مرحلية الائمة عليهم السلام

المرحلة الاُولى هي مرحلة تفادي صدمة الانحراف. هذه المرحلة هي المرحلة التي عاش فيها قادة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) مرارة الانحراف ونكسة انحراف التجربة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
Friday, December 16, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مرحلية الائمة عليهم السلام
 مرحلية الائمة عليهم السلام

 





 

المرحلة الاُولى:

مرحلة تفادي صدمة الانحراف:
المرحلة الاُولى هي مرحلة تفادي صدمة الانحراف. هذه المرحلة هي المرحلة التي عاش فيها قادة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) مرارة الانحراف ونكسة انحراف التجربة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
وكان لمرارة هذا الانحراف ولصدمة هذا الانحراف آثارُها وفجائعُها ومضاعفاتُها التي كان من الممكن أن تمتدَّ فتقضي على الإسلام ومصادره، وعلى الاُمّة الإسلاميّة، فتصبح قصّةً في التاريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ.
الأئمّة في هذه المرحلة الاُولى -مرحلة مجابهة هذا الانحراف- عاشوا صدمة الانحراف، وقاموا (عليهم الصلاة والسلام) بالتحصينات اللازمة -بقدر الإمكان طبعاً، لا بالقدر الذي لم يكن داخلاً في الإمكان، بالقدر الممكن قاموا بالتحصينات اللازمة- لكلّ العناصر الأساسيّة للرسالة ضدّ صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الإسلاميّة، وحافظوا على التصوّرات الإسلاميّة، وحافظوا على الاُمّة الإسلاميّة نفسها.
كلّ هذه الأركان والمقوّمات حصّنوها -بنحوٍ سوف يظهر خلال الحديث- تجاه صدمة الانحراف.
هذه هي المرحلة الاُولى، وقلنا: إنّ هذه المرحلة تبدأ بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) مباشرةً، وتستمرّ إلى الإمام الرابع من قادة أهل البيت، وهو الإمام زين العابدين (عليه الصلاة والسلام).

المرحلة الثانية:

مرحلة بناء الكتلة الصالحة:
ثمّ تبدأ المرحلة الثانية. وقلنا بأنّ الإمام الباقر يشكّل شبه البداية لها. وإنّما نقول: شبه البداية؛ لأنّ تطوّر هذا العمل ليس حدّيّاً، بحيث يمكن أن نقف على لحظةٍ فنقول: هذه اللحظة هي نهاية مرحلةٍ وبداية مرحلة، وإنّما هذا التطوّر يتّفق مع طبيعة الأحداث المتطوّرة في خطّ تاريخ الإسلام. وقلنا بأنّ الإمام محمّد بن علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) يمكن أن يشكّل شبه بدايةٍ للمرحلة الثانية.
والمرحلة الثانية التي شرع فيها قادة أهل البيت -بعد أن وضعوا التصميمات اللازمة، وفرغوا من الضمانات الأساسيّة ضدّ صدمة الانحراف، هذه المرحلة الثانية- هي مرحلة بناء الكتلة، بناء الجماعة المؤمنة بزعامة أهل البيت، المنضوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد للمفهوم الإسلامي المتبنّى من قبل أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).
منذ زمان عليّ بن الحسين، وعلى زمان الإمام الباقر والإمام الصادق كان هذا العمل يبلغ القمّة.
وليس معنى هذا أنّ العمل الأوّل -الذي كان هو الخصّيصة الرئيسيّة للمرحلة الاُولى- قد انقطع، وإنّما معنى هذا أنّ العمل الأوّل -الذي كان هو الخصّيصة الرئيسة للمرحلة الاُولى- استمرّ، ولكن حيث إنّ صدمة الانحراف كان قد أمكن تقليل خطرها خلال ما قام به اُولئك الأئمّة الأربعة العظام من جهودٍ وتضحياتٍ في سبيل حفظ الإسلام؛ ولهذا تحتّم أن يواجه قادة أهل البيت (عليهم السلام) المهمّة الجديدة، مهمّة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الاُمّة التي حصّنت بالحدّ الأدنى من التحصين، لا بدّ من أن يُنتخَبَ مجموعةٌ من هذه الاُمّة، فيحصَّنون بأعلى درجةٍ ممكنةٍ من التحصين، ويوعَّون بأعلى درجةٍ ممكنة من التوعية؛ حتّى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والحامي للمجموع الإسلامي الذي حُصِّن بالحدّ الأدنى من التحصين.
هذا العمل مارسه الإمام الباقر والإمام الصادق على مستوى القمّة، وقلنا: إنّ هذه المرحلة استمرّت إلى زمان الإمام الكاظم (عليه الصلاة والسلام).

المرحلة الثالثة:

مرحلة التوسّع والإعداد لتسلّم الحكم:
في زمان الإمام الكاظم بدأت المرحلة الثالثة. والمرحلة الثالثة هنا لا يحدّدها بشكلٍ بارزٍ النشاطُ الإيجابيُّ من قِبَل الأئمّة أنفسهم، بل يحدّدها -بشكلٍ بارزٍ- موقفُ الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية -التي وُضِعَت بذرتُها في ظلّ المرحلة الاُولى، ونشأت ونمت في ظلّ المرحلة الثانية، هذه الجماعة- غزت العالم الإسلامي، وبلغت إلى درجةٍ من الاتّساع والنموّ والنفوذ الفكري بحيث إنّها أخذت تشكّل خطراً حقيقيّاً على الزعامات المنحرفة التي كانت تحكم المجتمع الإسلامي وقتئذٍ.
وبدا للخلفاء يومئذٍ أنّ قيادة أهل البيت أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم، والعود بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي؛ ولهذا اختلفت بشكلٍ رئيسيٍّ ردودُ الفعل للخلفاء تجاه الأئمّة من أيّام الإمام موسى بن جعفر، على ما أوضحناه في حديثنا عن الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام).
كرّرتُ هذا مرّة اُخرى؛ لأنّ هذه هي الخطوط الرئيسيّة التي لا بدّ وأن تُذكر بلحاظ الإخوان الذين لم يعيشوا تلك الاجتماعات السابقة.
هذه هي المراحل الثلاثة التي سوف نستوعبها بالتدريج خلال تاريخ كلّ واحد من الأئمّة، إلى أن يكملوا (عليهم الصلاة والسلام).

عناصر التجربة الإسلاميّة وعوامل انحرافها

الآن نحن نعيش المرحلة الاُولى من هذه المراحل الثلاث‏، نعيش حياة ثلاثةٍ من الأئمّة من المرحلة الاُولى، التي تشتمل على أربعة أئمّة: أمير المؤمنين والحسن والحسين وعلي بن الحسين.
قلنا: إنّ هذه المرحلة خصّيصتها الرئيسيّة أنّ الأئمّة (عليهم الصلاة والسلام) قاموا بتحصين المقوّمات الأساسيّة للحضارة الإسلاميّة ضدّ صدمة الانحراف.
لكي نفهم معنى هذا الكلام، ولكي نستطيع أن نطبّقه على أحوال الأئمّة (عليهم الصلاة والسلام)، يجب أن نتبيَّن ما هي صدمة الانحراف؟ وما هو عمق صدمة الانحراف؟ وبالتالي: ما هو منطلق هذا الانحراف؟ وكيف كان يُترقّب أن يستمرّ هذا الانحراف؟ وكيف وقع بحسب الخارج؟
على ضوء تحديد منطلق هذا الانحراف، وعمق هذا الانحراف، وخطورة هذا الانحراف، يمكن أن نتنبّأ حينئذٍ بجلالة هذه المرحلة وعظمة منجزات الأئمّة فيها.
خطورة هذا الانحراف، وجلالة هذا الانحراف‏، هذا الانحراف الذي يمكننا أن نختصره في جملةٍ بسيطةٍ جدّاً، وهي: أنّ شخصاً غير عليِّ بن أبي طالب تولّى أمر السلطان بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأصبح سلطانَ المسلمين بعد رسول الله شخصٌ من الصحابة غيرُ الإمام علي (عليه الصلاة والسلام). هذه الجملة البسيطة هي التي تشكِّل كلَّ هذا البلاء العظيم بكلِّ مضاعفاته ونتائجه التي سوف نتحدّث عنها.
ليست هذه الجملة البسيطة معبّرةً فقط عن ظلمٍ وغبنٍ شخصيٍّ للإمام (عليه الصلاة والسلام) واستيلاءٍ على حقٍّ خاصٍّ من حقوقه، ليس الأمر هكذا؛ لو كان الأمر مجرَّدَ مظلوميّةٍ لعلي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) لوقف الأمر على مستوى العقيدة الدينيّة ولم يسرِ إلى الحياة الإسلاميّة بكلّ مجالاتها الخارجيّة.
لم تكن المسألة مسألة عقيدةٍ فحسب، أو مسألة نزاعٍ بين شخصين في حقٍّ مشروعٍ يدّعيه المدّعي وينكره المنكر، لم يكن هكذا، وإنّما كان تغييرُ شخص هذا الحاكم تعريضاً للتجربة الإسلاميّة للفشل المحقَّق فعلاً، ثمّ لخطر الانهيار الكامل في المستقبل.

ماهيّة الرسالة الإسلاميّة:

ولكي يتّضح هذا المعنى أيضاً تمامَ الاتّضاح، لا بدّ وأن نعرف ما هي الرسالة الإسلاميّة؟ هذه الرسالة التي هي بحيث إنّ مجرّد تغيير شخص الحاكم فيها، ومجرّدَ استيلاء أبي بكر على الحكم بدلاً عن الشخص المعيّن من قبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالنصّ يُزعزِعُ كيان هذه الرسالة، ثمّ يمحقها محقاً كاملاً لولا جهودُ الأئمّة (عليهم الصلاة والسلام).
كيف إنّ مجرّد تغيير اسم الحاكم وشخص الحاكم يوجب هذا العمق في الخطر، وهذا المحق في نهاية الشوط!
ما هي الرسالة الإسلاميّة؟ حتّى نعرف على ضوء ذلك كيف يكون هذا الخطر عميقاً؟ ثمّ نفهم بعد هذا ما هي التحصينات ضدَّ هذا الخطر العميق؟
هناك منذ البدء نظرتان أساسيّتان للكون، ولموقف الإنسان في الكون:

النظرة الاُولى: النظرة إلى الكون بوصفه مملكةَ مليكٍ مقتدر:

إحدى النظرتين الأساسيّتين للإنسان نحو الكون وموقفه من الكون: أنّه يرى أنّ الكون مملكةٌ لمليكٍ قديرٍ مراقبٍ من وراء الستار، مراقبٍ مراقبةً غيرَ منظورة. هذه هي النظرة الاُولى التي يتحدّد بها موقفُ الإنسان من الكون وطبيعة هذا الكون.
ألف- استبطان النظرةُ الاُولى شعورَ الإنسان بكونه خليفة(1) :
وهذه النظرة -النظرة إلى الكون بأنّه مملكةٌ كبيرةٌ لمليكٍ قديرٍ مراقبٍ من وراء الستار- تستبطن حتماً الشعورَ بأنّ وجود الإنسان في الكون هو وجود الأمين ووجود الخليفة(2)، لا وجود الأصيل ووجود المتحكِّم؛ لأنّ هذه مملكةُ غيره بكلّ ما فيها من وجود وبما فيها نفسُ الإنسان، هي مملكة ذلك المليك القدير المراقب من وراء الستار.
ولهذا يشعر بأنّه يقوم بأعباء الأمانة والخلافة، هذه الخلافة التي قام بها آدم، وقامت بها بعد ذلك الأجيالُ الصالحةُ من بني آدم، هذه الخلافة والأمانة تُستبطن في هذه النظرة.
ب- استبطان النظرة الاُولى تصرّف الخليفة وفق رغبات المستخلِف:
حينما يشعر بأنّه أمينٌ وأنّه خليفة، هذا أيضاً يستبطن معنىً آخر، وهذا المعنى الآخر هو معنى ضرورة استيحاء الأمر والتدبير والتقرير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير؛ لأنّه هو خليفة وأمين، والأمين لا بدّ له أن يطبِّقَ على الأمانة التي استؤمن إيّاها قراراتِ المالك، فلا بدّ إذاً للإنسان أن يكون رهنَ أمر ذلك المليك القدير.
وهذا هو معنى الإقرار بالعبوديّة، والإقرار بضرورة بناء الحياة الإنسانيّة في الأرض، والتفاعل مع الكون في كلّ مجالات الإنسان والكون وفقاً للقرارات الإلهيّة المعطاة من قبل ذلك المليك القدير.
ج - استبطان النظرة الاُولى التصرّف بمسؤوليّة وترقّب يوم الحساب:
ثمّ إنّ الجزء الآخر من هذه النظرة الأساسيّة : المليك القدير المراقب من وراء ستار. ما معنى المراقب من وراء ستار؟ يعني أنّه يراقب ويحاسب ويدقِّق. ولكنّ هذا المليك له طريقة خاصّة في المراقبة والتدقيق؛ فإنّه يراقب من وراء ستار، لا يتجلّى للناس في مملكته جهاراً فكلُّ من عصاه يضربه آناً ويُنزل به العقوبات، بل يختفي عن مملكته بحسب المنطق الحسّي لأهل هذه المملكة، ويراقب أهل هذه المملكة.
هذا المليك القدير، فكرة أنّه يراقب من وراء ستار تستبطن المسؤوليّة، والمسؤوليّة تستبطن الحساب والعقاب، والحساب والعقاب يستبطن وجود عالمٍ آخر وراء هذا العالم. وراء هذه الدنيا يوجد هناك عالمٌ آخر لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة -غير المنظورة وغير السافرة- والعادلة من قِبل ذلك المليك القدير.
د - استبطان النظرة الاُولى عيش الأهداف الكبيرة:
إذا جاءت فكرة عالمٍ آخر للجزاء وللحساب والثواب والعقاب تجي‏ء فكرة الأهداف الكبيرة.
حينئذٍ، الإنسان لا يكون قيدَ عمره في الدنيا، ولا يكون قيدَ هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهنَ خطٍّ طويلٍ طويلٍ يمتدّ مع ذلك العالم غير المنظور.
وحينئذٍ يكون الإنسان على مستوى الأهداف الكبيرة، الأهداف التي هو لا يستطيع أن يمتصّها، لا يستطيع أن يستنزفها، لا يستطيع أن يستفيد منها.أعظم الأهداف وأجلّ الأهداف وأسمى الأهداف هي تلك الأهداف التي تكون أوسع من عمر إنسانٍ واحد، أوسع من عمر موجود من الموجودات، هذه الأهداف كيف يمكن أن تُحمَل الإنسانيّة عليها، وتحمل الإنسانيّة على تحقيقها إذا كانت الإنسانيّة لا ترى إلّا مرمى نظرها، إلّا هذا الشوط القصير؟!
إذاً، هذا الهدف ليس هدفها؛ لأنّها هي لا تستنزف عصارة هذا الهدف، ولا تشرب نخب هذا الهدف، فتكون هذه الأهداف معطّلة، وتبقى الإنسانيّة رهن الأهداف القصيرة، رهن الغايات الماديّة المحدودة. وهذه الغايات الماديّة المحدودة هي منطلق ألوانٍ كثيرةٍ من الصراع والكفاح والعراك ما بين الاُسرة البشريّة، بين فردٍ وفرد، بين مجتمعٍ ومجتمع، بين قوميّةٍ وقوميّة، بين اُمّةٍ واُمّة.
وأمّا إذا أصبحت البشريّة على مستوى الأهداف الكبيرة؛ لأنّها انطلقت في غاياتها وفي ثوابها وعقابها إلى أكثر من حدود هذه الدنيا، حينئذٍ تستطيع أن تنهض لأجل تلك الأهداف الكبيرة.
من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فمات وقع أجره على الله‏(3). هذا الهدف الكبير هو لم يستطع أن يحقّقه، هو خرج من بيته، هو خطا خطوةً في تحقيق هذا الهدف الكبير. كم من آلاف الناس درسوا وماتوا قبل أن يحقِّقوا النتيجة! كم من آلاف المجاهدين خرجوا للحرب واستشهدوا قبل أن يذوقوا لذّة الانتصار! كم من أجيال المجدِّدين والمصلحين طاقوا وتحمّلوا في سبيل صيحاتهم ما تحمّلوا من أذىً وظلمٍ وإهانةٍ وماتوا قبل أن يذوقوا لذّة الانتصار!
إلّا أنّ هؤلاء، حيث إنّهم خرجوا من بيتهم مهاجرين في سبيل الله وماتوا في وسط الطريق، وقع أجرهم على الله.
بالأجر الإلهي انفتح أمام هؤلاء طريق هذه الأهداف الكبيرة، فلا يهمّ هذا الإنسان قصير العمر أن يموت خلال الخطوة الاُولى، أو خلال الخطوة الثانية، ما دام يسير في خطٍّ، في أيّ مرحلةٍ منه يموت يقع أجره على الله تعالى.
هـ - استبطان النظرة الاُولى فتح باب القيم الخُلُقيّة:
هنا انفتح طريق هذه الأهداف الكبيرة. لمّا انفتح طريق هذه الأهداف الكبيرة انفتح باب القيم الخلقيّة، هذه القيم الخلقيّة لا معنى لها ما لم تكن على مستوى الأهداف الكبيرة والجزاء الكبير غير المنظور. القيم الخلقيّة، من التضحية والفداء والحبّ والإيثار ونحو ذلك من الاُمور... كلّ هذه القيم الخلقيّة انفتح بابها؛ لأنّها جميعا طرقٌ إلى الله.
كلُّ من يمشي في طريقٍ من هذه الطرق ويموت ويخسر ويُبتلى بصدمة تجاهها يقع أجره على الله. كلّ من يضحّي فلا يلاقي جزاء تضحيته يقع أجره على الله تعالى. كلُّ من يقوم بخدمةٍ لآخر ثمّ لا يلاقي جزاءً من الآخر يقع أجره على الله تعالى؛ لأنّه يدخل في ملاك (من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فمات وقع أجره على الله تعالى).
حينئذٍ، هذه النظرة الأساسيّة -إذاً- تشعّبت منها كلُّ هذه الشُعَب وكلُّ هذه الفروع التي بكاملها -بكامل اُخطبوطها- تشكّل الحضارةَ الإسلاميّة؛ فالحضارة الإسلاميّة عبارة عن هذه النظرة الأساسيّة بكلّ شعبها وفروعها
التي ترجع بالنهاية إلى تجسيدٍ كاملٍ للعلاقة مع الله في تفاعل الإنسان مع كلّ مجالاته الحيويّة والكونيّة.
هذه نظرة من النظرات.

النظرة الثانية: النظرة إلى الكون بوصف الإنسان أصيلاَ فيه:

في مقابلها نظرة اُخرى، وهي النظرة غير الإسلاميّة.
هذه النظرة غير الإسلاميّة الإنسان ينظر إلى الكون بأنّه أصيل في هذا الكون، وحينما ينظر إلى نفسه أنّه أصيلٌ في هذا الكون، وأنّ هذا الكون مستقلٌّ وغير خاضعٍ لمليكٍ وراء الستار، ولمراقبةٍ من وراء الستار، حينما يتركّز في نظره الأصالةُ لنفسه، والاستقلال لهذا الكون، حينئذٍ تنعدم المسؤوليّة. وإذا انعدمت المسؤوليّة في المقام، بقي أن يتحمّل هو المسؤولية بنفسه؛ يعني بدلاً عن أن يشعر بأنّه مسؤولٌ ومراقَبٌ أمام جهةٍ عليا تضع أمامَهُ الأهداف الكبيرة في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، يضع هو المسؤوليّة. وحينما يتحمّل هو وضع المسؤوليّة، تكون هذه المسؤوليّة نتاجَ نفسه، فينعكس في ما يضعه تمامُ ما في نفسه، تمامُ المحتوى الداخلي والروحي والفكري له بكلّ ما فيه من نقصٍ وشهوةٍ وخطأ.
وحينئذٍ، حينما يريد الإنسان أن يحدِّد لنفسه مسؤوليّاته، سوف يحدّدها على ضوء أهدافه، وحينما يريد أن يحدّد أهدافه، سوف يحدّدها على ضوء طريقه، وعلى ضوء مدى طريقه. وحيث إنّ طريقه محدود، وحيث إنّ طريقه منكمش في نطاق المادّة، فسوف تكون الأهداف على مستوى الطريق. وحينما تكون الأهداف على مستوى الطريق، سوف تكون المسؤوليّات أيضاً في نطاق هذه الأهداف، وبعد هذا سوف تُخسر قيمُ الخُلُقيّة، وبعد هذا سوف يتولّد عن ذلك ألوانٌ من الصراع والنزاع بين البشريّة جماعاتٍ ووحداناً.
هذه النظرة الثانية في مقابل النظرة.

الإسلام يهيمن على الإنسان ويربّيه على النظرة الاُولى:

الإسلام هو جاء لأجل أن يربّي الإنسان على النظرة الاُولى، لا لأجل أن يكون مجرّد عالِم يجي‏ء بنظريّة فيكتبها في كتاب، ليس حاله حال العلماء الذين يجيئون بالنظريّات فيكتبونها في كتاب، أو يلقونها في مجلس درسٍ أو بحث.
لم يكن الإسلام عالِماً، بل كان الإسلام مربّياً، جاء الإسلام ليربّي الإنسان على هذه النظرة، بحيث تصبح هذه النظرة جزءاً من وجوده، وتسري مع دمه وعروقه، ومع فكره وعواطفه، وتنعكس على كلّ مجالات تصرّفه وسلوكه مع الله ومع نفسه ومع الآخرين.
حيث إنّ الإسلام جاء مربّياً له، وجاء لأجل أن يُجسّد هذه النظرة فيه، فلابدّ للإسلام إذاً -حينما جاء لهذا الغرض- أن يهيمن على هذا الإنسان، ويهيمن على كلّ علاقاته؛ ليستطيع أن يربّيه.
المربّي لا يستطيع أن يربّي شخصاً ما لم يهيمن عليه، إذا لم يهيمن عليه يكون مجرّد تلميذ واُستاذ: الاُستاذ يلقي النظريّة العلميّة للتلميذ، فإن شاء التلميذ قَبِل وإن شاء رفض، وهذا باب التلمذة والبحث.
أمّا باب التربية، فهو باب الهيمنة: الأب يستطيع أن يربّي ابنه أحياناً فيما إذا هيمن عليه.
إذاً فالهيمنة هي الشرط الأساس للتربية، والهيمنة كلّما كانت أوسع نطاقاً وأوسع مجالاً كانت أكثر إنجاحاً لعمليّة التربية:
الأب يستطيع أن يربّي ابنه، ولكنّه قد لا يستطيع أن ينجح؛ لأنّ وجود ابنه ليس كلّه تحت هيمنته، وليس كلّه تحت سيطرته؛ لأنّ هذا الابن هو ابنه، وهو أيضاً ابن هذا المجتمع، ابن مجتمعٍ كبيرٍ يتفاعل معه ويتأثّر به ويؤثّر فيه، ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات، ويقيم معه العلاقات في الحقول الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وغير ذلك من مجالات حياته.
فهو ليس ابنه وحده، بل هو ابنه وابن المجتمع، وبنوّة الولد لهذا المجتمع أكبر بكثيرٍ من بنوّته لهذا الأب الذي ولد منه، ولهذا قد يعجز كثيرٌ من الآباء عن تربية أبنائهم في مجتمع فاسد.
كم سمعتم من أبٍ يتذمّر لأنّه لا يستطيع أن يربّي ابنه في آخر الزمان ومع هذا الفساد مثلاً؟! هذا كلّه لأنّه يوجد هناك أبٌ آخر أكبر منه لهذا الابن، وهو المجتمع.
إذاً، فالتربية الكاملة لا يمكن أن تكون لهذا الفرد إلّا إذا هيمن المربّي عليه، وعلى علاقاته الاجتماعيّة، وعلى روابطه مع غيره أيضاً؛ ليصبح تمامُ هذا الموجود تحت سيطرة هذا المربّي، [لتصبح‏] تمامُ نشاطاته وتصرّفاته تحت سيطرة هذا المربّي، شخص واحد يكون هو الأب ويكون هو المجتمع، حينئذٍ يصبح هذا مربّياً كاملاً مطلقاً بالنسبة إلى هذا الابن.

الهيمنة على العلاقات الاجتماعيّة من خلال تزعّم المجتمع:

كيف يمكن الهيمنة على هذه العلاقات الاجتماعيّة؟
هذا ما صنعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّه هيمن على العلاقات الاجتماعيّة؛ لأنّه تزعّم بنفسه المجتمعَ، لأنّه أنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه، فوقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخطّط لهذا المجتمع، ويرسم لهذا المجتمع، ويبني كلَّ العلاقات في داخل
هذا الإطار الاجتماعي: علاقة الإنسان مع نفسه، علاقته مع ربّه، علاقته مع عائلته، علاقته مع بقيّة أبناء مجتمعه، علاقاته في مختلف المجالات ومختلف الحقول الاجتماعيّة والشخصيّة، كان هو الذي يخطّط.
إذاً، فكلُّ هذه الاُمور صارت تحت هيمنته، لمّا صارت تحت هيمنته استُكمل هنا الشرط الأساسي في التربية الناجحة.
ولا شكّ ولا ريب أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لو كان قد امتدّ به العمر، أو كانت التجربة الإسلاميّة قد امتدّت بعده على أيدي خلفائه الميامين المعصومين من أهل بيته، من أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) وأولاده، إذاً لأمكن لهذه التربية أن تؤتي ثماراً عجيبةً جدّاً، هذه الثمار نقرؤها الآن بعنوان المعجزات والكرامات عن أحوال الناس بعد ظهور صاحب الأمر (سلام الله عليه). تلك المعجزات والكرامات ليست معجزاتٍ ولا كرامات، وإنّما هي نتيجة تربية.
أَيمكن أن يبلغ المجتمع البشري إلى مستوىً من التعاون والتعاضد، إلى مستوىً من التوحّد والترفّع، بحيث إنّه يستغني عن النقد؟! يستغني حتّى عن الدرهم والدينار! عن التعبير المادّي القاسي جدّاً في حياة الإنسان! عن أقسى تعبير مادّي في حياة الإنسان!(4)
الروايات تقول: إنّ هذا سوف يقع في حياة صاحب الزمان (سلام الله عليه)، [و]هذا الذي‏كان سوف يقع هو نتيجة هذه التربية المخطّطة على يد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويد الخلفاء المعصومين من أهل بيته.
المصادر :
1- الإسلام يقود الحياة: 127، خطّ الخلافة وركائزه العامّة،
2- الوارد في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب: 72).
3- إشارة إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ النساء: 100 .
4- بحار الأنوار 390 :52، الحديث 212، / المسند (ابن حنبل) 38 :3؛ الجامع الصحيح (مسلم) 2235:4. / الجامع (الأزدي) 371 :11؛ كتاب الفتن (ابن حمّاد) 341 :1؛ /كتاب الفتن (ابن حمّاد) 356 :1.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.