قبل أن نبين نظرية أبي حامد الغزالي في طبيعة وکيفية المعاد في اليوم الآخر ، رأينا أن نذکر قبل ذلک طبيعة ونوع وأسلوب التحقيق المتبع من قبل أبي حامد الغزالي في مختلف أبحاثه المعرفية ؛ إذ يعد الغزالي شخصية منفردة في هذا الأمر ؛ لأنه لم يتبع منهجاً وأسلوباً واحداً في أبحاثه وتحقيقاته ، کما هو عليه أکثر المحققين والباحثين ، کما سيأتي بيانه فيما بعد هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لم يکن الغزالي على مذهب واحد ، ومدرسة واحدة ، فقد قال عنه حسام الآلوسي ما هذا لفظه : ( ... أن الغزالي لم يسلک طريقاً معرفياً واحداً ، فهو مشکلة فکرية لدارسيه ، فهو متکلم طوراً ، وفيلسوفٌ طوراً آخراً ، وفي حال کونه متکلماً فهو أشعري مرة ، ومعتزلي مرة أخرى ، وفي ثالثة هو أقرب للحشوية ، کما هو حاله في « إلجام العوام » ، وأخيراً فهو صوفي وعرفاني ) ، (1)
ولذا کان منهجه في البحث والتحقيق يختلف تماماً عن غيره ، ولأجل أن تتضح لنا الصورة بشکل جيد وواضح ، کان علينا أن نذکر أسلوبه في ذلک بنحو من التفصيل يتناسب مع طبيعة هذا البحث وغرضه ، وإليک التوضيح :
1. موقف الغزالي من الأساليب العلمية في التحقيق
يعد المنهج العلمي التحقيقي للغزالي نوعاً خاصاً به ، لم ينتهج مثل هذا الأسلوب في المذهب السني من قبل ؛ إذ أنّه قد اعتمد فيه على مجموعة أساليب مختلفة ومتنوعة ، فقد جمع بين الأسلوب الکلامي ، والأسلوب الفلسفي القائم على الطريقة البرهانية العقلية ، والأسلوب الصوفي والذوقي القائم على أساس المعرفة القلبية ، وقد عدّ الأسلوب الأخير أوثق من الأسلوبين الأخريين الجدلي والعقلي ، وکما سيأتي بيان قيمة کل واحد منهما وجهة نظر الغزالي ، ولکنه لم ينتخب هذا النهج الذوقي بدون سابقة قيمة کل واحد منهما من وجهة نظر الغزالي ، ولکنه لم ينتخب هذا النهج الذوقي بدون سابقة معرفة وإطلاع ، بل کان مطلعاً على مجموعة کبيرة من الکتب التي دونت في المجالين المذکورين الکلامي والفلسفي ، بل أکثر من ذلک ، فقد کانت له کتابات کثيرة فيهما ، وکان غرضه منها حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها من تشويش أهل البدع بحسب تعبيره خصوصاً ما جاء به الفلاسفة آنذاک من آراء مخالفة للسنة هذا من جهة ، ومن جهة أخرى کان يرى طريقة المتکلمين قائمة على أساس الجدل الذي يعتمد على مقدمات غير يقينية تسلموها من خصومهم واضطروا إلى علمها ، ولکن هذا بنظر الغزالي لم يکن کافياً في کشف حقائق الأمور ، فيبقى علم الکلام غير واف للغرض المطلوب ، وقد لخص موقفه من هذا العلم بما حاصله : ( فصادفته علماً وافياً بمقصوده غير وافٍ بمقصودي ) ، (2)ويقول الغزالي أيضاً : ( إن المتکلمين لم يفارقوا عقود العوام ، وإنما فارقوهم بالجدل ... والجدل علم لفظي وأکثره احتيال وهمي ، وهو عمل النفس وتخليق الفهم ، وليس بثمرة المشاهدة والکشف ) ، وقال في استعمال هذا الأسلوب في البحث والتحقيق ما هذا لفظه : ( وهذه الأساليب قد يستضر بها خلق کثيرون ).
وأمّا الفلاسفة وإن تمسکوا بالأدلة العقلية البرهانية ، ولکنهم بنظره لم يعتمدوا في بعض براهينهم على مقدمات صحيحة ، بل کانت تعتمد على مقدمات فاسدة ، فکانت نتائجها تابعة في فسادها لها ، وبعضها ناشئة عن فساد صورة الاستدلال ، وبهذا يرميهم بعدم التدقيق في البرهان أيضاً ، کما جاء في کتابه تهافت الفلاسفة ما هذا لفظه : ( فإذا کان المتکلمون لم يعرفوا البرهان ، فإن الفلاسفة وإن فهموه فهماً حسناً فإنهم لم يحسنوا تطبيقه ، فأنتجوا معتقدات على خلاف ما ادعوه واشترطوه ، ويترکز ذلک في الإلهيات ... ) ، وقال في حق المعلوم الأخرى التي بحثوا فيها غير الإلهيات ما هذا نصه : ( ... في حين أن لديهم ما يحمد لهم وما لا يجب إنکاره ، وهو هنا الرياضيات والمنطق والفلک وبعض العلوم الأخرى ... ).
کل هذا وغيره من الأسباب دعت به إلى أن ينتهج أسلوباً خاصاً في البحث عن الحقيقة ، وهو الذي تمثل بالأسلوب الذوقي ، الذي أنتهجه بعد مروره بمرحلة الشک التي کادت تقضي على معارفه وأفکاره ، وقد استمرت حوالي شهرين ، قد عبر عنه بما هذا نصه : ( فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين ، وأنا فيهما على مذهب السفسطة بحکم المال لا بحکم النطق والمقال ، حتى شفاني الله تعالى من ذلک المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدلال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة ، موثوقاً بها على أمن ويقين ، ولم يکن ذلک بنظم دليل وترتيب کلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر ، وذلک النور هو مفتاح أکثر المعارف ... ) ، (3) وإليک بيان هذه الأساليب بنحو من التفصيل :
الأسلوب الأول : الأسلوب العقلي
قد يرى بعضهم (4) أن الغزالي بنقده للفلسفة والفلاسفة أنه عدو شديد للعقل ، وليس هو بصحيح کما يتصوره هذا البعض ؛ إذ أن الغزالي لم يستغنِ عن البرهان العقلي بشکل مطلق ، وإن انتهج المنهج الذوقي الصوفي في البحث عن الحقيقة ؛ لأنّه يعد العقل من أشرف الأشياء التي منحها الله تعالى إلى الإنسان حيث قال فيه : ( إنّ ما لا ينال سعادة الدنيا والآخرة إلا به ، فکيف لا يکون أشرف الأشياء ، وبالعقل صار الإنسان خليفة الله وبه تقرب إليه ، وبه تم دينه ... ) ، (5)ثم قال : وناهيک به شرفاً ، أنه قد شبه الله سبحانه العقل بالنور فقال : ( اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، أي منورهما ، وأکثر ما يطلق النور في القرآن على العلم في مقابل الجهل ، مثل قوله : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، وإنما کل ذلک بالعقل.
في حين أن بعضهم يرى خلاف ما يراه السابقون ، بل يرونه لم يقف قط ضد العقل ، ولم يخفض من شأنه ، أو يقلل من أهميته ، ولکنه حدد نطاقه ، ومجال عمله ، وقد استدلوا على کلامهم بما جاء في کتابات الغزالي نفسه حيث قال : ( فأما العقل إذا تجرد من غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط ، بل رأي الأشياء على ما هي عليه ، وفي تجرده عسر عظيم ... ) ، وقد نسب خطأ بعض العقلاء أنّه راجع إلى : ( ... أن فيهم خيالات وأوهاماً واعتقادات يظنون أحکامها أحکام العقل ، فالغلط منسوب إليها ... ) ، ولکن لماذا لم يجعل العقل مطلقاً في أحکامه وفي کشف الحقائق ؟ وذلک لخروج تلک الحقائق عن دائرة عمله وحکمه بحسب الواقع ، ولکن هذا لا يضر بحکم العقل ، ولا يقلل من شأنه وأهميته ، وعندئذ قال في هذا الصدد : ( ... العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا کاشفاً عن جميع المعضلات ... فالعقل إذا أراد أن ينتقل إلى مسائل ما وراء الطبيعة ، فهو يقرب في عماء بغير هداية ، ويقيم بنيانه بدون أساس ، ولذلک يقول الإمام عن بحث الفلسفة في الإلهيات ، ففيها أکثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق ... ). (6)
وعليه فالغزالي لم يکن محارباً وعدواً للأسلوب العقلي الذي کان يمثل المنهج الفلسفي في التحقيق آنذاک ، ولا متخذاً له في أبحاثه المعرفية بنحو الموجية الکلية ، بل بنحو الموجبة الجزئية ، فهو من جهة لم يجعله الوسيلة الوحيدة في کشف جميع حقائق الأمور ، وکذلک لم يرفضه کل الرفض کما يتصور من اعتراضاته على الفلاسفة وکشف إغاليطهم في بعض المسائل بحسب نظره.
الأسلوب الثاني : الأسلوب الجدلي
يعتمد المتکلمون هذا المنهج والأسلوب العلمي في أبحاثهم الکلامية ، ولکنه من وجهة نظر الغزالي لم يعد ذا قيمة معرفية ؛ لأنهم لم يستندوا فيه على مرجعية العقل ، باعتباره کمرجع وأصل ليعبروا من خلاله إلى المنقول کأصل الآخر ، وإنّما يسلمون بالشريعة أولاً ، ثم يحاولون تعقلها بأساليب غير کافية ، کما أنه لا يرى العکس صحيحاً ، بأن يجعل المنقول أصلاً والعقل متفرعاً عليه ، وقد وضح هذه الحقيقة بما جاء في کلامه : ( ... لا يصلح هذا العکس ، فليس لک أن تجعل المنقول أصلاً ، والعقل تابعاً ورديفاً ) ، وهذا الموقف من علم الکلام موقف جزم وحزم أيضاً.ويعتبر الغزالي المتکلمين نقليين من حيث الأساس ؛ لأنّهم يتمسکون بالقرآن والسنة ، ثم بالدلائل العقلية ، وقد بيّن هذه الحقيقة بقوله : ( أهل النظر في هذا العلم « التوحيد الکلام » يتمسکون أولاً بآيات الله تعالى ، ثم بأخبار الرسول ، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية ، وأخذوا مقدمات القياس الجدلي والعنادي ولواحقها من أصحاب المنطق الفلسفي ، ووضعوا أکثر الألفاظ في غير مواضعها ، ويعبرون في عباراتهم بالجوهر ، والعرض ، والدليل ، والنظر ، والاستدلال ، والحجة ، ويختلف معنى کل لفظة من هذه الألفاظ عند کل قوم ، حتى الحکماء يعنون بالجوهر شيئاً ، والصوفية يعنون شيئاً آخر ، والمتکلمون شيئاً ، وعلى هذا المثال ... ).
الأسلوب الثالث : الذوقي الصوفي
يعتمد هذا اللون من المعرفة على التأمل في الباطن والتزکية النفسية من جميع التعلقات الخارجية والداخلية التي تمنع النفس من مشاهدة ومکاشفة الموجودات المجردة الأخرى ، وقد أعطي الغزالي مکانة لهذا اللون من المعرفة ، وقيمة أعلى من قيمة العلم ، فقد قال فيه : ( العلم فوق الإيمان ، والذوق فوق العلم ، فالذوق وجدان ، والعلم قياس ، والإيمان مجرد بالتقليد ... ). (7)ويعتمد الأسلوب الذوقي بصورة مباشرة على الکشف والشهود ، فإذا لم يکن هناک کشف شهود فلا وجود للذوق عنده ، ويعني الغزالي بعلم المکاشفة ما يلي : ( قال : فنعني بعلم المکاشفة أن يرفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق الأمور اتضاحاً يجري مجرى البيان الذي لا شک فيه ، وهذا ممکن في جوهر الإنسان لولا أنّ مرآة القلب قد تراکم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا ، وإنّما نعني بعلم طريق الآخرة ، العلم بکيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث التي هي حجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله ، وإنما تصفيتها وتطهيرها بالکف عن الشهوات والإقتداء بالأنبياء ) ، (8) ويقول أيضاً : ( وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارک في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار ، وهو يتعجب من صاحب الوجد والغشي ، ولو اجتمع العقلاء کلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه ... ). (9)
إن الذي يتتبع کلمات الغزالي يجده يمتدح الطريقة الصوفية ، ويذم الطريقتين الکلامية والفلسفية ، ومما يشهد على ذلک قوله في الصوفية : ( إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقتهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزکى الأخلاق ، بل لو جمع عقل العقلاء ، وحکمة الحکماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً ، فان جميع حرکاتهم وسکناتهم في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من نور مشکاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به ). (10)
وقال في خصمائهم : ( ووراء هؤلاء قوم جهال هم ينکرون لأصل ذلک المتعجبون من هذا الکلام ويسخرون ويقولون : العجب ! إنهم کيف يهتدون وفيهم قال الله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) ، فأصمهم وأعمى أبصارهم ، ومما بان بالضرورة من ممارسة طريقهم « حقيقة النبوة وخاصيتها » ولابد من التنبيه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها ).
ويعتبر الغزالي الکشف إدراک وجداني مباشرة يتجاوز حدود العقل ، فيعبر عنه بقوله : ( وراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيکون في المستقبل وأمور أخرى العقل معزول عنها ) (11)، وقد اثبت الغزالي قدرة الإنسان على الکشف بدليلين (12)
الأول : عجائب الرؤيا الصادقة ، فإنه ينکشف بها الغيب ، وإذا جاز ذلک في النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة ، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في رکود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات ، فکم من مستيقظ غائض لا يسمع ولايبصر لاشتغاله بنفسه.
الثاني : إخبار رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل کما أشتمل عليه القرآن.
خلاصة الکلام
وينبغي أن يلتفت إلى أننا لسنا في صدد تبيين کل ما جاء به الغزالي في الموضوع ، غاية الأمر أن غرضنا منه هو بيان موقف الغزالي من هذا الأسلوب من حيث الإيجاب والسلب ، وقد تبيّن لنا کيف اعتبر الغزالي هذا النمط من طرق المعرفة أوثق الطرق في کشف حقائق الأمور بعد ما ناقش الطريقين الأولين ، واعترض عليهما من جهة تشويه الحقيقة فضلا عن بيانها ، وبهذا القدر نکتفي من نقل کلامه فيه ، وعليه نقول : إن اعتماده على هذا الطريق دون غيره من الطرق الأخرى بعدما طالعها وحققها ، وکتب في ردها ، هو شوقة لطلب الحقيقة بعد ما مر بمرحلة الشک التي أصابته في مرحلة من حياته ، خصوصاً وأنّ والده کان عاشقاً للطريقة الصوفية ، حتى أنّه أوصى به بعض أصدقائه من الصوفية ، فطالما کان يسمع عن حکايات العرفاء والمتصوفة في زمانه ، فدفعه ذلک الشوق لطلب معرفة الحقيقة عن طريقهم ؛ لأنه كان يرى أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلاّ عن هذا الطريق مع ما فيه من الصعوبات والعقباب المهلکة والمنهکة للنفس والبدن في حال عدم مراعاة قواعد السير والسلوک ، فکثيراً ما عبر عن بعض أهل هذا الطريق بالمغرورين ، فکان الغزالي يصف لنا شوقه إلى معرفة الحقيقة بما يلي : ( وقد کان التعطش إلى درک حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد ).والسبب الثاني الذي دفع بالغزالي لانتخاب هذا اللون من المعرفة هو نبذه للطرق الأخرى ؛ لإحساسه بشائبة التقليد للغير فيها ، وما کان هذا حاله لا يمکن أن يدرک الحقيقة ؛ لأن الذي يصده عن الوصول إليها هو إتباعه للغير وتقليده في کل ما جاء به ، عن تحقيق أو بلا تحقيق ، فمثل هذا قد أصمه عن الحق إتباعه لذلک الغير ، فقد قال فيه : ( فالحقيقة لا يمکن أن يصل إليها الإنسان عن طريق تقليد الآخرين ، مهما کانوا هؤلاء الآخرين ) ، وعليه فإن طريق الذوق ليس فيه هذا الأمر ، بل الإنسان فيه حر في فکره غير مقلد لغيره ، بل أکثر من ذلک فهو فيه حر حتى من أهوائه وعواطفه وغزائره ، وإلاّ بقي سجين هذه الدار ، فلا يرى ما هو خارج عنها ، وعندئذ لا يتحقق لها معرفة بالواقع وحقائق الأمور التي يسعى لطلب معرفتها.
أقول : وليت الغزالي اتبع الحق کما جاء به الحق ، لقوله تعالى : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
وختاماً نقول : لم يکن غرضنا هنا مناقشة کل ما جاء به الغزالي ، نعم هناک ثمة مناقشة مختصرة رأينا من الضروري القيام بها ، وسنوافيک بها في المبحث اللاحق.
2. في مناقشة المنهج العلمي للغزالي
مما تقدم تبيّن لنا أنّ نقده وتقييمه للأساليب العلمية المتبعة من قبل بعض المدارس الإسلامية فلسفية ، أو کلامية ، أو عرفانية کانت ، عدم الاعتدال فيها ؛ لأنا تارة نجده مادحاً وأخرى ذامّاً ، وفي الوقت الذي يکون فيه ذامّاً نجده متبعاً لطريقتهم ، وفي هذا خلاف واضح لما تبناه من الموقف تجاه منهجهم في التحقيق والاستدلال على إثبات مسائلهم ، ولکن الغالب عليه إتباعه لواحد من هذه الأساليب ، حتى اتخذه منهجاً له في معرفة ما هو حق عما هو باطل ، فامتدحه مدحاً غريباً وعجيباً ، مع أنّه لا يعکس الحقيقة إلا في حالة الصفو والخلوة من وجود أي نوع من أنواع التعلقات النفسية بالخارج عنها ، أو بداخلها من قوى ورغبات وميولات ، فما هو الضامن من حصول هذه الأمور بحيث تکسوها النفس بکسوة الحق والحقيقة ، ولکن حتى لو سلمنا عدم حصول هذه الأمور ، واکتفينا بما ذکره الغزالي في مجموع کتبه ومؤلفاته التي ألفها لوجدنا فيها التناقض والتنافي بين آرائه في هذه الأساليب التي ذکرناها في بداية هذه المسألة ، فقد نُقِلَ عنه موقف سلبي مع المنهج الکلامي ، ذکره في کتابه إحياء العلوم حيث جاء فيه : ( إن أدلته موجودة في الکتاب والأخبار مشتملة عليه ، وفيما عدا ذلک يثير الشبهات في العقائد ، يجر إلى الجدل العقيم الذي يعکر صفاء الإيمان الصحيح ... ). (13)في حين نجد الغزالي في رسالته اللدنية ، يجعل علم التوحيد (يقصد الغزالي بعلم التوحيد هو علم الکلام ، کما جاء في بعض کتاباته التي دونها في مصنفاته ؛ فتدبر) أشرف العلوم وأجلها وأکملها ، فهو علم ضروري وواجب تحصيله على جميع العقلاء ... والأعجب من کل هذا وذاک ، أن الغزالي رغم کل هذه الانتقادات التي ذکرنا بعضها في هذه المسألة ، والتي لا يسعنا المجال لذکرها ، نجده يعد نفسه واحداً من المتکلمين ، مدافعاً عن جملة من القضايا التي طرحها وتناولها أستاذه إمام الحرمين الجويني ، وبعض التي بحثها أبو الحسن الأشعري ، وأدل دليل على إتباعه المنهج الکلامي الذي يعتبره منهجاً جدلياً من جهة ، ومعتمداً على ظاهر النقل من جهة أخرى ، هو ما انتهجه في مسألة إثبات البدن والجسم الأخروي ، حيث کان فيه مقلداً وتابعاً لما قال به الشرع المقدّس ، حتى أنّه لا يعير أهمية لمخالفة العقل في مسألة التناسخ عندما ثبت لديه بحسب نظره أن الشرع قد جوّز ذلک ، فجعله موضوع إيمان لا موضوع نظر عقلي.
والملفت للنظر أن الغزالي شهد لنفسه بالکمال العلمي في تحصيله وما بقي عليه إلا العمل ، فقال : ( ... إنّ ما يمکن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعليم ، بل بالذوق والسلوک ... ) ، (14) وأين هذه من مقال ابن سينا عندما قال : ( اليوم أدرکت أني لا أعلم شيئاً ، وأنّه فوق کلّ ذي علم عليم ) فالمهم يمکن أن نلخص مناقشتنا إياه بعدة نقاط وهي :
1. إن الغزالي جعل الفطرة الأصلية هي القاعدة الأساسية لوجوب الإتباع ، ولکنه فرق بين التقليد والاستبصار ، أي بين الإتباع والعقل ، فالأول منهج العوام ، والثاني منهج أهل النظر ، مع أن الفطرة واحدة عند الجميع ، فکلامه يحتاج إلى مزيد تفصيل حتى يتضح سبب الفرق بين الناس.
2. إنّه عمم بشکه معارفه ، فکيف انتهى إلى اليقين ولم يسلم اعتقاده ومعرفته بالله من الشک الذي دخله ، فهذا السؤال يحتاج إلى جواب ، وکيف عرف أن هذا النور من الحق لا من الباطل ؟.
3. الانکشاف التام الذي يحصل للإنسان لرؤية المنکشف على ما هو عليه من واقعية ونفس الأمر ، لا يتم إلا بطي النفس لمراتبها ، حتى تبلغ أعلى المراتب ، وعندئذ نسأل هل وقف الغزالي في الجانب العملي بحيث وصل إلى أعلى المراتب أم لا ؟
4. مخالفته الصريحة لمنهجة الذي کان من الواجب عليه إتباعه ، ولکننا نجده مخالفاً له في عدة قضايا ، کقضية إثبات وجود الحق تعالى ، مسألة المعاد الجسماني.
5. وأخيراً نقول : هل تمکن الغزالي من حل المشکلة المعرفية ، أم أنّه عقدها ؟
3. في ماهية الإنسان
لا يخفى علينا أهمية هذه المسألة في باب المعاد ، بل هي من أمهات المسائل التي يتوقف على تحديدها ثبوت المعاد وعدمه ، وقد اختلفت فيها الآراء والنظريات ، ولا يهمنا هنا بيان هذه الآراء والنظريات المتعددة ، سوى بيان الغزالي في المسألة ، وقد قال فيها أنها جوهر مجرد غير جسماني ، مستدلاً على ذلک بعدة أدلة ، نذکر هاهنا بعضاً منها وهي:أولاً : قال : نتلقى المعقولات وندرک الأشياء التي لا تدخل في الحس والخيال والمعقول متحد ، فلو حل في منقسم لأنقسم المتحد وهذا محال.
ثانياً : القوة العقلية هي ذات تجرد المعقولات عن الحکم ألاين والوضع وسائر عوارض الجسم.
ثالثاً : القوة العقلية لو کانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يکون فعلها إنما يستتم باستعمال تلک الآلة الجسدانية ، لکن يجب أن لا تعقل ذاتها ، وأن لا تعقل الآلة ، وأن لا تعقل أنها عقلت ، فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين آلتها آلة ، ولا بينها وبين أنها عقلت آلة ، لکنها تعقل ذاتها آلتها والتي تدعى آلتها وأنها عقلت فإذا تعقل بذاتها لا بالآلة.
رابعاً : النفس لو کانت جسماً فلا يخلو إما أن تکون حالة في البدن ، أو خارجة البدن ، فإن کانت خارجة عن البدن فکيف تؤثر وتتصرَّف في هذا الجسم ، وکيف يکون قوام البدن بها ؟ ... وإن کانت حالّة في البدن فلا يخلو إما أن تکون حالة بجميع البدن ، أو بعضه ، فإن کانت حالة بجميع البدن فکان ينبغي إذا قطع منه طرف أن تنقص ، أو تنزوي وتنتقل من عضو إلى عضو ، فتارة تمتد بامتداد الأعضاء ، وتارة تتقلص بذبول الأعضاء ، وهذا کله محال ... وإن کانت حالة في بعض البدن فذلک البعض منقسم ، إما بالفعل ، أو بالعرض ، فينبغي أن تنقسم النفس إلى أن تنتهي بالأقسام إلى أقل شيء وأحقره.
خامساً : نفسک منذ کنت لم تتبدل ، ومعلوم أن البدن وصفات البدن کلها تتبدل.
سادساً : لو کانت النفس الإنسانية منطبعة في البدن ، لکان ضعفها مع ضعف البدن ، لکنها لا تضعف مع ضعف البدن ، فثبت أنها غير منطبعة فيه.
سابعاً : إذا کنت صحيحاً ، مطرحاً عنک الآفات ، مجنباً عنک صدمات الهوى وغيرها من الطوارق والآفات ، فلا تتلامس أعضاؤک ولا تتماس أجزاؤک ، وکنت في هواء طلق « أي معتدل » ففي هذه الحالة أنت لا تغفل عن إنيّتک وحقيقتک ، بل وفي النوم أيضاً ، فکل من له فطانة ولطف وکياسة يعلم أنه جوهر ، وأنه لا تعزب ذاته عن ذاته.
ومما تقدم يتبيّن لنا أن بعض هذه الأدلة التي ذکرها في باب إثبات تجرد النفس مذکورة في فلسفة الفارابي وابن سينا ، خصوصاً الدليل الأخير ، فإنه ورد مثله في فلسفة ابن سينا ، في الوقت الذي يعجّزهم عن إقامة البرهان العقلي على أن النفس جوهر روحاني قائم بنفسه لا يتحيز ، وليس بجسم ولا منطبع في جسم ، ولا متصل بالبدن ، ولا هو منفصل عنه.
وقد انتهى الغزالي إلى عدم فناء النفس بالدليل العقلي ، ولذا نجده في رسالته معراج القدس يقول : ( إن النفس لا يتطرق إليها الفناء والعدم والفساد والهلاک ، وذلک أن کل شيء من شانه أن يفسد بسبب ما ، ففيه قوة أن يفسد ) ، (15) إلا أنه عندما حاول التشکيک في إثبات الفلاسفة لخلود النفس بالبرهان العقلي وحده ، کما جاء في المسألة الثامنة عشرة في کتاب تهافت الفلاسفة ما هذا لفظه : ( في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي على أنّ النفس الإنسانية جوهر روحاني قائم بنفسه لا يتحيز ، وليس بجسم ، ولا منطبع في جسم ، ولا هو متصل بالبدن ، ولا هو منفصل عنه ، کما أنّ الله ليس خارج العالم ، ولا داخل العالم ) ، قال : ( فإذا انقطعت العلاقة ، انعدمت النفس ، ثم لا يعود وجودها إلا بإعادة الله سبحانه وتعالى ، على سبيل البعث والنشور کما ورد به الشرع في المعاد ) ، ويستدل على قوله هذا بقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ).
ويظهر لنا جلياً مما تقدم من أدلة على إثبات جوهرية النفس واعتراضه على الفلاسفة بعجزهم عن تقديم وإقامة البرهان العقلي على بقاء النفس وعدم فنائها ، أن المقصود بهذه النفس التي تفسد بفساد البدن عند الموت وقطع العلاقة بينهما ، أنها غير النفس الجوهرية التي استدل عليها بالأدلة السبعة التي مرّ ذکرها قبل قليل ، وإنما يقصد بها النفس في مرتبة الحيوانية ، أو بعبارة أخرى النفس الحيوانية ، ولکن يبقى شيء جدير بالذکر ، وهو هل هذه المرتبة التي يعبر عنها بالنفس موجود مجرد أم جسماني ؟ ولا يمکن أن نقول مجرد ؛ إذ أنّه قدم أدلة على عدم فناء الجوهر المجرد بفناء البدن ، ولا يبقى إلا أن نقول إنها جسم أو جسماني ، يفنى بفناء البدن المرتبط به ، وقد ذکر شيئاً عنها عندما شرح الروح الحيواني ، ولکنه عند بيان حقيقة النفس التي جعلها مورد الخطاب الإلهي بيّن أنّ الحقيقة الإنسان نفسه وروحه ، وهي جوهر مجرد باقي من دون أنّ تفسد بفساد البدن ، وفي الظاهر أنّه يريد بها النفس المدرکة الناطقة ، وهي غير النفس الحيواني المنعدمة بالموت بحسب نظره هذا ، نعم قد نقل عنه صدرالمتألهين أنّه يقول بتجرد القوة الخيالية التي هي أحد قوى النفس الحيوانية ، وعندئذ فالمجرد لا يطرأ عليه العدم ، فيتنافي ما قاله هنا مع ما نقل عنه. (16)
المتتبع لکتابات الغزالي في باب الأصول العقائدية ، لم يجد الغزالي قد أعار لهذه المسألة العقائدية المهمة أهمية ، کما کتب في باب المسائل الأخرى ، بل أنّه قد کرس جهده في بيان المسائل النفسية الروحية أکثر من غيرها ؛ وذلک بناءً على ما انتهجه من منهج الذوق والتصوف ، فقد ألف في هذا الباب کتباً ورسائل عديدة من حيث الکم والکيف ، بينما اعتمد في إثبات هذه المسألة الأصولية ( المعاد ) على الشرع المقدّس ، بما جاء به من نصوص صريحة وواضحة لا تحتاج إلى تأويل وتبيين ، وفي إمکانها ووقوعها اعتمد على القدرة الإلهية ، ولا يرى حاجة للبحث فيها أکثر من ذلک ، في حين يرى الآخرون أنها من أهم المسائل العقائدية ، التي لم يکشف البحث والتحقيق لحد الآن أسرارها الخفية عن طريق البرهان العقلي ، وما زالت مسائلها محل الکلام والتساإل إلى عصر الغزالي وما بعده ، ولأهميتها وتعقيدها أنزل الحق فيها ما يقارب ثلث التنزيل ، وفي أکثره قرنها الحق تعالى بمسألة التوحيد؛ لارتباطها الوثيق بها ، فما من آية نزلت في التوحيد إلا وختمت بالدعوة إلى الايمان بالمعاد واليوم الآخر ، بل لم تتعرض مسألة من مسائل الاعتقاد بهذا العدد من الإشکالات والتساؤلات کما تعرضت له مسألة المعاد وکيفيته ، ولکن الغزالي لم يرَ ما نراه ويراه الآخرون ، من عظم هذه المسألة وخطرها ، بل کان يرى أن الإيمان بها لا يحتاج إلى دليل ، بل الشرع کاف في إثباتها.
وقد وضح الفخر الرازي هذه الحقيقة بقوله : ( ... وإنما لم يشرحه في کتبه کثير شرح ، لما قال أنه ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان ، نعم ربما يميل کلامه وکلام کثير من القائلين بالمعادين إلى أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلک البدن بدناً ، فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد خراب البدن ، ولا يضرنا کونه غير البدن الأول ، بحسب الشخص ، ولامتناع إعادة المعدوم بعينه ، وما شهد النصوص من کون أهل الجنة جرداً مرداً ، وکون ضرس الکافر مثل الجبل أحد ... ). (17)
وما دام البحث في بيان وجهة نظر الغزالي في هذه المسألة ، فما علينا إلا أن ننقل بعض ما ذکره الغزالي في تحقيقها ، فقد جاء في کتابه إحياء علوم الدين المجلد الأول ، في الرکن الرابع في السمعيات وتصديقه ما هذا نصه : ( وقد ورد بهما « الحشر والنشر » وهو حق والتصديق بهما واجب ؛ لأنه في العقل ممکن ، ومعناه الإعادة بعد الإفناء ، وذلک مقدور الله تعالى کالابتداء والإنشاء ، قال الله تعالى : ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، فاستدل بالابتداء على الإعادة ، وقال عز وجل : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ، والإعادة ابتداء ثان ، فهو ممکن کالابتداء الأول ).
أقول : إنّه في بداية الأمر بيّن إمکان المعاد کان ثابتاً من جهة مجيء الشرع به ، ولزوم التصديق به ، ثم أنه أردف کلامه بحکم العقل الدال على إمکانه ؛ إذ لم يقم دليل عقلي على استحالته ، وما کان أمره کهذا فهو ممکن ، ثم أنّه بعد ذلک بيّن أن إمکان الإعادة مبتني على أساس القدرة الإلهية ، ثم أضاف بعد ذلک بيّن لنا کيفية الإعادة على أساس کيفية الابتداء ، وعليه تکون الإعادة روحانية جسمانية ، فيظهر لنا أنه من القائلين بالمعادين الروحاني والجسماني ، ولذا نجده في کتاب آخر من کتبه يوضح هذه الحقيقة لنا حيث جاء فيه : ( عود النفس إلى البدن بعد مفارقته عنه يوم القيامة ، أمر ممکن غير مستحيل ، ولا ينبغي أن يتعجب منه ، بل التعجب من تعلق النفس البدن في أول الأمر أظهر من تعجب عودها إليه بعد المفارقة ، وتأثير النفس في البدن تأثير فعل وتسخير ، ولا برهان على استحالة عود هذا وصيرورة هذا البدن مستعداً مرة أخرى لقبول تأثيره وتسخيره ).
وأوضح منه هو ما جاء في کتاب إحياء علوم الدين المجلد الرابع ، حيث جاء فيه تحت عنوان صفة أرض المحشر وأهله : ( ثم انظر کيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر ، أرض بيضاء قاع صفصف لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، ولا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها ، ولا هدّة ينخفض عن الأعين فيها ، بل هو صعيد واحد بسيط لا تفاوت فيه ، يساقون إليه زمراً ، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إذ ساقهم بالراجفة تتبعها الرادفة ، والراجفة هي النفخة الأولى ، والرادفة هي النفخة الثانية ، وحقيق لتلک القلوب أن تکون يومئذٍ واجفة ، ولتلک الأبصار أن تکون خاشعة ، قال رسول الله : « يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء کقرص النقي ، ليس فيها معلم لأحد » ، قال الراوي العفرة : بياض ليس بالناصع ، والنقي : هو النقي عن القشر والنخالة ، ومعلم : أي لا بناء يستر ، ولا تفاوت يرد البصر ، .... إلى أن قال : واشتبک الناس کالفراش المبثوث ، وهم حفاة عراة مشاة ، قال رسول الله : « يبعث الناس حفاة عراة ، قد ألجمهم العرق ، وبلغ شحوم الآذان » ). (18)
وهذا صريح بأن معاد الإنسان يکون بالروح والجسد کما کان يعيش بهما في عالم الدنيا ؛ لما بينه من أوصافهم وأحوالهم في ذلک المشهد العظيم واليوم العصيب ، فلا يمکن بعد ذلک أن يحمل ما جاء به الغزالي في هذا المقطع ، أو غيره في کتبه الأخرى ، وأن بالغ في تبيين أنواع الثواب والعقاب بالنسبة للروح أنه يريد منها القول بالمعاد الروحاني.
ونحن لا نشک في ثبوته شرعاً ، إلا أننا بحاجة إلى إثباته عقلاً ، وهذا ما لم يحققه لنا أحد سوى ما جاء في کتابات الفيلسوف العارف صدر المتألهين ; ولکننا هنا نسأل من الغزالي بمعنى أننا نسأل من کتبه المدونة في هذا الباب هل الإنسان فيه القابلية لأن يعاد روحاً وجسماً أم لا ، إذ أننا لا نشک في قدرة الفاعل الذي أخرجه من ظلمة العدم إلى نور الوجود ؟ وإذا کانت فيه القابلية لهکذا أمر ، هل يمکننا أن نستدل عليها عقلاً ، وکيف ؟ وهذا ما تعجز عن إجابته کتب الغزالي ، إذ أننا لم نجده يقدم لنا دليلاً عقلياً واحداً على إثبات هذه الحقيقة ، غاية الأمر يکتفي بثبوتها عن طريق الشرع الصادق الذي لا شک فيه.
المصادر :
1- حسام الآلوسي ، دراسات في الفکر الفلسفي ، ص 237.
2- أبو حامد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص 27.
3- الزعبي أنوار ، مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي ، ص 179. . المصدر السابق ، ص 179 ،80 ، 180 ، 181.
4- البرون کارادفو ، الغزالي ، ترجمة عادل زعيتر ، ص 21 ؛ هنري کوربات ، في التاريخ الفلسفة الإسلامية ، ترجمة نصير مروه ؛ وحسن قبيس ، ومراجعة الإمام موسى الصدر والأمير عارف ثامر ، ص 275.
5- أبو حامد الغزالي ، ميزان العمل ، ص 119.
6- زکي محمود ، کتاب الإنسان في فلسفة الغزالي وتصوفه ، ص 79.
7- أنور الزعبي ، مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي ، ص 179.
8- أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 20.
9- أبو حامد الغزالي ، مشکاة الأنوار ، ص 78.
10- أبو حامد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص 50.
11- أبو حامد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص 51.
12- أبوحامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج 2 ، ص 25.
13- أبو ريان ومحمد علي ، تاريخ الفکر الفلسفي في الإسلام ، ص 185.
14- مجموعة رسائل الغزالي ، 1 ـ 7 ؛ المجموعة (7) أبو حامد الغزالي ، رسالة المنقذ من الضلال ، ص 59 ؛ وکذا في کتاب مجموعة رسائل الغزالي ( 1 ـ 26 ) ؛ الرسالة (24) رسالة المنقذ من الضلال ، ص 552 ، 553.
15- أبو حامد محمد الغزالي ، رسالة معارج القدس ، ص 120.
16- صدر الدين الشيرازي ، کتاب الأسفار ، ج 8 ، ص 320.
17- مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف بسعد الدين التفتازاني ، شرح المقاصد ، ص 91.
18- أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج 4 ، ص 605.