التوحيد والتطور

ظهرت في العلوم الحديثة نظريّةٌ اعتبر البعض أنّها تُشكّل نقضاً لبعض براهين التوحيد، وهي نظريّة التطوّر والتكامل المعروفة باسم نظريّة داروين. فلا بدّ أن نطلّ على هذه المسألة، لنبحث هل تؤثّر واقعاً على أدلّة التوحيد أم لا؟ وبعبارة أخرى:
Sunday, March 8, 2015
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
التوحيد والتطور
التوحيد والتطور

 






 

ظهرت في العلوم الحديثة نظريّةٌ اعتبر البعض أنّها تُشكّل نقضاً لبعض براهين التوحيد، وهي نظريّة التطوّر والتكامل المعروفة باسم نظريّة داروين. فلا بدّ أن نطلّ على هذه المسألة، لنبحث هل تؤثّر واقعاً على أدلّة التوحيد أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل يستلزم الإيمان بالتوحيد الاعتقاد بالنظريّة المقابلة لنظريّة التطوّر، وهي نظريّة ثبات الأنواع؟

تاريخ المسألة:

جرى البحث منذ القديم عن مسألة ثبات الأنواع الحيّة وتبدّلها. ويُذكر في أغلب الكتب التي تناولت تاريخ هذه المسألة أنّ ثمّة نظريّتين في المقام، تقول الأولى بثبات الأنواع، وأنّ أنواع الكائنات الحيّة جميعاً قد حدثت فجأةً في زمن معيّن، والثانية بتبدّل الأنواع وتطوّرها، وينسبونها إلى داروين، ويدّعون أنّه لا ثالثة لهما.
ولكن للأسف فإنّ الكاتبين في تاريخ العلوم والأديان تفتقد آراؤهم إلى كثيرٍ
من الصحّة، إمّا للعجز عن الإحاطة بجميع العلوم التي يؤرّخون لها، وإمّا لوجود تحريفات في هذا التاريخ ناتجة عن سوء نيّة.

وفي المقام يمكن أن نلاحظ:

أوّلاً: أن النظريّة المنسوبة لداروين ليست نظريّةً جديدةً بل هي نظريّةٌ قديمةٌ، فقد نقلتها بعض الكتب الفلسفيّة، ككتاب الشفاء لإبن سينا، والأسفار للملا صدرا عن قدماء فلاسفة اليونان، وهي منقولة عن الفيلسوفين اليونانيين: أنكسيمندروس وإنباذقلس، أي أنّها ظهرت قبل 2500 عامٍ، غاية الأمر أنّهم لم يبيّنوا تفصيلاتها التي بيّنها داروين.
ثانياً: أن هناك نظريّةً ثالثةً في المقام، وهي تقول بثبات أنواع الموجودات، ولكنّها لا تؤمن بحدوثها في زمن معيّن بل تقول بأنّها قديمةٌ، فهذه النظريّة تقول بقدم الأنواع بالإضافة إلى ثباتها.

عرض النظريّات:

1ـ نظريّة ثبات الأنواع:

ذكرنا أنّ ثمّة نظريّةً أخرى تقول بثبات الأنواع. ويعتبر أصحاب هذه النظريّة أنّ أنواع الموجودات الحيّة كلّها ظهرت إلى حيّز الوجود في زمن معيّن فجأة ومن العدم(الحدوث الزمانيّ - الحدوث الزماني يعني: كون وجود الشيء مسبوقاً بالعدم الزماني مثل: مسبوقيّة اليوم بالعدم في الأمس، ومسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في الأمس.) ، وذلك بصورةٍ غير مألوفةٍ ولا طبيعيّةٍ، فيُقال بذلك بشأن خلق آدم وحوّاء، وكلّ زوجين من أنواع الحيوانات.
وقد أطلق أنصار هذه النظريّة عليها اسم (نظريّة الخلق).
وفي الواقع فإنّ العامّة من الناس هم الذين كانوا يؤمنون بهذه النظريّة، أمّا العلماء فلم يؤيّدوها، بل كانوا يرونها نظريّةً عاميّةً وليست فلسفيّةً، فبعضهم عارضها وبعضهم سكت عنها.
وعلى كلّ حال فإنّ الوقائع أثبتت وهن هذه النظريّة.

2ـ نظريّة التطوّر:

تقدّم أنّ جذور هذه النظريّة ترجع إلى ما قبل 2500 سنة، ولكنّها اشتهرت باسمي العالِمَين: لامارك، وداروين اللذين بيّنا تفصيلاتها، وهذه خلاصة كلامهما:
ـ لامارك:
إشتهر عالم الأحياء الفرنسيّ لامارك(القرن التاسع عشر الميلاديّ) بأنّه أوّل من صرّح بهذه النظريّة في العصر الحديث.
وقد كان يعتقد أن الكائنات الحيّة تطورت على مدى حقب تاريخ الأرض، من أنواعٍ بحريّةٍ بسيطةٍ ذات خليّةٍ واحدةٍ، تكاملت بصورةٍ تدريجيّةٍ إلى أن ظهر الإنسان المعاصر، لذلك فهو يعتقد بأنّ الكائنات الحيّة قد تولّد بعضها من بعض بعد أن كانت نوعاً واحداً، وذلك بفعل مجموعةٍ من القوانين الطبيعيّة التي أحدثت هذه التغييرات والتطوّرات.

3ـ نظريّة قِدَم الأنواع:

ذكرنا بأنّ أصحاب هذه النظريّة يقولون بأنّ أنواع الموجودات الحيّة ثابتة لم تتبدّل، وهي ليست حادثةً ظهرت إلى الوجود في زمن معيّن، بل هي قديمةٌ لا بداية لها، فكلّ الموجودات الحيّة كانت موجودةً دائماً وبالصور التي هي عليها اليوم.
وقد تبنّى هذه النظريّة بعض الفلاسفة، إنطلاقاً من الأصول الفلسفيّة، كأرسطو وإبن سينا.
ويستند هؤلاء في نظريّتهم إلى:
1ـ أصل فلسفيّ يقول بقدم الفيض، ولذلك فلا بدّ أن تكون الكائنات الحيّة موجودة منذ القدم
2ـ أصل طبيعيّ من أصول علم الطبيعيّات والفلكيّات القديم، يقول بأنّ الأرض والأفلاك ثابتةٌ لا يمكن أن تتغيّر أبداً، ولهذا إعتقدوا بثبات الأنواع

نقد هذه النظريّة:

إنّ الأساس الثاني الذي قامت عليه هذه النظريّة، وهو ثبات الأفلاك، قد إتّضح اليوم وهنه، فقد انهارت أسس النظريّة الفلكيّة القديمة تلك، بعد أن ثبت أنّ وضع الأرض قبل ملايين السنين كان يختلف كثيراً عن وضعها الحالي، وبالتالي فإنّ بيئتها السابقة لم تكن صالحةً لحياة أنواع الموجودات الحيّة الحاليّة، وهذا يُبطل النظريّة القائلة بقدم أنواع الموجودات

تأثير البيئة وحاجات الكائن الحيّ:

وقد اعتبر لامارك أنّ العامل الوحيد المؤثّر في إحداث هذه التغييرات هو عامل البيئة، من ماء وهواء وشحّ موادٍ غذائيّةٍ وأعداء، لأنّ هذه العوامل توجد ردود فعل في الكائن الحيّ تتناسب مع إحتياجاته الجديدة، فكلّ احتياج يؤدّي مع مرور الزمن إلى ظهور تغييراتٍ تدريجيّةٍ في تكوين أفراد هذا النوع، فالعضو الذي يَكْثُر إستخدامه ينمو ويتطوّر أكثر من غيره، فيما العضو الذي يُهمل يضعف ويضمر بصورةٍ تدريجيّة.
ويضرب لامارك مثال الزرافة المعروف لتوضيح نظريّته، حيث يُلاحظ أن الجزء الأماميّ من بدنها أعلى من الجزء الخلفيّ، كما أنّ عنقها طويل للغاية، فترجع علّة ذلك إلى أنّها كانت تعيش في بيئة لم تجد فيها علفاً على الأرض، فاضطرها الأمر إلى أن ترفع جسمها الأماميّ وأن تمدّ عنقها، ومع تكرار العمل صار جسم الزرافة ـ شيئاً فشيئاًـ بهذا الشكل.

التغييرات الإيجابيّة والسلبيّة:

وعلى هذا الأساس يفسّر لامارك جميع التغييرات والإختلافات في أنواع الكائنات الحيّة، سواء كانت إيجابيّةً بإستحداث عضوٍ جديدٍ، أو سلبيّةً بإلغاء عضوٍ بصورةٍ تدريجيّة ، وفي المقابل فإنّه لن يحدث أيّ تغييرٍ في أيّ نوعٍ من الموجودات الحيّة ما دامت الأوضاع البيئيّة التي يعيش فيها أفراد هذا النوع ثابتة. ويقول لامارك إنّ الأفعى كان لها أرجل في بداية أمرها، لكنّها عاشت في بيئة تضطرها إلى الاختفاء باستمرار والزحف للدخول تحت الأرض، ولم يكن لديها حاجةٌ إلى المشي، ممّا أدّى إلى ضمور رجليها شيئاً فشيئاً إلى أن زالتا .

التغييرات تنصبّ في صالح الكائن:

واعتبر لامارك أنّ التغييرات الحاصلة في الكائن الحيّ تنصبّ دائماً في صالحه، فهو دائماً في سير تكامليّ صعوديّ، حيث تؤدّي التغييرات إلى إيجاد حالةٍ من الانسجام بين تكوينه البدنيّ وأوضاع البيئة. فالكائن الحيّ يختلف عن الجماد، فالجمادات منفعلةٌ دائماً بالعوامل البيئيّة، وهي تؤثر عليها سلباً أو إيجاباً، أمّا الكائن الحيّ، فهو بالإضافة إلى إنفعاله فإنّه تظهر منه ردّة فعلٍ تؤدّي إلى تغييراتٍ لصالحه.

عامل الوراثة:

تنتقل الصفات الجديدة بالوراثة إلى الأجيال اللاحقة.
ـ داروين:
بقيت نظريّة لامارك التي تقوم على أساس مبدأ (تأثير البيئة) عاجزةً عن تفسير علّة ما قاله بشأن كون التغييرات تنصب دائماً لصالح الكائن الحيّ، إلى أن أتى داروين(1809م) بأصول إضافيّة في هذا المجال.
فداروين لم ينفِ تأثير البيئة، لكنّه لم يجعل ذلك الأصل الوحيد في هذا المجال، بل اعتبر أنّ العامل المحوريّ في إيجاد التبدّل في الأنواع، هو عامل (الإنتخاب الطبيعيّ)، فيما يُعدّ عامل البيئة عاملاً ثانويّاً.
خطوات داروين:
قابليّة التغيّر النوعيّ:
لاحظ داروين أنّ في الكائنات الحيّة قابليّةً للتغيير النوعيّ عبر أساليب الانتخاب الإصطناعيّ، كما يقوم به مربّو الحيوانات الأليفة، فإنّهم إذا لاحظوا صفةً مميّزةً ومتفوّقةً عند بعض الحيوانات قاموا بعزلها وتزويجها من بعض، ممّا يؤدّي إلى تقوية هذه الصفة في الجيل اللاحق، ممّا يوجد نوعاً جديداً من هذا الكائن الحيّ بعد مدّة من الزمن، وأطلق على ذلك اسم (الإنتخاب الاصطناعيّ).
وإستنتج: قابليّة الكائنات لتغيير أشكالها وهيئاتها وصفاتها، أضف إلى ذلك إمكانيّة تقوية هذه الصفات.

(التنازع لأجل البقاء) وبقاء الأصلح:

وجد داروين أنّ الطبيعة عاجزة عن تلبية إحتياجات تكاثر الكائنات الحيّة، ممّا يجعل الأفراد في حالةٍ مستمرةٍ من التنازع لتلبية إحتياجاتهم.
ثمّ إلتفت إلى عدم تماثل مواليد الحيوانات، فهي تتمايز بخصائصها الفرديّة، وعند التنازع سيكون الإنتصار والبقاء للأقوى والأصلح بينها، فيما يتعرّض الضعيف للإنقراض.
هكذا تنبّه داروين إلى عامل (التنازع من أجل البقاء)، الذي أنتج (الانتخاب الطبيعيّ)، والذي يؤدّي بدوره إلى (بقاء الأصلح).

عامل الوراثة:

بعد أن يبقى الأقوياء من كلّ نوعٍ تنتقل خصائصهم بالوراثة إلى أبنائهم، فيكون الجيل التالي من الأولاد أفضل من الجيل السابق، مع ما هنالك من الإختلاف في ما بين أبناء نفس هذا الجيل في الصفات، فتتكرّر العمليّة نفسها ليبقى المتفوّق من بينها وينقرض الباقون، وهكذا... وبهذه الصورة يحصل التكامل عبر الأجيال المتتابعة، ويكون العامل الذي يحفظ التفوّق، هو عامل الوراثة.( أصل الإنسان قرد: بعد ذلك نشر داروين أبحاثاً جديدةً سعى فيها إلى نفي جميع أشكال الاختلافات الكبيرة المتصوّرة بين الإنسان والحيوان،معتبراً أن ما في الإنسان لا يعدو كونه صفات أكثر تكاملاً مما هو موجود في الحيوانات. وكان داروين يجري باستمرار مقارناتٍ بين البدائيّين من النوع البشريّ والمتكاملين من فصيلة القرود، وتوصّل إلى أنّ الإنسان والقرد يشتركان في الأصل النوعيّ، ولذلك فهما يشتركان في وحدة الجدود!)
الإشكاليّة المطروحة في نظريّة التطوّر:
إعتقد البعض أنّ نظريّة التطوّر تضرّ بأدلّة إثبات وجود الله، في حين اعتبرها بعض الماديّين إنتصاراً لعقيدتهم في عدم وجود الله، فيما انبرى بعض الإلهيّين إلى مكافحة هذه النظريّة بهدف الدفاع عن عقيدة التوحيد والإيمان بالله، وإعتقد آخرون بأن التوحيد يستلزم الاعتقاد بنظريّة ثبات الأنواع ـ نظريّة الخلق.
والإشكال المتوهّم هو أنّ أساس برهان النظم يقوم على أساس الاستدلال بوجود نظمٍ دقيقٍ ومتقنٍ في أيّ نباتٍ أو حيوانٍ نخضعه للدراسة. ووجود هذا النظم يدلّ بصورةٍ واضحةٍ على وجود قوّةٍ حكيمةٍ ومدبّرةٍ هي التي قامت بإيجاده انطلاقاً من أهداف معيّنة، فإذا قلنا بأنّ القوانين التي ذكرها لامارك وداروين قادرةٌ على إيجاد هذا النظم المتقن والقائم على أساس الحكمة، فيكون النظم الحاليّ نتيجة عوامل التفوّق التي تراكمت بصورةٍ تدريجيّةٍ، دون الحاجة إلى وجود قوةٍ ذات إرادةٍ وحكمةٍ وإختيارٍ، وبالتالي يسقط برهان النظم من أدلّة إثبات وجود الله.
فالإنسان لم يُخلق بهذه الصورة المنظمة دفعةً واحدةً، حتى نُثبت أنّ قوّةً حكيمةً وعالمةً أوجدته بهذا الشكل، بل إستغرقت كلّ خصوصيّةٍ من خصوصيّاته مئاتُ الملايين من السنين، ليظهر في صورته الحاليّة نتيجة مجموعةٍ من القوانين الماديّة والطبيعيّة.
والسؤال هو: هل صحيحٌ أنّ هذه النظريّة تؤثّر على أدلّة التوحيد؟ وهل يستلزم الإيمان بالتوحيد الاعتقادَ بنظريّة ثبات الأنواع؟
الردود على نظرية التطوّر:
هناك مجموعةٌ من الردود على هذه النظريّة، بعضها علميّ تجريبيّ يدحض نفس النظريّة، وهو نتيجة أبحاثٍ معاصرةٍ أثبتت بطلان هذه النظريّة، وبعضها توحيديّ ينطلق من فرض التسليم بهذه النظريّة فيبيّن أنّها لا تؤثّر ـ لا هي ولا غيرها ـ على عقيدة التوحيد، وبالتالي لا يستلزم الإيمان بالتوحيد الاعتقاد بنظريّة أخرى.

1ـ الجواب الأول: بطلان النظرية:

رغم القرائن الكثيرة التي عرضها داروين فإنّ نظريّته بقيت محلّ نقاش العلماء، وبدت فيها إشكالاتٌ كثيرةٌ، جعلت العلماء لا يقتنعون بها.
أسئلة مثارة حول نظريّة التطوّر:
فقد طرح العلماء مجموعة من الأسئلة تبيّن وهنَ التفسير الذي قام به دارون، نعرض نموذجاً منها:
ـ إذا كان إستخدام الرأس كوسيلة للعراك يؤدّي إلى ظهور القرون فيها، فلماذا ظهر للثور قرنان ولوحيد القرن قرنٌ واحدٌ، في حين لم يظهر للحصان أيّ قرن؟!
ـ لماذا لم يرجع العضو الطارئ إلى حالته الأولى بعد أن عادت الأوضاع البيئيّة إلى حالتها الأولى؟! فلماذا لم يرجع عنق الزرافة إلى ما كان عليه بعد أن أصبح علفها متوفّراً على سطح الأرض؟!

عامل الوراثة:

مجموعة من مثل هذه الأسئلة جعلت العلماء لا يقتنعون بنظريّة داروين. ولكنّ الذي أجهز على هذه النظريّة هو إكتشافات العلم التجريبيّ اللاحقة. فإنّ من الأصول الأساسيّة التي بنى عليها لامارك وداروين النظريّةَ في تفسير تطوّر
الأنواع، هو مسألة إنتقال الصفات بالوراثة، ولولا هذا الأصل لما تمّ أيٌّ من كلامهما، وقد إكتشف العلماء في ما بعد عدم صحة الإنتقال الوراثيّ للصفات المكتسبة وللتغييرات السطحيّة التابعة لتغيّر البيئة.
فبعد سنة من وفاة داروين، إكتشف العالم البلجيكيّ (وان بندن) كيفيّة التكاثر في الحيوانات، وأثبت أنّ الصفات الوراثيّة لا تنتقل إلا عبر الخليّتين الجنسيّتين، وبعد أن أجروا التجارب والبحوث ثبت لديهم أنّ جميع التغييرات التي تحدث في الكائن الحيّ، سواء أكانت بتأثير البيئة، أم بواسطة الإنتخاب الطبيعيّ، لا تنتقل بالوراثة إلى الأجيال اللاحقة، فالصفات المكتسبة لا يمكن أن تنتقل بالوراثة، وبذلك حطّموا أصلاً أساسيّاً من نظريّة لامارك وداروين، وبالتالي قد أجهزوا عليها.

نظريّة الطفرة:

وظهرت بعد ذلك نظريّة أخرى قدّمها العالم البلجيكيّ (هوغو دوفريس)، وعُرفت بنظريّة الطفرة الوراثيّة أو نظريّة موتاسيون، وتعتمد على ظهور خصوصيّاتٍ بصورةٍ مفاجئةٍ في الكائنات الحيّة، ولا يكون لهذه الخصوصيّات إرتباطٌ بعامل البيئة. وهذه الطفرة تترك آثارها على الجينات بحيث يمكن أن تنتقل وراثيّاً، وبالتالي، فإنّه قد أُسند تبدّل أنواع الكائنات وتطوّرها إلى هذه الطفرة، بعد أن إتضح عدم إمكان تطوّر الكائنات الحيّة وتكاملها إستناداً إلى عامَلي الإنتخاب الطبيعيّ وإنتقال الصفات المكتسبة وراثياً.

النتيجة:

وما وصلت إليه العلوم الطبيعيّة هو حقيقة يعترف بها جميع علماء الأحياء في أرجاء العالم، وهي العجز عن إيجاد تفسيرٍ ماديّ للتناسق المشهود في تكوين الموجودات الحيّة، والتي لا يمكن أن تكون قد جاءت على نحو الصدفة.
على الرغم من بطلان نظريّة داروين فنحن سنبحث في أنّها لو سُلّمت فهل تضرّ بأدلّة التوحيد ؟

2 ـ الجواب الثاني: علّة الظاهرة:

إنّ نظريّةَ التطوّر نظريّةٌ وصفيّةٌ، تفسّر كيفيّة حدوث التطوّر. ولكن في هكذا أبحاث ـ أبحاث العقائد ـ لا يكفي أن نلاحظ ظاهرةً مشهودةً، ونبيّن كيفيّتها، بل يبقى السؤال قائماً عن علّتها. فنحن ولو إعتقدنا بوجود قابليّةِ التغيّر والتبدّل النوعيّ في الكائنات الحيّة والتي تؤدّي إلى حدوث تغييراتٍ في أنواعها، فلا بدّ أن نسأل عن الذي أوجد هكذا قابليّاتٍ متقنةً وهادفةً في الكائنات.
لا شكّ أنّها قوةٌ عالمةٌ ومدركةٌ قد نظّمت الكائنات بهذا الشكل الهادف بحيث تصل إلى تكاملها.
يقول لامارك: هناك حاجة إلى قوّةٍ مدبّرةٍ، جهّزت هذا الكائن بأجهزة تؤدّي إلى إحداث التغيير.
ويقول داروين: إنّ جميع العوامل التي ذكرتها لا تكفي للكشف عن سرّ الخلق، فالطبيعة تتوجّه نحو الأفضل وفق مبدأ (إنتخاب الأصلح)، وهذا يعني أنّها تتوجّه إلى غاية وإلى هدف معيّن، وبالتالي فلا بدّ من وجود قدرةٍ جعلت الطبيعة تتوجّه كذلك.
ووجود قوانين قد جعلها الله في الكائنات تحكم تبدّلها وتغيّرها النوعيّ،أمرٌ طبيعيّ قد جرت سنّة الخلق عليه ، فالله هو الذي خلق ونظّم عالمنا على أساس الأسباب والمسبّبات. كما عن الصادق عليه السلام : (أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً...) (1)
من هنا، يتّضح أنّ أدلّة الإلهيّين التوحيديّة بقيت على قوّتها بعد ظهور مثل هذه النظريّات، بل ازدادت قوّةً، بمعنى أنّ النظريّات العلميّة الحديثة قد بيّنت بصورةٍ أفضل كون حركة الطبيعة حركةً هادفةً، فسبحان من أودع هذه الطبيعة نظمَها المتقن فيها!

3ـ الجواب الثالث: عدم كفاية النظريّة:

من الخطأ الاعتقاد بأنّ القوانين التي ذكرها كلّ من لامارك وداروين كافيةٌ لإيجاد التنوّع في الموجودات.
ذلك أنّ هناك تغييراتٍ لا تكون إراديّةً أو شعوريّةً في نفس الكائن الحيّ، فهو يرتّب وضعه بصورةٍ لا شعوريّةٍ بحيث ينسجم مع التغييرات البيئيّة، وذلك بخلاف التغييرات الإراديّة من قبيل طول عنق الزرافة. وقد ظهرت نظريّةٌ حديثةٌ تتحدّث عن (التكيّف مع البيئة) تؤيّد هذا الكلام.
واعترف لامارك نفسه بأنّ ثمّة قوّة داخليّة أو حساً داخلياً يساهم في إيجاد التغييرات المناسبة.
وكذلك يصرّح داروين بوجود دورٍ لعاملٍ مجهولٍ، وبالتالي لا يمكن معرفة سرّ الخلق وفق القوانين وحدها.
فلماذا يفقد العضو الذي لا يُستفاد منه التغذية والرعاية اللازمة من البدن؟
كيف تظهر أعضاء جديدة تتناسب مع الحاجات الطارئة ـ كظهور القرون للعراك في بعض الذكور من الحيوانات التي تتعرّض للإعتداء ـ وبدقّةٍ متناهية؟
هذا لا يمكن أن يكون مسبّباً عن الإحتياجات الطارئة وحدها، فالإحتياج نفسه لا يخلق شيئاً، فضلاً عن عضوٍ كاملٍ متكامل، وإنّما الإحتياج يوجد الأرضيّة للخلق والإيجاد. الإحتياج ليس سوى الفقر. والذي يوجد هكذا أعضاء متناهية الدقّة هو عبارة عن جهازٍ أو قوّةٍ مدبّرةٍ وذات شعورٍ في وجود الكائن الحيّ، غير إرادة وشعور نفس الكائن. وهذا الحسّ بنفسه يعدّ سرّاً كبيراً ومهمّاً في عالم الطبيعة، فالدور المهمّ هو لردود الفعل التي يبديها الكائن الحيّ بهدايةٍ من البُعد الهدفيّ في طبيعته.
النتيجة: إنّ دور العوامل والقوانين الخارجيّة هو الإعداد (علّة إعداديّة) للتغيير، ولكنّها ليست هي التي توجد التغيير والتبدّل، أمّا العلّة الموجدة فهي قوّةٌ خفيّةٌ مجهولةٌ في الطبيعة، ينتج عنها ردّ الفعل المعيّن ذلك، وبتلك الصورة الهادفة، حيث انتخبت نوعاً معيّناً من الأجهزة التي لا يدركها الحيوان نفسه قبل وجودها.

4 ـ الجواب الرابع: أجهزةٌ متكاملة:

إنّ ثمّة أجهزةً في تكوين الكائن الحيّ لا يمكن الإستفادة منها ما لم تكن متكاملة، وإلا فإنّها لا تنفعه، وفي مثل هذه الحالات لا يمكن تصوّر التدريج في تكوينها، ومثال ذلك العين:
فإنّ العين مكوّنةٌ من جهاز معقّدٍ للغاية، لا يمكن للإنسان الاستفادة منه إلا بوجود تمام أجزائه، ففي مثل ذلك كيف يمكن تصوّر التدريج والتكامل في تكوين العين؟
فلو لم تكن العين موجودةً بهذا الشكل من التكامل في مراحل تطوّرها الأولى فإنّ الإنسان لم يكن ليستفيد منها، وبالتالي لما كانت محلّاً للتطوّر والتكامل لا وفق قوانين لامارك، إذ وفق قوانينه سيؤدّي عدم الإستفادة منها إلى الإستغناء عنها وفقدانها، ولا وفق قوانين داروين، حيث لا مكان لانتخاب الأفضل ما دامت العين حينها غير قابلةٍ للاستفادة منها حتّى تتطوّر.
ففي مثل هذه الأجهزة التي لا يُستفاد منها إلا وهي متكاملة، وما أكثرها، لا يمكن أن نقول: قد بقي الجزء المفيد منها تلقائيّاً إلى أن ظهر جزءٌ جديدٌ أكمله.

خلاصة

ـ يدّعي البعض أنّ نظريّة تطوّر أنواع الكائنات الحيّة التي ظهرت في العلم الحديث تنافي بعض أدلّة التوحيد.

ـ ثمّة ثلاثُ نظريّاتٍ في مجال ثبات الأنواع وتطوّرها:

1ـ نظريّة ثبات الأنواع وقدمها. 2ـ نظريّة ثبات الأنواع. 3ـ نظرية التطوّر.
تقوم نظرية التطور على أساس أنّ التغييرات التي تحدث في الكائنات الحيّة، والتي أدّت إلى ظهور هذا التنوّع فيها، هي نتيجة قوانين وعوامل طبيعية.
ـ والإشكال الذي يُطرح ـ بناءً على هذه النظريّة ـ على أدلّة التوحيد، هو أنّ الإلهيّين إستدلّوا بإتقان النظم في العالم، ليُثبتوا وجود قوّةٍ حكيمةٍ ومدبّرةٍ وراء هذا العالم، والحال أنّ هذه النظريّة تُثبت أن الإتقان في النظم ليس سوى نتيجة قوانينَ ماديّةٍ طبيعيّةٍ، أدّت على مدى قرونٍ متطاولةٍ إلى ظهور هذا النظم، وبالتالي فلا محلّ لقوّة أخرى.

ـ أمّا الجواب على الإشكال:

أولاً: بعد أن عجزت نظريّة التطوّر عن الإجابة على مجموعةٍ كبيرةٍ من المشاهدات الخارجية، ثبت علميّاً عدمُ صحّة هذه النظريّة في تفسير التكامل، وبقي العلماء عاجزين عن تفسير التطوّر تفسيراً طبيعيّاً.
ثانياً: تكتفي هذه النظريّة بوصف كيفيّة حدوث التطوّر، وتنسبه إلى قابليّةٍ هادفةٍ في الكائنات تسمح لها بالتبدّل، بينما السؤال في برهان النظم عن القوّة التي أتقنت صنع الكائنات بحيث أودعتها قابليّةً هادفةً تسير بها نحو التكامل.
ثالثاً: تعجز هذه النظريّة عن تفسير مجموعةٍ من التغييرات الناتجة عن ردّات فعل الكائنات غير الإراديّة، وهذه التغييرات تحدث نتيجة حسٍّ وشعورٍ داخليٍّ، يبقى سرّاً من أسرار الخلق.
رابعاً: بعض أجهزة الكائنات الحيّة لا يمكن الإستفادة منها إلا متكاملة، وفي مثلها لا يُتصوّر التدريج في تطوّرها.
المصدر :
1- (بحار الأنوار: 2/168)
 



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.