1 ـ المنهج الروائي :
إنّ الذين كتبوا في قضية المهدي كثيرون جداً ، قديماً وحديثاً ، ومنهم من أفرده بكتاب مستقل ومنهم من كتب فصلاً أو فصولاً ، وقد احصى عبد المحسن العباد في بحثه المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة أكثر من عشرة مؤلفين من أجلاء علماء أهل السنّة ، منهم : الحافظ أبو نعيم والسيوطي الشافعي ، والحافظ ابن كثير ، وعلي المتقي الهندي صاحب كنز العمال ، وابن حجر المكي في مؤلّفه : (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر) ، ومرعي بن يوسف الحنبلي (ت / 1033 هـ) ، ومؤلّفه الذي سمّاه (فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر) ، ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية ، ومنهم : القاضي محمد بن علي الشوكاني (ت / 1250 هـ) الذي سمّي مؤلّفه : (التوضيح في تواترما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح) إلى غيرهم .
أمّا عند الشيعة فهناك عشرات الكتب والرسائل التي كتبت ونشرت قديماً وحديثاً منها أخيراً : منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني ، وإلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب للشيخ علي اليزدي الحائري ، والمهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنّة والإمامية للشيخ نجم الدين العسكري ، نشر مؤسسة الإمام المهدي ـ طهران ، والإمام المهدي لعلي محمد علي دخيل طبع بيروت ، وهو جليل ومهم جداً .
وقد اعتمد هؤلاء العلماء وغيرهم في مناقشاتهم لدعاوى المنكرين على الأدلة النقلية غالبأ ، فأثبتوا صحّة أحاديث المهدي من طرق أهل السنّة والشيعة (1) ، وتعدد طرق الرواية ، وكثرة الرواة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من سائر الفرق والمذاهب الإسلامية.
فقد نقل الشيخ العباد أن رواة حديث المهدي من الصحابة ستة وعشرون راويأ ، أمّا الأئمة الذين خرّجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي فيبلغ عددهم ثمانية وثلاثين ، ذكر أسماءهم وفي مقدمتهم أبو داود في سننه ، والترمذي في جامعه ، والنسائي في سننه ، وأحمد في مسنده ، وأبو بكر بن شيبة في المصنف ، والحافظ أبو نعيم في الحلية وفي كتاب المهدي ، والطبراني في المعجم الكبير والأوسط ، وابن عساكر في تاريخه ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده ، وابن جرير في تهذيب الآثار ، والبيهقي في دلائله ، وابن سعد في الطبقات وغيرهم.
ونريد أن نسأل (أحمد أمين) ومن عزف على نغمته هنا : هل أنّ مثل هؤلاء الأئمة من علماء الحديث والرواة المعتبرين الذين تلقتهم الأمّة بالقبول ، واعتمدت عليهم فيما نقلوه من صحيح الآثار أو صححوه ، كلهم يتواطؤن على نقل (أسطورة) ؟ وكيف يعقل أن تهتم الأمّة ، وأجلة العلماء والمحققين وأصحاب الصحاح والمسانيد (باسطورة) إلى هذا الحدّ ؟! ولماذا هذه الجرأة المنافية لأبسط قواعد الذوق والمنطق والعلم والأخلاق ؟ أوليس تدلّ مثل هذه التشويشات على ركوب الهوى أو الانسياق واللهاث وراء تلويحات الوهابية ، (ورنين إغراءاتها) ؟ بل إن العلماء المتقدمين منهم والمتأخرين أثبتوا تواتر أحاديث المهدي ليقطعوا الطريق والعذر على المتشككين والمتأولين ، كما فعل الشوكاني (ت / 1250هـ) في رسالته المسمّاة ب (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح) ، والبزرنجي (ت / 1103هـ) في (الإشاعة لأشراط الساعة) ، ثم ذ كر الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية آخرين ، منهم : الحافظ الآبري السجزي (ت / 363 هـ) ، والشيخ محمد السفاريني (ت / 1188 هـ) في كتابه لوامع الأنوار البهية ، ومنهم : الشيخ صديق حسن القنوچي (ت / 1307 هـ) ، ومن المتأخرين الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد بن جعفر الكتاني (ت / 1345هـ) في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر. (2)
وقد تصدّى العلماء أيضأ إلى ما تعلّق به الخصوم من دعاوى ، وما أثاروه من إشكالات وطعون في الروايات وأجابوا عن ذلك بجوابات سديدة ومتينة ، ولعلّ من أهم هذه الدراسات الحديثة :
الف ـ دراسة عبد المحسن العباد ـ وهو إستاذ جامعي ومن علماء أهل السنّة ـ وهي على ما فيها من زلّات واشتباهات ، إلأ أنه عرض فيها بالتفصيل لذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأحصى منهم ستة وعشرين صحابيأ ، ثم ذكر أسماء الأئمة الذين خرّجوا أحاديث المهدي ، وأحصى منهم ـ أي من أئمة الحديث ـ ثمانية وثلاثين ، ثمّ أورد بعد ذلك أسماء العلماء الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف ، وذكر عشرة منهم ، ثم ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ، ثمّ انتقل إلى ذكر ما ورد في الصحيحين ممّا له تعلّق بالمهدي ، ثم انتقل إلى ذكر بعض الأحاديث في غير الصحيحين من السنن والمسانيد ، ثّم ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها ، ثم تعرض بالمناقشة القوية للمنكرين لأحاديث المهدي أو المترددين في شأنه ، وذكر منهم ابن خلدون ، وسجّل عليه ملاحظات وإيرادات أظهر فيها تهافته وعدم تبصّره بالأُمور ، ونقل عن الشيخ المحقق أحمد شاكر الذي حقق مسند الإمام أحمد وخرّج أحاديثه قوله عن ابن خلدون رادّاً عليه تشكيكاته : «أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحماً لم يكن من رجا لها ، وأنه تهافت تهافتاً عجيبأ في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي وغلط أغلاطاً واضحة..» وانتهى آخر الأمر إلى أنّ المهدي حقيقة ثابتة لا تقبل الشك.
ب ـ أمّا الدراسة الثانية فكانت للباحث والمحقق ثامر العميدي ، الذي جرى على منهج علماء الإمامية الأجلّاء الذين عالجوا هذه المسألة ، وأشبعوها بحثأ واستقصاءً ، واستطاع هذا الباحث الفاضل أن يُلخّص تلك المطالب ، ويستوفي تلك المضامين ويستوعبها ، ويضفي على ذلك كله من بيانه وتحقيقاته ، ويخرجه على منهج علمي رصين ، وقد استغرقت هذه الدراسة الصفحات من 171 إلى 611 من الجزء الأول من كتابه القيّم (دفاع عن الكافي) الذي نشره مركز الغدير للدراسات الإسلامية سنة 1995 م.
ومن أهم الأمور التي عرض لها بأُسلوب علمي : تحليل فكرة الاعتقاد بالمهدي (3) ، ومناقشاته لتضعيفات ابن خلدون ، ونقله أكثر من ثمانٍ وخمسين (4) شهادة وتصريح بصحة أحاديث المهدي أو تواترها ، ثم مناقشته لمن أنكر ولادة المهدي ، وإيراده أدلةً وافية متينة واعترافات من أهل السنّة بدءأ من القرن الرابع الهجري وحتى قرننا الحالي بولادة الإمام المهدي ووجوده الشريف ، وأخيرأ مناقشته الطريفة لفرية السرداب وغيرها. (5)
لقد أوردت هاتين الدراستين بصفتهما نموذجين حديثين للدراسات التي التزمت بمسلك العلماء المتقدمين والإفادة منهم واتّباع منهجهم ، وإلّا فهناك عشرات الدراسات لأفاضل العلماء والمحققين ممن برع في مناقشة تلك القضية.
2 ـ المنهج العقلي (منهج الشهيد الصدر رضي الله عنه) :
لم ينطلق الشهيد الصدر في بحثه (قضية المهدي) من بديهيات ومقدمات مسلم بها عند الأطراف ، ولم يعتمد تتّبع القضية في كتب التفسير والرواية ، أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد ، وإنما سلك مسلكاً آخر ، فبدأ بطرح الإثارات حول القضية وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة مما قيل ويقال حول القضية ، ثمّ بدأ بالمناقشة العميقة والدقيقة معتمدأ الدليل العقلي ، ومستندأ إلى معطيات العلم والحضارة المعاصرة ، ونعرض معالم هذا المنهج كما يأتي :
ألف ـ لقد مهّد السيد الشهيد لبحثه بإعطاء تصور واضحٍ لفكرة المهدي في جذورها الممتدّة إلى التراث الديني والإنساني ، ثم انتقل إلى تأصيلها في الفكر الإسلامي ، ثم عرضها في التصور الإسلامي على أنّها ليست مجرّد فكرة وأمل يداعب الشعور ، ويجد عنده الإنسان المسلم استراحةً تخلصه من حالة التوتر النفسي عندما تشتد وتتعاظم المحنة ـ كما هو زعم بعض الباحثين ـ وإنما (المهدي) يتجسد في إنسان معين حيّ يعيش مع الناس ويشاركهم وهمومهم وآلامهم ، ويترقب مثلهم اليوم الموعود.
ب ـ إن هناك صعوبة في استيعاب هذا التصور الأصيل ، فقد أثار إشكالات وتساؤلات هي في عقول الناس ، وفي حواراتهم المعلنة أو الحبيسة ، ومن هنا بدأ الشهيد الصدر رضي الله عنه يطرح هذه التساؤلات والإثارات بكل صراحة ووضوح ، ثم يشرع في معالجتها باُسلوبه الخاص ؛ وذلك ليضع القضية في محلها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساسأ على العقلانية والواقعية والبرهان.
اً ـ والتساؤل الأوّل الذي يطرحه السيد الشهيد هو :
«إذا كان المهدي يُعبّر عن إنسان حيّ عاصركل تلك الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظل يعاصر امتداداتها ، فكيف تأتّي له هذا العمر الطويل ؟ !وكيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتم مروره بمرحلة الشيخوخة والهرم ؟! » ثم أخذ ينتقل من سؤال إلى سؤال ، ومن إثارة إلى إثارة بترتيب منطقي يمهد الجواب السابق للاحق ، وتترابط المضامين والمباحث ترابطآ منهجيأ محكماً . وبالنسبة إلى السؤال الأؤل أعاد طرحه كالآتي : هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قرونأ متطاولة ، كما هو المفترض في المهدي الذي طوى من العمر أكثر من ألف ومئة وأربعين سنة ؟ وهذه الصياغة للسؤال لا تختلف بشيء عن السابق ، وتمهيدأ للجواب أعطى إيضاحأ لأنواع الإمكان المتصورة أو المعروفة وهي الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي ، وبعد أن بين المقصود بها خلص إلى القول : بـ «أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيأ؛ لأن ذلك ليس مستحيلأ من وجهة نظر عقلية تجريدية» وأن الإمكان العملي بالنسبة إلى نوع الإنسان ليس متاحاً الآن ، والتجربة المعاصرة لا تساعد عليه.
أما الإمكان العلمي فلا يوجد ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية؛ لأن التجارب آخذه بالازدياد لتحويل الإمكان العلمي إلى إمكان عملي ، وهي سائرة بهذا الاتجاه من زاوية محاولاتها لتعطيل قانون الشيخوخة. وفي ضوء هذا لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب والإنكار اللهم إلأ من جهة أن يسبق (المهدي) العلم نفسه فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية. وهذا أيضأ لا يوجد مبرر عقلائي لاستبعاده وإنكاره ، إذ هو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء السرطان أو غيره مثلأ.
إن هذا السبق ـ كما يقول السيد الشهيد ـ في الأُطروحة الإسلامية عمومأ ـ التي صممت قضية المهدي ـ قد وقع وحصل في أكثر من مفردة وعنوان ، وقد سجّل القرآن الكريم نظائر ذلك حين أورد وأشار إلى حقائق علمية تتعلق بالكون والطبيعة وجاء العلم فأزاح الستار عنها أخيرأ ، والأكثر صراحة أن القرآن قد دؤن أمثال ذلك كما في مسألة عمر النبي نوح عليه السلام قال تعالى : (فَلِبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) سورة العنكبوت : 14 ، ثم ينتقل السيد الشهيد إلى افتراضٍ آخر ينشأ عن السابق وهو :
ماذا لو افترضنا أنّ قانون الشيخوخة قانون صارم ، وأنّ إطالة العمر أكثر من الحدّ الطبيعي والمعتاد خلاف القوانين الطبيعية التي دلّنا عليه الاستقراء ؟ !
وجوابه : أنه حينئذ يكون من قبيل المعجزة ، وهي ليست حالة فريدة في تاريخ الأنبياء والمرسلين ، والأمر بالنسبة للمسلم الذي يستمد عقيدته من القرآن والسنّة المشرّفة ليس أمراً منكراً ، إذ هو يجد أنّ القانون الذي هو اكثر صرامة قد عُطّّل ، كما حدث بالنسبة إلى النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في نجاته من النار العظيمة بعد أن أُلقي فيها ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (6)
ثمّ يبيّن السيد الشهيد بعد ذلك انّ مسألة المعجزة بمفهوها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر مما كانت عليه . وشرع في تقديم المعالجة الفلسفية المتينة مستنداً إلى النظريات الفلسفية الحديثة .
بً ـ وينتقل السيد الشهيد إلى سؤال آخر وهو :
لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمر المهدي إلى هذا الحدّ ، فتعطل القوانين لأجله ؟ ولماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول : إنّ قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن ان تترك لشخص آخر يتمخض عنه المستقبل وتنضجه إرهاصات ذلك اليوم ؟ ويعيد صياغة السؤال كالآتي :
ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة ؟ وماهو المبرر لها ؟ ويعقّب هنا قائلاً : إنّ الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً أي أنّهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها .
وللإجابة عن هذا السؤال ، يتقدم السيد الشهيد وهو متسلح بالمعرفة بقوانين الاجتماع ، وبمتطلبات التغيير الاجتماعي وقوانينه ، فيبدأ بطرح سؤال يمهد به للإجابة ، وهو :
هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل للقائد المدّخر عاملاً من عوامل نجاحه في عملية التغيير المرتقب ؟ ثمّ يجيب بالإيجاب ، ويقدم أدلّة تستند إلى فهم عميق لحركة التاريخ ، ومستلزمات التغيير الحضاري الشامل ، وأثر الحضارات التي ينشأ الإنسان في ظلها على مستوى تفكيره ورؤاه ودوره الحضاري ، ثم يكئف المسألة في ضوء رسالة الإسلام والنقلة الحضارية التي يريدها.
وهكذا يحؤل السيد الشهيد البحث إلى دراسة اجتماعية تعتمد المقولات والمفاهيم الاجماعية ، فضلأ عن تأصيل مفاهيم ونظرات اجماعية مهمة.
جً ـ ينتقل الشهيد الصدر رضي الله عنه بعد ذلك إلى معالجة قضية أكبر ترتبط بقضية المهدي وهي :
(الإمامة المبكرة) أو (كيفية إعداد القائد الرسالي) في نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ، فيذكر أن هذه الظاهرة (الإمامة المبكرة) عاشتها الأئة فعلاً (7) ، وقد بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد من قبله .
وهذه الظاهرة ـ كما يقول رضوان الله تعالى عليه ـ «تشكل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر ، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهر هي من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أمّة» (8) .
ويورد السيد الشهيد كثيراً من الحقائق التاريخية التي تؤكد هذه الظاهرة ، ثم يخلص إلى القول : بأخها أي الإمامة المبكرة في ضوء ذلك كانت ظاهرة واقعية وليست وهمأ أو مجرد افتراض ، وأن الا أمثلة في القرآن الكريم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى النبي يحيى عليه السلام في قوله تعالى : (وآتيناه الحكم صبيّاً) سورة مريم : 12. وهذا ما لا يسع المسلم إنكاره.
دً ـ وينتقل السيد الشهيد إلى البحث الروائي وإلى ما رذده وأثاره المشككون والخصوم قديمأ وحديثأ بقوله :
«كيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي ؟ وهل تكني بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من كرابة وخروج عن المألوف ؟ بل كيف يمكن أن ئثبت أن للمهدي وجودأ تأريخيأ حقأ ، وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته ؟ »
هكذا يطرح السيد الشهيدهذا السؤال بكل تفرعاته الممكنة والمنتزع بعضها مما أثاره ويثيره بعض المتأثرين بمناهج الغرب في دراسة تاريخنا الإسلامي وقضايانا الإسلامية مثل أحمد أمين في دراسته (المهدي والمهدوية) ومرا سلك حذا المسلك من الخصوم .
ويتصدى السيد الشهيد للإجابة عن هذا السؤال متسلحأ ومتوسلأ بمنطق العقل والدليل العقلي ، وعندما يعرض الدليل الروائي أيضأ في المقام نجده يعرضه مدعومأ بالوثائق والواقع والتجربة التاريخية ، ولنسمعه يقول :
«إن فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عمومآ ، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصأ ، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك ، وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق إخواننا أهل الشئة ، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والشئة فكانت أكز من (ستة آلاف رواية) ، وهذا ـ كما يقول السيد المثهيد ـ رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البدعية التي لا يشك فيها مسلخ عادة» .
ج ـ يتخذ السيد الشهيد رضي الله عنه هنا مسلكأ جديداً في الاستدلال على (الخصوصية المذهبية) أي مسألة تجسيد الفكرة (فكرة المهدي) في إنسان معين هو الإمام الثاني عشر ، مستفيدأ من الروايات والبحث الروائي ، وموظفأ ذللث بصورؤ مبدعل! في إثبات (المهدي) ، فيطرح أولأ المبررات التي يراها كافية للاقتناع ويلخصها في دليلين أحدهما أطلق عليه (الدليل الإسلامي) والآخر (العلمي) فيقول : «فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر ، وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة ا لتا ريخية» .
ويشرع بتقديم الدليل الإسلامي فيراه متمثلأ بمئات الروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، والأئمة من أهل البيت عليهم السلام والتي تدلّ على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت ، ومن ولد فاطمة ، ومن ذرية الحسين عليه السلام وليس من ذرية الحسن عليه السلام ، وأنه التاسع من ولد الحسين عليه السلام ، وأن الخلفاء اثنا عشر. فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخفها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام .
ثم يقول رضوان الله تعالى عليه بشأن تلك الروايات : «وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار ـ كما ورد عن طرقنا ـ على الرغم من تحفظ الأئمة عليهم السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الاغتيال..» .
إن الروايات الكثيرة جدأ التي تشكل رقماً إحصائيأ كبيراً ـ أي بلوغها حدّ التواتركا حكى غير واحد من العلماء ـ يرى السيد الشهيد أن الأساس في قبولها ليس مجرد الكزة العددية على الرغم من أنه قد استقز في الأوساط العلمية الروائية اعتبار مثل هذه الكزة ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها.
فالحديث الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده صلى الله عليه وآله وسلّم ، وأنهم اثنا عشر إمامأ أو خليفة أو أميراً على اختلاف مق الحديث في طرت الختلفة ، قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكز من مئتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والشئة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأب داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم ، وقد لاحظ الشهيد الصدر رضي الله عنه هنا أن البخاري (المولود 194 ، والمتوفى 256 هـ) ، الذي نقل الحديث كان معاصرأللإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري وفي ذلك مغزي كبير ؟ لأنه يبرهن على أن الحديث قد نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحقق مضمونه ، وهذا يعني أن نقل الحديث لم يكن متأثرأ بالواقع الإمامي الاثني عشري أو يكون انعكاسأ له ؟ لأن الروايات المزيفة التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنيأ لا تسبق في ظهورها وتسجيلها كتب الحديث ، ولقد جاء الواقع الإمامي الاثناعشري ابتداءً بالإمام علي وانتهاءً بالمهدي ؟ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.
هذا هو الدليل الإسلامي ، كما اصطلح عليه السيد الشهيد الصدر، أي الدليل الروائي في إثبات المهدي .
أما الدليل الآخر الذي اصطلح عليه بـ (العلمي) والذي يسوقه السيد الشهيد لإثبات الوجود التاريخي للمهدي ، وأنه إنسان بعينه ولد وعاش واتصل بقواعده الشعبية وبخاصته ، فإن هذا الدليل يتكون كما يرى السيد الشهيد من التجربة التي عاشتها أفة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريبأ وهي فترة الغيبة الصغرى. ويعطي السيد الشهيد هنا فكرة عن هذه الغيبة ، ويفلسفها ، مبينأ دور القائد المهدي ، ودورسفرائه الأربعة ، وما صدر عنه من إتوقيعات) أي رسائل وإجابات كلها جرت على أشلوب واحد ، وبخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة الختلفين أسلوباً وسليقة وذوقاً وخطاً وبياناً ، ومثل هذا كاشف بالضرورة عن وجود (الرجل) ، لأنه قد ثبت واستقر في الأوساط الأدبية وبما لا يقبل الشك أن الأسلوب هو الرجل ، وكل الدارسين والمتذوقين للأدب يدركون هذه الحقيقة بوضوح.
وبعد هذه القرينة والشواهد القوية على وجود الإمام المهدي كما يؤكدها السيد الشهيد يتجه إلى منطق الاستقراء ونظريه الاجمال لتعزيز ذلك فيقول : «لقد قيل قديمأ : إن حبل الكذب قصير ، ومنطق الحياة يثبت أيضأ أن من المستحيل عمليأ بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل ، وكل هذه المدة ، وضمن كل تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثم تكسب ثقة جميع من حوالا» .
وهكذا يخلص السيد الشهيد إلى القول أخيرأ : «أن ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد ، بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد » أي حتى يأذن الله تعالى له بالظهور لتأدية دوره ووظيفته التغييرية الكبرى «فيملأ الأرض عدلأ وقسطأ بعدما فلئت ظلمأ وجورأ» ، كما بمثر بذلك خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، وهذا هو ما عليه اعتقاد الإمامية ، ومقتضى توقيع الإمام الثاني عشر بإعلانه الغيبة الكبرى.
وأخيرأ واستكمالاً للبحث ، ربما يثير بعضهم سؤالأ حول المنهج الذي اتبعه الإمام الشهيد كما حدّدناه ، وكما هو في واقعه ـ والسؤال هو
لماذا لم يسلك السيد الشهيد منهج المتقدمين في البحث الروائي ، ويضفي عليه من إبداعاته والتفاتاته ما يزيل الشكوك والتقولات التي تثار حول أسانيد الروايات ، وتضعيف بعفهم لما ؟
وفي الجواب عن ذلك نسجل الملاحظات الآتية :
أولاً :
لقد ذكر السيد الشهيد أن هناك عددأ هائلأ من الروايات بلغت رقماً إحصائيأ لم يتوفر لأية قضية مشابهة من قضايا الإسلام ، بل إن بعضهم حكى التواتر فيها ، وعليه فليس بوسعهم إنكار ذلك أو عدم الاعتقاد بموجبه الفهم إلأ لجهة أخرى ، وليس هي إلأ جهة تغفل المسألة ، وقد حظيت باهمامه وبالتركيز عليها.
ثانياً :
إن أكثر المنكرين المعاصرين إنما أنكروها من زاوية عدم تعقل الفكرة أو تشخيصها وتجسيدها في إنسان ولد قبل قرون ، وما يزال ذا وجوب حي حقيقي . ومن هنا اتخذ السيد الشهيد ـ بلحاظ أن القضية في حقيقتها إسلامية وليست مذهبية فحسب ـ إلى (عقلنتها) من جميع جهاتها أو ما يلابسها ، تصوراً وقبولاً وواقعاً.
ثالثاً :
إن شأن الإيمان بالمهدي شأن الإيمان بمطلق ما ورد من المغيبات مما ثبت عن طريق الرواية كسؤال منكر ؤنكير في القبر ونحو ذلك مما لم يرد في البخاري ومسلم ، ومع ذلك فإن أحدأ من أبناء الإسلام لا يسعه إنكاره.
رابعاً :
إن الاختلاف بين المتعبدين بحجية الخبر الصحيح والإيمان بموجبه ، وعدم جواز تكذيبه ، إنما كان في مصداق القضية المتجسد في إنسان لا في أصل قضية المهدي ، وهو مما احتاج إلى تقديم المبررات المنطقية والعلمية لقبوله.
خامسأ :
إن الذين أنكروا أو شككوا بالروايات الواردة في المهدي ، وحاولوا تضعيفها ليسوا من أهل الفن والعلم بالرواية وبالأسانيد ، ولذلك فليس ما يدعو إلى إتعاب النفس معهم كثيراً ، بل لا بد من الاتجاه إلى تثبيت العقيدة في نفوس المؤمنين وذلك (بعقلنتها) وتوظيفها لإعلاح شأنهم وشؤونهم. ولقد تعامل السيد الشهيد مع قضية المهدي على أنها حقيقة ثابتة تاريخية تعيشحها الأمة شعورأ وأملأ وترقبأ وانتظارأ إيجابيأ فاعلأ ومؤثرأ في حياتها وجهادها المستمر بلا هوادة في مواجهة الظلم والظالمين والطغاة والجبارين ، هذا فضلأ على أن العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أشبعوا هذا الموضوع بحثأ وتحقيقأ وناقشوا مناقشات وافية شافية كل الطعون والأقوال والتضعيفات المزعومة ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفأ.
سادساً :
إن من التفاهة ، والخطل في الرأي بالنسبة إلى من يؤمن بموجب الخبر الصحيح ، ويوجب تصديقه لمجرد وروده في البخاري حتى لو كان مصادمأ لبعض الحقائق الطبيعية أو منافيأ للعقل أو للذوق إذ يوجب تأويله حينئذ (9) ، حيث وردت مجموعة من الأحاديث والروايات مما يتنافى مع العقل والذوق في صحيح البخاري . ثم عندما تصل النوبة إلى مسألة (المهدي المنتظر) على تعدد طرقها ، وصحة أسانيدها في السوق والمسانيد ، وعلى شرط البخاري ومسلم ، نراه يتوقف أو يتحفظ أو يتردد ، وليس لديه حجة إلأ أن المسألة ـ حسب تصوره القاصر ـ من معتقدات الشيعة ، مع أنها كما ثبت عقيدة السلف والخلف من جمهور الأمّة على امتداد القرون ، كما نبّه الى ذلك الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول على التاج الجامع للأصول في الجزء الخامس وفي الصحيفة ثلاثمئة واحدى وستين .
سابعاً :
إنّ بحث السيد الشهيد رضي الله عنه هو مقدمة لموسوعة ضخمة تتناول بالبحث الروائي مسألة المهدي ألّفها العلاّمة السيد محمد الصدر ، والسيد الشهيد رضي الله عنه عبّر عن أمله بالمؤلّف وبأنه اوفى المسالة حقّها ومن جميع جوانبها ، ولذا فلا مبرر للبحث الروائي عنده .
المصادر :
1- عقيدة أهل السنّة والأثر في المهدي المنتظر / الشّيخ عبد المحسن العبّاد ، / منتخب الأثر / العلأمة الصافي الگلبايگاني.
2- راجع الأجوبة عن طعونهم في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1 : 205.
3- دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1 : 171 وما بعدها.
4- المصدر نفسه 1 : 205. و 343.
5- دفاع عن الكافي 1 : 535. و 593.
6- سروة الأنبياء : 69 .
7- الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 319 وما بعدها ، وأيضاً الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 223 و 224.
8- الصواعق المحرقة ص 94.
9- تأويل نحتلف الحديث لابن قتيبة : ص 276 ، طبعة القاهرة 1326