ... بعد رحلة طويلة ناهزت الثلاثين سنة ونهضت النسوة احتراماً لفاطمة ... لم يبق في الحجرة الطينية سوى محمد وعلي وكلمات الوداع ... جلست فاطمة عند عتبة الباب .. في استسلام كامل للقدر وانبعثت كلمات محمد الأخيرة ... السماء تخيّره فاختار :
ـ بل الرفيق الأعلى ...
وعانق علي اخاه وسيّده ... وانطلقت الروح من أهاب الجسد تطوي المسافات ...
ودوّى هتاف حزين :
ـ وامحمداه «وسمعوا صوتاً من السماء بعد موته ينادي وامحمداه ... » (3)
وانطفأت الشمس وحلّ زمن الزمهرير .
فاطمة تنوء بنفسها وقد اسندت رأسها إلى صدر لم يعد النسيم يزوره .
كانت تصغي إلى صمت الأنبياء ... وللصمت حديث تسمعه القلوب وتصغي اليه العقول .. العينان اللتان كانتا نافذتي نور قد اسدلتا جفونهما ، واليدان اللتان كانتا مهداً هما الآن مسبلتان ... والروح التي كانت تصنع التاريخ والإنسان قد رحلت بعيداً ..
غادر هذا الكوكب الزاخر بالويلات .
لقد حلّت لحظة الفراق ؛ وتخفف الإنسان السماوي من ثوبه الأرضي ليرحل بعيداً ... إلى عوالم حافلة بالنور والحبّ والسلام .
المصادر :
1- اُسد الغابة 3 : 156 . 1
2- الطبري 2 : 37 .
3- تاريخ بن الوردي 1 : 209 .

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.
المقالات ذات صلة