للإمام الهادي (عليه السلام) جملة احتجاجات ومناظرات وأجوبة على مسائل شتى، جرت له مع بعض مناوئي أهل بيت النبوة (عليهم السلام) وخصوم الرسالة ممن يحاول الكيد له، وقد أفلح (عليه السلام) بحجته البالغة وبرهانه الساطع وسرعة بديهته بعيدا عن دواعي التبجح والمكابرة، كما ناظر وحاجج جده الإمام الصادق (عليه السلام) الزنادقة والملحدين، وفي ما يلي نورد بعضا منها: أجوبته (عليه السلام) ليحيى بن أكثم عن مسائله:
1 - قال موسى بن محمد بن الرضا: لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة، فسألني عن مسائل، فجئت إلى أخي علي بن محمد (عليه السلام) فدار بيني وبينه من المواعظ هو أبو أحمد موسى المبرقع، شقيق أبي الحسن الهادي (عليه السلام) من طرفي الأب والأم، وهو جد السادة الرضوية، قدم قم سنة 256 ه، وهو أول من انتقل من الكوفة إلى قم من السادة الرضوية، سمي بالمبرقع لأنه كان يسدل على وجهه برقعا، مات نحو سنة 266 ه، ودفن في داره بقم، وقيل: في دار محمد بن الحسن بن أبي خالد الأشعري، وهو المشهد المعروف اليوم.
ما حملني وبصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك، إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها، فضحك (عليه السلام) ثم قال: فهل أفتيته؟ قلت: لا، لم أعرفها. قال (عليه السلام): وما هي؟ قلت: كتب يسألني عن قول الله: *(قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)*(1) نبي الله كان محتاجا إلى علم آصف (2)؟
وعن قوله: *(ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا)*(3) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟ وعن قوله: *(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب)*(4)، من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب النبي (صلى الله عليه وآله) فقد شك، وإن كان المخاطب غيره فعلى من إذا أنزل الكتاب؟ وعن قوله: *(ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)*(5)، ما هذه الأبحر، وأين هي؟
وعن قوله: *(وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)*(6)، فاشتهت نفس آدم (عليه السلام) أكل البر فأكل وأطعم، وفيها ما تشتهي الأنفس، فكيف عوقب؟ وعن قوله: *(أو يزوجهم ذكرانا وإناثا)*(7)، يزوج الله عباده الذكران، وقد عاقب قوما فعلوا ذلك؟ وعن شهادة المرأة جازت وحدها، وقد قال الله: *(وأشهدوا ذوي عدل منكم)*.
وعن الخنثى وقول علي (عليه السلام): يورث من المال ، فمن ينظر إذا بال إليه؟ مع أنه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليه الرجال، أو عسى أن يكون رجلا وقد نظرت إليه النساء، وهذا ما لا يحل، وشهادة الجار إلى نفسه لا تقبل.
وعن رجل أتى إلى قطيع غنم، فرأى الراعي ينزو على شاة منها، فلما أبصر بصاحبها خلى سبيلها، فدخلت بين الغنم، كيف تذبح، وهل يجوز أكلها أم لا؟ وعن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار، وإنما يجهر في صلاة الليل؟
وعن قول علي (عليه السلام) لابن جرموز: بشر قاتل ابن صفية بالنار ، فلم يقتله وهو إمام؟ وأخبرني عن علي (عليه السلام) لم قتل أهل صفين، وأمر بذلك مقبلين ومدبرين، وأجهاز على الجرحى. وكان حكمه يوم الجمل أنه لم يقتل موليا، ولم يجهز على جريح، ولم يأمر بذلك، وقال: من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، لم فعل ذلك، فإن كان الحكم الأول صوابا، فالثاني خطأ.
وأخبرني عن رجل أقر باللواط على نفسه أيحد، أم يدرأ عنه الحد؟
جواب الإمام الهادي (عليه السلام):
قال (عليه السلام): اكتب إليه. قلت: وما أكتب؟ قال (عليه السلام): اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم وأنت - فألهمك الله الرشد - أتاني كتابك، فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلا إن قصرنا فيها، والله يكافيك على نيتك، وقد شرحنا مسائلك، فأصغ إليها سمعك، وذلل لها فهمك، واشغل بها قلبك، فقد لزمتك الحجة والسلام.
سألت عن قول الله جل وعز: *(قال الذي عنده علم من الكتاب)* فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان (عليه السلام) عن معرفة ما عرف آصف، لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان (عليه السلام) أودعه عند آصف بأمر الله، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته، كما فهم سليمان (عليه السلام) في حياة داود (عليه السلام)، لتعرف نبوته وإمامته من بعده لتؤكد الحجة على الخلق.
وأما سجود يعقوب (عليه السلام) وولده، فكان طاعة لله ومحبة ليوسف (عليه السلام)، كما أن السجود من الملائكة لآدم (عليه السلام) لم يكن لآدم (عليه السلام) وإنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم (عليه السلام)، فسجود يعقوب (عليه السلام) وولده ويوسف (عليه السلام) معهم كان شكرا لله باجتماع شملهم، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت: *(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث)*(8)... إلى آخر الآية.
وأما قوله: *(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب)*، فإن المخاطب به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكن في شك مما أنزل إليه، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث الله نبيا من الملائكة، إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق، فأوحى الله إلى نبيه: *(فاسأل الذين يقرؤون الكتاب)* بمحضر الجهلة، هل بعث الله رسولا قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة، وإنما قال: *(فإن كنت في شك)* ولم يكن شك، ولكن للنصفة، كما قال: *(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)*(9)، ولو قال: عليكم لم يجيبوا إلى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته، وما هو من الكاذبين، فكذلك عرف النبي أنه صادق في ما يقول، ولكن أحب أن ينصف من نفسه.
وأما قوله: *(ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)* فهو كذلك، لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر يمده سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيونا، لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله، وهي عين الكبريت، وعين التمر ، وعين برهوت، وعين طبرية، وحمة ماسبذان ، وحمة إفريقية يدعى لسنان ، وعين بحرون ، ونحن كلمات الله التي لا تنفد ولا تدرك فضائلنا.
وأما الجنة فإن فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وأباح الله ذلك كله لآدم (عليه السلام)، والشجرة التي نهى الله عنها آدم (عليه السلام) وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد، فنسي ونظر بعين الحسد، ولم يجد له عزما.
وأما قوله: *(أو يزوجهم ذكرانا وإناثا)* أي يولد له ذكور، ويولد له إناث، يقال لكل اثنين مقرنين زوجان، كل واحد منهما زوج، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم *(ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا)*(10) إن لم يتب.
وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت، فهي القابلة، جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضى فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها.
وأما قول علي (عليه السلام) في الخنثى فهي كما قال: ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة، وتقوم الخنثى خلفهم عريانة، وينظرون في المرايا، فيرون الشبح فيحكمون عليه.
وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة، فإن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين، وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر، ثم يفرق النصف الآخر، فلا يزال كذلك حتى تبقى شاتان، فيقرع بينهما، فأيتها وقع السهم بها ذبحت وأحرقت، ونجا سائر الغنم.
وأما صلاة الفجر، فالجهر فيها بالقراءة، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يغلس بها فقراءتها من الليل.
وأما قول علي (عليه السلام): بشر قاتل ابن صفية بالنار، فهو لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان ممن خرج يوم النهروان، فلم يقتله أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان.
وأما قولك: إن عليا (عليه السلام) قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين، وأجاز على جريحهم، وإنه يوم الجمل لم يتبع موليا، ولم يجهز على جريح، ومن ألقى سلاحه آمنه، ومن دخل داره آمنه، فإن أهل الجمل قتل إمامهم، ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، رضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم، والكف عن أذاهم، إذ لم يطلبوا عليه أعوانا، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح الدروع والرماح والسيوف، ويسني لهم العطاء ، يهيئ لهم الأنزال، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم، لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض على السيف، أو يتوب من ذلك. وأما الرجل الذي اعترف باللواط، فإنه لم تقم عليه بينة، وإنما تطوع بالإقرار من نفسه، وإذا كان للإمام الذي من الله أن يعاقب عن الله، كان له أن يمن عن الله، أما سمعت قول الله: *(هذا عطاؤنا)*(11) الآية. قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه، فاعلم ذلك، والحمد لله رب العالمين (12).
2 - وروى ابن شهرآشوب نحو ما تقدم مع اختلاف في أول الحديث، ونحن نورد أول الحديث عن المناقب، لأنه يدل على أن المتوكل طلب من العالم الكبير يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت أن يمتحن الإمام (عليه السلام) بمسائل غامضة معقدة، لعله لا يهتدي لجوابها، فيتخذها وسيلة للتشهير به (عليه السلام) والحط من شأنه، ولكن لم يتم له ما أراد، فقد فوت الإمام بعلمه الذي لا يحد ومعرفته التي لا تحاط، على المتوكل الفرصة للنيل منه، فقد أملى الإمام (عليه السلام) على ابن السكيت أجوبة تلك المسائل الدقيقة بمجرد النظر إليها، فدلل بذلك على طاقاته العلمية الهائلة التي هي إحدى العناصر البارزة في معالم شخصية الإمام العظيمة.
وتدل رواية ابن شهرآشوب أيضا على أن يحيى بن أكثم رفع أسئلة إلى الإمام (عليه السلام)، كان قد كتبها من قبل، وأعدها للامتحان، منددا بابن السكيت وبإمكانيته في المناظرة، فأخذ الإمام (عليه السلام) الأسئلة، وأمر ابن السكيت أن يكتب أجوبتها، وفي ما يلي نورد أول حديث ابن شهرآشوب، لأن آخره مشابه لما أوردناه في الحديث الأول.
قال ابن شهرآشوب: قال المتوكل لابن السكيت: اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله فقال: لم بعث الله موسى (عليه السلام) بالعصا، وبعث عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): بعث الله موسى (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجة عليهم، وبعث عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطب، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم، وبعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم، وقهر سيفهم، وأثبت الحجة عليهم.
فقال ابن السكيت: فما الحجة الآن؟ قال: العقل، يعرف به الكاذب على الله فيكذب. فقال يحيى بن أكثم: ما لابن السكيت ومناظراته، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفع قرطاسا فيه مسائل، فأملى علي بن محمد (عليه السلام) على ابن السكيت جوابها (13)... الحديث، وأورد بعدها المسائل وجوابها بنحو ما تقدم في الحديث الأول.
احتجاجاته وأجوبته (عليه السلام) في مسائل شتى:
3 - قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أخبرني الأزهري، حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد المقرئ، حدثنا محمد بن يحيى النديم، حدثنا الحسين بن يحيى، قال: اعتل المتوكل في أول خلافته، فقال: لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة، فلما برئ جمع الفقهاء، فسألهم عن ذلك فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد ابن علي بن موسى بن جعفر (عليهم السلام) فسأله، فقال: يتصدق بثلاث وثمانين دينارا، فعجب قوم من ذلك، وتعصب قوم عليه.
قالوا: تسأله - يا أمير المؤمنين - من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه، فقال له: قل لأمير المؤمنين في هذا الوفاء بالنذر، لأن الله تعالى قال: *(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة)* فروى أهلنا جميعا أن المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطنا، وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له، وأجر عليه في الدنيا والآخرة (14).
4 - وروى الطبرسي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): أنه قال: اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) أن رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب، فأفهمه بحجته حتى أبان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد (عليه السلام) وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب، وهو قاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه، فاشتد ذلك على أولئك الأشراف، فأما العلويون فأجلوه عن العتاب، وأما الهاشميون فقال له شيخهم: يا بن رسول الله، هكذا تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟! فقال (عليه السلام): إياكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: *(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون)*(15)، أترضون بكتاب الله حكما؟ قالوا: بلى. قال: أليس الله يقول: *(يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم)* إلى قوله: *(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)*(16)، فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن. أخبروني عنه قال: *(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)* أو قال: يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات ؟ أو ليس قال الله: *(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)*(17)، فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله؟! إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها، لأفضل له من كل شرف في النسب.
فقال العباسي: يا بن رسول الله، قد أشرفت علينا، هو ذا تقصير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه. فقال (عليه السلام): سبحان الله! أليس العباس بايع أبا بكر وهو تيمي، والعباس هاشمي؟ أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهو هاشمي أبو الخلفاء، وعمر عدوي؟! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا فأنكروا على العباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن كان ذلك جائزا فهذا جائز، فكأنما القم الهاشمي حجرا (18).
5 - وعنه، بإسناده عن جعفر بن رزق الله، قال: قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري (عليه السلام) وسؤاله عن ذلك. فلما قرأ الكتاب كتب (عليه السلام): يضرب حتى يموت، فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، سله عن ذلك، فإنه شيء لم ينطق به كتاب، ولم تجئ به سنة.
فكتب إليه: إن الفقهاء قد أنكروا هذا، وقالوا: لم تجئ به سنة، ولم ينطق به كتاب، فبين لنا لم أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: *(فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)*(19) الآية، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات (20).
6 - وفي البحار، عن كتاب الاستدراك، بإسناده: أن المتوكل قيل له: إن أبا الحسن - يعني علي بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) - يفسر قول الله عز وجل:
*(ويوم يعض الظالم على يديه)*(21) الآيتين، في الأول والثاني. قال: فكيف الوجه في أمره؟ قالوا: تجمع له الناس وتسأله بحضرتهم، فإن فسرها بهذا، كفاك الحاضرون أمره، وإن فسرها بخلاف ذلك افتضح عند أصحابه. قال: فوجه إلى القضاة وبني هاشم والأولياء وسئل (عليه السلام) فقال: هذا رجلان كنى عنهما، ومن بالستر عليهما، أفيحب أمير المؤمنين أن يكشف ما ستره الله؟ فقال: لا أحب.
7 - وعن كتاب الاستدراك أيضا، قال: نادى المتوكل يوما كاتبا نصرانيا: أبا نوح، فأنكروا كنى الكتابيين، فاستفتى فاختلف عليه، فبعث إلى أبي الحسن (عليه السلام)، فوقع (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم: *(تبت يدا أبي لهب)* ، فعلم المتوكل أنه يحل ذلك، لأن الله قد كنى الكافر (22).
8 - وروى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي بإسناده عن محمد بن يحيى المعاذي، قال: قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته: من حلق رأس آدم حين حج؟ فتعايى القوم عن الجواب، فقال الواثق: أنا أحضركم من ينبئكم بالخبر.
فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فأحضر، فقال: يا أبا الحسن، من حلق رأس آدم؟ فقال (عليه السلام): سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا أعفيتني. قال: أقسمت عليك لتقولن. قال (عليه السلام): أما إذا أبيت، فإن أبي حدثني عن جدي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أمر جبرئيل أن ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها، فمسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرما.
9 - وروى ابن شهرآشوب عن أبي محمد الفحام، قال: سأل المتوكل ابن الجهم: من أشعر الناس؟ فذكر شعراء الجاهلية والإسلام، ثم إنه سأل أبا الحسن (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): الحماني حيث يقول: لقد فاخرتنا من قريش عصابة * بمد خدود وامتداد أصابع فلما تنازعنا المقال قضى لنا * عليهم بما نهوى نداء الصوامع ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا * عليهم جهير الصوت في كل جامع فإن رسول الله أحمد جدنا * ونحن بنوه كالنجوم الطوالع قال: وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، جدي أم جدك؟ فضحك المتوكل، ثم قال: هو جدك لا ندفعك عنه (23).
المصادر :
1- النمل: 40.
2- هو آصف بن برخيا.
3- يوسف: 100.
4- يونس: 94.
5- لقمان: 27.
6- الزخرف: 71.
7- الشورى: 50.
8- يوسف: 102.
9- آل عمران: 60.
10- الفرقان: 68 و69.
11- ص: 39.
12- تحف العقول: 476 - 481، الإختصاص: 91، المناقب لابن شهرآشوب 4: 404.
13- مناقب ابن شهرآشوب 4: 403، بحار الأنوار 50: 164.
14- تأريخ بغداد 12: 56، ونحوه في الإحتجاج للطبرسي: 454، والآية من سورة التوبة: 25.
15- آل عمران: 23.
16- المجادلة: 11.
17- الزمر: 9.
18- الإحتجاج: 455.
19- غافر: 84 و85.
20- الإحتجاج: 258.
21- الفرقان: 27.
22- بحار الأنوار 50: 214. المسد: 1. بحار الأنوار 10: 391.
23- تأريخ بغداد: 12 و56. المناقب 4: 406.
/ج