نرى أنّ المانعین عن التوسّل بدعاء النبی فی حیاته البرزخیة یتلوّنون فی الاستدلال، فتارة ینفون حیاة النبی بعد الموت وأُخرى ینفون إمکان الاتصال وثالثة یدعون لغویة هذا العمل، ونعوذ بالله من قولهم الرابع إذ یعدّون العمل شرکاً وعبادة للرسول، أمّا الثلاث الأُول فقد ظهرت حالها، وأمّا الشرک فلا یدرى کیف یوصف به، مع أنّ هذا عمل واحد یُطلَب فی حیاة النبی ویُطلَب بعد انتقاله إلى الرفیق الأعلى أفیمکن أن یکون شیء واحد توحیداً فی حالة وشرکاً فی أُخرى؟ مع أنّه لا یسأل الرسولُ بما أنّه إله، أو ربّ أو بیده مصیر الداعی، وإنّما یسأله بما أنّه عبد صالح ذو نفس طاهرة وکریمة وهو أفضل الخلائق وأحد الأمانین فی الأرض یستجاب دعاؤه ولا یرد.
التوسّل بالأنبیاء والصالحین أنفسهم :
هناک قسم آخر من التوسّل وهو التوسّل بذوات الأنبیاء والصالحین وجعلهم وسیلة لاستجابة الدعاء، والتنویه بما لهم من المقام والمنزلة عند الله سبحانه، وهذا غیر القسم الخامس، ففی القسم الماضی کنّا نتوسّل بدعاء النبی ونجعل دعاءه وسیلة إلى الرب وفی هذا القسم نجعل نفس الرسول وکرامته عند الله وسیلة إلى الرب.
ومن الإمعان فی القسم السابق یُعرف مفهوم هذا التوسّل لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة، ونفس کریمة، وشخصیة مثالیة وأفضل الخلائق، ففی الحقیقة لیس الدعاء بما هو دعاء، وسیلة، وإنّما الوسیلة هی الدعاء النابع عن تلک الشخصیة الإلهیة التی کرّمها الله وعظّمها ورفع مقامها وذِکراها وقال: (وَرَفَعْنَا لَکَ ذِکْرَکَ ) (1).
وأمر المسلمین بتکریمه وتعزیره حیث قال: ( فالّذین آمنوا به وعزَّروهُ ونصروهُ واتَّبعوا النور الذی أنزل معه أُولئک هم المفلحون) (2) فقوله { عزَّروه } بمعنى أکرموه.
فإذا کان رصید استجابة الدعاء هو شخصیته الفذّة المثالیة، ومنزلته عند الله فالأولى أن یتوسّل بها الإنسان کما یتوسّل بدعائه، فمن اعترف بجواز الأوّل ومنع الثانی فقد فرّق بین أمرین متلازمین، وما دعاهم إلى التفریق بینهما إلاّ صیانة لمعتقدهم.
وبدورنا نغض النظر عن هذا الدلیل ونذکر ما ورد فی السنّة النبویة مرویاً عن طریق صحیح أقرّ به الأقطاب من أهل الحدیث.
• توسلّ الضریر بنبیّ الرحمة :
عن عثمان بن حنیف أنّه قال: إنّ رجلا ضریراً أتى النبی فقال: أُدعُ الله أن یعافینی فقال (صلى الله علیه وآله وسلم): إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهو خیر.قال: فادعه قال: فأمره أن یتوضّأ فیُحسن وضوءه ویصلّی رکعتین ویدعو بهذا الدعاء: " اللّهمّ إنّی أسألک وأتوجّه الیک بنبیّک محمّد نبی الرحمة، یا محمد إنّی أتوجه بک إلى ربّی فی حاجتی لتُقضى، اللّهمّ شفّعه فیَّ ".
قال ابن حنیف: " فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحدیث حتى دخل علینا کأن لم یکن به ضرّ "(3).
إنّ الاستدلال بالروایة مبنی على صحّتها سنداً وتمامیة دلالتها مضموناً.
أمّا الأوّل: فلم یناقش فی صحّتها إلاّ الجاهل بعلم الرجال، حتى أنّ ابن تیمیة قال: قد روى الترمذی حدیثاً صحیحاً عن النبی أنّه علّم رجلا أن یدعو فیقول: اللّهمّ إنّی أسألک وأتوجّه إلیک بنبیّک. وروى النسائی نحو هذا الدعاء "(4).
وقال الترمذی: هذا حدیث حق حسن صحیح.
وقال ابن ماجة: هذا حدیث صحیح.
وقال الرفاعی: لا شک أنّ هذا الحدیث صحیح ومشهور(5).
وبعد ذلک فلم یبق لأحد التشکیک فی صحّة سند الحدیث إنّما الکلام فی دلالته وإلیک البیان:
إنّ الحدیث یدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبی بتعلیم منه (صلى الله علیه وآله وسلم) والأعمى وإن طلب الدعاء من النبی الأکرم فی بدء الأمر إلاّ أنّ النبی علّمه دعاء تضمن التوسّل بذات النبی، وهذا هو المهم فی تبیین معنى الحدیث.
وبعبارة ثانیة: أنّ الذی لا ینکر عند الإمعان فی الحدیث أمران:
الأوّل: أنّ الراوی طلب من النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) الدعاء ولم یظهر منه توسّل بذات النبی.
الثانی: أنّ الدعاء الذی علّمه النبی، تضمّن التوسّل بذات النبی بالصراحة التامة، فیکون ذلک دلیلا على جواز التوسّل بالذات.
وإلیک الجمل والعبارات التی هی صریحة فی المقصود.
• اللّهمّ إنّی أسألک وأتوجّه إلیک بنبیّک:
إنّ کلمة "بنبیّک" متعلقة بفعلین هما "أسألک" و "أتوجّه إلیک" والمراد من النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) نفسه القدسیة وشخصیته الکریمة لا دعاؤه.وتقدیر کلمة "دعاء" قبل لفظ "بنبیّک" حتى یکون المراد هو "أسألک بدعاء نبیّک أو أتوجّه إلیک بدعاء نبیّک" تحکّم وتقدیر بلا دلیل. وتأویل دون مبرّر ولو أنّ محدثاً ارتکب مثله فی غیر هذا الحدیث لرموه بالجَهْمیة والقدریّة.
• محمد نبی الرحمة:
لکی یتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)وشخصیته فقد جاءت بعد کلمة "بنبیّک" جملة "محمد نبی الرحمة" لکی یتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأکثر ما یمکن.• یا محمد إنّی أتوجّه بک إلى ربّی:
إنّ جملة "یا محمد إنّی أتوجّه بک إلى ربّی" تدل على أنّ الرجل الضریر ـ حسب تعلیم الرسول ـ اتّخذ النبی نفسَه، وسیلة فی دعائه أی أنّه توسّل بذات النبی لا بدعائه (صلى الله علیه وآله وسلم).• وشفّعه فیّ:
إنّ قوله "وشفّعه فیّ" معناه یا رب اجعل النبی شفیعی وتقبّل شفاعته فی حقّی، ولیس معناه تقبل دعاءه فی حقّی، فإنّه لم یرد فی الحدیث أنّ النبی دعا بنفسه حتى یکون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه فی حقّی.ولو کان هناک دعاء من النبی، لذکره الراوی إذ لیس دعاؤه (صلى الله علیه وآله وسلم) من الأُمور غیر المهمّة حتى یتسامح الراوی فی حقّه.وحتى لو فرضنا أنّ معناه "تقبّل دعاءه فی حقّی" فلا یضر ذلک بالمقصود أیضاً، إذ یکون على هذا الفرض هناک دعاءان: دعاء الرسول ولم یُنْقَل لفظه، والدعاء الذی علّمه الرسول للضریر، وقد جاء فیه التصریح بالتوسّل بذات النبی وشخصه وصفاته، ولیس لنا التصرّف فی الدعاء الذی علّمه الرسول للضریر، بحجّة أنّه کان هناک للرسول دعاء.
لقد أورد هذا الحدیث النسائی والبیهقی والطبرانی والترمذی والحاکم فی مستدرکه ولکن الترمذی والحاکم ذکرا جملة "اللّهمّ شفّعه فیه" بدل "وشفّعه فیّ".
إجابة على سؤال
إنّ من یمنع التوسّل بشخصیة الرسول المثالیة لمّا وقع أمام هذا الحدیث تعجّب عاضّاً على انملته فحمل الحدیث على أنّه من قبیل التوسّل بدعاء الرسول لا بشخصه وذاته الکریمة مستدلاًّ بقول الضریر "ادعو الله أن یعافینی" وقد خلط بین أمرین:الأوّل: المحاورة الابتدائیة التی وقعت بین النبی والضریر، فکان المطلوب بلا شک، هو طلب الدعاء من النبی، وهذا ما لا ینکره أحد .
الثانی: الدعاء الذی علّمه الرسول للضریر فإنّه تضمّن التوسّل بذات النبی ولا یمکن لأحد أن ینکر التصاریح الموجودة فی الحدیث.
والتصرّف فی النصّ الثانی بحجة أنّ الموضوع فی المحاورة الأُولى هو طلب الدعاء، تصرف نابع من اتخاذ موقف مسبق قبل النظر إلى الحدیث، فإنّ الأعمى لم یدُر فی خلده فی البدایة سوى دعاء الرسول المستجاب، ولکن الدعاء الذی علّمه الرسول أن یدعوَ به بعد التوضّؤ، مشتمل على التوسّل بذات النبی.
قال الدکتور عبد الملک السعدی: وقد ظهر فی الآونة الأخیرة أُناس ینکرون التوسّل بالذات مطلقاً، سواء کان صاحبها حیّاً أو میّتاً.
وقد أوّلوا حدیث الأعمى وقالوا: إنّ الأعمى لم یتوسّل ولم یأمره النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) به بل قال له: صلِّ رکعتین ثم اطلب منّی أن أدعو لک ففعل.
وأنت یا أخی علیک أن تقرأ نص الحدیث هل یحتمل هذا التأویل، وهل فیه هذا المدّعى؟ أم أنّه أخذ یطلب من الله متشفعاً بالنبی (صلى الله علیه وآله وسلم)، ولم یدع له (صلى الله علیه وآله وسلم). ولو أراد منه ذلک لاستجاب له أوّل مرّة حیث طلب منه الدعاء بالکشف عن بصره فأبى إلاّ أن یصلّی ویتولّى الأعمى بنفسه الدعاء.
المصادر :
1- الانشراح/4
2- الأعراف/157
1- الترمذی: الصحیح، کتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578، وسنن ابن ماجة 1: 441 برقم 1385، مسند أحمد: 4/138 إلى غیر ذلک من المصادر وسیأتی فی المتن نصوصهم حول وصف الحدیث.
1- مجموعة الرسائل والمسائل: 1/13.
2- الرفاعی: التوصل إلى حقیقة التوسّل: 158.
/ج