من أهم المسائل التي سعي الانسان دوماً إلى فکّ رموزها ومعرفة أسرارها ، هو الدين والحقائق الدينية ، وسنّة التفکير الثرى التي تستلهم من شعاع مدرسة أهل البيت : تحظى بالسموّ والتقدم إلى درجة أنها استطاعت بتأسيس الأنظمة العقلانية والفلسفية المتعالية أن تهيئ للإنسان إمکانية فهم وإدراک معارف الدين العالية.
وفي مهد الثقافة الإسلامية وحيث العناية الخاصة التي يوليها ديننا العزيز للتفکير العقلائي ، ظهرت قمم رفيعة من المفکّرين والعقليين الذين يُعدّ کل واحدٍ منهم ضمن عصره افتخاراً عظيماً في تاريخ الحضارة على سطح الأرض ، وآية في نظام الخلق.
ومن بين هؤلاء يحظى الشيخ ابن سينا بامتياز حيث انه استطاع من خلال وضع قواعد منهج مرتب ومنتظم من الأصول المشائية والمقولات العقلائية الفلسفية ، أن يوفّق في الإسهام بفکّ رموز الکثير من المعارف الاعتقادية الإسلامية بشکل منقطع النظير ، ومع کل هذا يجب القول إن مسألة المعاد أو الحياة بعد الموت ، التي تعدّ إلى جانب الاعتقاد بالله وتوحيده من أهم قواعد الاعتقاد للأديان الکبري سيما دين الإسلام ، هي مسألة أخرى لم تدرک أسرارها ولم تحلّ رموزها ، فبقيت بکراً عذراء ، حتى إن تبوغ ابن سينا وذکاءه الثرّ توقّف عند المعاد الجسماني ، والذي دفع مفکّراً إسلامياً کبيراً آخر أعني به الإمام أبا حامد الغزالى إلي محاکمة الفلسفة والفلاسفة أمثال ابن سينا ، حتى وصل إلى حدّ تفکيرهم.
إن التناقض والتهافت الذي نسبه الغزالي إلى الفلاسفة ، لم يجب عنه ابن رشد في تهافت الهافت بشکل کامل ، لذلک کان يتوجب أن تظهر نجوم أخرى في سماء الفلسفة الدينية تعکس نورانية الوحي والولاية والعرفان ، أمثال صدر المتألهين الشيرازي ، الذي أکسب العقل أجنحة جديدة تستطيع أن تحلّق بها في سماء المعارف العالية سيما في مجال معرفة المعاد.
ولولا هذا الحکيم المتألّه لبقيت أکثر تلک الحقائق والمعارف متوارية في خزانة الآيات القرآنية وروايات أهل البيت :. وعلى أي حال ، فإنه من بالغ الأهمية أن نطرح وجهات نظر أفذاذ العلماء في مسألة المعاد ، أمثال ابن سينا ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وأبي حامد الغزالي ، وصدر المتألهين ، جنباً إلى جنب ونقارن بينها ، حتى تتّضح لنا خصوصيات کل واحدٍ منهم ، ويتبين لنا دوره ومدى إسهامه في حلّ معضلة المعاد الجسماني.
إنّ شرف العلم بموضوعه ، وأشرف العلوم علم العقائد والأديان ، وأهم بحوثها البحث عن المبدأ والمنتهى ، لقول أمير المؤمنين علي عليه السلام : « إنّ أول الدين معرفته » ، (1) ولقوله : « رحم الله أمرءاً عرف من أين وفي أين وإلى أين » ، (2) فالبحث عن المنتهى لا يقل أهمية عن بحث المبتدأ ؛ لأنها ينبعان من منبع واحد ويصبان في مصب واحد ، لقوله تعالى : ( إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (3) وقد صوّر لنا صدرالمتألهين عظم وأهمية هذه المسألة ببعض الکلمات ، حيث جاء فيها : ( اعلم أن المعاد رکن عظيم في الإسلام ، وأصل کبير في الحکمة ، وهي من أغمض المسائل دقة ، وأعظمها شرفا ورتبة ، قلّ من هدى إليها من کبرى الحکماء من المتقدمين ، من يرشد إلى إتقانها من عظماء الفضلاء من الإسلاميين ) ، وقال : ( کيف يجد الطريف إلى مثل هذا المطلوب الذي أحد عمودي الاعتقاد ، وهما علم المبتدأ والمعاد ). (4)
وکيف لا يکون بهذه الدرجة والرتبة من الشرافة ، وقد قرنه الحق تعالى بمسألة التوحيد والدعوة للإيمان به ، فما من آية في التوحيد إلا وتجد في ذيلها حکاية عن المعاد واليوم الآخر ، حتى أنزل فيه ما يقارب ثلث القرآن ، فالاعتقاد به بشکل رکناً أساسياً من أرکان الدين الإسلامي الحنيف ، ومنکره يعد خارجاً عن ملّة الإسلام ، کافراً بکل ما جاء به ، لأنه المنکر لضرورة من ضرورات الدين ، وتکمن أهميته في ممارسة دوره الفعّال في القضايا الآتية :
1. دور المعاد في بناء شخصية إنسانية متکاملة للفرد ، بناءً فريداً من نوعه ، ويعد هنا ضرورة أخلاقية.
2. دوره الکبير في تأکيد المعارف الأصولية في نفس الفرد ، وبعث روح التحقيق والاجتهاد فيها ، کمسألة التوحيد والنبوة والإمامة ، ويعد هنا المعاد ضرورة عقائدية.
3. دوره الکبير في تطبيق الشريعة الإسلامية بشکل صحيح وکامل ، من خلال الالتزام بأوامرها ونواهيها ، ويعد هنا ضرورة فقهية.
4. دوره الکبير في تعديل السلوک النفسي عند الإنسان ، من خلال الزهد في هذه الدنيا الزائلة والتفکير بمصيرة الذي ينتظره من وراء هذه النشأة ، فلايطلب الدنيا لنفسها ، ولا يأسى على حرمانها مادام محافظاً علي غيرها ، ويعد هنا ضرورة نفسية.
5. دوره الکبير في التکامل العلمي ، من البحث عن أفضل الطرق والوسائل المنجية له في الدنيا والأخرة ، من خلال بعث وروح التحقيق فيه عن جميع ما يحيط به ، وکيفية التعامل معه ، ومعرفة ما ينفعه وما يضره منها ، وغير ذلک ، ويعد هنا ضرورة علمية وفلسفية.
6. دوره الکبير في تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية التي باتت الأمة محرومة اليوم عنها ، هذا وغيره من المسائل التي يلعب المعاد دوراً هاماً وکبيراً في تحقيقها ، فموضوع المعاد من أهم المواضيع الاعتقادية الذي له الشمولية العامة لجميع جوانب الحياة البشرية وما يتعلق بها من الأمور المعنوية والمادية ، ويعد هنا ضرورة اجتماعية وسياسية.
ولقد وقع اختيارنا للبحث فيه على أساس ما له من أهمية کبيرة في مختلف المجالات ، من جهة أخرى فأن مسألة المعاد التي جاء فيها ثلث القرآن مازالت أغلب مسائلها وأهمها لم تتضح بعد للجميع ، حتى کاد يکون الإيمان بها أمراً تعبدياً في الوقت الذي هي فيه من أصول الدين ، خصوصا مسألة تبيين الکيفية التي يعاد الناس فيها في تلک الساعة ، وما يحصل فيها من بعث وحشر وحساب وجزاء ، و ... ، نبتغى من وراء هذا البحث التسليط الضوء على أبرز خصوصياتها ، لعلها تبعث في القارئ روح البحث والتحقيق وراءها ، وعندئذ تجتمع الجهود لمحاولة حلّ هذه المعضلة.
وأمّا بالنسبة للأسلوب الذي اعتمدناه في تحقيق وبحث هذه المسألة ، فإنّه کان على النحو التالي :
1. المطالعة لفترة طويلة قبل البحث وبعد الشروع في البحث عن أهم ما يتعلق بهذه المسألة من جزئيات وخصوصيات ، کان الغرض منها معرفة أکبر قدر ممکن منها.
2. کتابة تقرير الحکمة المتعالية المختص بنظر صدر الدين المتألهين للبحث فيها تحت إشراف أحد أساتذتي الأعزاء ، الأستاذ الدکتور گرجيان ، في خمسة أربعين صفحة.
3. العمل بإشارة مجموعة من أساتذتي المشرف والمستشار وغيرهم ، ومن أساتذة الحوزة العلمية في قم المقدسة ، في تعين ما هو الأهم والأصل عن غيره.
4. تعين رؤوس المطالب المهمة التي کنا نأمل البحث فيها.
5. زيارة المکتبات التخصصية في مجال الفلسفة والکلام ، وکذلک زيارة المکتبات العامة لغرض الوقوف على أکبرقدر ممکن من آراء العلماء والفلاسفة فيها.
6. الاستعانة بجهاز الحاسوب الآلي ( الکامبيوتر ) للبحث عن أهم المطالب التي کتبت فيها ، من خلال استعانة بمجموعة من الأقراص التي جمعت فيها کميات کبيرة من کتب الاختصاص ، وکذلک عن طريق البحث في شبکة الاتصالات العالمية ( الانترنيت ) للوقوف على آخر الأبحاث التي دونت فيها.
7. جمع المطالب التي تم البحث عنها وتنظيمها بأسلوب منطقي يعتمد أسبقيتها في البخث ، في الرسالة بشکل عام ، والفصل بشکل خاص.
8. وأهم شيء في الرسالة ، وهو تهئيتها وتقديمها بين يدى أحد الأساتذة المؤمنين الذي تم اختياره وفق شروط خاصة من قبل اللجنة المشرفة على هذا العمل العلمي الدقيق ، ليشرف على دراستها مرّة أخرى بعد ممارسة دور الأساتذة ، المشرف والمستشار في ذلک ، وليقوم بتقييمها ونقدها بشکل علمي يعتمد فيه على أساس الإنصاف والعدل.
وأمّا بالنسبة لمجموعة الموانع التي واجهتنا في إنجاز عملنا العلمي هذا نلخصها بما يلى :
1. صعوبة تحصيل بعض المعادر الأصلية والثانوية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالبحث.
2. حالة عدم الثبات على رأى واحد لباحث ومحقق واحد فيها ، خصوصاً وأنّ رسالتنا هذه تتعلق بالبحث عن تحديد موقف أربعة علماء کبار ، وهم الغزالي ، والخواجة ، وابن سينا ، وصدر المتألهين ، فمن بينهم صدر المتألهين الذي قلّ وجود من بحث هذه المسألة مثله ، ولکنه وللأسف لم يکن له رأي واحد فيها ، فقد قال بالعينية التي طرحها القرآن في کتابه المظاهر الإلهية ، وقال بالجسمانية الفلسفية اللازمة للمعاد الخيالي بحسب تعبيير البعض في کتابه الأسفار مع وصفه له بأنه هو مراد القرآن الکريم ، وهو عين ما قال به ، وقد نقل الميرزا حسن البجنوردي عن الشيخ النائيني أنّه قال فيه : ( لولا شبهة حصلت له ، لحکمنا بکفره ) ، (5) ونجد له رأي في ( شرح الداية الأثيرية ) ، قال فيه بالبدن المثلي لا العيني ، حيث قال فيه : ( ... ثم اعلم أنّ إعادة النفس إلى بدن مثل بدنها الذي کان لها في الدنيا ... ). (6)
3. عدم بحثها بشکل مفصل من قبل بعض هؤلاء الأربعة ، کالخواجة نصير الدين الطوسي ، فإنّ کل ماکتبه عنها لا يتجاوز أربعة أسطر مجملة ، قام بعض الشرّاح بتفصيلها ، ولکن من الصعب أن نُحمّلهُ نظر الشرّاح في بعض المسائل ؛ لاحتمال أنّه لم يکن مراده ما لم نقطع بوجود قرائن تدل على ذلک ، وکذلک بالنسبة للغزالي فقد أتکل في بيانها وإثباتها وما يتعلق بها على الشرع المقدّس.
4. نقد البعض لهؤلاء الأربعة غير واضح ، أو أنّه يأتي بدليل هو في نفسه غير ثابت ، فبدل أنّ يحل المسألة يعقدها أکثر ، کما سيأتي ذکر بعضها في هذه الرسالة.
5. سعة الموضوع وقلة مصادره لبعض منهم ، وتشعبه ، وغموض أکثر مسائله ، باعتبار أنّها من المسائل الغيبية المستقبلية ، وجزئيتها تخرجها عن دائرة بحثها العقلي ، ولکن عند ما نرجع فيها إلى النقل نجد فيه اختلافاً في الظاهر ، کمسألة کيفية المعاد التي هي مدار البحث في هذه الارسالة ، فالقرآن يطرح لها کيفيتين ، جسمانية وروحانية ، والروايات الشريفة تارة تبين الأمر بعين هذا البدن ، وأخرى بمثل هذا البدن ، کما في رواية أبي العوجاء عند ما سأل الامام الصادق ) عندما مثل له باللبنة ، فقال : « هي هي وهي غيرها ». (7)
6. تزامن البحث مع مجرى الحوادث التي جرت على أهلنا وأحبتنا في العراق الجريح ، في الوقت الذي لسنا بعيدين عن مجرياتها ؛ باعتبار أنّ خروجنا منه لم يکن باختيارنا ، وعملنا الديني يتطلب موقفاً منا تجاه من کان ومن أصبح اليوم محتلاً له ، فقد تبدل السيئ بالأسوأ ، حتى عصف هذا الظرف بالحوزة العلمية العراقية بحيث سبب تعطيل دروسها العلمية ، وتحويلها إلى دراسات سياسية تتعلق بالوضع الراهن ، والبحث عن أفضل الوسائل لإنقاذ هذا الشعب المظلوم من أيدي المحتلين ، والمهم أن هذا الوضع أسهم بدور کبير في تشويش الذهن ، وبعث على عدم الارتياح النفسي ، وحتى أنّه عکّر صفاء الفکر ، خصوصاً مع تقديمنا ما يقارب ستة ملايين شهيد من خيرة شبابنا الشيعي المتدين وعلمائنا العاملين الواعين ، ضحية بيدي زمرة الکفر والطغيان البعثي.
وأما النتيجة التي توصلنا لها من خلال بحثنا لهذا المسألة ، أنّه في الوقت الذي نعتقد فيه وتعتقد فيه البشرية عامة بوجوب المعاد والحساب والجزاء ، وأنّ الذهن ينصرف فطرياً على أساس أنّ الکيفية التي يعاد فيها النّاس في ذلک اليوم الحق ، هي الكيفية الجسمانية ، ولكن الدليل العقلي عاجز عن إثبات هذا الأمر ما لم يجعل قول المعصوم : ، أو النص القرآني مقدمة يقينية في القياس العقلي ، والاستدلال المنطقي ، فعند ذلک يمکننا أنّ نتعقل إمکان ثبوتها ، وإلاّ فلا يمکننا تعقلها فضلاً عن إقامة الدليل العقلي على إثباتها ، کما قال فيه ملاصدرا ، فمن خلال دراستنا للمجتمعات والأمم والديات القديمة ، ثبت لنا أن جميع الأقوام والمجتمعات الديانات كانت تعتقد بوجوبها ، ما عدا فرقة واحدة من فرق اليهود وهم الصدوقيون ، بدعوى أنّ التوراة المکتوبة الموجودة بين أيديهم خالية عن التصريح بها ، وأما التلمود فهو کتاب دوّن بعد ذلک بکثير ، ولذا يعبر عنه بالتوراة الشفهية وتدور اكثر مسألة حول الأحكام والآداب والرسوم التي يجب العمل بها ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أنّ الأکثر کانوا يذهبون إلى الاعتقاد بالکيفية الجسمانية ، ما عدا المسيحيين فأن التصوير الإنجيلي لها يتوافق مع القول بالمعاد الروحاني ، وأنّ الناس يحشرون على شکل ملائکة ، بينما البحث القرآني حولها ، قد أثبت لنا أنّه من المسائل الضرورية التي يجب الاعتقاد بها ، بل أنّ مقتضى فطرة الإنسان توجب الإيمان بها ، ومن جهة أخرى ومن خلال محاولة جديدة في طرح البحث القرآني حولها ، يعني من خلال تشقيقه إلى البحث عن إمکانها الذاتي ، وإلي البحث عن إمکانها الوقوعي ، وقد تمّ إثباتهما بالنصوص الصريحة ولم يبق مجال لإنکارها إلا الجحد بها ، والخوض في الجدل الأعمى.
ومن خلال بحثها عند محمد الغزالي فقد ثبت أنّه يقول بالمعادين الروحاني والجسماني معاً ، إلا أنّه في جانب البدن لا يشترط فيه أن يکون عين هذا البدن بالذات ، بل ليکن بدناً آخر من أي مادة کانت مدعياً فيه جواز ذلک على الشرع المقدّس کما سيأتي بيانه ، ولکننا نرى فيه لزوم القول بالتناسخ الباطل ، لأنه تناسخ ملکي لا ملکوتي ، والملکي لا فرق فيه سواء کان في الدنيا أو في الآخرة فلازمه لا ينفک عنه ، وهو تعلق نفسين ببدن واحد ، وهو الباطل.
وأما ما انتهي إليه الخواجة من بعث الروح والبدن ، وهو کون البدن المعاد عين هذا البدن ومخلوق من أجزاء البدن الأول الأصلية دون الفضليّة بحسب تعبيره ، ولکننا أيضاً لم نقبل منه هذا الرأي ، فلذا قمنا بمناقشته فيه ، وسيأتي الکلام عنه مفصلاً.
بينما تجد الشيخ الرئيس قد انتهى فيه البحث العقلي إلى القول بالمعاد الروحاني ، والتعبد بالنظر الشرعي إلى القول بالمعاد الجسماني ، وقد اختاره على الأول بدعوى التصديق بخبر المخبر الصادق عليه السلام ، وقد حملناه محملاً حسناً بدل إلصاق التهمة به والازدراء بشخصيته والطعن فيه ما دام هناک مجال للحمل الحسن ، وإن کان الواجب عليه أن يحاول مرّات متعددة للبحث عن طريق يوصله إلى ما توصل إليه الشرع ؛ باعتبار التطابق بينهما.
وأما البحث الصدرائي فيمکن قبوله فيما إذا وجدنا دليلاً ثابتاً يجوّز لنا تأويل أو حمل النصوص القرآنية والروائية الشريفة على ما يفهمه الفيلسوف من معنى الجسم ، وعندئذ يصبح ما جاء به ملاصدرا دليلاً عقلياً على إثبات المعاد الجسماني ، وإلاّ مع عدم وجود الدليل على ذلک ، وعد الجواز لصرف النصوص السمعية عن ظاهرها ، فلا يمکن عدّ ما جاء به دليلاً عقلياً على إثبات المسألة بالکيفية المطروحة ، في الوقت الذي لا ننکر فيه التقدم العظيم الذي حققه صدر المتألهين في تحقيق هذه المسألة ، ولذا رأينا أنّ نعدّ ما قام به هو إثبات عقلانية المسألة وإمکان تعقلها بالشکل الذي يتناسب مع عظمها وخطورتها وأهميتها ، وقد ثبت لنا من خلال البحث أنّ أقوى رد کان في دفع الشبهات هو ما قام به ملاصدرا .
نعرف من خلال المعنی الظاهري المطلق لکلمة المعاد أن الأصل اللغوي فيها هو بمعنى المرجع والمصير ، وهو في الأصل اللغوي مفعل أي معود ، مأخوذ من العود.
ويطلق علی المعنى المصدري يعني العود والرجوع ، وعلى زمان العود ، فيکون اسم زمان ، وکما يطلق على مکان العود ، فيکون اسم مکان ، هذا فيما إذا أخذ بالفتح ، بينما لو أخذ بالضم ، فأنه يراد به نفس الشيء الذي يقع متعلقاً للرجوع والعود .
الذي يطالع کلمات الفلاسفة والمتکلمين في هذا الباب ، يجد أن أغلبها يذهب إلى من معناه توجه الشيء إلى ما کان عليه ؛ وذلک استناداً منهم إلى قوله تعالى: ( ... كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ). (8)
ولا يخفى من أن المراد بالمعاد باصطلاحهم هو الرجوع بعد الفناء ، أو رجوع أجزاء البدن إلى الاجتماع بعد التفرق ، وإلى الحياة بعد الممات ، والأرواح إلى الأبدان بعد المفارقة ، وقد عرف بتعاريف تتناسب مع المبني الذي يتبناه صاحب التعريف ، فمثلاً عرفه صاحب شرح المقاصد بأنه : ( إعادة الأجزاء الأصلية ، لا إعادة الأجزاء الفاضلة ) ، (9) وعرفّه في کتابه الأربعين بأنه : ( عبارة عن إحياء الموتى إخراجهم من قبورهم ، بعد جمع الأجزاء الأصلية التي من شأنها ذلک کالظفر ) ، (10) فإن هذين التعريفيين وما سبقهما يدلان علي أن الناس تعود بأجسامها وأرواحها في اليوم الآخر ، وهو معنى خروجهم من قبورهم أحياء ، ولکن مادام بحثنا في إطار المقارنة بين اثنين من الفلاسفة ، واثنين من المتکلمين ، وهم : الشيخ الرئيس ابن سينا ، وصدر المتألهين ، الخواجة نصير الدين الطوسي ، وأبو حامد محمد الغزالي ، فإنا سنقوم بنقل تعاريفهم للمعاد ؛ لأجل تحقيق هذا الغرض ؛ لأجل أن يتبين لنا مدى الاختلاف والانفاق بينهما.
فقد عرّفه صدر المتألهين في کتابه مفاتيح الغيب ، قائلاً فيه : ( فإن المعاد بمعني العود ، والرجوع للشيء إلى الحالة التي خرج منها ، کما قيل : کل شيء يرجع إلى أصله ، فهو من المعاني الإضافية الواقعة تحت مقولة المضاف ، فلذلک معرفته لا تتم إلا بمعرفة ثلاثة أمور : ما له المعاد ، وما منه المعاد ، وما إليه المعاد ). (11)
وأمّا تعريف الشيخ الرئيس أبي علي سينا له فهو : ( انه الحال الذي کان عليه الشيء فيه ، فباينه ، فعاد إليه ، ثم نقل إلى الحالة الأولى أو إلى الوضع الأول الذي يصير إليه الإنسان بعد الموت وانفصل عنه قبل الحياة الأخرى ). (12)
وأمّا ما ذکره الخواجة نصير الدين الطوسي في هذا الصدد ، قائلاً : ( الواجب في المعاد هو إعادة تلک الأجزاء الأصلية أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية ، أما الأجسام المتصلة بتلک الأجزاء فلا يجب إعادتها بعينها ). (13)
قبل أن نذکر تعريف الغزالي للمعاد ، ينبغي علينا أن نبين مذهبه في النفس ، لما له من علاقة وثيقة بالتعريف الذي سنذکره بعد ذلک ، فقد قال فيها : ( ... أعني النفس ذلک الجوهر الکامل الفردي الذي ليس من شأنه إلا التذکر والتمييز والرؤية ، ويقبل جميع العلوم ، ولا يمل من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد ، وهذا الجوهر هو رئيس الأرواح وأمير القوى ، الکل يحترمونه ويمتثلون أمره ، وللنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند الکل اسم خاص ، فالحکماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة ، القرآن يسميه النفس المطمئنة والروح والأمر ، والمتصوفة يسمونه القلب ، والخلاف في الاسامي والمعنى واحد لا خلاف فيه ) ، (14) ثم أنّه أشکل على الفلاسفة في مسألة عود الروح والنفس إلى البدن قائلاً : ( التعجب من تعلق النفس بالبدن في أول الأمر أظهر من تعجب عودها إليه بعد المفارقة ، وتأثير النفس في البدن تأثير فعل وتسخير ، ولا برهان علي استحالة عود هذا وصيرورة هذا البدن مستعداً مرة أخرى لقبول تأثيره وتسخيره ).
وبعد حکمة عليها بأنّها جوهر غير قابل للفساد بعد الموت ؛ لأن ذلک مما دل عليه الشرع المقدس ، طرح ثلاثة احتمالات ، ناقش منها اثنين ، وقبل الثالث ، بتوجيه منه قائلاً : ( نعم قد دل مع ذلک على البعث والنشور ، بعده وهو بعث البدن وذلك ممكن بردها إلى بدن ، أي بدن كان ، سواء كان من مادة البدن الأول ، أو من غيره ، أو من مادة استأنف خلقها ، فإنه هو بنفسه لا ببدنه ، إذ لا تتبدل عليه أجزاء البدن من الصغر إلى الکبر ، بالهزل والسمن ، وتبدل الغزائر ويختلف مزاجه ، مع ذلک هو ذلک الإنسان بعينه ، فهذا مقدور لله تعالى ، ويکون ذلک عوداً لتلک النفس ، فإنه کان قد تعذر عليها أنه تحظى بالآلام واللذات الجسمية بفقد الآلة ، وقد أعيدت لها آلة مثل الأولي ، فکان ذلک عوداً محققاً ، وأما قولکم في الثاني بأنه تناسخ ، فلا مشاحة في الأسماء ، فما ورد في الشرع يجب تصديقه ). (15)
ويمکن لنا أن نخرج بهذه النتيجة ، وهي أن المعاد في نظر الغزالي هو عود النفس الجوهرية إلى بدن ما ، أي بدن کان في اليوم الآخر ، من دون أن يلزم ذلک بحسب تعبيره التناسخ ؛ لأن الشرع قد دل عليه ، فهو مجرد اسم لا غير.
المصادر :
1- نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 14.
2- السيد حسن علي القبانجي ، شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين 8 ، ص 88.
3- البقرة ، 156.
4- صدر الدين الشيرازي ، تفسير القرآن الکريم ، تفسير سورة سجدة ، ص 63.
5- محمد رضا حکيمي ، معاد جسماني در حکمت متعالية ، ص 234.
6- صدر المتألهين ، شرح الهداية الأثيرية ، ص 381
7- أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج ، ج 2 ، ص 104
8- الأنبياء ، 104.
9- سعد الدين التفتازاني ، شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 153.
10- فخر الدين الرازي ، الأربعين في أصول الدين ، ص 292.
11- صدر الدين الشيرازي ، مفاتيخ الغيب ، المفتاح 12 ، المشهد 7 ، ص 298.
12- د. عاطف العراقي ، النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ، بهامش ص 293.
13- العلامة الحلي ، کشف المراد في شرج تجريد الاعتقاد ، تحقيق وتعليق السبحاني ص 258 ، 259.
14- الغزالي ، رسالة القصور العوالي ، ج 1 ، نقلها الغزالي في کتابة تهافت الفلاسفة ، ص 242 ، 243.
15- أبو حامد الغزالي ، تهافت الفلاسفة ، ص 242 ، 243.