ركّز القرآن الكريم على حقيقة المعاد، إلى حدٍّ بلغت فيه الآيات التي تتحدّث عنه حوالي (1400) آية. ولا شكّ أنّه لم يرِدْ مثل هذا العدد من الآيات في أيّ موضوع آخر، ولا جرى تأكيده بمثل هذه الكثافة.
مناهج إدراك المعاد
إذاً، يدعونا القرآن إلى الإيمان والاعتقاد بالمعاد. وقد بلغت هذه المسألة حدّاً من التعقيد1 ألجأت الكثيرين إلى القول بأنّ قضيّة المعاد تعبّديّة محضة، ليس لنا أمامها سوى التسليم بها، ولا سبيل إلى معرفة المعاد إلا بالوحي الإلهيّ.لكون الحديث عنه يرجع إلى الحديث عن شيء لم نشهد له مثيلاً من قبل.
وقد بذل العلماء جهوداً لإدراك المعاد، وسلكوا في ذلك مناهج شتّى، ولكنّها لم تخلُ من إنحياز إلى ما يناسب قواعدهم وأفكارهم المسبقة، كما فَعَلَ كثيرٌ من المحدّثين والفقهاء، والفلاسفة والحكماء، وأكثر العلماء المتأخرين، فكلّ فريق منهم نظر إلى المعاد من زاوية تخصّه، وتمّم المسألة بما يناسب مبانيه، ثمّ إختار الآيات التي تنسجم مع ما ذهب إليه، وعمد إلى تأويل الآيات التي لا توافق مسلكه.
أمّا المنهج الذي سنتبعه، بحيث لا ننظر إلى المعاد من زاوية خاصّة، ولا نختار من الآيات قسماً معيّناً، هو أن ننطلق في بناء صيغة المعاد من القرآن نفسه، فنستعرض الآيات الدالّة على المعاد كما بيّنها القرآن، قبل السعي خلف الجهود العلميّة والعقليّة والفلسفيّة والإجتهادات الخاصّة، وبالتالي لن يكون لنا أيّ فكرة مسبقة لنظريّة معيّنة عن المعاد تخلّ في فهم ما أراده القرآن، ثمّ في ما بعد نسعى وراء الجهود العلميّة والعقليّة وغيرها.
المعاد في القرآن
لم ترِد كلمة (المعاد) بهذه الصيغة في أيّ آية من آيات القرآن. فهي وإن كانت من أشهر الأسماء الشائعة على لسان المتشرّعين، إلا أنّه لا وجود لها في التعبيرات القرآنيّة الدالّة على القيامة، بل (المعاد) إصطلاح اخترعه المتكلّمون ولعلّ أوّل من ذكر مسألة عدم ورود كلمة (المعاد) في النصوص الإسلامية، العلامة المجلسيّ في اعتراضه على مسألة عودة الأرواح إلى الأبدان؛ حيث تساءل فيما إذا كانت هناك كلمة بالأصل تدلّ على عودة الأرواح للأجساد.وأما استخدام القرآن لكلمة "تعودون" كما في ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (1)، فهي وإن دلّت على العود، إلا أنّها لم تذكر "المعا د" بهذا الوزن بمعنى زمان أو مكان العود.
نعم، استخدم القرآن كلمات شبيهة بالمعاد مثل (مآب)، و(رجوع)
و(منتهى). وقد استخدِمت هذه التعبيرات كلّها بمعنى العود والرجوع إلى الله، كما في قوله تعالى: ﴿...قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾(2)، وقوله:﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾(4).
نستنتج من ذلك أنّ مصطلح (المعاد) كي ينسجم مع التعبير القرآنيّ، فلا بدّ أن يكون بمعنى العودة إلى الله، دون غيره من المعاني.
أدلّة القرآن على المعاد
إنّ القرآن الكريم يقيم الدليل على المعاد للإيمان والاعتقاد به، ودليله على نحوين:1- إنطلاقاً من مسألة التوحيد: فمن يؤمن بوجود الله، وأنّه الخالق الحكيم لهذا الكون، لا بدّ أن يعتقد بأنّ هناك حكمة وراء هذا الخلق، حيث لا يمكن أن يكون خلق الحكيم عبثيّاً. ولو لم يكن هناك معاد لكان هذا الخلق عبثاً وبلا حكمة، يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ؟!﴾(5).
ثمّ إنّ الاعتقاد بقدرة الله المطلقة، يعني أنّه تعالى قادر على بعث كلّ شيء، بل إنّ مبدع الخلق الأول قادر على إعادته، وهو أهون عليه. وهو ما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..﴾(6).
2- انطلاقاً من نظام الخلق والتكوين: إنّ الرجوع إلى النظام المحيط بنا، يدفع الإنسان إلى الإيمان بحقيقة المعاد. فالمتأمّل في مراحل خلق الإنسان وتكوّنه، من مبدأِ انعقاده نطفةً إلى صيرورته طفلاً فإنساناً كاملاً، ثمّ موته، هذا المتأمل يصل إلى حقيقة أنّ هذا السير التدريجيّ لا بدّ أن يستمرّ إلى المعاد، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ...﴾(7)،وقال أيضاً: ﴿ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون، ثمّ إنّكم يوم القيامة تُبعثون﴾(8).
وكذلك يدعو القرآن من يرتاب بالقيامة، إلى النظر والتأمّل في تجدّد الأرض وانبعاث الحياة فيها بعد موتها، ليزيل أدران الشكّ والريب عن صدره.
حقيقة المعاد
1- إنّ للمعاد حقيقة واقعيّة، إلا أنّ الإنسان قاصر عن تصوّر حقيقته كما هي، لأنّه يعيش ضمن محيط يختلف عن محيط المعاد(كما نجد ذلك في الأمثلة التي يطرحها القرآن عن المعاد، فإنّها ترتبط بعالم غريب عن تصوّر ذهننا.). ويمكن تشبيه ذلك بالجنين والنظام الذي يعيشه في رحم أمّه، حيث لا يبصر ما حوله، ولا يشعر إلا بنظامه الخاصّ المحيط به، ولذلك فهو لا يملك أيّ تصوّر عن حياته بعد الولادة، كذلك الإنسان الذي يعيش الحياة الدنيا ويشعر بمحيطه الخاصّ، فإنّه يصعب عليه تصور الحياة الأخرويّة تصوّراً واقعيّاً.وهذا الأمر لا يضرّ في اعتقادنا بالمعاد، إذ يكفي الاعتقاد بهذه الحقيقة ضمن المقدار الثابت، والذي أشار إليه القرآن بشكل قطعيّ محكم، فيكفينا الاعتقاد بوجود حياة أخرى غير الحياة الدنيا، وأنّها خالدة، وأنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الحياتين، من قبيل ارتباط المقدّمة بالنتيجة والزرع بالحصاد.
فهذه الثوابت والحقائق التي أخبر بها القرآن لا يمكن إنكارها. في المقابل فإنّه ليس من الضروريّ معرفة كيفيّة العود، أو كيف تكون الحياة هناك، أو علّة خلود الحياة الأخرى وما شابه... ولا يجب على المُسلِم الاعتقاد بذلك.
القيامة في القرآن
يثبت القرآن أن القيامة حتمية، لكنّه يشير إلى أن توقيتها مجهول لا يعلمه إلا الله: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾(9)ويصف القرآن القيامة وصفاً يصعب على الإنسان تصوّره، فهي لا تقتصر على الإنسان، بل تقترن بانقلاب كونيّ جذريّ وشامل، يستوعب كلّ ما في الكون.
هكذا نجد القرآن يتحدّث عن تحوّل الجبال إلى ما يشبه القطن الناعم: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾(10)، ويطرأ على الأرض تحوّل لا سابق له: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾(11)، وينطفئ نور الشمس وتتبخّر البحار وتنكدر النجوم:﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت﴾(12)،﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾(13)...
الجنبة التربويّة للمعاد
يستبطن المعاد جنبة تربويّة بارزة، وهي الإرتباط الوثيق بين الحياتين الدنيا والآخرة، وقد عُبّر عنها في الحديث النبويّ الشريف: (الدنيا مزرعة الآخرة)(14)، بل كلّ أحاديث المعاد صدرت في إطار هذه الجنبة.ومفاد هذه الفكرة أنّ كلّ ما نفعله في دار الدنيا سنجده في تلك الدار، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً﴾(15)، ﴿فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره...﴾(16)، وكذا في كثير من الآيات...
ثمّ إنّه لشدّة تأكيد القرآن على حضور الأعمال يوم القيامة، ذهب بعضُ المفسّرين إلى القول بحضورها حقيقة، فيما حمل آخرون التعبير القرآنيّ على المجاز، لأنّ الأعمال تحصل في الدنيا وتفنى، فيما قال فريق ثالث إنّ صورتها هي التي تحضر في الآخرة، ولعلّه هو الأقرب!
وعلى كلّ حال فالتعبير القرآنيّ صريح بأنّ كلّ ما نعمله في الدنيا نجده في الآخرة. وما أبلغ التعبير الذي استخدمه القرآن في بيان هذا المعنى، إذ يدعو الإنسان إلى النظر في أعمال الدنيا على أنّها واقعة في الآخرة، حيث يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾(17).
المعاد والعلم الحديث
طُرِحت في العصور القديمة إشكالات حول المعاد. وقد أعان العلم الحديث بتطوره على حلّ هذه الإشكالات، وساعد على فهم المعاد بشكل عامّ أكثر ممّا سبق.فقد توقّف القدماء أمام مجموعة من تفاصيل المعاد، التي لم تكن مقبولة علميّاً لديهم، بحيث ألجأهم ذلك إلى ضرب من التأويل والتوجيه، كمسألة تحوّل الأرض إلى دخان، حيث كانوا يفترضون أنّ نظام الأفلاك كان على هذه الصورة منذ القدم وسيدوم عليها إلى الأبد، وكذا الكلام بالنسبة إلى كلّ ما يشير إليه القرآن من انقلاب كونيّ في أنظمة الوجود حيث يطال التغيّر الشمس والنجوم والبحار...
أمّا في عصرنا الحالي وبعد الإكتشافات العلميّة الحديثة، فإنّ هذه المسائل أصبحت محلولة ومقبولة، ولم يعد العلم الحديث معارضاً لنظريّة المعاد بالشكل الذي طرحه القرآن وفهمه المفسّرون، فهذا العلم إن لم يؤيّدها ويتوقعها، فهو على الأقلّ لا ينفيها.
رفع إستبعادات القيامة (الحياة مرّة أخرى) علميّاً
1- سبات الطبيعة ويقظتها:
في الطبيعة من حولنا سبات ويقظة يعمان الموجودات، ففي الإنسان سبات ويقظة خلال الليل والنهار، وفي بعض الحيوانات كل ستّة أشهر، كما في الطبيعة ذلك سنويّاً.كما أنّ هناك سباتاً ويقظة في النوع ككلّ، فإنّ موت إنسانٍ يمثّل سباتاً في النوع الإنساني، كما أنّ ولادة آخر تمثّل يقظة لهذا النوع.
إذاً، إنّ مسار الطبيعة برمّته هو عبارة عن تعاقب حالات السبات واليقظة.والقرآن أكّد هذا الأمر واعتمد عليه للتعبير عن الموت والحياة، ليقول في ما بعد إنّ القيامة ليست إلا واحدة من اليقظات أو الإنقلابات، نعم هي يقظة على مستوى
الأرض والشمس والنجوم... هي عبارة عن إنقلاب أو يقظة أو حياة كليّة.
2- ثبات الطبيعة وبقاؤها:
إنّ كلّ ما هو موجود في هذه الطبيعة باقٍ لا يُعدم، وما نتخيّله من إنعدام ليس أكثر من إنحلال وتحوّل إلى شيء آخر.وفي النتيجة إنّ الآثار تبقى ماكثة، يموت الأفراد بيد أنّ آثارهم وما اكتسبوه باقٍ في الطبيعة والوجود.
3- تجدّد الحياة بعد الموت:
إنّ المتابع للأبحاث العلميّة يعثر على نماذج وأمثلة كثيرة لتجدّد الحياة بعد الموت، كما في زراعة الأنسجة من بدنٍ ميت في بدن حيّ بحيث تعود هذه الأنسجة للحياة، والإحياء مجدّداً لمن يسجّل ميتاً طبيّاً بالتنفس الإصطناعيّ والصعقة الكهربائيّة وغيرها، حيث تعود الأجهزة- من قبيل القلب وجهاز التنفّس- للعمل من جديد. بل أكثر من ذلك، فقد تمّ إحياء أموات قد توفوا فعلاً بالرصاص عبر ضخّ الأوكسجين وترميم الأجزاء التالفة وتبديل الدم.. كذلك نوم المرتاضين لعدّة أيّام بل أشهر في القبر...كلها أمثلة على إمكانيّة تعطيل الحياة الإنسانيّة وإحيائها مجدّداً في شروط ملائمة، بل إذا عمّمنا نظرتنا إلى الحياة بحيث تشمل الحيوانات والنباتات، فسنجد أمثلة أبرز نشهد فيها بقاء الحياة ونموّها وتشكّلها مجدّداً.
4- الطبيعة واختزال الأجيال وحفظها:
إنّنا إذا تأمّلنا في الطبيعة لوجدنا فيها قدرة على تكثيف عدّة أجيال واستخلاصها في بيئة صغيرة، كما أنّ فيها قانوناً يحمي هذا التكثيف ويحافظ عليه، وهو ما يعبّر عنه القرآن ب- (القرار المكين).هذا كلّه يندرج تحت النظريّة العلميّة القائمة على أساس أنّ أيّة قطعة من جسم الإنسان تستطيع أن تعيد إنتاج الإنسان الأوّل عينه بشكله وصفاته وخواطره ذاتها لو وضعت في محيط مناسب ونمت، تماماً كما تفعل النطفة والبذرة والجذر وغيرها... وهذا الشخص سيكون وارثاً للشخص الذي سبقه واستمراراً له.
ولو كان المحيط الجديد ينطوي على شروط أفضل وتتوافر فيه لوازم أنسب من تلك الموجودة في الدنيا، لحصل لتلك القطعة نموّ إستثنائيّ بحيث يرى الشخص الجديد نتاج وعواقب الأعمال السابقة المتمثّلة بصورة ملكات وروحيّات مكتسبة على نحوٍ واسع وشديد جدّاً، وستبرز في وجود الإنسان مكتسبات وتبعات ما تعاطاه الإنسان مع المؤثّرات الخارجيّة بحسب ردّ الفعل الصادر عنه والسلوك الذي انتهجه، وسيكون لهذه الحالات وما أنتجه الشخص أو الملكات والمكتسبات إنعكاس في جميع أنحاء بدنه..
في النتيجة: إن في الطبيعة قدرة على أن تختزل وتستخلص عدّة أجيال في نقطة صغيرة، تستودعها الخليّة الحيّة هذه أو النطفة والبيضة. ثمّ إنّ هذه الأشياء تتنزّل عن حدود الذرّة- بمعناها الكيميائيّ- لتبلغ حالة الإلكترون، وبالتالي تؤمّن لنفسها عندئذ حماية كاملة ومصونيّة تامّة، وتكون بمنأى عن تقلّبات الهواء والبرد والحرّ والعوامل الميكانيكيّة.
وهكذا يكون لإحدى خلايا جسم الإنسان- التي تحمل جميعها خصائصه- مسؤوليّة إحياء كل فرد من أفراده ، إذاً تكون خليّة واحدة من بين الخلايا التي كانت تحمل خصائص الإنسان هي المسؤولة عن إحيائه، ولذلك لا يصحّ الإشكال بأنّه ما دامت خصائص الإنسان تتوزّع على الخلايا كلّها، فما الذي يمنع أن يحشر من كلّ إنسان شخصيّات كثيرة، كما تنبت من أقلام الأشجار المغروسة أشجار كثيرة؟ والقرآن لا يتحدّث في حشر الإنسان الواحد عن أكثر من شخصيّة واحدة. وهذه الخليّة على غاية من الصغر ومحفوظة وفق ما بيّنّا، بحيث لو افترضنا أن ذئباً أكل هذا الإنسان، ثمّ أكل النمرُ.
هذا الذئب، لبقيت هذه الذرّة محفوظة في أي صورة كانت في أعماق البحر أو أعالي الجبال، فإنّها ستكون وارثة لجميع خصوصيّات الشخصيّة ومكتسباتها والذاكرة من بين ذلك، ثم في القيامة تحلّ حالة التمايز والإنفصال، وتبدأ في ذلك اليوم تلك الذرة المحفوظة بالنموّ لتنتج الإنسان بكامل شخصيّته. نعم قد يكون البدن الذي يعود فيه هو بدن جديد فحسب ، وهذا لا يضرّ في كون الُمعاد هو نفس الشخص، فنحن نبدّل بدننا في حياتنا مرات عديدة، من دون أن يؤثّر ذلك في كوننا ذاتنا، وبهذا تنحلّ شبهة الآكل والمأكول التي طُرحت في الكتب الكلاميّة وغيرها...
إنّ هذا كلّه يثبت أنّه بالإمكان عودة الإنسان بمعطياته واستعداداته وشخصيّته ذاتها. ويتّضح من خلال ذلك أنّ ما نتخيّله من فاصلة كبيرة جدّاً بين الحياة والموت ليست كذلك، بل كأنّ الموت والحياة درجتان لحقيقة واحدة، بحيث يكون مصير الإنسان بعد القيامة بحسب ما كان عليه في الدنيا من عقيدة ومقصد ومسير، وما قام به من أفعال وأعمال، وطبيعة الحالة التي اعتمدها في تنظيم نفسه واستكماله، إذ سيكون ذلك كلّه ميراثاً يرجع إليه في القيامة مجدّداً.
المصادر :
1- الأعراف/ 29
2- الرعد:36.
3- العلق:8.
4- النجم:42.
5- المؤمنون/115.
6- الروم: 27.
7- الحج:5.
8- المؤمنون/ 15-16.
9- سورة الأعراف: 187.
10- سورة القارعة: 5.
11- سورة ابراهيم: 48.
12- سورة التكوير:1-2.
13- سورة التكوير:6.
14- بحار الأنوار ج67، ص225.
15- آل عمران:30.
16- الزلزلة/7-8.
17- الحشر : 18