وهو أبو علي بن عبد الله بن علي بن سينا, وهو أشهر من أن يذكر. عن أبو عبيد الجوجزاني, قال: قال الشيخ الرئيس( إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ, وانتقل إلى بخارى في أيام نوح بن منصور واشتعل بالتصرف, وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها خرميثن من ضياع بخارى, وهي من أمهات القرى, وبقربها قرية يقال لها أفشنة.
وتزوج والدي منها بوالدتي وقطن بها, وولدت بها, ثم ولد أخي, ثم انتقلنا إلى بخارى. وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب, وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى الكثير من الأدب, حتى كان يقضى مني العجب. وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين وبعد من الإسماعيلية.وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ولا تقبله نفسي.
وابتدأوا يدعونني أيضاً إليه, ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند, وأخذ يوجهني إلى رجل يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه. ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله المتفلسف, وأنزله أبي دارنا رجاء تعليمي. وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد, وكنت من أجود السالكين, وألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب. ثم ابتدأت بكتاب إيساغوجي على النائلي. ولما ذكر لي حد الجنس, أنه هو على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو. أخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله, وتعجب مني كل العجب.
وحذر والدي من شغلي بغير المعلم.وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرأً منه, حتى قرأت ظواهر المنطق عليه. وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة. ثم أحكمت علم المنطق, وكتاب أقليدس توليته بنفسي. ثم انتقلت إلى كتاب المجسطي وأخذت أحلب الكتاب بنفسي, ثم رحل النائلي إلى كركانج, واشتغلت بتحصيل الكتب من الفصوص والشروح من الطبيعي والإلهي, وصارت أبواب العلم تنفتح علي.ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه, وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة. فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ أفاضل الطب يقرئون علي علم الطب.
وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف, وأنا مع ذلك اختلف إلى الفقه وأناظر فيه, وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة. ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصف, فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة. وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها ولا اشتغلت النهار بغيره وجمعت بين يدي ظهوراً, فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية, ورتبتها في تلك الظهور, ثم نظرت فيما عساه تنتج, وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة, وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياسها, ترددت إلى الجامع, وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق.حتى استحكم معي جميع العلوم, ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزدد فيه إلى اليوم.
وللشيخ الرئيس من الكتب: كتاب القانون في الطب. اللواحق. الشفاء. جمع جميع العلوم الأربعة. كتاب الحاصل والمحصول. كتاب البر والإثم. كتاب الأنصاف. كتاب المجموع.كتاب الأوسط الجرجاني.كتاب المبدأ والمعاد في النفس. كتاب الأرصاد الكلية. كتاب لسان العرب في اللغة. كتاب دانش مايه بالفارسية.كتاب النجاة.كتاب الإشارات والتنبيهات.كتاب الهداية في الحكمة.كتاب القولنج.رسالة حي بن يقظان. كتاب الأدوية القلبية.مقالة في النبض.مقالة في مخارج الحروف.مقالة في القوى الطبيعية. كتاب الحدود. كتاب عيون الحكمة يجمع العلوم الثلاثة. الخطب التوحيدية في الإلهيات. كتاب الموجز الكبير في المنطق. وغيرها من الكتب والرسائل كثير.
أراء ابن سينا في أسباب وأعراض وعلامات العقم وتدبيره:
ذكر ابن سينا الكثير عن العقم وعسر الحبل وضعه في فصل مستقل( في العقر وعسر الحبل) عن باقي الفصول من الكتاب الثالث من الفن الحادي والعشرون: في أحوال أعضاء التناسل.أسباب عسر الحبل والعقم:
يقول ابن سينا في سبب العقم: ( سبب العقر، إما في مني (Sperm) الرجل، أو في مني (Sperm) المرأة، وأما في أعضاء الرحم (Organ)، (Uterus) وإما في أعضاء (Organ) القضيب (Penis) وآلات المني، أو السبب المبادي كالغم، والخوف، والفزع، وأوجاع الرأس، وضعف الهضم، والتخمة، وأما لخلط طارئ، أما السبب الذي في المني، فهو مثل سوء المزاج مخالف لقوة التوليد الحار، أو بارد من برد (Cold) طبيعي، أو برد (Cold) وطول احتباس واسر، أو رطوبة، أو يبوسة، وسبب ذلك الأغذية الغير الموافقة، والحموضات أيضاً، فإنها في جملة ما يبرد وييبس، وقد يكون السبب الذي في المني (Sperm) سوء المزاج ليس مانعاً للتوليد، بل معسراً له، أو مفسداً لما يأتي الرحم (Uterus) من غذاء الصبي.
وقد يكون السبب في المني، أن يكون مني (Sperm) الرجل مخالف التأثير لما في مني المرأة (Sperm)، مستعداً لقبوله، أو مشاركاً على أحد المذهبين، فلا يحدث بينهما ولد، ولو بدل كل مصاحبه أو شك أن يكون لهما ولد. وربما كان تخالف المنيين لسبب سوء مزاج في كل واحد منهما لا يعتدل بالآخر، بل يزيد به فساداً، فإذا بدلا صادف كل واحد منهما ما يعدله بالتضاد فاعتدلا، ومن جنس المني (Sperm) الذي لا يولّد مني (Sperm) الصبي، والسكران، وصاحب التخمة، والشيخ، ومني من يكثر الباه، ومن ليس بدنه بصحيح، فإن المني (Sperm) يسيل من كل عضو، ويكون سن السليم سليماً.
ومن السقيم سقيماً على ما قاله (أبقراط) وهذه الأحوال كلها قد تكون موجودة في المنيين جميعاً، وقد قالوا أن من أسباب فساد مني (Sperm) الرجل، إتيان اللواتي لم يبلغن، وهذا يجري مجرى الخواص، وأما السبب الذي في الرحم، (Uterus) فإما سوء مفسد للمني، وأكثره برد (Cold) مجمد له، كما يعرض من شرب الماء البارد للنساء بما يبرد، وكذلك الرجال، وربما يغير أجزاء الطمث، وربما يضيق من مسام (Pores) الطمث، فلا ينصب الطمث (Menstruation) إلى الجنين.
وربما كان مع مادة، أو رطوبات (Moisture) تفسد المني (Sperm) أيضاً لمخالطته، أو مجفف، أو محلل، أو مرطب، أو مزلق مضعف للماسكة، فهو كثير، أو مضعف للقوة الجاذبة للمني، فلا يجذب المني (Sperm) بقوة، أو مضيق لمجاري الغذاء من حر، أو يبس، أو برد، أو مفسد لغذاء الصبي، أو مانع إياه عن الوصول لانضمام من الرحم، (Uterus) الباردة الرطبة ما يعرض للبرز الأراضي النزة، وفي المزاج الحار (Hot temper) اليابس ما يعرض في الأراضي التي فيها نورة مبثوثة، وإما لانقطاع المادة، وهو دم (Blood) الطمث، إذا كان الرحم (Uterus) يعجز عن جذبه، وإيصاله، وإما لميلان فيه، أو انقلاب، أو لسدة، أو انضمام من فم الرحم (Uterus) قبل الحبل لسدة، أو صلابة، أو لحم زائد ثؤلولي، أو غير ثؤلولي، أو التحام قروح، أو برد (Cold) مقبض، وغير ذلك من أسباب السدة، أو يبس فلا ينفذ فيه المني، أو ضعف.
أو انضمام بعد الحبل، فلا يمسكه، أو كثرة شحم مزلق، وقد يكون بشركة البدن كله، وقد يكون في الرحم (Uterus) خاصة والثرب، أو في الرحم (Uterus) وحدها، وإذا كثر الشحم على الثرب عصر وضيّق على المني، وأخرجه بعصره وفعله هذا، أو لشدة هزال في البدن كله، أو في الرحم (Uterus) أو آفة (Disorder) في الرحم (Uterus) من ورم وقروح، وبواسير (Piles) وزوائد لحمية مانعة، وربما كان في فمه شيء صلب كالقضيب، يمنع دخول الذكر والمني، أو قروح اندملت، فملأت الرحم (Uterus) وسدت فوهات العروق (Vessel) الطوامث، أو خشونة (Harshness) فم الرحم، (Uterus)
وأما السبب الكائن في أعضاء (Organ) التوليد، فإما ضعف أوعية المني، أو فساد عارض لمزاجها، كمن يقطع أوردة أذنه من خلف، أو تبطّ منه المثانة (Bladder) عن حصاة، فيشارك الضرر أعضاء (Organ) التوليد، وربما قطع شيء من عصبها، ويورث ضعفاً في أوعية المني، وفي قوتها المولدة للمني، والزراقة له، وكذلك من يرضّ خصيته، أو تضمد بالشوكران، أو يشرب الكافور الكثير، وأما الكائن بسبب القضيب (Penis)، فمثل أن يكون قصيراً في الخلقة، أو لسبب السمن من الرجال، فيأخذ اللحم أكثره، أو منها، فيبعد من الرحم (Uterus) ولا يستوي فيه القضيب (Penis) أو منهما جميعاً.
أو لاعوجاجه، أو لقصر الوترة، فيتخلى القضيب (Penis) عن المحاذاة، فلا يزرق المني (Sperm) إلى حلق (Pharynx) فم الرحم (Uterus) وأما السبب في المبادي، فقد عددناه بأنه لابد من أن تكون أعضاء (Organ) الهضم، أو أعضاء (Organ) الروح (Pneuma) قوية حتى يسهل العلوق، وأما الخطأ الطارئ، فإما عند الإنزال قبل الاشتمال، أو بعد الاشتمال، فأما عند الإنزال فإن تكون المرأة والرجل مختلفي زمان الجماع (Coitus) والإنزال ولا يزال، أحدهما يسبق بإنزاله، فإن كان السابق الرجل تركها ولم تنزل، وإن كانت السابقة المرأة، أنزل الرجل بعدما أنزلت المرأة فوقف فم رحمها عن حركات جذب المني (Sperm) فاغرة إليه فغراً بعد فغر منع جذب شديد الحس (The Sensation) يحس بذلك عند إنزالها، وإنما يفعل ذلك عند إنزالها.
إما لتجذب ماء الرجل مع ما يسيل إليها من أوعية منيها الباطنة في الرحم (Uetrus) الصابة إلى داخله عند قوم، وإما لتجذب ماء نفسها إن كان الحق ما يقوله قوم آخرون، أن منيها – وإن تولد داخلاً- فإنه ينصب إلى خارج فم الرحم، (Uterus) ثم يبلعه فم الرحم (Uterus) لتكون حركتها إلى جذب مني (Sperm) نفسها من خارج منبهاً لها عند حركة منيها، فيجذب مع ذلك مني (Sperm) الرجل، فإنها لا تخص بإنزال الرجل، وأما الخطأ الطارئ بعد الاشتمال، فمثل حركة عنيفة من وثبة، أو صدمة، وسرعة قيام بعد الإنزال، ونحو ذلك بعد العلوق، فيزلق، أو مثل خوف يطرأ، أو شيء من سائر أسباب الإسقاط التي تذكرها في بابها، قال (أبقراط) لا يكون رجل البتة أبرد من امرأة، أي في مزاج أعضائه الرئيسة ومزاجه الأول، ومزاج منيه الصحي دون ما يعرض من أمزجة طارئة، وأعلم أن المرأة التي تلد وتحبل أقل أمراضاً من العاقر، إلا أنها تكون أضعف منها بدناً، وأسرع تعجيزاً، وأما العاقر فتكثر أمراضها، ويبطؤ تعجزها، وتكون كالشابة في أكثر عمرها.
يقسم ابن سينا أسباب العقر في قوله إلى: ( سبب العقر، إما في مني (Sperm) الرجل، أو في مني (Sperm) المرأة، وأما في أعضاء الرحم (Organ)، (Uterus) وإما في أعضاء (Organ) القضيب (Penis) وآلات المني، أو السبب المبادي كالغم، والخوف، والفزع، وأوجاع الرأس، وضعف الهضم، والتخمة، وأما لخلط طارئ)أي أن السبب إما علة في مني الرجل أو مني المرأة أو علة في أعضاء الذكر التناسلية أو في الرحم أو في الآلات المولدة , وقد يكون بسبب علة جسمية بدئية جهازية ,وقد يكون لخطأ أو سبب طارئ بدون علة مرضية ثابتة.
أسباب متعلقة بفساد المنيين مني الرجل أو مني الأنثى:
إذ يذكر أسباباً تؤدي إلى فساد المني دون أن يحدد أي المنيين قصده, فيقول (أما السبب الذي في المني، فهو مثل سوء المزاج مخالف لقوة التوليد الحار، أو بارد من برد (Cold) طبيعي، أو برد (Cold) وطول احتباس واسر، أو رطوبة، أو يبوسة، وسبب ذلك الأغذية الغير الموافقة، والحموضات أيضاً، فإنها في جملة ما يبرد وييبس، وقد يكون السبب الذي في المني (Sperm) سوء المزاج ليس مانعاً للتوليد، بل معسراً له، أو مفسداً لما يأتي الرحم (Uterus) من غذاء الصبي، وقد يكون السبب في المني، أن يكون مني (Sperm) الرجل مخالف التأثير لما في مني المرأة (Sperm)، مستعداً لقبوله، أو مشاركاً على أحد المذهبين، فلا يحدث بينهما ولد، ولو بدل كل مصاحبه أو شك أن يكون لهما ولد. وربما كان تخالف المنيين لسبب سوء مزاج في كل واحد منهما لا يعتدل بالآخر، بل يزيد به فساداً، فإذا بدلا صادف كل واحد منهما ما يعدله بالتضاد فاعتدلا.ومن جنس المني (Sperm) الذي لا يولّد مني (Sperm) الصبي، والسكران، وصاحب التخمة، والشيخ، ومني من يكثر الباه، ومن ليس بدنه بصحيح، فإن المني (Sperm) يسيل من كل عضو، ويكون سن السليم سليماً، ومن السقيم سقيماً على ما قاله (أبقراط) وهذه الأحوال كلها قد تكون موجودة في المنيين جميعاً، وقد قالوا أن من أسباب فساد مني (Sperm) الرجل، إتيان اللواتي لم يبلغن، وهذا يجري مجرى الخواص) أي ذكر من الأسباب المفسدة للمنيين بدون تحديد لجنس المني فلم يفرق بين أسباب خاصة لمني الرجل وأخرى لفساد مني المرأة.أي انه لم يفرق بين أسباب ذكرية وأخرى أنثوية للعقم -كما هو الحال في الطب الحديث- وعلينا أن نذكر أن التشريح الدقيق لطبيعة مني المرأة -كما ذكره الاطباء العرب- يدلنا أن المقصود به ليس الإباضة الدورية الشهرية التي ندرسها وندرس عللها في العلم الحديث فابن سينا وغيرهم يقولون بنزول المني من المرأة ومن المبيضين وقت الجماع ويفسر ابن سينا عدة اراء كانت سائدة فيعصره حول آلية اتحاد هذين المنيين وتوليد الحياة. وهي تقارب ما نعلمه الآن من ضرورة التقاء الأعراس الذكرية والأنثوية لحدوث الالقاح ولكن بدون خروج ماء المرأة -كما يذكر ابن سينا - من الرحم ليجذب إليه مني الرجل, وبدون أن يكون أفضل وقت للإنزال هو قبيل الطمث, وغيرها من الأفكار التي تدل أن التقارب بين العلم الحديث والنظرية القديمة لم يأتي بالتجربة بل كان اقرب للصدفة في وضعهم لتفسير منطقي الأساس وليس تجريبيا أو مبنياً على تشريح دقيق أو معرفة حقيقية بالفيزيولوجيا الوظيفية للأعضاء التشريحية.ولهذا نرى في تعليله لأسباب فساد المني- مني الذكر أو مني الأنثى- تأكيده على العودة لنظرية الأمزجة والأخلاط لتفسيرها.فيقول أن أسباب ذلك تقسم إلى:
الف-أسواء المزاج:
إذ يرى ابن سينا وغيره من الأطباء في عصره أن المزاج الأنسب للتوليد هو المزاج الأقرب للحرارة منه للبرودة سواء عند الذكر أو الأنثى وأن تغير المزاج عن هذه الكيفية يعطل المني ويفسده سواء عند الذكر أو الأنثى - وإن كان ابن سينا يرى الأنثى ابرد من الذكر دوماً_ ويقول في سبب البرودة المفسدة أنها إما برد طبيعي من أصل المزاج الأول أو برد طارئ وهذا يكون سببه كما ذكر ابن سينا طول احتباس المني, فعدم الإنزال في رأي القدماء وطول احتباس المني سواء عند الذكر أو عند الأنثى مفسد لكليهما. وهو قول نعلم اليوم بعدم صحته علمياً.ويرد ذلك إلى تغير المزاج للرطوبة أو اليبس وأرجعها للأغذية غير الموافقة والحموضات(ما يبرد وييبس).أسواء المزاج الغير مانعة للتوليد: وإنما تكون مفسدة له أو مفسدة لغذاء الجنين وهو هنا يخلط بين العقم وأسبابه وبين الإسقاط و أسبابه.
اختلاف مني الرجل ومني المرأة:بقوله أن المنيين يكونا مخالفي التأثير رغم استعداد كل منهما للتوليد فلا يحدث أية حالة حمل رغم إن الرجل أو المرأة سليمين ظاهرياً ويمكن أن ينجبا من زيجات أخرى. وهذه الحالة النادرة تقابل ما نعرفه اليوم بالعقم ذو المنشأ المناعي والذي تحدث فيه عملية تعرف على المستضدات السطحية للنطف من قبل الكريات البيض الوالدية وتحدث ردة فعل مناعية تتجلى بإنتاج أضداد لهذه النطاف تسبب تراكمها وتخربها وتمنع الالقاح وقد تعالج الحالة بالأدوية المثبطة للمناعة أو بطرق الالقاح الصناعي المساعدة. وذكره لهذه الحالة كان من الممكن أن يفسر بنباهته وكشف دقيق للحالات السريرية المختلفة, أولا ذكره لحالة مشابهة فيما يليها ناجمة عن اختلاف المنيين ولكنهما يتعادلان باجتماعيهما معاً مما يؤكد على إن ذكرهم لهذه الحالة السابقة ربما أتى في سياق تحليل فلسفي لأسباب العقم وليس في سياق كشف سريري واضح لحالات سريرية تماثل ما نعرفه اليوم ومحاولة كشف سببها, لذلك نجد إنهم وإن أصابوا في العديد من المواقع ولكنهم أيضا اخطئوا في الكثير من المواقع, لأنهم ما زالوا معتمدين على النظرية الجالينوسية. كما نجد تناقض في قوله باختلاف مزاج المنيين بحيث يعدلا بعضيهما عند اجتماعيهما وبين قوله بأن الذكر أحر من الأنثى على العموم.
جنس المني الذي لا يولد: يعدد هنا ابن سينا بعض العوامل التي يقول إنها تسبب العقم من جهة الرجل, كالسكران والصبي والشيخ وصاحب التخمة وإكثار الباه ومن ليس بدنه بصحيح وإتيان من لم يبلغن.وهي كلها حالات قد تؤثر على الخصوبة ولكن بآليات مختلفة وليست كلها تسبب تغير نوعية المني, آما قوله من ليس بدنه بصحيح فإن المني (Sperm) يسيل من كل عضو، ويكون من السليم سليماً، ومن السقيم سقيماً على ما قاله (أبقراط) فهو يدل على تمسكه بالنظرية اليونانية حول منشأ المني وتولده من الجسم عامة وخاصة الدماغ والقلب والكبد ويسير في أوعية البدن ليصل إلى الاقناد وهناك يجتمع ولهذا يكون لأمراض البدن العامة والبعيدة عن الاقناد تأثير في العقم بتأثيرها في نوعية المني الحاصل منها وهذا ينطبق على الرجل والمرأة. وهنا نجد ما يخالف كل المبادىء التشريحية والفيزيولوجية العامة والخاصة بأعضاء التناسل وتصنع النطاف والخلايا البيضية والية الاباضة. ولكن نذكر إن العديد من الأمراض الجهازية العامة المناعية والغدية والحموية تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في الاقناد الذكرية والأنثوية وتؤثر على الخصوبة وليس بالضرورة على نوعية المني.
ب- أسباب متعلقة بأعضاء التناسل الذكرية: فهو يقول:
(وأما الكائن بسبب القضيب (Penis)، فمثل أن يكون قصيراً في الخلقة، أو لسبب السمن من الرجال، فيأخذ اللحم أكثره، أو منها، فيبعد من الرحم (Uterus) ولا يستوي فيه القضيب (Penis) أو منهما جميعاً، أو لاعوجاجه، أو لقصر الوترة، فيتخلى القضيب (Penis) عن المحاذاة، فلا يزرق المني (Sperm) إلى حلق (Pharynx) فم الرحم ((Uterus)وهو هنا يتحدث عن بعض الأسباب التشريحية والوظيفية الخاصة بالذكر.ج - أسباب متعلقة بالرحم:
-يقول ابن سينا بوجود أخلاط موضعية تفسد المني داخل الرحم وان هذه الأخلاط بالضرورة باردة وعلل حدوثها إما بالا شربة الباردة وخاصة عند النساء وان الماء البارد يؤثر على الدورة الطمثية ويغيرها ويضيق مسام الطمث. وهذا ما لا يدعمه العلم الحديث ولكنه جاء تابعاً لنفس النظرية السابقة, يقول:( وأما السبب الذي في الرحم، (Uterus) فإما سوء مفسد للمني، وأكثره برد (Cold) مجمد له، كما يعرض من شرب الماء البارد للنساء بما يبرد، وكذلك الرجال، وربما يغير أجزاء الطمث، وربما يضيق من مسام (Pores) الطمث، فلا ينصب الطمث (Menstruation) إلى الجنين، )- يذكر ابن سينا أن هذه المادة قد- إلى جانب التبريد- تكون مفسدة للمني داخل الرحم بالمخالطة معه أو بالتجفيف أو بالتحليل أو بالتزليق.
- وان هذه الرطوبات قد تعمل على إضعاف ما اعتقد انه قوة جاذبة للمني إلى داخل الرحم فلا يصعد المني لداخل الرحم وهنا يقصد المنيين معاً, أو قد تسد هذه الرطوبات فوهات الأوعية التي كانوا يدعونها بالنقر والتي ينصب منها الطمث لداخل الرحم وتحمل الغذاء للجنين سواء بسبب يبس أو برد أو حرارتها. وهنا أيضا يخلط ابن سينا بين أسباب الإسقاط الباكر وبين العقم:( وربما كان مع مادة، أو ر طوبات (Moisture) تفسد المني (Sperm) أيضاً لمخالطته، أو مجفف، أو محلل، أو مرطب، أو مزلق مضعف للماسكة، فهو كثير، أو مضعف للقوة الجاذبة للمني، فلا يجذب المني (Sperm) بقوة، أو مضيق لمجاري الغذاء من حر، أو يبس، أو برد، أو مفسد لغذاء الصبي، أو مانع إياه عن الوصول لانضمام من الرحم، شديد اليبس أو برد أو التحام قروح أو لحم ثؤلولي أو ليبس يستولي على الرحم فيفسد الغذاء, فربما بلغ من يبسها إن تشبه الجلود اليابسة أو يعرض للمني في الرحم (Uterus) الباردة الرطبة ما يعرض للبرز الأراضي النزة، وفي المزاج الحار (Hot temper) اليابس ما يعرض في الأراضي التي فيها نورة مبثوثة) وهنا نجد إن النظرية المسيطرة هي النظرية الفلسفية القياسية التي تقيس كل ظواهر الطب إلى ظواهر الطبيعة.فلا تمت بصلة إلى ما نعتبره اليوم من الوقائع التشريحية والفيزيولوجية المفسرة للعقم الأنثوي أو الذكري. فلا وجود لرطوبات داخل جوف الرحم تمنع وتزلق المني وتجففه أو تحلله, وان كان لا بد من أن نذكر إن بعض أفات الرحم بالخاصة كبعض التشوهات والآفات الورمية قد تسبب إعاقة في وصول النطاف إلى الخلية البيضية وتؤثر على الخصوبة كما إن أفات البوقين وآفات الجهاز التناسلي الالتهابية تؤثر على الإخصاب بعدة طرق ومنها إعاقة وصول النطاف.لذلك من الظاهر إن ابن سينا ومن قبله عرفوا العلاقة بين هذه لأمراض وبين العقم ولكنهم اخطأوا في تفسير هذه العلاقة.
-انقطاع المادة ويقصد بالمادة هنا الدم الطمثي فقد كان يعتقد انه ضروري للتوليد فهو يحتوي على الغذاء للجنين فإن كان بالرحم علة تمنع وصوله للجنين حدث العقم - وهنا نجد خلطاً بين أسباب العقم وأسباب الإسقاط- وذكر لذلك عدة أسباب
(إما لانقطاع المادة، وهو دم (Blood) الطمث، إذا كان الرحم (Uterus) يعجز عن جذبه، وإيصاله، وإما لميلان فيه، أو انقلاب، أو لسدة) وهنا نجد خلطا بين أسباب مؤدية لمنع وصول الطمث للمني وأسباب سدة الرحم المسببة لمنع وصول المني للرحم:(، أو انضمام من فم الرحم (Uterus) قبل الحبل لسدة، أو صلابة، أو لحم زائد ثؤلولي، أو غير ثؤلولي، أو التحام قروح، أو برد (Cold) مقبض، وغير ذلك من أسباب السدة، أو يبس فلا ينفذ فيه المني، أو ضعف، أو انضمام بعد الحبل، فلا يمسكه، أو كثرة شحم مزلق، وقد يكون بشركة البدن كله، وقد يكون في الرحم (Uterus) خاصة والثرب، أو في الرحم (Uterus) وحدها، وإذا كثر الشحم على الثرب عصر وضيّق على المني، وأخرجه بعصره وفعله هذا، أو لشدة هزال في البدن كله، أو في الرحم (Uterus) أو آفة (Disorder) في الرحم (Uterus) من ورم وقروح، وبواسير (Piles) وزوائد لحمية مانعة، وربما كان في فمه شيء صلب كالقضيب، يمنع دخول الذكر والمني، أو قروح اندملت، فملأت الرحم (Uterus) وسدت فوهات العروق (Vessel) الطوامث، أو خشونة (Harshness) فم الرحم، (Uterus).) و هنا نعود فنجد خلطاً بين الآفات التي ذكرها هنا كأسباب محتملة للسدة وهي التي تعني انسداد قناة الرحم في أي موضع من العنق وحتى فوهات العروق الموصلة للغذاء أو المني أو الطمث.وكل ما ذكر لا يقارب النظريات العلمية حول تأثير مختلف هذه العوامل على الإخصاب فالآفات العنقية تسبب منع المني الذكري من الوصول لداخل الرحم وكذلك بعض الآفات داخل الرحمية بسبب شغلها للمكان تسبب الإسقاطات الباكرة, كما كررت بعض هذه الآفات في مكان أخر, واعتقد إن عدم وضوح الرؤية لدى ابن سينا وغيره حول آلية الالقاح هو السبب في الغموض وكثرة التأويلات الخاطئة ولذلك يقول في قسم لاحق عن ما دعاه خلل طارىء.
د -أسباب متعلقة بأعضاء التوليد:
وهنا لا نجد ابن سينا يقصد الاقناد كما نعلمها فهو لم يحدد أسبابا خصيوية أو مبيضية لقلة الخصوبة أو العقم فيقول: (وأما السبب الكائن في أعضاء (Organ) التوليد، فإما ضعف أوعية المني، أو فساد عارض لمزاجها، كمن يقطع أوردة أذنه من خلف، أو تبطّ منه المثانة (Bladder) عن حصاة، فيشارك الضرر أعضاء (Organ) التوليد، وربما قطع شيء من عصبها، ويورث ضعفاً في أوعية المني، وفي قوتها المولدة للمني، والزراقة له، وكذلك من يرضّ خصيته، أو تضمد بالشوكران، أو يشرب الكافور الكثير). فبالعودة إلى تشريح ابن سينا نجد إن تولد المني لا يتم من الخصية أو المبيض إنما يتولد المني من أعضاء الجسم كله ويمر عبر أوعية الجسم الناقلة له من الدماغ وحتى الأقناد فإذا قطع أحد هذه العروق أو ضعف العضو أو تأذى بخلط ما أو تضررت الخصية بالرض أو بالأدوية فكل ذلك يسبب العقم بإحداث علة في المني وهذا يربطنا بالأسباب التي دعاها ابن سينا علل في المبادي, وكل ما سبق ليس بصحيح في تعليل العقم المرافق لأمراض جهازية متنوعة وإن كان ذكره لرضوض الخصية كسبب من أسباب العقم صحيحاً.هـ -أسباب مرضية جهازية عامة:
فيقول:(وأما السبب في المبادي، فقد عددناه بأنه لابد من أن تكون أعضاء (Organ) الهضم، أو أعضاء (Organ) الروح (Pneuma) قوية حتى يسهل العلوق)فهو يربط العقم بصحة البدن عامة وبصحة الهضم والتنفس والقلب وذلك بحسب رأيه لتسهيل العلوق وبالحقيقة فهناك علاقة بين صحة جسم الأم والأب وبين الخصوبة ولكن لأسباب متنوعة تختلف عما ذكره ابن سينا فبعضها لا يؤثر على نسب العقم ولكنه يزيد من فرص الإسقاطات الباكرة, وهنا نجد نفس الخلط بين أسباب العقم وأسباب الإسقاطات الباكرة.و- أسباب طارئة ليست مرضية مستمرة أو ناجمة عن فساد المزاج:
فيقول في تعريفها:( وأما الخطأ الطارئ، فإما عند الإنزال قبل الاشتمال، أو بعد الاشتمال، فأما عند الإنزال فإن تكون المرأة والرجل مختلفي زمان الجماع (Coitus) والإنزال ولا يزال، أحدوهما يسبق بإنزاله، فإن كان السابق الرجل تركها ولم تنزل، وإن كانت السابقة المرأة، أنزل الرجل بعدما أنزلت المرأة فوقف فم رحمها عن حركات جذب المني (Sperm) فاغرة إليه فغراً بعد فغر منع جذب شديد الحس (The Sensation) يحس بذلك عند إنزالها، وإنما يفعل ذلك عند إنزالها، إما لتجذب ماء الرجل مع ما يسيل إليها من أوعية منيها الباطنية في الرحم (Uterus) الصابة إلى داخله عند قوم، وإما لتجذب ماء نفسها إن كان الحق ما يقوله قوم آخرون، أن منيها – وإن تولد داخلاً- فإنه ينصب إلى خارج فم الرحم، (Uterus) ثم يبلعه فم الرحم (Uterus) لتكون حركتها إلى جذب مني (Sperm) نفسها من خارج منبهاً لها عند حركة منيها، فيجذب مع ذلك مني (Sperm) الرجل، فإنها لا تخص بإنزال الرجل، وأما الخطأ الطارئ بعد الاشتمال، فمثل حركة عنيفة من وثبة، أو صدمة، وسرعة قيام بعد الإنزال، ونحو ذلك بعد العلوق، فيزلق، أو مثل خوف يطرأ، أو شيء من سائر أسباب الإسقاط التي تذكرها في بابها)وهي علل وأسباب تتعلق بالإنزال دون خلل في المبادي أو المني أو الرحم أو القضيب.وهنا في نهاية هذا القسم نجد خلطاً بين أسباب العقم وأسباب الإسقاط. وأيضا هنا نجد ذكر لتصور الاطباء القدماء لفيزيولوجية عملية الالقاح. وهنا نجد خطأ في تعليل هذا القسم من العلل وفي آلية الاشتمال والالقاح ودور الرحم في ذلك. والشيء اللافت للنظر قولهم بوجود جذب ميكانيكي للمني لداخل الرحم فهو يشابه ما نقول أنه جذب كيميائي للحيوانات المنوية تجاه الخلية البيضية ووجود حركات حووية رحمية تساعد على حركة النطاف وكذلك حركة هدبية مستمرة من الخلايا المبطنة للرحم إلا إن الالقاح لا يحدث في جوف الرحم كما توقعوا إنما يحدث خارجه في الثلث الوحشي من القناة البوقية. كما لا توجد حركة يقوم بها عنق الرحم أو الرحم عامة لجذب المني لداخل الرحم.بالمجمل نقول أن ابن سينا ذكر عدداً من الأسباب المشابهة لمسببات العقم في الطب الحديث ولكنه في تفسيره لدورها أو تعليلها, بالإضافة لذكره الكثير من المسببات التي لا يذكرها الطب الحديث, ابتعد عن التشريح والفيزيولوجيا الوظيفية للجهاز التناسلي الأنثوي والذكري وعملية الاباضة والالقاح, كما يحددها العلم الحديث. واعتمد على النظرية الفلسفية القديمة لهذه العمليات مما أوقعه بالخطأ في ربط وخلط أسباب متنوعة في زمرة واحدة كما بينا أو في ذكر أسباب مرض أخر - الإسقاط- ضمن أسباب العقم وهما مرضان مختلفان تماماً.
المصدر :
تحقيق راسخون 2016