يعد القرآن الکريم المنبع الأساس والمرجع الأصلي لجميع المسلمين ، ولقد حُفِظَ عن التحريف والتغير والتبدل ، ولم يذهب أحدٌ من علماء المسلمين المعروفين إلى القول بالتحريف ، (نعم توجد بعض الأقوال الضعيفة تقول بذلک ، مستندة في ذلک على روايات ضعيفة لم تنهض بالمطلوب ، وقد ناقشها واثبت بطلانها علماؤنا بالأدلة القطعية التي لا يشوبها شک ولا ترديد ، وعليه فلا يعتني بمثل هذه الأقوال لعدم ثبوت أدلتها سنداً ومتناً) لقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ، (1)
ولقد أولى القرآن الکريم الاهتمام بمسألتين بشکل خاص وملموس ، وهما مسألة المبدأ والمعاد ، فقد أنزل في المعاد ما يقارب أکثر من ألفين آية شريفة ، أي ما يعادل ثلث القرآن الکريم ، ولم يولِ اهتماماً بهذا المستوي في المسائل الأخرى من مسائل الدين الإسلامي ، سوى مسألة التوحيد التي کانت منطلق الدعوة الإسلامية الأولى ، کما أننا لم نرَ ولم نسمع من قَبلُ في الديانات الإلهية والسماوية اهتماماً بها مثلما جاء في الذکر الحکيم والفرقان المبين ، وقد يعود السبب في ذلک لجملة أسباب منها ما يلي :
أولاً : إنّ الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسائل السماوية ، وعليه فينبغي عليها أن تکشف الحجاب عن کل مستور.
ثانياً : إنّ أمة محمد صلی الله عليه وآله وسلم هي آخر الأمم الوارثة لعلوم الأمم السابقة ، وينبغي عليها أن تصل إلى کمالها المطلوب لها ، بل يجب أن تصل إلى أعلى مراتب الکمال الإلهي ، وهذا يتوقف أولاً على معرفة الواقع بشکل جلي ، وثانياً على تطبيق ما علمته ، بعبارة أخرى : يجب أن تکون لديها نظرة کونية دينية شاملة للعالم بما فيه من مراتب وجودية ، وعندئذ ينعکس هذا الأمر على أيدلوجيتها التي ينبغي القيام بها. ولا يتحقق هذا الأمر مع وجود بعض المعارف المجهولة عن ما يتعلق بشأن من شؤون الإنسان.
ثالثاً : إنّ غرض القرآن الکريم من عرض هذه الأمور وتعريفها للمسلمين ليس فقط تحقيق السعادة الأخروية ، بل ما لم تتحقق للمسلم السعادة الدنيوية الواقعية التي سعى الإسلام لإيجادها للفرد المسلم لا تتحقق السعادة الأخروية ، ولا تتحقق السعادة الدنيوية للإنسان ما لم يتحرر من قيوده بشکل عام ، ومنها قيود الشهوة والغضب والرغبات النفسية ، ولا يتحقق هذا الأمر إلا من خلال الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ، ومسألة المعاد تفصح عن ذلک ، فهي خير باعث إلى فعل الخير والصلاح وأحسن رادعٍ عن المعصية والفساد.
رابعاً : باعتبار دورها الکبير في تهذيب النفس الإنسانية وتربيتها التربية الصحيحة ، وبناء الشخصية الإسلامية بالشکل الذي يوافق حرکتها الجوهرية التکاملية للوصول إلى کمالها المنشود الذي يتناسب مع مرتبة التوحيد المطروحة في الدين الإسلامي ، کما جاء في قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ) وقوله تعالى : ( قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ). (2)
ففي الوقت الذي أولى فيه القرآن الکريم الاهتمام الکبير بهذه المسألة ، فأنا لا نجد في المقابل اهتماماً کهذا من قبل علماء المسلمين ، بل کل ما کتب فيها لا يتعدى بعض الأسطر ، أو بعض الصفحات ، في الوقت الذي يجب عليهم أن يبحثوا فيها بالمقدار الذي يتناسب مع عظمها وخطورتها ، نعم نحن لا ننکر ما کتب فيها من أبحاث تفسيرية ، أو روائية ، أو أبحاث کلامية ، وفلسفية ، إلا أن أغلبها مبني على التسليم بما جاء به الشرع المقدّس ، من دون بذل الجهد المطلوب في تحقيقها وبحثها على أساس البرهان العقلي ، والاستدلال المنطقي ، سوى بعض العلماء المعدودين بالأصابع ، ولم يوفق أکثرهم في إثباتها بالشکل الذي طرحه القرآن الکريم ، ما عدا صدر الأعاظم صدرالمتألهين ، الذي توصل إلى إثبات عقلانيته ، بناءً على مجموعة أصول فلسفية قد تبناها في فلسفته ، وسيأتي الکلام عن ذلک مفصلاً فيما بعد.
وقد يعود الأمر في ذلک إلى جملة أسباب کالأمور التالية :
الأول : الاتکال على ما جاء به الشرع المقدّس مفصلاً. والإحساس بعدم الفائدة من تکرار البحث فيها ، خصوصاً عند احتمال عدم الإتيان بأکثر مما جاء به الشرع.
الثاني : طبيعة التسليم بالشرع المقدّس تقتضي عدم السؤال عما جاء به ، والبحث وراءه.
الثالث : غيبية هذه المسألة باعتبار أنها تتعلق بالمستقبل ، والعقل لا يدرک ما هو خارج دائرته ومجال حکمه ؛ لأن المطلوب منه الحکم التام بما يتعلق بکل خصوصياتها بنحو التفصيل ، وهذا مما هو خارج عن مجال حکمه.
الرابع : جزئية المسألة ، باعتبار أن البحث عن کيفية المعاد تخرجه عن مورد حکم العقل ؛ لأن دائرة حکم العقل الأمور الکلية لا الجزئية.
الخامس : الانشغال بالمسائل الخلاقية کمسألة الإمامة ، والدفاع عن الدين الإسلامي من خلال دفع الشبهات والإيرادات الواردة عليه من الداخل والخارج والتي من أعظمها ما يتعلق بالتوحيد والنبوة الخاصة والإمامة.
السادس : الانشغال بالأبحاث الفقيهة والأصولية ، باعتبار أنها مورد الحاجة الوقتية ، وعلاقتها المباشرة بتعين ما هو واجب على المکلف.
السابع : صعوبة المسألة يبعث في النفس اليأس من تحقيقها وبحثها بالشکل المطلوب.
الثامن : الفرار من وصمة التفکير فيما لو أدى البحث فيها إلى مخالفة ما جاء به الشرع المقدّس من حيث الکيفية.
التاسع : عدم معرفة حقيقة النفس الإنسانية بالشکل التام للجميع قواها ومراتبها الوجودية ، في الوقت الذي تشکل أهم جزء تقوم عليه مسألة تحقق المعاد الجسماني.
هذه وغيرها من الأسباب التي قد غابت عنا ، کانت السبب الرئيسي وراء عدم بحث هذه المسألة بالشکل المطلوب من قبل علماء الإسلام قاطبة.
ولا يفوتنا أن نبين : أن هذه الأسباب لا تصلح أن تکون المانع ، أو المبرر لعلماء الإسلام عن بحث المسألة على أساس المنطق العقلي ، خصوصاً وأنها من أمهات المسائل الأصولية العقائدية التي لها الدور الکبير في تحقق مسألة الأيمان بالنبوة والإمامة الإلهية التي عليها مذهب الأمامية الاثني عشرية هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن ما جاء فيها في القرآن الکريم لم يکن له مثيل في الديانات السماوية الأخرى ، کماً وکيفاً ، ولقد تناولت الآيات الشريفة مسألة المعاد في اليوم الآخر من عدة جوانب ، فمن جانب بينت مقدمات الحشر والقيام في المحشر للحساب ، ومنها النفخ في الصور ، وخروج الناس من القبور ، والکيفية التي يخرجون بها من قبورهم واجداثهم ، والفزع الذي يصيبهم من شدة الخوف من الحساب الذي ينتظرهم ، وحالات الصعق التي تحل بهم في تلک الساعة ، ونوع الحساب والجزء الذي ينالونه ، حالات الجثي ، وانکشاف البواطن والأسرار ، ومد الصراط ، وکيفية المرور عليه وعقباته التي يحسبون عندها ويحاسبون فيها على الصغيرة والکبيرة ، اختلاف حال الکافرين عن حال المؤمنين فيه ، حقيقتة الجنان وما تحتويه من قرة أعين للمؤمنين ، وحقيقة النيران وما تکمنه للکافرين ، طبيعة ارض المحشر وسماء الآخرة ، ... وغيرها من التفاصيل التي تجري في اليوم الآخر ، فلم تترک شيئاً يتعلق به إلا بينته بشکل مفصل ، ولم يعهد هذا اللون من البيان في الشرائع السابقة.
وسوف نقتصر في بحثنا القرآني حول هذه المسألة على بحث ضرورتها وإمکانها ، بالشکل الذي يتناسب مع هدفنا من طرح موضوع هذه الأطروحة الرسالة فلذا سيکون بحثناً نوعاً ما استطرادياً ؛ لأننا خصصنا هذه الرسالة للبحث عنها عند فيلسوفَين ومتکلمَين من فلاسفة ومتکلمي الإسلام ، وهم ابن سينا ، وصدرالمتألهين ، وأبو حامد محمد الغزالي ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وسنبدأ البحث أولاً في مسألة ضرورة المعاد على أساس المنهج العقلي المستنبط من بعض آيات الذکر الحکيم ، ثم بعد ذلک نشرع في مسألة إمکان المعاد من وجهة نظر القرآن الکريم.
1. في إثبات ضرورة المعاد
مسألة المعاد الجسماني في القرآن الکريم بالشکل الذي يصلح أن يصاغ منها أقيسة منطقية وبراهين عقلية کما سيأتي بيانه فيما بعد عبر عنها القرآن بالحق ، کما جاء في قوله تعالى : ( ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الحَقُّ ) ، (3) وقوله : ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ) ، (4) فهي الساعة التي يکشف فيها الغطاء ويکون البصر فيها حديد ، لقوله تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، (5) ولکن حال الناس کما وصفهم الذکر الحکيم في قوله : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ، (6) فبالتأمل والتدبر في القرآن الکريم نقف على جملة من الآيات الشريفة التي تصلح أن تکون في الواقع برهاناً قاطعاً ونوراً ساطعاً يورث المتدبر والمتأمل اليقين والاطمئنان بضرورة المعاد في اليوم الآخر ، خصوصاً وأن القرآن الکريم قد تعرض لبيان جميع ما يتعلق بمسألة المعاد الجسماني بشکلٍ لم يکن له نظير في الکتب السماوية السابقة ، کالتوراة والأناجيل وغيرها من الصحف والزبور ، فعند تلاوتنا لآية الشريفة نجد أن القرآن الکريم قد طرحها بأشکال وأساليب مختلفة ، واحد منها الأسلوب المنطقي العقلي ، فيما لو قمنا بترتيب آياته على النحو المألوف في القياسات المنطقية .
وينبغي علينا أن نلتفت نظر القارئ أولاً : إلى أنّ مسألة ذکر السور والآيات لم يبتنِ على أساس الحصر العقلي ، ولا على أساس الاستقراء التام لجميع آيات الذکر الحکيم ، بل کان على أساس أوضح المصاديق لها ، وثانياً : نحن لا ندعي عدم وجود آيات أخرى لها ارتباط مع ما ذکرناه من عناوين لمجموعة هذه الأدلة آنفة الذکر هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا يکون بحثنا القادم متعلقاً بجميع هذه الأدلة ، بل سيکون بخصوص بعض هذه الأدلة ؛ لأن أکثرها لا يخلو من الأشکال ولا يدل على المطلوب بصورة تامة ، ولذا رأينا أن نبين ثلاثة منها وهي کما يلي :
1. دليل الحکمة ؛
2. دليل العدالة ؛
3. دليل الحرکة.
وسوف نتناول هذه الأدلة الثلاثة بنحو من التفصيل في الأبحاث اللاحقة على أساس المنهج المنطقي العقلي ، ولکن نود أن نشير لکم أننا لا نزکي أنفسنا من الخطأ والاشتباه في تبيين هذا الأمر العظيم ، ويجب أن يلتفت إلى أن ثمرة ونتيجة کل دليل رهينة بمقدار حده الأوسط ، کما سيأتي بيان ذلک في نهاية کل دليل.
الدليل الأول : دليل الحکمة
الإلهية لقد ورد في القرآن الکريم قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ، (7) وقوله أيضاً : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ) ، (8) وقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ، (9) وقوله : ( مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ) ، (10) وغيرها.
وقبل تقرير البرهان المستفاد من جملة هذه الآيات الشريفة ، ينبغي لنا أن نذکر مقدمة قصيرة لها علاقة بتقرير البرهان الآتي ذکره فيما بعد ، وهي :
إنّ الله ليس له هدف فاعل ، بل له هدف فعل.
وإنّ الله لا يصدر منه عمل بلا هدف.
بمعنى أن الفاعل ليس له هدف مع أن الهدف ضروري لفعله ، أي أن الله ليس له مقصد مع أن وجود المقصد للعالم ضروري ؛ لأن فرض کون المولى له مقصد من ذلک ، بمعنى أن يکون مقصد فاعل لا فعل ، يلزم أن يکون الفاعل فاقداً لکمال ما يريد تحقيقه من وراء فعله هذا ، ولکن فعله لا يخلو عن هدف وغرض وإلاّ للزم أن يکون عبثياً ولهوياً ، وتعالى الله عن ذلک علواً کبيراً ، وهذا أصل قرآني قد عبر عنه الحکيم بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ، (11) وبقوله : ( إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ). (12)
فالذي نستفيده من جملة هذه الآيات وغيرها من آيات الذکر الحکيم أن لله في خلق السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما هدفاً ومقصداً ، وهذا الهدف والمقصد هو هدف فعل لا هدف فاعل ؛ لأنّه في الأول لا يعود بالفائدة على الفاعل ، على عکس الثاني الذي يتنافي مع کونه غنياً بالذات غير محتاج إلى غيره. وأما الأمر الثاني الذي قلنا فيه إن الله حکيم لا يصدر منه فعل بلا هدف ؛ لأنه مقتضى حکمته ، فالحکيم لا يفعل فعلاً بلا هدف ولا فائدة ، وإلاّ فلا يكون ذلك الفعل صادراً عن فاعل قاصد وحكيم ، وهو خلاف الفرض أنه حکيم ، ولذا قال عزّ وجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) ، (13) أي أنّه خلق الجن والإنس للعبادة ليصلوا إلى کمالهم.
فهذان المعنيان أشارت لهما الآيات الشريفة التي ذکرناها في بداية البحث عن دليل الحکمة الإلهية من وراء خلق السموات والأرض وما بينهما والإنسان ، وقد وصفه المولى بعدم العبث وعدم اللعب من وراء ذلک ، وبطلان کل من کان هکذا وصفه ، وهذا خلاف تصور البعض عن نهاية الإنسان والعالم ، إذ يعدانهما محصورين بهذا العالم الدنيوي فقط من دون أن يکون وراءه شيء آخر ، فيقولون لا معاد ولا رجوع ، وقد کذبهم القرآن الکريم بقوله : ( ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ، (14) مع أنه عدّ الدنيا لعباً ولهواً وزينةً تفاخراً بالأولادِ والأموالِ ، کما جاء في قوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ ) ، (15) وکما هو معلوم « أنّما » تفيد الحصر ، فکيف يحصر ما هو مزرعة الآخرة باللعب واللهو و ... ، من دون أن تلحظ جهته الثانية ؟.
وقد أجاب بعضهم عن هذا التساؤل والاعتراض ، کما جاء في کتاب المعاد والقيامة للشيخ جوادي آملي : ( لا يعني بهذا أن موجودات عالم الدنيا لعب ولهو وليس لها هدف مخصوص ، بل کل هذه هي آيات إلهية وعلامة الأسرار الإلهية ، والدنيا تلک العقود الاعتبارية الخاصة التي لتنظيم الأمور الحياتية ؛ من يکون رئيساً ، ومن يکون عضواً ، لمن يکون هذا المال ، کيف تصير ملاکاً ؟ وکيف ننقله ... إلى أن قال : فهذه من العناوين والمقررات الاعتبارية للدينا ). (16)
ويمکن أن يقال أو يعبر عن دنيا الإنسان بمعنى آخر ، وهو أن يتخذ موجودات هذا العالم الذي سخره الله تعالى له غايات لا وسائل يتوسل بها للوصول إلى الحق تعالى اسمه ، فيجثو عابداً فيصبح ويمسي ساجداً خاضعاً لها ، منهمکاً في طلبها ، عاکفاً عليها ، مشغولاً بها عن الحق تعالى ، فيکون أکبر همه الدنيا بما فيها من موجودات إمکانية فانية حقيرة ، يظن أنها باقية دائمة مستمرة ، فيذهب عمره في طلبها ، فلا هو باقياً لها ولا هي باقية له ، فيخرج منها مقهوراً آسفاً عليها تارکاً لها ، لم يأخذ معه شيئاً منها سوى حسراتٍ وآهاتٍ وأناتٍ ، يدعو على نفسه بالويلِ والثبورِ ، ويقول : يا ليتني قدمت لحياتي شيئاً ، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، يا ليتني کنت تراباً ، يا ليتني کنت نسياً منسياً ، وعندئذ لا فائدة من جميع ذلک.
وبعد أن أصبح المراد واضحاً من المعنيين الماضيين ، نعود ثانية لإيفاء الوعد ، وذلک بتقرير البرهان المستنبط من جملة هذه الآيات السابقة الذکر على النهج المنطقي العقلي ، إليک التقرير :
المقدمة الأولى :أن الله تعالى حکيم.
المقدمة الثانية : وکل حکيم لا يصدر منه فعل باطل ، بلا فائدة وبلا هدف.
النتيجة : إنّ الله تعالى لا يصدر منه فعل باطل وبلا فائدة وبلا هدف.
نقول : لو لم يکن للعالم هدف وفائدة ومقصد لکان باطلاً ولغواً ولهواً ولعباً.
والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، وإذا بطل الأصل ثبت عکسه.
وجه البطلان : أنّ العالم فعل الله ، والله لا يصدر منه الباطل ؛ لأنّه خلاف کونه حکيماً ، وقد ثبت ذلک في البرهان.
وجه الملازمة : باعتبار إنّ الأمر دائر بين النفي والإثبات على أساس الحصر العقلي ، يعني أما أن يکون له قصد وهدف منه ، وهو فعل الحکيم ، أو لا يکون ذلک ، وهو فعل غير الحکيم.
النتيجة : إذن للعالم هدف وفائدة ومقصد ، فلابد إذاً أن يصل إليه ، والحال أنه في عالم الدنيا لم يصل إليه ، فلابد أن يکون هناک عالم آخر ونشأة أخرى يمکن أن يحصل فيه على هدفه ومقصده المطلوب له ، والمخلوق لأجله ، وهو عالم الآخرة ، واليوم الذي يمکن أن يصل فيه ويحصل على مقصده هو يوم القيامة ويوم البعث والحشر إلى الله سبحانه وتعالى ، کما قال عنه تعالى : ( ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الحَقُّ ) ، (17) ( إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) ، (18) ( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ). (19)
وجه تقدمه : باعتبار إنّ هذا الدليل من أحکم الأدلة على إثبات ضرورة المعاد ويوم القيامة ، فلذا نحن صدّرنا به البحث عن مسألة ضرورة المعاد في القرآن الکريم.
الدليل الثاني : دليل العدالة الإلهية
وکما هي عادتنا أن نصدّر البحث عن کل دليل بمجموعة آياته المشيرة إليه ، ثم بعد ذلک تصل النوبة إلى تقرير کل واحد من هذه الأدلة على أساس المنهج العقلي المتعارف عليه بين المناطقة والفلاسفة ، وإليک هذه المجموعة من الآيات الدالة عليه :
قال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ، (20) وقوله أيضاً : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (21) وقال أيضاً : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، (22) وقوله تعالى : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) ، (23) وغيرها من آيات الذکر الحکيم في بيان القسط والأمر به.
وقد يعترض المعترض فيقول : لو سلمنا بوجود محکمة داخلية لکل شخص منا ، فلا حاجة لوجوب وجود محکمة ثانية في عالم آخر مجهولة الکنه لنا ، فإذا کان الغرض من وجوب وجود المحکمة الأخروية هو الحساب والعقاب ، والحال هو حاصل بوجود المحکمة الداخلية التي نعبر عنها بالفطرة السليمة ، أو الوجدان الأخلاقي ، أو بتعبير القرآن الکريم النفس اللوامة ، فجعها من قبل الباري عزَّ وجل يکفي في تحقيق الغرض ، وهو إجراء وإقامة المحکمة لکل شخص ، بالشکل الذي لا يتنافي فعلها مع اختيار الإنسان وإرادته.
نقول : هذا صحيح ولا شک فيه ، ولکن الکلام ليس في وجودها وعدم وجودها ، وإنما الکلام في قوة هذه المحکمة وضعفها ، فإنها تصل إلى وضع يتساوي فيه وجودها وعدمه ، بحيث لا تنهى عن فعل ولا تأمر بشيء ؛ لأن هذا الأمر الفطري قابل للشدة والضعف ، فيختلف باختلاف الأشخاص ، حتى تصبح عند بعضهم نتيجة اقتراف الذنوب والمعاصي کأنها غير موجودة ، فلذا احتاج مثل هؤلاء الأشخاص وغيرهم إلى قيام محکمة کبرى يحضر فيها الجميع ، فيثاب فيها المطيع ويعاقب فيها العاصي ، وهي من مقتضى عدله تعالى ، إذ أن المؤمن قد يعيش في هذه الدنيا طريداً بلا مأوى ، والکافر يتنعم بمختلف النعم واللذات الدنيوية ، وعندئذ لو دخل الاثنان مدخلاً واحداً ، لکان ذلک ظلماً للمؤمن ، وحينئذٍ يتنافى مع عدل الله تعالى : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، (24) ( أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ، (25) فحصول المحکمة الکبرى للفصل بين ما هو حق عمّا هو باطل من مقتضي عدل الله تعالى ، وهذا الوجوب يدرکه العقل قبل تشريعه ، باعتبار أن الظلم قبيح لذاته ، والعدل حسن لذاته ، هذا بناءً على نظرية الإمامية ومن حذا حذوهم ، وبالإضافة إلى وجود المحکمة الداخلية الفطرية ، شُرِعَت محاکمٌ قضائية للحکم بين الناس ، الغرض منها تنظيم أمورهم وحفظ السلام والأمن والاستقرار ، سواء کانت تعتمد في قضائها على الحکم الشرعي أو الحکم الوضعي ، ولکن کيفما کانت لم تفِ في أداء المطلوب ؛ لأنّ الرشاوي في أغلبها فاشية ، وشهادة الزور فيها نافذة ، والطواغيت مظلومون والمحرومون ظالمون بنظر حکامها ، فيحکم فيها للظالم على المظلوم ، فلم تتحقق العدالة المطلوبة في أغلبها ، والحال أن حکمها صادر على أساس الأدلة الظاهرة ، التي يصورها کلُّ من الطرفين ، فتنتهي القضية بلا جدوى ولا ثمرة فيها .
ولذا قال الحق تعالى ناهياً عن ذلک : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، (26) وعليه تَطَلَّبَ الأمر وجود محکمة لا تجور ولا تظلم ، بل تعطي کل ذي حق حقه ، ولا يتحقق هذا الأمر في هذا العالم ، لعدم صلاحية هذا العالم لقيام مثل هذه المحکمة ، فلابد إذاً أن يکون في عالم آخر ، وهو عالم الآخرة الذي يکشف الله فيه الغطاء فيظهر کل واحد على حقيقته ، وحينئذ يقال للإنسان : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ، (24) ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، (28) ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ، (29)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). (30)
ولقد ذُکِرَت للعدالة معاني لغوية واصطلاحية ، فقد جاء في کتاب أقرب المواد : ( العدل : الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، والقصد في الأمر : ضد الجور ... ) ، (31) وأما في کتاب غريب القرآن فقد قال فيها : ( العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة ، ويستعمل باعتبار المضايفة ... إلى أن قال : فالعدل هو القسط على السواء ، وعلى هذا روي : بالعدل قامت السموات والأرض ) ، ولکن أحسن ما جاء فيها ، وهو ذلک المعنى الذي خرج عن مشکاة النور عن أمير المؤمنين فقد قال فيها : « العدل يضع الأمور مواضعها » ، (32) وموضع کل شيء بحسبه.
وأما المعنى الاصطلاحي فقد قيل فيه ، کما عن صاحب بداية المعارف : ( ... وظاهره هو اختصاصه بما إذا کان في البين حق ، وإلاّ فلا مورد له ، فإعطاء الفضل والنعم مع تفضيل بعض على بعض لا ينافي العدالة ، ولا يکون ظلماً ؛ إذ الذين أنعم عليهم لا حق لهم في التسوية حتى يکون التبعيض بينهم منافياً للعدالة ، نعم لابد أن يکون التبعيض التفضيل لحکمة ومصلحة ، وهو أمر آخر ... ) ، (33) نعم قد يستعمل العدل بمعنى الحکمة ، وعليه يکون مرادفاً لها ، ولعل منه قول مولانا أمير المؤمنين : « ولعدله في کلّ ما جرت عليه صروف قضائه » ، (34) والتفصيل في هذا الأمر يخرجنا عن هدفنا .
المصادر :
1- الحجر ، 9.
2- النجم ، 9.
3- النبأ ، 39.
4- الحج ، 7.
5- ق ، 22.
6- سبأ ، 13.
7- المؤمنون ، 115 ، 116.
8- الأنبياء ، 16 ، 17.
9- ص ، 27.
10- الحجر ، 8.
11- فاطر ، 15.
12- العنکبوت ، 6.
13- الذاريات ، 56.
14- ص ، 27.
15- الحديد ، 20.
16- ص 254.
17- النبأ ، 39.
18- الشوري ، 53.
19- القيامة ، 12.
20- ص ، 28.
21- الجاثية ، 21 ، 22.
22- فصلت ، 46.
23- الأعراف ، 29.
24- فصلت ، 46.
25- ص ، 28.
26- البقرة ، 188.
27- الإسراء ، 14.
28- ق ، 22.
29- البقرة ، 281.
30- التحريم ، 7.
31- سعيد الحوزي الشرتوتي ، أقرب الموارد في فصيح العربية والشوارد ، مادة عدل.
32- نهج البلاغة ، قسم الحکم ، الرقم 437.
33- محسن الخرازي ، بداية المعارف ، ص 102
34- نهج البلاغة الجامع لخطب أمير المؤمنين على بن أبي طالب 7 ، قسم الخطب ، الخطبة 216 ؛ لابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج 11 ، ص 88 ؛ بحار الأنوار ، ج 41 ، ص 152 ، 256 ؛ محمد ري شهري ، ميزان الحکمة ، ج 3 ، ص 2570 ؛ محمد مهدي شمس الدين ، دراسات في نهج البلاغة ، ص 141.