فی ذلک البیت الطاهر ولدت سلیلة الطهر والعفاف فاطمة المعصومة، وکانت الظروف التی ألمّت بأهل البیت (علیهم السلام) آنذاک عصیبة جداً إلى حدّ غاب فیها عن المؤرخین والرواة تسجیل أحداث الولادة وتأریخها، أو ذکر شیء ممّا یتعلّق بها، إذ کانت السلطة العباسیة قد أحکمت قبضتها وأخذت تتّبع مناوئیها ممن تتوجس منهم وترى أنّهم سبب إزعاج لهم ومصدر قلق لسیاستهم، وهم العلویّون وفی طلیعتهم الإمام الکاظم (علیه السلام) صاحب الحق الشّرعی الذی ما فتئ یلمّح بل ویصرّح بأنّه صاحب الحق، وأن العباسیین خدعوا الأمّة بسیاستهم الملتویة حیث أعلنوا للناس أن حرکتهم ضد بنی أمیة إنما کانت غضباً لبنی هاشم ممّا حل بهم من خصومهم الأمویین، وطلباً لثأرهم منهم، وأنّ دعوتهم کانت للرضا من آل محمد (علیهم السلام)، وبذلک استطاعوا أن یسیّروا عواطف الناس ومشاعرهم نحو تأییدهم، وانطلقت اللعبة على أکثر الناس فاستجابوا لهم فی سذاجة وحسن نیّة، وفی غفلة عما بیّته العباسیون، حتى انخدع بذلک القوّاد الذین کان لهم الدور فی توطید الملک والقضاء على بنی أمیة وإخضاع البلاد، فی ظنّ منهم أن الدعوة للرّضا من آل محمد (علیهم السلام) دعوة صادقة وما علموا أن بنی العباس إنما استخدموهم آلات لتحقیق أغراضهم ، ولذا ما إن استلم العباسیون زمام الأمر واکتشف هؤلاء القوّاد أنّهم خدعوا فأعلنوا سخطهم حتى فتکوا بهم واستأصلوهم کأبی سلمة الخلاّل، وأبی مسلم الخراسانی وغیرهما من القادة العسکریین.(۱)
ولم تکن هذه اللعبة لتخفى على آل محمد (علیهم السلام) الذین اتخذهم العباسیون درعاً تترّسوا به من أجل الوصول إلى أغراضهم، وقد کشف الإمام الصادق (علیه السلام) هذه المهزلة العباسیة وأخذ حذره ولم یتورّط فی أحداث هذه الحرکة المبیّتة فی حین قد تورّط غیره من بنی عمّه فانساق معهم، وکان مآله أن فتک به کما فتک بغیره.
وفی هذه الحقبة الزمنیّة من التاریخ أحداث کبیرة، وهی جدیرة بالبحث، ولسنا فی صدد الحدیث عنها، ولعلّنا نشیر إلى بعضها فی موضع آخر.
أقول: من أجل هذا تحاشى الرواة والمؤرخون من الدنوّ من أهل البیت (علیهم السلام) فی هذه الفترة لتسجیل ونقل بعض الأحداث التی ترتبط بتاریخهم خوفاً على أنفسهم من بطش الحکّام وغضبهم بل انضمّ بعضهم إلى صفوف الحکّام تزلفاً وطمعاً.
وقد غاب عنا کثیر من الحقائق وخفیت علینا وقائع کثیرة، وذهبت فی طی النسیان، ومنها تاریخ ولادة السیدة المعصومة (علیها السلام)، فلم یرد فی شیء من الروایات ذکر السنة التی ولدت فیها فضلاً عن الیوم أو الشهر.
وما بأیدینا من المصادر التی ذکرت تاریخ ولادتها (علیها السلام) هی فی الحساب متأخرة جدّاً، ولم تذکر مستنداً لذلک، بل ذکر بعض الکتاب أن ذلک أمر مجهول.(۲)
ونحن وإن ننقل ما ذکره المؤلفون إلا أننا لسنا على یقین، وتبقى حلقة مفقودة تضاف إلى کثیر من الحلقات الضّائعة من تاریخ أهل البیت (علیهم السلام).
ذکر بعض المؤلفین ـ ونسبه إلى المؤرخین ـ أنّ ولادتها (علیها السلام) کانت سنة ۱۸۳هـ، هی السّنة التی استشهد فیها والدها الإمام الکاظم (علیه السلام)، فی قول أکثر المؤرخین)(۳).
وعلى هذا فلم تحظ السیدة المعصومة بلقاء أبیها (علیه السلام) ورعایته، وعاشت فی کنف أخیها وشقیقها الإمام الرضا (علیه السلام) وصیّ أبیه والقائم مقامه.
واستبعد بعضهم(۴) أن تکون ولادتها (علیها السلام) فی تلک السنة، لأنّ السنوات الأربع الأخیرة من عمره (علیه السلام) ـ على أقل التقادیر ـ کان فیها رهین السجون العباسیة، مضافاً إلى أنّه قد ذکر أن للإمام الکاظم (علیه السلام) أربعاً من البنات(۵)، اسم کل منها فاطمة، وأنّ الکبرى من بینهن هی فاطمة المعصومة (علیها السلام)، ولذا فلابدّ أن تکون ولادتها قبل سنة ۱۷۹هـ وهی السنة التی قبض فیها على الإمام (علیه السلام) وأودع السجن.
ولکن بالالتفات إلى احتمال أن هؤلاء الفاطمیات الثلاث ـ غیر الکبرى ـ لسن من أمّ واحدة، بل من أمّهات شتى، فلا استبعاد فی أن تکون ولادتهنّ فی سنة واحدة.
على أنّه یمکن القول بأنه قد قبض على الإمام (علیه السلام) وأمّهاتهن حوامل بهن، وکانت ولادتهنّ بعد سنة ۱۷۹هـ، وأن فاطمة المعصومة کانت ولادتها فی سنة ۱۷۹هـ.
ولکن مع ذلک لا یمکن الجزم بشیء، نعم بناءً على أن شهادة الإمام الکاظم (علیه السلام) کانت سنة ۱۸۳هـ فمن البعید أن تکون ولادة السیدة المعصومة فی تلک السنة، ولا سیّما أنها الکبرى من بین أخواتها الثلاث.
ثم إنّه قد ذهب آخرون(۶) إلى أن ولادتها (علیها السلام) کانت فی غرّة شهر ذی القعدة سنة ۱۷۳هـ والقائل بذلک وإن کان من الباحثین الأجلاّء وله باع طویل فی التحقیق والتتبع، وأرسل ذلک إرسال المسلّمات إلا أنه لم یشر إلى مستنده فی تحدید هذا التاریخ.
وبناء على هذا التاریخ تکون السیدة فاطمة قد عاصرت من حیاة أبیها عشر سنوات، غیر أنّ السنین الأربع الأخیرة من عمه (علیه السلام) کان فیها رهین السجون العباسیة کما ذکرنا، فلم تحظ منه إلا بست سنوات.
ولم نقف فی شیء من المصادر على غیر هذین القولین فی تحدید سنة ولادتها (علیها السلام).
وعلى أی تقدیر فقد فتحت هذه السیدة عینیها على الدنیا فی أیام محنة أبیها، وقد أحاطت به الخطوب، فارتسمت حیاتها بالحزن والأسى، وإذا کان عمرها (علیها السلام) ست سنوات یوم قبض على أبیها فهی فی سنّ تدرک فیه غیاب الأب عن البنت، وتعی ما یجری فی هذا البیت، وما یسوده من الحزن والألم، وما یعانیه أهله من لوعة وعناء، ثم ما یتناهى إلى سمعها من شهادة أبیها (علیه السلام)، وما تلاها من أحداث مروّعة فیعتصر الألم قلبها الصغیر، وهی لا ترجو لأبیها عودة إلى البیت، وترى أن هناک أخطاراً تحدق بأهل هذا البیت، وربّما أثار ذلک فی نفسها کثیراً من التساؤلات حول ما یجری، ولماذا قصد أبوها بالذات، وأهل بیتها بالخصوص، بأنواع الإیذاء من دون سائر الناس، ولکنّها ما تلبث أن تدرک أن لهذه القضایا جذوراً تمتدّ إلى زمان جدّتها الزهراء (علیها السلام).
فمن ذلک الیوم الذی عانت فهی أمّها فاطمة (علیها السلام) آلام الظلم والعدوان، ومن ذلک الیوم الذی نحّی فیه جدّها أمیر المؤمنین (علیه السلام) عن منصب الإمامة أصبح أهل هذا البیت عرضة لظلم الظالمین وتعدّی الغاشمین.
وما کانت السیدة فاطمة المعصومة لتبقى مهملة بلا کفیل، فإنّها وإن فقدت أباها وهی فی مقتبل العمر إلا أنّها عاشت فی کنف شقیقها الرضا (علیه السلام)، وأولاها العنایة الخاصّة فی تربیتها ورعایتها، حتى غدت أفضل بنات الإمام موسى بن جعفر (علیهما السلام).
ونشأت هذه السیدة تتلقى من أخیها العلم والحکمة فی بیت العصمة والطهارة، فأصبحت ذات علم وروایة ومقام وسیوافیک عنه حدیث.
——————————————————————————-
۱ – حیاة الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): ج۱، ص۳۴۷-۳۷۲٫
۲ – ریاحین الشریعة: ج۵، (فارسی)، ص۳۱٫
۳ – أعلام النساء المؤمنات، ص۵۷۶٫
۴ – کریمة أهل البیت (علیهم السلام)، ص۱۰۳٫
۵ – تذکرة الخواص، ص۳۵۱٫
۶ – مستدرک سفینة البحار: ج۸، ص۲۶۱٫
/110/