يعدُّ الخطاب السياسي، من الناحية العمومية، منظومة فكرية تحوي الكثير من المفاهيم والدلالات النظرية التي تعين الفرد على خبرة أحد جوانب الواقع الاجتماعي، وتسعى إلى تقديم مجموعة من التصورات حول هذا الواقع أو إشكالاته المتباينة التي تم إنتاجها في إحدى الفترات التاريخية. إن تناولنا لمفهوم الخطاب السياسي لا يعني أننا سوف ننطلق من هذا المفهوم الذي أوردنا، ذلك أن مفهوم الخطاب باعتباره مصطلحاً شاملاً يحتوي على مجموعة من العناصر التي تعين على فهم مجموعة من الأشكال والإدراكات النظرية، قد لا نجده متطابقاً مع ما نسعى إليه في المقاربة.
ومن هنا سوف تتم مقاربة هذا الخطاب من زوايا ثلاث هي الهوية التي تجعلنا نقف على الفروقات الأساسية المطروحة على الوعي الإيديولوجي وتبيان موقع الخطاب المقاوم منها، ثم حقل السلطة التي يدور حولها هذا الخطاب، وصولاً إلى وظيفته في التواصل الداخلي والخارجي وهي وظيفة أساسية تلعب دوراً هاماً في بلورة هذا الانتماء وتعضيد اللحمة من أجل الوصول إلى السلطة.
إن اختيار هذه الزوايا الثلاث في الخطاب تجد لها تبريراً لدينا لكونها تشكل معاً العوامل التي يدور حولها التمحور والانقسام في الوعي الأيديولوجي في العالم العربي والإسلامي. وهي بحد ذاتها إشكالية مطروحة على الخطاب المقاوم عما إذا كان خطاباً يضيف عاملاً جديداً إلى عوامل الانقسام في الوعي الأيديولوجي، لكونه خطاباً يحمل منطلقات إسلامية، ومفتوحاً على تعدد الفهم بتعدد الحركات الإسلامية وتنوعها، ويقف بمواجهة خطاب يوصف بأنه خطاب علماني ارتكز عليه الكثير من الحركات والأحزاب القومية والاشتراكية التي سادت في العالم العربي والإسلامي منذ عهود الاستعمار إلى يومنا هذا. غير أن هذا الخطاب تميز بكونه استطاع القفز فوق عوامل الانقسام، لتأسسه على عوامل استنهاضية تتأطر خلالها كل نتاجات الوعي بمختلف تنوعاتها.
مع ذلك ينطلق السؤال حول كيفية تمفصله مع الهوية والانتماء والسلطة، ووظيفته في التواصل لتبيان دلالاته الاستنهاضية. إن الإجابة عما أوردنا يمكن الولوج إليها من خلال الاستناد إلى مجمل الخطاب المقاوم باعتباره خطاباً مكتوباً وشفهياً ويمتد في مراحل تعود إلى بدايات نشأة الفعل المقاوم. ولكننا نهدف إلى مقاربة الخطاب الشفهي المسنود إلى الزعيم نفسه، لتبيان ما يحمله من دلالات وتصورات وما يرسمه من آليات وتحديدات منهجية للوصول إلى الأهداف، فضلاً عن الوظيفة الاستقطابية لهذا الخطاب باعتباره أداة تواصلية تتحرك في دائرة الخاص والعام، ولكن قبل ذلك علينا تبيان فعل الكلام حين يكون سلطة ناشئة عن الكلام نفسه قبل أي شيء آخر.
في مجتمعات الديمقراطيات الحديثة يبقى كلام الزعيم مقروناً بالسلطة. ولكن حق الكلام الذي يمارسه الزعيم ليس فعلاً طقوسياً، يمارسه بإزاء الجماعة التي تظهر القبول التام لمعنى الكلام. هي تنصاع نحو القبول لاقترانه بالسلطة. ولكن على الزعيم أن يمارس مهمة الإقناع قبل كل شيء. قد لا يكون زعيماً متفوَّهاً، أو خطيباً متمكناً ولكنه يمتلك القدرة على الإقناع، في تنفيذ الوعود، والارتقاء بحال الجماعة، وإلا فللجماعة حق نعته بالكذب والزيف والخداع.
إن التبرير والإقناع يشكل جانباً من كلام الزعيم لكي يكون مقبولاً، هو كلام مقرون بقدرته على أن يكون كلاماً سلطوياً، لكونه يترتب عليه فعل إجرائي مشفع بالتنفيذ والاستجابة حتى ولو لم يحظ بالقبول.
مع أن مقتضيات السلطة تعطي للزعيم حق الكلام. ولكنه ليس حقاً حصرياً، فللقادة الخصوم حق في الكلام غير أن الفارق بينهما هو في حجم السلطة وعموميتها المترتبة على الكلام. فحق الكلام لغير الزعيم هو كلام الرقابة والدحض، وهو كلام التبرير والإقناع من ناحية أخرى.
إنه كلام يستند إلى الحق ولكنه يغدو واجباً على الزعيم حيث يجب أن يكون مقنعاً. إن الكثير من مشاهد التلفزة في بعض دول الغرب تبرز الزعيم حين يعرض برنامجه الانتخابي أو أداءه بعد تبوئه سدة السلطة مقابل زعيم آخر منافس أو معارض له يتبادلان الدحض والإقناع لكليهما في آن معاً، وعلى الجمهور أن يكون الحكم على الكلام، مع أن الفارق بينهما أن الأول يستند إلى كلام مشفوع بالسلطة، في حين أن الآخر يدلي بالكلام إيذاناً بالوصول إلى السلطة حتى يتحول بعد كلامه إلى سلطة الكلام.
إن عملية الإقناع لا ترتكز على مضمون الكلام وحسب، وإنما يجب اقتران الاقناع بمزايا شكلية تسهم في عملية الإقناع، وهي ظهور الزعيم مظهر الواثق من نفسه لما سيقول أمام الجمهور، حيث يبرز جورج بوش في كثير من الأحيان يتقدم إلى المنبر بخطوات الواثق من نفسه في مشية معتمدة وذراعين منفصلتين قليلاً عن الجسد يتجه نحو المنبر بما لا يحوجه إلى الظهور بمظهر الارتباك، أو رئيس الحكومة البريطاني توني بلير حين يقف واضعاً ذراعاً عن على المنبر بانحناء والتواء جانبي للجسد والرأس فيما اليد الأخرى مسندة إلى وركه الخلفي، كدلالة على أنه سيد الكلام، حيث لا تدفعه مهابة المشهد إلى الارتباك، وإنما إلى الثقة الزائدة بأن ما سيقول ليس كلاماً فارغاً أو كلاماً يختزن في مضامينه بعض الخداع والزيف، لأنه كلام مشفوع باقتناعه هو نفسه قبل أن يجهد في إقناع الجمهور.
على هذا الأساس في مقاربة الحق وواجب الكلام يمكن الولوج إلى خطاب السيد نصر الله بوصفه كلاماً منطلقاً من زعيم ليس عليه واجب الكلام لمجرد أنه يفترض بالزعيم أن يكون متفوهاً، وإنما من خلال طبيعة الكلام نفسه بتحوله ليس إلى سلطة مفروضة الطاعة وإنما إلى سلطان على النفوس التي تنقاد إليه دون ارتباطه بموقع السلطة حيث يقتضي الكلام.
قد يسود الاعتقاد أن الإعلام المتلفز يعلب دوراً بارزاً في تحويل الزعيم إلى قائد كاريزمي لما لثقافة الصورة المقرونة بالعمل الدعائي المستخدم بأرقى ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من القدرة على التقديم والإيقاع المشفوعين بالإثارة والإضاءة والوقع الحثيث في إبراز أو تحويل وإنجاح الزعامة. ولكن في جانب آخر يلعب الإعلام نفسه دوراً في أفول زعماء آخرين لما يتمتع به من دور في تسليط الأضواء على جوانب الضعف والإخفاق أو حتى تحويل الإخفاقات المتواضعة إلى فشل جسيم يضع الزعيم على بساط النقد والتجريح وسرعان ما يؤدي إلى ضمور دوره لدى الجماعة أو ينتهي به إلى الأفول.
من هنا تقتضي المقاربة في تسليط الضوء على الكلام نفسه في خطاب السيد نصر الله عبر الأخذ بمستلزمات التحليل للكشف عن العناصر الملازمة التي تدفع الأفراد نحو التماهي والانقياد والطاعة للقائد نفسه.
شكل الكلام
لعل إحدى المزايا التي يتصف بها الكلام الخطابي للسيد نصر الله هو ذلك التناسق الجمالي لمقاطع ومفردات الخطاب الذي تتخذ فيه المقاومة موقعاً محورياً مهما تنوعت موضوعات المقاطع واختلفت، فهي تدور حول موضوعة المقاومة في نشوئها وأهدافها وآليات عملها وتصوراتها وعلاقاتها وهمومها ومستجدات المشكلات والتحديات التي تتعرض لها، والتي تتخذ لها مقاطع متنوعة تتحول بعدها الأجزاء إلى كل متناسق يشد الذهن نحو إدراك الموقف الكلي. في حين أن المقاطع تنطوي على مفردات تتداعى على لسان الخطيب بانسياب يراعي مقتضيات التدرج في حال الصعود والنزول في نبرة خطابية تنطلق على نحو من الهدوء الذي قد يطول أو يقصر، ولكنه يتصل بحلقة وسطى قصيرة يتحفز معها الموقف وتشتد الطاقة وتتكور فيتماهى معها السامع في انشداد وتحفز وانحباس للطاقة الانفعالية، لتليها نبرة كلامية عالية غالباً ما تحتوي على مترادفات متدفقة بانسجام جمالي وبوتيرة واحدة يتداخل فيها ارتفاع النبرة المعززة بحركة لليد اليمنى، وتعابير للوجه الذي يكشف عن حال التماهي بين الخطيب ومحتوى الكلام نفسه. ثم لينتقل التماهي من الخطيب إلى الحضور الذي ينتهي إلى تحرير الطاقة الانفعالية المتحفزة حالما يصل الخطيب إلى نهاية في أحد المقاطع الكلامية، والتي تتخذ لها تعبيراً مادياً تبرز خلاله صيحات التهليل والتكبير وارتفاع القبضات وترديد الهتافات في نغمة وحركة تكشف جماليتها المتناسقة عن الوقع السحري لكلام الخطيب ولحال التماهي مع الموقف.إن القيمة التي يرتديها الخطاب شكلاً تنطوي على كثير من الأهمية التي تسهل عملية الاتصال الإدراكي لمكونات الخطاب، حيث تفيد المقاربة، بالإستناد إلى ما انتهت إليه بعض النظريات في علم النفس -وهي مدرسة الجشتالت- التي تعتبر أن الإنسان يدرك الموقف الكلي انطلاقاً من الشكل وانطلاقاً من وظيفة الدماغ نحو التأمل والإدراك لمكوناتها. وحتى ولو كان ثمة ثغرة وجدت بحال عدم تناسق أجزاء الكل الموحد يعمد الدماغ إلى ترتيبها وتنسيق مكوناتها. فلو كانت ثمة نغمات موسيقية تسير على نحو الانسجام التام سيراً تواصلياً ولكن من دون الوصول نحو نهاياتها عبر انقطاع فجائي، يعمد الإنسان إلى إكمالها بتمتمات مكملة لذلك التناسق الجمالي في النغمات، وكلما كان الموقف الكلي متناسقاً، خالياً من الثغرات، كلما كانت عملية الإدراك تنطوي على السرعة واليسر.
فالموقف الكلي هو الخطاب المقاوم في المبدأ والمنطلقات، وفي التوليف بين تنوع موضوعاته التي تنتهي إلى المبدأ نفسه وهو المقاومة، بما لا يحوج الذهن معها إلى التشتت بين أكثر من موضوع كلي، أو في موضوع كلي واحد ولكنه متنافر بين مكوناته وأجزائه ما يجعل عملية الإدراك لا تخلو من بذل جهد كبير في سبيل إقفال الثغرة.
أما إيقاعات النبرة الخطابية المتماهية مع طبيعة الموقف في حدته وهدوئه حسب مقتضيات الحال، فهي تنم عن دراية كبيرة وبراعة فائقة في توظيف شكل الكلام نحو تعزيز حال الإدراك بالمضمون. وبهذا الأمر يكشف علم الدلالات أو الألسنية أن بنية الكلام ولو كانت واحدة إلا أن دلالاتها تتصل بجوانب شكلية أخرى، منها طريقة إخراج الكلام المنطوق أو إشفاعه بإيماءات الجسد. فلو دخل شخص على جماعة ما وألقى السلام بنبرة هادئة وآخر قام بالأمر نفسه ولكن بنبرة عالية مشفوعة بحواجب مقطبة وأسارير متجهمة لكان المدلول مختلفاً تماماً، مع أن الدال هو بنية الكلام المؤلف شكلاً من حروف السين واللام والألف والميم فثمة الكثير من الخطباء الذين تيسر لهم الظرف في الكلام ولكن دون أن تسعفهم مهاراتهم المتواضعة في الإلقاء، على تبيان ما تختزنه كلماتهم من مدلولات تتخطى أجزاءها ومكوناتها.
وعلى هذا الأساس من القدرة على مراعاة التدرج في إيقاع الخطاب، يمكن فهم غنى المدلولات التي يختزنها الكلام الخطابي للسيد نصر الله.
في مضمون الكلام
أ- الهوية والسلطةبالاستناد إلى الحقل السياسي، وإلى الرمزية الدينية للقائد في انتمائه إلى جماعة تشكل أحد المتفرعات الفقهية للدين، يمكن عقد مزاوجة بين خطاب الطائفة وخطابها السياسي الذي هو محور اهتمامنا. فخطاب الطائفة يعني كيفية إنتاجه في ميدان دورته الفقهية القائمة على عملية التبليغ والممارسة للشعائر الدينية والطقوس العبادية في ميادين الزواج، والوفاة، وتأدية الفروض اليومية انطلاقاً من الخصوصية الفقهية للطائفة.
أما الحقل السياسي، فيعني كيفية تمفصل هذا الخطاب مع الواقع، بما يتمتع به هذا الواقع من خصوصية، تتعدى الطائفة، بكونها تشكل إحدى المذاهب الإسلامية المتنوعة في فهم كيفية ممارسة الشعائر الدينية، إلى منشأ هذه الخصوصية العائدة بدورها إلى كون الطائفة تشكلت على قاعدة ما كان مطروحاً على صعيد السلطة، وممارسة الحكم منذ وفاة النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم.
فلقد كان شكل الحكم في الإسلام متفقاً عليه أثناء حياة النبي صلى الله عليه و آله وسلم لجهة الحاكمية التي شغلها هو بنفسه، وبعد وفاته طُرحت الاشكالية بين السنَّة والشيعة حول طبيعة النظام السياسي الاسلامي: الإمامة أم الخلافة. فالشيعة اعتبرت أن القيادة السياسية وإمرة المسلمين مستمدة من الإمامة الدينية والروحية القائمة بالوصية المنصوص عنها والمتناقلة في ذرية النبي صلى الله عليه و آله وسلم.
وانطلاقاً من مفهوم الشيعة في الحكم، يُشترط في الحاكم أن يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية، وأن يكون معصوماً عن الخطأ والزلل. وبعد غيبة آخر الأئمة الإمام المهدي المنتظر والمؤمل عودته حتى يقيم دولة الإمامة، طرحت الرؤى لدى الشيعة حول التعاطي مع مسألة الحكم والسلطة.
لقد تمثلت إحدى هذه الرؤى بعدم جواز قيام دولة إسلامية أثناء غياب الإمام لأن من يملأها هو مغتصب لحقه في الحكم، وأفضى ذلك إلى نشوء ميتولوجيا شيعية تستند إلى ثقافة جديدة، قوامها قعود المؤمنين وانتظار عودة الامام الثاني عشر لإقامة دولته. لكن هذه النظرية لم تلاق استحساناً من بعض الفقهاء الذين اقتربوا من مفهوم بديل يقوم على مبدأ ولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة، فجاءت هذه الصيغة الاجتهادية في الفقه الشيعي لتحل اشكالية التعاطي مع الحكم والسلطة في ظل غيبة الإمام المعصوم1.
وقد مثلت رؤية الفقيه الشيعي محمد حسن النائيني الذي انفرد بالمرجعية الشيعية عام 1920 إحدى هذه الرؤى، وعلى أساسها قاد الحركة الدستورية الايرانية التي سميت «المشروطة» والتي هدفت إلى تقييد السلطة المطلقة للحاكم الزمني.
ولقد وظف النائيني هذه الآلية في الحكم كي يشرعن حق ولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة كشأن سياسي وليس كشأن شرعي2.
وبهذا المعنى فلا تعود الأمة ترزح خارج الدولة، كما أنها ليست مدعوة لتشكيل حكومة إلهية دينية، بل حكومة مدنية عادلة تقوم على رقابة الأمة.
وبمقابل نظرية ولاية الأمة على نفسها، شكلت نظرية ولاية الفقيه التي صاغها الإمام الخميني، في صورتها الأخيرة، اللبنة الأساسية في العودة إلى طرح موضوع إقامة دولة الإمامة. وهي الدولة التي يقيمها الفقيه العادل، الذي يجمع في إصدار الفتاوى بين السياسي والديني. فإذا كانت مواقف النائيني جاءت لتؤدي إلى تكييف الأمة مع الواقع، إلا أن حكومة الفقيه التي طرحها الإمام الخميني أدت إلى إحداث تحول آخر للطائفة عن طريق إخراجها إلى المجال الإيديولوجي السياسي، انطلاقاً من الفقيه نفسه كنائب عن الإمام المعصوم، وكبديل عملي لإخراج الموقف التاريخي للشيعة القائم على نفي شرعية أي دولة لا تقوم على مبدأ الإمامة، إلى الحيز الفعلي الذي أخذ مجاله إلى التطبيق مع تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي ظل تلك الأجواء شكلت العودة لآراء المرجعية الدينية المتمثلة بالإمام الخميني، مرجعاًً آخر للطائفة يقوم على الالتزام بالولاء لزعامة جديدة هي زعامة الولي الفقيه، الذي يمارس دوره من خلال التحريض والتسديد والتذكير بالمسؤولية الشرعية، ويجد في الفقه الإسلامي ما يتخطى الدور التقليدي لهذا الفقه إلى المجال السياسي بعدما كان يرتبط لدى بعض رجال الدين بحدود المعاني العبادية والتشريعات الفردية البحتة.
فولاية الفقيه، وفق منظور الإمام الخميني ترى أن دور العلماء مماثل لدور الأنبياء والأئمة. وعملهم لا ينحصر فقط في بيان المسائل والأحكام بل يتعداها إلى وظيفة أخرى هي إقامة نظام اجتماعي عادل وتطبيق الأحكام والقوانين، وتنظيم الناس على أساس العلاقات الإسلامية. فالعلماء مكلَّفون ببيان الأحكام للناس وتطبيقها. والتطبيق يعني أخذ الزكاة والخمس وصرفهما في مصالح المسلمين ونشر العدالة بين أفراد البشر والحفاظ على أراضي المسلمين واستقلالها3
فولاية الفقيه على هذه الحال، تمثل الامتداد الطبيعي لولاية الإمام المعصوم. فالفقيه ينوب عنه في غيابه ويمارس ولايته، بمقتضى النص بعد المعصوم.
وبالاستناد إلى هذا الرأي، نجد أن الإمام الخميني أرسى زعامة جديدة من خلال خطاب ثوري ارتكز على الفقه الإسلامي وإحضار هذا الفقه في الكشف المكثف للواقع الإسلامي بأبعاده الداخلية والخارجية.
وتجسد هذا الخطاب عبر خط استنباط البعد السياسي في حركة المرجعية من البعد الفقهي الذي تتكرس من خلاله زعامة الفقيه. هذا الفقيه يمتلك بدوره استعدادات ذاتية وموضوعية للاجتهاد، تقوم على غزارة العلم كمقدمة لاستنباط الفتوى، وعلى البعد المسلكي المحدَّد بصفات الورع و التقوى والعدالة4.
هذه الزعامة هي التي سيعود إليها المؤمنون في الاسترشاد الديني والسياسي من منطلق الطاعة والالتزام بالتكليف الشرعي5. سيعود إليها أيضاً رجال الدين الذين لم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد في الدين، فيتحدد دورهم بنقل توجيهات وفتاوى الولي الفقيه، وبذل الجهد في تبيان أحكام الإسلام والابتعاد بأنفسهم عن المتلبسين بلباس رجال الدين المتملقين للطغاة الذين يستغلون المكانة المعنوية لعلماء الإسلام6.
إن هذا الدور، الذي رسمه الإمام الخميني للمرجعية الدينية، وجد طريقه إلى الممارسة الفعلية لزعامة الولي الفقيه في إيران وخارجها. ففي لبنان بدأت أولى تباشير إعلان الولاء لهذه الزعامة مع الإعلان عن استمرار العمل المقاوم ضد إسرائيل قبل تشكيل حزب الله. ثم ما لبث الحزب أن أعلن عن تأكيد هذا الولاء لزعامة الولي الفقيه في الرسالة المفتوحة التي وجهها عام 1985، والتي أعلن فيها الالتزام بأوامر الولي الفقيه كقيادة واحدة وحكيمة وجامعة للشرائط وتتجسد بالإمام الخميني7.
وبعد وفاة الإمام الخميني حرص حزب الله على إعلان ولائه للولي الفقيه الجديد الإمام علي الخامنئي، لأنه وجده الأقدر بعد الإمام الخميني على إعطاء الرأي والفتوى لكل الحركات الإسلامية والجهادية ومدركاً لساحات الجهاد ولخوض معركة التحدي ضد الاستكبار وأدواته8 .
من ناحية أخرى فإن الدور المحوري الذي تلعبه هذه الزعامة يتجلى في الطاعة المطلقة والالتزام بالأوامر والنواهي الصادرة عنها.
ولا بد لهذا المفهوم في الطاعة للفقيه كي يكون متحققاً لدى الأفراد من نقله إلى وعيهم، فبدون ذلك يبقى دور زعامة الفقيه مقتصراً على أبعاده النظرية أو بالكاد يتسرب إلى قناعات بعض النخب من رجال الدين الذين تيسر لهم الاطلاع أو التعمق في الثقافة الإسلامية من خلال دراستهم في الحوزات الدينية.
لقد تم ذلك من خلال حلقات التبليغ التي كان يحييها رجال الدين في المساجد على مدى أعوام عديدة، حيث كان عليهم شرح نظرية ولاية الفقيه التي نادى بها الإمام الخميني.
ومن جهة أخرى، استند حزب الله في تعبئة عموم أفراد الطائفة حول الزعامة والولاء للفقيه، على المناسبات العامة. فجرى الربط بين الإمام الحسين، المثال الأعلى والرمز، و القائد الفقيه العادل، جاعلاً طاعته بمثابة طاعة مستمدة من قدسية الأولياء والأئمة العظام9.
فالولاء للقائد يتوحد أيضاً بالولاء للامام الشهيد أو لسيد الشهداء الإمام الحسين. ولذا ينسب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في إحدى خطاباته إلى الإمام الخميني الراحل صفات الولي، ويعتبره سليل النبي محمد الذي يجسد الصلة مع الإمام الحسين، ومع الأنبياء، وبأنه لم يكتف بتقديم النظرية في الحكم، بل برهن عن ذلك في ساحات الجهاد والثورة، وحين طرح إطاراً واسعاً لمواجهة الظلم والاحتلال، وهو إطار المظلومين والمستضعفين والجائعين والحفاة. لذلك فالمعركة يجب أن تخاض في الدائرة الأوسع والأكبر من العشيرة والحزب والطائفة، معركة الدفاع عن الإنسان وكرامته، وأرضه المغتصبة ودماء نسائه وأطفاله، المسفوكة ظلماً وعدواناً10
هذا الربط بين الرمز الشهيد والولي الفقيه، لم يكن ليقتصر على المناسبات التي تتعلق بانتصار الثورة أو الذكرى السنوية لرحيل الإمام الخميني، وإنما غدا ضرورة يجب تأكيدها في كل مناسبة، إذ ينبغي على الخطيب قبل البدء بالحديث عن موضوع المناسبة الافتتاح بعد الصلاة على النبي والأئمة الاثني عشر، بإرسال التحية أمام الجموع المحتشدة إلى الولي الفقيه، وتجديد البيعة والبقاء على العهد في طاعته والتزام أوامره.
وليس من شك أن هذا الأسلوب في التعبئة لا يعزز أهمية القائد في الجانب العبادي والشعائري فحسب، وإنما يعزز أهمية وشرعية وسلطة القائد في كل زمان ومكان، فتخرج هذه السلطة "الإلهية" من التاريخ، وتتصل بالحاضر، لتجسد الأمل والوعد الإلهي بالانتصار للمستضعفين والمقهورين، الذي يمثله الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر11. والاتصال بالحاضر هو أن يعمل الإنسان بمسؤولياته الشرعية الملقاة على عاتقه، من قضاء حوائج المحتاجين، ودفع الظلم عنهم، ومحاربة الطواغيت، ونشر العدل، ولا يكون ذلك إلا بالولاء والطاعة لنائبه الولي الفقيه12 . ولذا فإن الخطاب التعبوي في ربطه بين طاعة القائد الفقيه، وبين الأئمة، مع الأمل في تجسيد الوعد الإلهي بالنصر، شكل أحد مرتكزات الخطاب في التغيير، وفي لعب دور الاستقطاب. فالالتزام بقيادة الفقيه أصبح يشكل من الناحية العملية أحد متممات الفهم الشيعي المستمد من الأصول المرجعية للطائفة، وعنصراً من عناصر القوة لدى الحزب، ومدخلاً للتماسك الحديدي لدى الأفراد المنخرطين في صفوفه، ولدى الجماعات المنتمية المؤيدة لمشروعه الجهادي.
وعلى هذا الأساس، يكون حزب الله قد أخرج الاعتقاد والولاء للفقيه من خطابه "النظري" إلى حيز الواقع التنظيمي، فأصبح أمر الطاعة للولي القائد أمراً عبادياً وتكليفاً شرعياً يأخذ طريقه نحو الانتشار بين أبناء الطائفة، ويؤدي إلى إحداث التماهي بين القائد وبين "الجماعة"، لكونه يجسِّد المثال الأعلى والنموذج الذي يستطيع تحقيق حلم الجماعة، بما يمتلك من خصائص مادية، ونفسية، ونسب نبيل. فهو ليس شخصاً عادياً تفوض إليه الجماعة أمرها، بل هو الأقدر على إدارة أمورها، وهو صاحب السلطة والوازع الذي ينبغي على جميع الأعضاء الدخول في طاعته وتسليم أمر الولاية له.
انطلاقاً من هذا الدور للولي الفقيه وفق نظرية الإمام الخميني، وعلى قاعدة الولاء المعلن من حزب الله للولي الفقيه13 في الاسترشاد الديني والسياسي يتضح أن هذا الولاء تتحدد وظيفته الاستنهاضية في محاربة الاحتلال الصهيوني ومحاربة الاستكبار أكثر مما تتحدد في ضرورة الاضطلاع بتشكيل دولة الإمام. ذلك أن الإمام الخميني كان قد أدخل عاملي الزمان والمكان في حيز الاستنباط الفقهي، ما يعني أن الفقه الشيعي وفق هذه النظرة مفتوح على مقتضيات الواقع التي استفادها حزب الله بالتكيف مع الواقع. فهو إذ لا يتنكر للدعوة إلى إقامة حكم إسلامي في الرسالة المفتوحة ولكنها مقرونة باختيار اللبنانيين، وهو ما يصح على بقية أرجاء العالم الإسلامي.
وبالاستناد إلى الكلام الخطابي للسيد نصر الله فإن هذا الخطاب يخلو من الدعوة إلى دولة الإمامة كبديل راهن في العالم الإسلامي بقدر ما يدعو إلى الوحدة الإسلامية في مقام الأخوة بين المؤمنين وفي مقام الاستنهاض بمواجهة الاستكبار العالمي.
ففي عشية دخول الجيش الأميركي إلى العراق كانت ثمة دعوة صريحة من السيد نصر الله لعقد طائف عراقي تدخل فيه مكونات الشعب العراقي وأطيافه السياسية وبينها حزب البعث الذي تزعمه صدام حسين إيذاناً منها بتوحيد الطاقات ورأب الصدع في المجتمع استعداداً للمواجهة.
وفي مخاطبته الحكام العرب عشية عدوان تموز 2006 على لبنان ليس ثمة نزع للشرعية عن هؤلاء الحكام تحت طائلة عدم المشروعية المستندة إلى الرؤية الفقهية، بقدر ما هي دعوة للاضطلاع بمسؤولياتهم تجاه الأمة جراء التهديد الصهيوني وانغماسهم في دائرة الإذعان للغرب بمعزل عن إرادة شعوبهم وحريتها في التعبير عن تقديم تجربتها في ميدان ما تتعرض له الأمة وهو ما يتفق مع مقتضيات الاستنهاض. وأما فيما يتصل بلبنان، فثمة ركون في خطاب السيد نصر الله إلى المعطيات الاجتماعية والتاريخية للاجتماع الأهلي اللبناني، فليس ثمة دعوة جراء أزمة الواقع السياسي إلى الارتفاع بهذا الواقع نحو إقامة دولة الإمامة كإحدى التعبيرات للخروج من الأزمة الناشئة بفعل الانقسام الطوائفي. فما يدعو إليه الكلام الخطابي للسيد نصر الله هو التطلع نحو عقد شراكة في السلطة التي تحيل إلى المساواة في المواطنية وعدم الاستثار أو الإلغاء13 دون أن يحيل ذلك إلى إعادة الإنتاج التاريخي لاختلالات النظام السياسي اللبناني بل ليضع المداميك من أجل إقامة الدولة الفعلية القوية والعادلة التي عبر عنها السيد نصر الله أثناء طرحه لاستراتيجية المقاومة.
وبالتأكيد فإن ثمة نقاشاً مفتوحاً بين مكونات الشعب اللبناني حول ماهية وكيفية العبور نحو هذه الدولة التي تؤسس لمواطنية مشتركة، ولدولة غير منقسمة على نفسها، يجتمع أفرادها لرسم السياسات العامة وتنفيذها بمعزل عن نفوذ الطوائف، وتنظم عملية التنافس السياسي بعد أن ترسم الإطار الكلي للمواطنين، تنكفئ فيها الطائفية السياسية دون الشعور بالغبن جراء الطغيان العددي لطائفة ما بوضع أسس دستورية ترسم معالم الطريق نحو بنائها، ودون أن تتحرك المعارضة أو أركان السلطة انطلاقاً من الشعور الطائفي، وإخراج مقولة السيادة من بعدها النظري إلى البعد العملي بعد حسم هوية لبنان ووظيفته في محيطه الإقليمي.
الخطاب والهوية
ترتبط الهوية القومية في أحد جوانبها بغاية استكشاف التجانس والتشارك بين أفراد الشعب أو الجماعات التي تسمى أمة. ولكن ثمة غرض آخر يتصل بغايات أخرى تنطوي على تنوعات مختلفة بينها ما تشكله الهوية الجامعة من تظهير لمكونات شعورية نفسيه تختزن في منطوياتها إحساساً بالمنعة والقوة للذات الجماعية أو جماعة "النحن" التي تشكل أمة بإزاء أخرى تتغاير معها شرط أن تعبر المغايرة عن تصور الفروق مع الآخر المختلف لترسم الحدود معه وتضع ملامح الالتقاء والاختلاف.ولا تستطيع الآمة تحديد موقعها من الآخر ما لم تستولد عناصر التشارك والتجانس فيما بينها، وإلا فهي معرضة للتصدع والانقسام على نفسها ويؤدي ذلك إلى إضعافها وتوهينها.
لذلك، فإن شرط المغايرة هو تحديد الذات بما تقدم عليه من مرتكزات أولاً، من ثم تحديد من هو الآخر المختلف في ذات مغايرة.
في حين أن تحديد مرتكزات الذات استند لدى الشعوب إلى تصورات اختلفت باختلاف أدوات التفكير لدى نخبها ومفكريها. فأحياناً نجدها ترتكز على السلالة أو على الدين أو اللغة أو على ما يشدها إلى تاريخ مشترك أو إرادة في العيش في حاضرها ومستقبلها. إن اختلاف أدوات التفكير يساهم في كثير من الأحيان في إعاقة الاتفاق على تحديدات نهائية للهوية القومية وإرسائها على مكونات صلبة تحظى بقبول تام. أو بتعبير آخر، فما يعد مرتكزاً صلباً لدى بعض المفكرين يمكن أن يكون مرتكزاً مائعاً لدى آخرين لا سيما إن كان الأمر يرتبط بغايات سياسية هادفة إلى تحقق الهوية القومية في إطار دولتي قوامه المدى الجغرافي للدولة، ونطاق ممارسة السلطة المنبثقة من الأمة نفسها دون سواها. لقد أدى هذا الاختلاف وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط - ومنها لبنان- إلى تعدد الرؤى حول الهوية القومية، فثمة هويات يتسع مداها ويضمر بحسب روادها، فمثالاً نجد جمال الدين الأفغاني نادوا بجامعة إسلامية تصهر شعوب العالم الإسلامي في بوتقتها في حين أن دعاة القومية العربية نادى بأمة عربية في وطن عربي لارتكازها على مبدأ اللغة بينما نادى القوميون السوريون بأمة سورية في وطن سوري حدوده منطقة الهلال الخصيب ليضمر هذا التحديد لدى دعاة الكيانية اللبنانية إلى لبنان الوطن المسيحي ولبنان بحدوده الحالية.
إزاء هذه التحديدات لمفهوم الهوية القومية برزت تعارضات بين دعاة القومية في العالم العربي والإسلامي حيث وجد الإسلاميون لدى دعاة القومية العربية سبيلاً مانعاً من تحقق الوحدة الجغرافية لأقطار العالم الإسلامي ومن عودة دولة الخلافة التي كانت قد جمعت ووحّدت فيما مضى كافة المكونات والشرائح الإثنية واللغوية، فيما وجد دعاة العروبة في الهوية القومية الإسلامية استيعاداً لمكونات وشرائح تقوم على أساس ديني. ولم يخرج لبنان عن دائرة الجدل مع دعاة الكيانية التي تفصل لبنان عن محيطه العربي أو الإسلامي ومنع إقامة وحدة اندماجية تقوم على أساس العروبة أو الإسلام. وبالعودة إلى الكلام الخطابي للسيد نصر الله فغالباً ما يتم الاستناد إلى مفردة "الأمة الإسلامية" وأحياناً "العالم العربي الإسلامي" ما يعني أن دلالات الاستخدام يتم فيها تغييب التنظير الأيديولوجي لأن الخطاب ليس خطاباً في الإيديولوجيا وإنما هو خطاب استنهاض قوامه الانطلاق من التشارك في الانتماء إلى البعد الاعتقادي المتمثل بالإسلام وتحفيز الشعور المشترك في سبيل القضية الصراعية مع إسرائيل والغرب، وكذلك فهو لا يقوم على أساس القطيعة بين العروبة والإسلام وجعل أحدهما بمواجهة الآخر، وإنما يترك المجال أما الخصوصيات لتعبر عن نفسها كما هي لدى التبرير الفكري والإيديولوجي. فهو ليس خطاباً دعوياً نحو الاندماج الجغرافي والسياسي، كما أنه لا يقوم على دحض الدعوات المتواجهة في محددات الهوية، بقدر ما هو دعوة لتثميرها وتوظيفها في معركة مشتركة. ذلك أن الدخول في معترك التحديدات الإيديولوجية للهوية قد يحيل إلى كيفية تثمير هذه الانتماء في حقل السلطة، التي يقف منها الخطاب موقفاً آخر.
على هذا الأساس، ومع غياب الاستخدام الإيديولوجي، فلا يعد الخطاب كلاماً خاصاً، وإنما هو مفتوح على النحو العام الذي يفسح للمنطلقات الإيديولوجية المجال أن تجد فيه مساحات مشتركة للتكيف معه على أساس انه خطاب استنهاض عام وليس خطاباً خاصاً.
وعلى هذا النحو من العموم، تصبح الطائفة جزءاً من هذا المكون العام باعتبارها تشكل أحد عناصره المتوالفة مع العروبة والإسلام سواء على مستوى الانتماء أو على مستوى تثمير وتسويغ هذا الانتماء في سبيل القضية الصراعية.
أما فيما يتصل بتمفصل العروبة والإسلام مع الواقع اللبناني فإن في الخطاب مجال للقول إنه ثمة تحديد لهوية يتشارك فيها اللبنانيون تقوم على أساس المواطنة قبل أي شيء آخر، والتي ينبغي لها أن تتكامل في وظيفتها مع الدور الاستنهاضي العام في موقعيته العروبية والإسلامية، دون المساس بالخصوصيات التكوينية للمجتمع اللبناني.
ففي الخطاب الموجه إلى اللبنانيين يجري الركون إلى استخدام مفردة الشركاء في الوطن إذ ثمة خصوصيات وثمة وطن محدد ببقعة جغرافية يتم تحديدها بالإشارة الصريحة جبلاً وبقاعاً وجنوباً وشمالاً14
وهي مناطق لطالما جرى الجدل حولها حين ضمت إلى الجبل غداة إعلان لبنان الكبير عام 1920 ما يعني أن للكيان اللبناني حضوراً في الخطاب ولكنه حضور لا يحيل إلى خصوصية وسطية تقوم على أن الكيان يقوم على أساس توليف حضاري يحيل إلى ثنائية انتمائية تتمثل في الانشداد نحو الغرب والشرق في آن معاً كما جرى غداة عام 1943 (ذو وجه عربي).
إذاً فثمة هوية تقوم على أساس التنوع في إطار الوحدة، أي الوحدة الانتمائية المتحددة بإطار التشارك أو الناتجة عن عقد اجتماعي إرادي للعيش معاً في إطار جغرافي. ولكنه إطار ينبغي له الحضور إزاء ما يهدد مرتكزاته الوجودية المتمثلة بالعدوان الإسرائيلي سواء تمظهر هذا التهديد بالعدوان اليومي على لبنان في سمائه وأرضه، أو من خلال السعي إلى فرط عقد الشراكة بين مكوناته لكي يعاد ترتيبها على النحو الذي يخدم المشروع الصهيوني والأميركي في تفتيت المنطقة ليسهل ابتلاعها. ولعل أكثر ما يؤكد على هذه الدلالة هو تساوق الخطاب مع طرح الإستراتيجية الدفاعية التي تقوم على الدور التكاملي بين الدولة والمقاومة، والمقرونة الارتباط بدوام التهديد الإسرائيلي للبنان.
الخطاب واتجاهات السلوك
وهو من الدلالات المتضمنة في الكلام الخطابي للسيد نصر الله والتي تنطلق من التعزيز للميول السائدة لدى الأفراد فضلاً عن تكوينها لدى آخرين ممن لم يتضح لهم الميل نحو تأييد الفعل المقاوم.ولكن بداية نود تحديد هذا المفهوم لإزالة الالتباس الذي يمكن أن ينشأ حوله. فإحدى تحديدات الميل هو أنه حب الفرد لنشاط معين، ورضاه عنه، وتركيز ذهنه فيه، والاستعداد إلى بذله أقصى مجهود فيه، والاستمرار فيه أطول وقت ممكن. ويعرف الميل "بأنه النزعة السلوكية العامة للفرد نحو الانجذاب إلى مجموعة معينة من أنواع النشاط" ، وتعني كلمة الانجذاب "أن الفرد يهتم بشيء له قيمة بالنسبة إليه أو يبحث عنه أو يتجه إليه أو يكافح للحصول عليه"15.
ومن هنا، فإن المقاربة تقتضي الوقوف على الكيفية التي غدا فيها الفعل المقاوم نزعة سلوكية لدى غالبية الأفراد والشرائح على مستوى الأمة، تنشدُّ إليه، ويحظى بتأييدها.
قد يسود الاعتقاد بأن الميل إلى الرضا عن الفعل المقاوم ناشئ عن فراغ، باعتبار أن الفرد يكتسب معظم ميوله واتجاهاته وقيمه ومثله العليا من المجتمع الذي يعيش فيه أو بالأحرى نتيجة التفاعل بينه وبين هذا المجتمع، وذلك من خلال ما يمر به الفرد من خبرات ومواقف منذ طفولته المبكرة، ولا تقتصر علاقة الفرد بالمجتمع على مجرد اكتساب الاتجاهات والقيم بل أن المجتمع هو الذي يحدد للفرد الدور الذي يقوم به.
وبطبيعة الحال، فإن ما هو سائد في المجتمع العربي لا يوحي على الإطلاق بأن هذه المجتمعات عبر أطرها التربوية الناتجة عن السياسات التربوية التي تضعها الدولة، تؤكد على تكوين الاتجاه فيما يتصل بالفعل المقاوم. ذلك أن هذه المجتمعات تنشد سيادتها على نفسها ودوام استقرارها والمضي في عقلنة الصراع مع العدو الإسرائيلي عبر مشاريع الحلول الاستسلامية. ولكن واقع الحال يكشف أن الخطاب المقاوم للسيد نصر الله ينطلق من أن ثمة اتجاهات وميولاً تتصل بالاتجاه نحو تأيد الفعل المقاوم وهي تستوجب التعزيز للتحول نحو الفعل الاستنهاضي.
فحين تفصح بعض مضامين الخطاب عن اتصالها بموضوعة القيم السائدة، وعما يختلج في الوجدان الجمعي المعادي بطبيعته للمشروع الصهيوني، فهي تعيد الاتصال بمخزون الذاكرة الجمعية وبالوعي الجمعي وتعمل على تنشيطها وتحفيزها حيث يجري التركيز في الخطاب على البعد الإيماني كمنطلق أي الإيمان بالله الحاضر دوماً في الوعي والوجدان لدى هذه الشعوب، وكذلك في عدم إغفال منطلقاتها الإسلامية على أنها منطلقات عامة تخص جميع المسلمين بل تعمل بموجب التعاليم الدينية الناشئة عن الإسلام للسعي نحو الحرية والعدالة ورفض الانصياع للظلم. وبذلك تصبح المقاومة بمنطلقاتها الإسلامية محمَّلة بشعار حضاري يدفع نحو الالتفاف حوله، إذ لا يصح للأفراد الانضواء في عناوين تغييرية حضارية لا تنتمي لها ولا تعبر عن انتماءاتها.
لقد غاب الشعار الحضاري المتمثل بالإسلام عن النخبة العربية الحاكمة أثناء خوضها للصراع، ولكن رغم هذا الغياب فقد استحوذت الطروحات القومية على تأييد الشعوب العربية لا لتعاطفها مع المشروع القومي الوحدوي الذي يجد في إسرائيل مانعاً وجودياً من تحقيق هذه الوحدة باحتلالها بلداً عربياً وتهديد أقطار عربية أخرى، لكنها في تأييدها هذا لم يغب عن وعيها أن ثمة مشروعاً صهيونياً يقوم على أبعاد دينية، لشعب الله المختار في نزوعه لتشكيل دولته من الفرات إلى النيل، وهو ما تقدمه هتافات التنديد بالعدوان الإسرائيلي في الحروب السابقة لاجتياح عام 1982 معلنة التعبئة والدعوة إلى فتح باب الجهاد لتحرير المقدسات.
وعلى هذا النحو، فإنها تجد في الكلام الخطابي للسيد نصر الله ما يعيد الاتصال بالوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية والذي ظل قاصراً عن تقديم تجربته في المراحل السابقة بسب اضطلاع الأنظمة بهذا الدور الصراعي. وحين تشكلت المقاومة الفلسطينية مالت هذه الشعوب نحو دعمها وتأييدها بعدما وجدت فيها نموذجاً مقاوماً يختلف عما خبرته من نظمها التي تراجعت على يدها القضية الصراعية بعدما دارت في فلك المداولات الدولية. غير أن هذا الوعي الذي اتجه نحو المقاومة الفلسطينية سرعان ما بدأ يتجه نحو الانحدار بفعل التصورات العلمانية للمنظمة التي وجدت فيها ما يتيح إقامة دولة تعايشية بين المكونات الدينية في فلسطين ومن ثم إقامة دولة على بعض أجزاء الأراضي الفلسطينية وعاصمتها القدس ولكن من دون أن تحظى بمقبولية العدو الإسرائيلي.
ومع هذه الإخفاقات وجدت هذه الشعوب في خطاب المقاومة نموذجاً متضمناً لعناصر ثقافية ليست غريبة عن مزاجها التكويني العام تتمثل عناصره في مفردات مركزية تمثل حقلاً دلالياً متوالفاً لا يغيب عنه. فمن الابتداء بالبسملة والحمد والصلاة على النبي الأكرم التي لا تفارق خطاب السيد نصر الله، إلى الإفصاح دوماً عن هوية المقاومة ومنطلقاتها المتمثلة بالإسلام، ومن ثم إقران الفعل المقاوم بالجهاد والاستشهاد المعزز بآيات قرآنية تحضّ المؤمنين على النهوض في سبيل الدفاع عن المقدسات وذم القاعدين والمتقاعسين. وهي مفردات تتمثل دلالاتها بإعادة التذكير بها، ويسهل إدراك ما تحمله من معان لاقترانها بالوعي الجماعي لهذه الشعوب التي تعيد استحضارها في مواجهة الموقف الصراعي الذي يهدد مقدساتها ومرتكزاتها الوجودية المتمثلة بهويتها الحضارية.
تكوين الاتجاه
ثمة دلالات أخرى متجاوزة لتعزيز الاتجاه لدى الأفراد في الكلام الخطابي للمقاومة من شأنها الدفع في تكوين الاتجاه والميل إلىالانجذاب إلى الفعل المقاوم وقيادته، ذلك أن مفردات الكلام من شأنها تحريك هذه النزعة السلوكية لإفصاح دلالاتها عن معانٍ ترضي في الأفراد مشاعر سارة، كما ترضي دوافع أخرى قوامها الارتفاع بالشعور بالنقص المتشكل على مدى عقود من الزمن بسبب سلسلة الإخفاقات الناتجة عن الصراع مع العدو الإسرائيلي.
فالوعي الجماعي لدى الأمة كان ما زال يتحرك على أساس الشعور بهذا النقص الناتج عن انعدام حال التوازن مع العدو والذي كان يدفع دوماً إلى التفتيش عن كل الممكنات التي تؤدي إلى تحويله نحو الشعور بالاقتدار، وإلا ما كانت هذه الشعوب لتخفي مشاعر العداء للمشروع الصهيوني رغم انتصاراته على مدى عقود مضت.
في حين أن وقع الكلمات في خطاب السيد نصر الله يحمل كل ممكنات هذا التحويل نحو الشعور بالاقتدار "لامجال للخوف لا مجال للتراجع، إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" وتتناهى إلى الأسماع من قيادة المقاومة وهي مقرونة بالفعل المقاوم الذي سرعان ما يثير مشاعر سارة في نجاحاته الممتدة من العمليات الحاصلة قبل التحرير والتي انتهت إلى تحقيق التحرير عام 2000 ثم الانتصار في حرب تموز عام 2006 والتي ندر لمقاومة عربية أن خاضتها على هذا النحو من الصمود والعناد على إحراز النجاح.
فالخطاب هو خطاب النجاح وإحراز النصر، إذ للشجاعة وللتصميم فيه محل يبرز أشد وضوحاً وجلاء من خطابات الهزيمة والاستسلام الذي يثير مشاعر مؤلمة وغير سارة باعتبارها متواصلة مع الإحباطات السابقة. إنه ليس كلاماً سياسياً ولكنه كلام في السياسة التي تعبر عن إستراتيجية المقاومة، باعتبار أن في الكلام السياسي مضامين قد تختزن أشكالاً من الزيف والخداع لتسويغ المشروع السياسي للاستحواذ على السلطة والذي سرعان ما يتبدد حين الاستئثار بها.
لقد خبرت الشعوب العربية تجارب خطابية في التنمية والديمقراطية والتحرير كانت تثير فيها مشاعر سارة لوقت ما قبل أن تكتشف مدى صدق تلك الوعود أو عدمها. في حين نجد في الخطاب المقاوم مفردات تقرن المثابرة والتصميم بالوعد بالنصر "أنا أعدكم بالنصر" الذي لا يجد دلالاته في نتائج عدوان تموز عام 2006 بقدر ما يجدها في تجربة المقاومة على مدى عقدين من الزمن. فهو كلام يحمل القابلية على الاستهواء وسرعة التصديق والتقبل لأنه صادر عن شخصية تقرن القول بالفعل ومن دون مواربة وانحراف في اتجاه المقاومة حتى في أشد الظروف صعوبة ومرارة.
كما أن دلالاته ليست ناتجة عن الرغبة في الشحن الانفعالي وتحريك الغرائز بقدر ما هي ناتجة عن تبريرات منطقية تخاطب الوعي والعقل العملي للأفراد حيث تفصح هذه التبريرات عن الكشف عن ممكنات النصر بالاعتماد على الوعد الإلهي "إننا نعتمد على الله" كدلالة على تماهي القيادة مع منطلقاتها الإيمانية المستمدة عن القرآن الكريم وهي ناتجة من فعل التجربة "كما هزمناكم في عام 2000 سنهزمكم إن شاء الله" وفي الركون إلى ممكنات القوة " لقد كنا أقل قوة قبل عام 2000 وها نحن أكثر قوة واستعداداً " وهو كلام صدق لمن يصدر عنه مع نفسه قبل أن يقدم للآخرين مشفوعاً بالتجربة والبرهان.
على هذا النحو، فإن الكلام يقدم تلك الدلالات التي من شأنها الولوج إلى تكوين الاتجاه والميل والانجذاب إلى الخطاب المقاوم كمثال يحتذى في حلّ معضلة الصراع مع العدو الصهيوني، باعتباره فعل مبادرة واقتدار وليس فعل مغامرة وانهزام.
المصادر:
1- محمد جمال باروت، يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة، دار رياض الريس، بيروت 1994، ص 65.
2- محمد حسن النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملَّة، الغدير، العددان 12ـ 13، المجلد الثاني، القسم الثاني، آذار 1991، ص 110.
3- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، مركز بقية الله الأعظم، بيروت 1998، ص 107.
4- الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، الجزء الأول، سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيروت، 1997، ص 7.
5- الإمام الخميني، الكلمات القصار، الوحدة الثقافية لحزب الله ـ بيروت، 1992، ص 59.
6- عادل رؤوف، الإمام الخميني رجل القرن الحادي والعشرين، دار الحق، بيروت 1998، ص 117.
7- حزب الله، الكتاب السنوي، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، بيروت 1994، ص 56.
8- حزب الله، الكتاب السنوي 1994، مصدر سابق، ص 56.
9- د. محسن صالح، وعباس مزنر، صورة المقاومة في الإعلام، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 2001، ص 127.
10- السيد حسن نصر الله، فصل الخطاب، دار الثقافة الإسلامية، بيروت 1998، ص 37.
11- د. محمد محسن، وعباس مزنر، صورة المقاومة في الإعلام، مصدر سابق، ص 128.
12- السيد حسن نصر الله، فصل الخطاب، مصدر سابق، ص 34.
13- راجع خطاب السيد نصر الله منذ 2005- 2006
14- من خطاب للسيد حسن نصر الله خلال حرب تموز 2006.
15- د. معن خليل عمر، نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، دار الافاق الجديدة، بغداد 1993، ص 176.