يقول الله تعالى في محكم كتابه:﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ (1)
أهم الوسائل العلاجيّة لهذا المرض الخطير، ومنها: الدواء، وهو نوعان:
دواء تحصين واكتساب للمناعة ضدّ كلّ أنواع المفاسد، وذلك يكون من خلال:
التربية الصحيحة منذ الصغر على الأحكام الشرعيّة وبيان المصالح المترتّبة على الالتزام بها والمفاسد الناتجة عن تركها.
تنمية الشعور بالرقابة الذاتيّة ومحاسبة النفس.
تفعيل الرقابة الأسريّة والاجتماعيّة.
تنمية الوازع الديني وحالة الخوف من الله وتقواه.
دواء لاقتلاع المرض بعد حدوثه واستئصال جذوره. ويكون ذلك من خلال:
التوبة والاستغفار والمبادرة إلى الإصلاح إن كان الفساد حالةً شخصيّة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قانون العقوبات في الإسلام الشامل للحدود والتعزيرات الّتي تشكل رادعا للمرتكبين والمفسدين وعلاجا فوريا لهذه الحالة المرضية.
درهم وقاية خير من قنطار علاج
أوّل الوقاية يكمن في التزكية وإصلاح النفوس، وبها يرتبط فيها الإنسان بالله عزّ وجلّ، ويستحضر عظمته، يستحيي منه، يخاف عذابه، ويرجو ثوابه.حيث إنّ أهم ما يجب أن يهتمّ به الإنسان هو نفسه الّتي بين جنبيه ثمّ ينطلق من بعد إصلاح نفسه إلى إصلاح الآخرين. يقول أمير المؤمنين وأستاذ المصلحين عليه السلام في كلماته القصار: "ومعلِّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلِّم الناس ومؤدّبهم" ،(2)كما أنّ الفلاح وعدمه يرتبطان بطريقة التعامل مع هذه النفس، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾(3).
والتزكية كلمة في اللغة العربية لها معنيان, الطهارة والنماء، فالإنسان إذا أراد أن يزكّي نفسه عليه أن يطهّر نفسه ويخلّيها من الرذائل أوّلا ويحلّيها بالفضائل ثانياً.
ويلاحظ في القرآن الكريم تركيزه على مسألة إصلاح النفس أكثر من بقيّة الجوانب لأنّ ذلك هو المنطلق، قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾(4).
عن الإمام الصادق عليه السلام: "حقّ على كلّ مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كلّ يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيّئة استغفر منها لئلّا يُخزى يوم القيامة"(5).
وعنه عليه السلام: "إذا أويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك، واذكر أنّك ميّت وأنّ لك معادا"(6).
فإذا قام الإنسان بتزكية نفسه وحاسبها كما وردت الروايات به فإنّه لا شكّ سيبتعد عن كلّ أنواع المعاصي وما يترتّب عليها من مفاسد, ولو أخطأ لا سمح الله فإنّه يبادر إلى التوبة كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون...﴾ (7)وإلّا كان من ذوي النفوس الأمّارة بالسوء.
التربية الأسرية والرقابة فيها
قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(8).هناك وسائل عديدة يمكن الإفادة منها في سبيل إصلاح الفرد والمجتمع وتقف على رأس أولويّات هذه الوسائل التربية الصحيحة للفرد على المستوى النفسيّ والتربويّ والدينيّ والتأديب على خصال الخير ومكارم الأخلاق.
وينبغي في التربية مراعاة الأصول الشرعيّة والتربويّة في تنشئة الأولاد، والاهتمام وعدم الإهمال فما أفسد الأبناء شيء كتغافل الآباء وإهمالهم.
ومن الأسس المساهمة في تربية الأبناء وصلاحهم:
ـ التوازن بين الليّن والشدّة وقد أكدّت الروايات على الاعتدال في التعامل مع الطفل فلا إفراط ولا تفريط، عن الإمام الباقر عليه السلام: "شرّ الآباء من دعاه البرّ إلى الإفراط"(9).فإذا لم ينفع الإقناع واللين يأتي دور التأنيب أو العقاب المعنويّ دون البدنيّ، والعقوبة العاطفيّة خيرٌ من العقوبة البدنيّة كما أجاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام حينما سُئِل عن كيفيّة التعامل مع الطفل فقال: "لا تضربه واهجره... ولا تُطل"(10)
المبادرة إلى التربية في الصغر، فالتربية الفاعلة هي الّتي تكون في الصغر والطفل ينشأ على ما يعوّده عليه والداه في صغره.
ربط الأولاد بالله تعالى وتعظيم شأنه وطاعته سبحانه ومَنْ أمر بطاعته.
اتباع أسلوب الحوار، واعتماد سبيل العتاب بدل التوبيخ.
وجود القدوة الحسنة، وينبغي أن يتمثّل الوالدان ذلك فهما أكثر الناس تأثيراً في أولادهم.
فضل الأدب والتأديب
المراد من التأديب هو التهذيب ورياضة النفوس على محاسن الأخلاق والعادات وحملها على مكارم الأخلاق. وقد قيل: "من أدّب ابنه صغيراً قرّت به عينه كبيراً".وقديماً كانوا يرسلون أولادهم إلى حيث ينهلون الأدب وكان يقال للمعلم المؤدّب، وعلم لا يُفضي إلى أدب لا خير فيه.
وقد أدّب الأنّبياء عليهم السلام الناس على جملة من الأمور الّتي فيها خيرهم. وقد ذكر القرآن بعضا منها:
الأدب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ...﴾ (11)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ..﴾(12)
الأدب مع الوالدين ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ... فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا...﴾(13).
نماذج عملية من العلاج الإسلامي من خلال الوقاية الاستئذان عند الزيارة وغض البصر: لمّا كان الزنا طريقه النظر، ومبدؤه البصر والاطلاع على العورات، أرشد الله الحكيم عباده إلى الاستئذان إذا أرادوا دخول البيوت، وقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(14).
وفي شأن البصر خاصّة أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾(15)، وقدّم الأمر بغض البصر على حفظ الفرج لأنّ البصر هو بداية طريق خطيئة الفرج وهو الممهّد لها.
الإسلام ينهى المرأة عن ترقيق صوتها والخضوع في القول.
حرّم بعض أنواع الاختلاط.
منع مصافحة النساء غير المحارم.
منع المرأة من الخروج متعطّرة.
رغّب في الزواج: حيث إنّ الزواج عفة ووقاية, نصح الإسلام الأبوين بتزويج الولد والبنت متى بلغا, قال تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(16).
ودعا إلى تسهيل أمر الزواج وتخفيف المهور واختيار أصحاب الدين والخلق، وغير ذلك من أمور ممّا يشكّل قطعاً لمادّة الفساد قبل الابتلاء بشيء من هذا القبيل.
الترغيب والترهيب
اعتمد القرآن الكريم أسلوب الترغيب والترهيب للتحفيز على فعل الخيرات وترك الشرور والآثام من خلال بيان نتائج الأفعال بثوابها وعقابها، فرغّب في الثواب بتبيان عظيم الأجر،كقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(17).
وحذرّ أيضا من عظيم العقاب، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(18).
وهذا ما يلاحظ كثيرا في كتاب الله وكذا في الروايات الشريفة. وما ذلك إلّا ليعمل الإنسان من خلال الرغبة والرهبة وهو أسلوب يفترض أن يكون مؤثّرا إلّا عند من صم أذنيه وأغمض عينيه وعمي قلبه..
يُحكى انّه كان في إحدى القرى رجلٌ عجوز قد أنهكته سنيّ عمره، وصار يوماً بعد يوم يشعر بقرب أجله، فطلب من ولده في ليلة مظلمة من الليالي أن يخرج به إلى شيخ القرية لأمر خاصّ أخفاه في صدره.
فخرج الفتى يتقدّم أباه العجوز في عتمة الليل وفي يده فانوس يُضيء لهما الطريق، ومن زقاق إلى زقاق، حتّى وصلا إلى منزل الشيخ، وطرقا الباب وطلبا الإذن بالدخول فأذن لهما.
فقال العجوز: يا شيخنا إنّي وكما تعلم رجل هرِم قد أنهكتني الدنيا ومصائبها، وأخشى على نفسي أن يأتي طالبها، ويسترجعها صاحبها، ولم أكن قد أبقيت لها ما ينفعها في آخرتها، ولي قطعة أرض تعرفها، أريد أن أتزوّد بها لآخرتي، وبما ينفعني في رقدتي، فاجعلها في سبيل الله ينتفع بها المؤمنون بما تراه مصلحة لهما.
فماذا ترى لأكتب لك ورقة تقوم بتنفيذها بعد وفاتي؟
فقال الشيخ: أمهلني ليوم أو يومين حتّى نرى ما هو الخيار الصحيح في هذا الأمر.
ثمّ خرج الوالد العجوز وابنه من عند الشيخ، ولمّا صارا في الطريق، التفت الولد إلى أبيه، وقال: يا والدي إنّك تعلم أنّي مذ بلغت الحلم وأنا مطيع لك وسأبقى كذلك ما دام في جسدي عرق ينبض ولكن لي عندك طلب.
قال: ما هو يا بنيّ؟! قال: أن أمشي خلفك وتمشي أمامي.
فوافق العجوز على ذلك، ومشيا معاً على تلك الهيئة، وكان الليل شديد السواد والظلمة، والولد يحمل الفانوس الذي ينير الطريق وهو يمشي خلف والده، إلى أن وصلا دارهما بعد أن عانى العجوز وعثر كثيراً في أزقة القرية.
فالتفت إلى ولده وقال: أي بني ما سبب كلّ هذا العناء؟ وما هي غايتك وراء هذا الأمر؟
فقال الفتى: يا والدي، لو أنّك تنازلت عن الأرض للوقف في حياتك كان خيرا لك من تنازلك عنها بعد موتك، أوليس وصولك للنور خير من انتظار وصوله، فلعلّ أحد أبنائك يعترض على ما أقدمت عليه، ويكون سبباً في تأخير وصول الأجر إليك، فبادر قبل موتك لصدقة نافعة باقية مضمونة.
فما كان من الوالد العجوز إلّا أن ذهب عند الصباح إلى الشيخ وتنازل عن تلك الأرض لما فيه خير المسلمين والإسلام.
في مواجهة الفساد
يقول الله تعالى في محكم كتابه:﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (19)
لقد حذّرنا الله سبحانه من الفساد في الأرض، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(20).
وسبب ذلك أنّ الفساد عاقبته وخيمة ليس على المفسد فحسب، بل قد تعمّ المجتمع بأسره، يقول الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(21).
وبالتالي فإنّ المنكرات إذا انتشرت وفشت في الناس، ولم يكن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المؤمنين بالله, فلا يأمننّ أحد من هؤلاء المؤمنين أو من غيرهم البلاء والسخط الإلهيّ الّذي سيحيق بهم.
دواء لاقتلاع المرض بعد حدوثه
إنّ إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحفظ المجتمع وصلاحه وفلاحه، وترك ذلك سبب في هلاكه وفساده، فالمجتمع كالسفينة إذا تهاون أهلها في ردع من يريد خرقها سيغرقون جميعاً، فأصحاب المنكرات كالزاني والمستهزئ بالدين ومن يشيع السفور والفجور وآكلو الربا وأموال الناس بالباطل والرشاة والمرتشون وغيرهم كثير، كلّ هؤلاء ينخرون في سفينة المجتمع، فإن لم يُمنعوا وينكر عليهم صار العذاب عامّاً والعقوبة شاملة.من هنا فإنّ مكافحة الفساد ومواجهة الظلم واجب شرعيّ وقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جملة الوظائف الّتي يجب على الناس العمل بها لمحاربة الفساد ضمن شروط وضوابط معيّنة, وهي ليست مقتصرة على فئة من الناس في المجتمع كالعلماء والحكومات بل تشمل المؤمنين جميعا.
أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(22).عن الإمام علي عليه السلام: "قوام الشريعة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود"(23).
وعنه عليه السلام - لرجل قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك، فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا. فقال عليه السلام: "....إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم"(24).
لماذا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
إذا كان الفاسد لا يجد من يردعه فإنّه سوف يتجرّأ على الزيادة والولوج في ماهو أعظم, وقد يتجرّأ الآخرون ويسلكون مسلكه ويعمّ الفساد يوما بعد يوم لذا يقول الإمام علي عليه السلام: "ظهر الفساد فلا مُنكر مُغيّر، ولا زاجر مزدجر"(25).
وعن الإمام الحسين عليه السلام: "اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه... ثمّ قرأ عليه السلام: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾(26) ، وقال: فبدأ الله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها في حقّها"(27).
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنّبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر"(28).
يظهر من هذه الروايات الأثر الهامّ والإيجابيّ لهاتين الفريضتين، وذلك بالتفصيل التالي:
1ـ تقام الفرائض , فلا يتساهل أحد في أداء هذه الفرائض لأنّه بالأمر بالمعروف لا يبقى مجال للتغافل عن هذه الواجبات لأنّ تركها يترتب عليه العقوبات, إضافة إلى أن انتشار المعروف واختفاء الفساد يؤثر إيجابا في توجه النفوس نحو الطاعة والعبادة والفرائض.
2ـ تأمن المذاهب, والأمن هو المطلب الرئيس للناس ولذلك امتن الله على قريش بهذه النعمة فقال : ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ والأمن المطلوب هو الأمن على جميع المستويات, على الأنفس والأموال والأعراض وهذا ما يحقّقه بشكل كبير التزام هذه الوظيفة من قبل الناس.
3ـ تحلّ المكاسب, فلا يأخذ الإنسان ما ليس له, ولا يأكل الناس أموالهم بينهم بالباطل نتيجة الإرتداع عن المعاملات والمكاسب المحرّمة, فلا تعامل إلا بالحلال الطيّب.
4ـ تُرد المظالم, ويكون بإرجاع الحقوق لأصحابها، لأنّ التزام هذه الفريضة من قبل الحاكم طوعا أو فرض ذلك عليه وهو الّذي يملك السلطة وبيده مجرى الأمور, وكذلك الرعيّة من خلال نصرة المظلوم على ظالمه، يردع الظالم عن ظلمه ويوقفه عند حدّه.
5ـ تعمر الأرض, فإذا كان الفساد يظهر في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس, فكذلك فإنّ الوقوف في وجه الفساد من خلال هذه الوظيفة له أثر معاكس, فيكثر الخير وينزل الغيث وتعمر الأرض.
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البِرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"(29).
6ـ ينتصف من الأعداء, فإذا كانت الجبهة الداخليّة للمجتمع الإسلامي متماسكة يسودها الصلاح والرفاه والكفاية وتخلو من الأمراض الّتي تفكّك الروابط بين أبنائه فلا شكّ أنّ ذلك سيقوّي من قدرة هذا المجتمع في مواجهة الأعداء، لذا ورد عن الأمير عليه السلام: "فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين"(30).
خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السلام-: "إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرًّا لم تضرّ إلّا عاملها، وإذا عمل بها علانيّة ولم يعيّر عليه أضرت العامة. قال جعفر بن محمّد عليهما السلام: وذلك أنّه يذلّ بعمله دين الله، ويقتدي به أهل عداوة الله"(31).وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليعمّنكم عذاب الله"(32)
كيف نتعاطى مع أهل المنكر؟
قال تعالى : ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(33)وعن الإمام الباقر عليه السلام: "فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(34) ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطانا، ولا باغين مالا، ولا مريدين بالظلم ظفرا، حتّى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته"(35).
هذه الروايات وأمثالها تحدّد طريقة التعاطي مع أهل المنكر ليكون للنهي عنه الأثر الفعال والنتائج المرجوّة، وذلك على الترتيب التالي:
أوّلاً: نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهّرة بما يفهمهم بأنّنا ننكر أفعالهم ولا نرتضيها, وألّا نعمل بأسلوب من تحدثت عنهم الآية ﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾(36) وأوضح الإمام عليه السلام -: "أنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم، ولا يجلسون مجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وأنسوا بهم".
ثانيا : الإرشاد وبذل النصيحة لأهل المعاصي والّذين قد أسرفوا على أنفسهم، وتقريبهم إلى الله وتحبيبهم في الطاعة، ونسعى لمعالجة هذا المرض النفسي لديه. ينبغي القيام بهذا الواجب سرًّا بنحو لا يؤدّي إلى إفشاء أسراره ولا تهدر كرامته لدى المرشد، ما تيسر ذلك.
ثالثا: إعمال اليد والسلطة بما لا يؤدي إلى جرح أو كسر كما ذكر الفقهاء وإلّا احتاج الأمر إلى إذن الحاكم الشرعيّ. كما جاء عن الإمام الباقر عليه السلام في الرواية المتقدّمة: "فإن اتعظوا وإلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الّذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم".
كما يلزم إرجاع حقّ الآخرين ـ المعتدى عليهم ـ إليهم.
على أنّه ينبغي في مجال الأمر بالمعروف رعاية أمور أخرى:
كالتدقيق في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نُخلص نيّاتنا، ويكون تعاملنا مع مرتكبي المعاصي تعامل الطبيب المخلص مع المريض كما كان رسول الله (طبيب دوّار بطبّه)، ومراعاة الشروط الشرعيّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلينا أن لا نتلوّث ونتأثّر بالمجرمين والعُصاة، فنقع في فخّ المعصية بدلاً من المنع عنها.
وعلى سلوكنا أن يكون بنحو لا يرغّب الآخرين في ارتكاب المعصية، فعليه إضافة إلى عدم ارتكابها أن لا يرغب الآخرين والّذين معه في ارتكابها.
ويجب أن لا يؤخذ الناس بالظن والتهمة ويُجعل الأصل فيهم الريبة وعدم الثقة، فهذا مما يتنافى مع أصول الإسلام، فالأصل في الناس الإيمان والصلاح.
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف!
﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾(37).
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ، ولا أظهر من الباطل... ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر !"(38).
ولعلّ الإمام عليه السلام ينطلق في كلامه هذا من كلام آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدّث فيه عن زمان يشبه إلى حدّ كبير الزمان الّذي نعيش فيه، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبّانكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟! قيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم وشرّ من ذلك، وكيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟! قيل: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم وشرّ من ذلك، وكيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا"(39).
وهذا يعود إلى التقصير في مواجهة المنكر فيعتاد الناس عليه حتّى يصير أمراً مستساغاً بل قد يصير من المعروف الّذي لا ينبغي النهي عنه, كذا المعروف الّذي يُهمل الأمر به يصبح غريباً عن الناس حتّى لا يعود مستساغاً بينهم فينكروه، والواقع خير شاهد على ذلك فالربا والعلاقات المحرّمة واستماع الغناء والاختلاط صار النهي عنها مدعاة للسخرية والإنكار, والعفّة في اللسان والفرج والتدقيق في الحلال والحرام صار مدعاة للسخرية والإنكار أيضا، إلّا في نطاق محدود.
المصادر :
1- سورة الأعراف، الآية: 201.
2- نهج البلاغة، ج4، ص16.
3- سورة الشمس، الآيات: 7 -10.
4- سورة الأعراف، الآية: 58.
5- تحف العقول، الحرّاني، ص301.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي،71 ، 267 ، 17.
7- سورة الأعراف، الآية: 201.
8- سورة التحريم، الآية: 6.
9- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص320.
10- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج23، ص114.
11- سورة النور، الآية: 5.
12- سورة الحجرات، الآية: 2.
13- سورة الإسراء، الآية: 23.
14- سورة النور، الآية:27.
15- سورة النور، الآية: 30.
16- سورة النور، الآية: 32
17- سورة آل عمران، الآيتان: 14 - 15.
18- سورة التوبة: الآيتان: 34 - 35.
19- سورة التوبة، الآية: 71
20- سورة الأعراف، الآية: 56.
21- سورة الأنفال، الآية: 25.
22- سورة آل عمران، الآية: 104.
23- غرر الحكم، ح6817.
24- نهج السعادة، ج 2 ، ص 226.
25- نهج البلاغة، الخطبة 24.
26- سورة التوبة، الآية: 71.
27- تحف العقول، ص 237.
28- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج5، ص56.
29- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج16، ص123.
30- نهج البلاغة، ج4، ص8.
31- ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص311.
32- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج11، ص407.
33- سورة الأنعام، الآية: 68.
34- سورة الشورى، الآية:42.
35- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج11، ص 403.
36- سورة المائدة، الآية: 79.
37- - سورة التوبة، الآية: 67.
38- نهج البلاغة، الخطبة 147.
39- تحف العقول، الحرّاني، ص49.