قال أمير المؤمنين عليه السلام في النهي عن عيب الناس (وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة، أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنه.
فكيف بالعائب الذي عاب أخاه وعيره ببلواه، أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه ما هو أعظم من الذنب الذي عاب به، فكيف يذمه بذنبٍ في ركِبَ مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه. وأيم الله لو لم يكن عصاه في الكبيرلقد عصاه في الصغير ولجرأته على عيب الناس أكبر.
يا عبد الله لا تعجل في عيب عبدٍ بذنبه فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك تعذب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته مما ابتلي به غيره).(1)
(يَا أَيهَا الذِينَ آمَنوا اجْتَنِبوا كَثِيرًا منَ الظن إِن بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلَا تَجَسسوا وَلَا يَغْتَب بعْضكم بَعْضًا أَيحِب أَحَدكمْ أَن يَأْكلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتموه وَاتقوا اللهَ إِن اللهَ تَوابٌ رحِيمٌ)(2)
أشرنا فيما مضى إلى الآثار العامة لارتكاب الذنوب مطلقاً. إلا أن هناك بعض الذنوب لها آثارها الخاصة دنيوياً وآخروياً، وعلى الفرد والمجتمع أيضاً وبالتالي لا بد من الإشارة إليها، والاطلاع على تبعاتها؛ لعلنا نحذر منها فلا نقدم على ارتكابها.
* الغيبة وآثارها
الغيبة مرض نفسي واجتماعي قاتل، أصبح في أيامنا فاكهة المجالس لا يتورع الكثيرون عنه جهلاً وغفلة وتهاوناً عند بعض، وعمداً عند البعض الآخر، ولقد ورد النهي المؤكد والمشدد عن الغِيبة في القرآن الكريم والروايات الشريفة، لذلك يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أن حرمة الغيبة محل اتفاقٍ اجمالا، بل تعد من ضروريات الفقه ومن المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة"(3).وقال بعضهم: "أدركنا السلف لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس"(4).
ويقول العلامة المجلسي قدس سره: "واعلم أن السبب الموجب للتشديد في أمر الغيبة وجعلها أعظم من كثيرٍ من المعاصي الكثيرة، اشتمالها على المفاسد الكلية المنافية لغرض الحكيم سبحانه بخلاف باقي المعاصي فإنها مستلزمة لمفاسد جزئية"(5).
ولهذا فإن سلوك سبيل الله إنما يكون بسائر وجوه الأوامر والنواهي، لا باتيان بعضها وترك بعضها الآخر؛ لأن هذا موجبٌ للتهاون بأوامر الله ونواهيه وبالتالي التهاون بالله عز وجل وجعله في حد أهون الناظرين والمراقبين، بل إن البعض قد لا يخاف من خالقه بقدر ما يخاف من مخلوقاته.
* تعريف الغيبة
ذكرت تعاريف كثيرة للغيبة أشهرها "ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه، مما يعد نقصاناً في العرفِ بقصد الانتقاص والذم”.وقد عرفها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لأبي ذر عندما سأله: "قلت يا رسول الله ما الغيبة؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: ذكرك أخاك بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته"(6). وقال بعضهم في تعريفها: "ذكرك أخاك بما يسؤوه في ظهر الغيب”.
القيود المأخوذة في أكثر التعاريف، هي :
الف - تحديد الشخص المغتاب.
ب- أن يكون أخاً في الدين.
ج- أن لا يكون متجاهراً بالفسق.
د- قصد التنقيص لا المصلحة (عند البعض).
هـ- أن يكون موجوداً فيه (لا يكذب في قوله).
و- أن يكشف أمراً مستوراً لا ظاهراً.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "المستفاد من أخبار الغيبة أن كشف ستر المؤمنين حرام، بمعنى أنه يحرم إظهار عيوب المؤمنين المستورة من دون فرق بين أن تكون هذه العيوب خَلقية أو خلقية أو سلوكية... وسواء كان هناك قصد انتقاص أم لا، ولكن يستفاد من مراجعة عدة روايات في المقام أن لقصد الانتقاص والطعن دور في حرمة الغيبة..."(7).
ولكن لا بد من الإشارة والتنبيه إلى أن عدم توفر قيود الغيبة، قد لا يرتب عنوانها وحرمتها، إلا أنه موجبٌ لحرمات أخرى كالهتك والإيذاء والإهانة وإشاعة الفاحشة.
* أسباب الغيبة في رواية الإمام الصادق عليه السلام
قال سلام الله تعالى عليه: أصل الغيبة يتنوع بعشرة أنواع
1 ـ شفاء غيظ: فيغتاب أحدهم ويقع فيه وفي عرضه ليروي غليله ويشفي حقده وينفس قلبه.
2ـ ومساعدة قومٍ: في غيبتهم وتعرضهم لأعراض الناس، فلا يرد عليهم غيبة المغتاب ويدافع عنه، وقد يشاركهم القول مؤيداً لهم ولو بالإشارة ونحوها.
3ـ وتهمة: بلا أي سبب ومبرر، ومن دون أي دليل على قوله.
4ـ وتصديق خبرٍ بلا كشفه: دون تبين وتثبتٍ وقد أمر بذلك.
5 ـ وسوء ظن: بالآخرين وقد أمر بحسن الظن بهم، وأن يحملهم على العمل الحسن.
6ـ وحسدٍ: لغيره مما هم عليه من النعمة.
7ـ وسخريةٍ: منهم.
8ـ وتعجبٍ: مما فعلوه وقالوه.
9ـ وتبرمٍ: إظهار الانزعاج مما فعله فلان.
10ـ وتزينٍ: بأنه لا يفعل ما فعله أو ما قاله فلان.
* آثار الغيبة الخاصـة دنيوياً وأخرويـاً
الغيبة ذنبٌ وكبيرة من الكبائر تشملها آثارهما بشكل عام، ولها آثارها الخاصة، كما هو الوارد في الآيات والروايات، وسنشير إلى بعضها.*أ – الآثار الدنيويـة للغيبة
1- بغض الله: بغض الناس وإحباط الأجر
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إياك والغيبة فإنها تمقتك إلى الله والناس وتحبط أجرك"(9).
وعنه أيضاً قال: "أبغض الخلائق إلى الله المغتاب"(10).
2- اللعنة
والمراد منها الطرد من رحمة الله، روى عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "ملعون ملعون من اغتاب أخاه"(11).
3- أقبح اللؤم
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:"من أقبح اللؤم غيبة الأخيار"(12).
4- تأكل دين الرجل
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه"(13).
5- أشد من الزنا
عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الغيبة أشد من الزنا، قلت ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأن الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه، والغيبة لا تغفر حتى يَغفرها صاحبها"(14).
6- تورث غيبة المغتاب
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا تَغتب فتغتب ولا تحفر لأخيك حفرة فتقع فيها، فإنك كما تدين تدان"(15).
7- الخروج من ولاية الله
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من روى على مؤمنٍ رواية يريد بها شينه وهدم مرؤته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله عز وجل من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان"(16).
8- عدم قبول الصلاة والصوم
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلا أن يغفر له صاحبه"(17) .
* ب – الآثار الأخرويـة للغيبة
1- دخول النار
روي أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: "من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار" (18).
2- إدام كلاب النار
عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته إلى نوف البكالي قال: "اجتنب الغيبة فإنها إدام كلاب النار"(19).
3ـ محو الحسنات
عن الباقر عليه السلام قال: "إذا كان يوم القيامة أقبل قوم على الله عز وجل فلا يجدون لأنفسهم حسنات، فيقولون إلهنا وسيدنا ما فعلت حسناتنا، فيقول الله عز وجل أكلتها الغيبة، إن الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحلفاء"(20).
4ـ أنتن من الجيفة
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... ونهى عن الغيبة وقال: من اغتاب امرأً مسلماً بطل صومه ونقض وضؤوه، وجاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة، يتأذى بها أهل الموقف(21).
* المفاهيم الأساس
1- إن أسوء فواكه المجالس هي فاكهة الغيبة، بل هو مرض نفسي واجتماعي له آثاره المدمرة للمجتمع وأخلاقياته.
2- الغيبة تعني ذكر إنسان غائب عنا بما يكره نسبته إليه ويعد إنقاصاً له وذم بحقه.
3- إن من آثار الغيبة في الدنيا: الخروج من ولاية الله، وأما من آثارها الأخروية فدخول النار.
* أقسام الذنوب
صعد أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:“أيها الناس إن الذنوب ثلاثة، ثم أمسك. قال له حبة العرني: يا أمير المؤمنين قلت الذنوب ثلاثة ثم أمسكت! فقال: ما ذكرتها إلا وأنا أريد أن أفسرها ولكن عرض لي بهرٌ حال بيني وبين الكلام.
نعم الذنوب ثلاثة: فذنب مغفورٌ، وذنبٌ غير مغفورٍ، وذنبٌ نرجو لصاحبه ونخاف عليه.
قال: يا أمير المؤمنين فبينها لنا؟
قال: نعم, أما الذنب المغفور فعبدٌ عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين، وأما الذنب الذي لا يغفر، فمظالم العباد بعضهم لبعضٍ، إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفٌ بكف ولو مسحةٌ بكف ولو نطحةٌ ما بين القرناء إلى الجماء(القرناء أي التي لها قرن والجماء التي لا قرن لها.)، فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لا تبقى لأحدٍ على أحدٍ مظلمة ثم يبعثهم للحساب. وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على خلقه (عبده) ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ونخاف عليه العذاب”.
المصادر:
1- وسائل الشيعة، ج15، ص291
2- سورة الحجرات، الآية: 12
3- الأربعون حديثاً، ص283
4- بحار الأنوار، ج72، ص222
5- م.س. البحار، ج72، ص223
6- وسائل الشيعة،ج12،ص281
7- الأربعون حديثاً، ص283
8- مستدرك الوسائل، ج9، ص118
9- غرر الحكم، ص221
10- مصدر سابق،غرر الحكم،ص122
11- وسائل الشيعة، ج12، ص231
12- غرر الحكم، ص221
13- الكافي، ج2، ص356
14- وسائل الشيعة، ج12، ص280
15- بحار الأنوار، ج72، ص248
16- الكافي، ج2، ص358
17- مستدرك الوسائل، ج9، ص122
18- نفس المصدر، ص126
19- وسائل الشيعة، ج12، ص283
20- مستدرك الوسائل، ج9، ص124
21- وسائل الشيعة،ج12،ص283
/م