1 - الإمام يطلب النصرة لمواجهة السلطة ورد السلطة على ذلك
قال اليعقوبي في تاريخه، وابن أبي الحديد في شرح النهج (واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه للبيعة فقال لهم: اغدوا علي محلقين الرؤوس، فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر).
وقال أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة برواية بن أبي الحديد شرح النهج، وابن قتيبة الدينوري الإمامة والسياسة: ثم إن عليا حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال علي: أفكنت أترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميتا في بيته لم أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه!؟
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه!! (1)
2 - معاوية يشهد على صحة الواقعة ويعللها بما أراد
جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد مجلد 2 صفحة 67 وفي وقعة صفين لنصر بن مزاحم صفحة 182 أن معاوية كتب لعلي ما يلي (وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر، فلم تدع أحدا من أهل بدر السوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك، وأذللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة... إلخ).
قال المسعودي في مروجه مجلد 1 صفحة 414، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة (إنه لما بويع أبو بكر في السقيفة، وتجددت له البيعة يوم الثلاثاء خرج علي فقال:أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر، ولم ترع لنا حقا، فقال أبو بكر: ولكني خشيت الفتنة.
3 - أعظم جاهة لنصرة الشرعية
حديث الثقلين من أصح الأحاديث، فقد رواه 35 صحابيا وأجمعت الأمة على صحته، وتناقلته بطريق التواتر، وقد أكد الرسول في هذا النص أن الهدى لا يمكن أن يدرك إلا بالتمسك بالقرآن الكريم وعترته أهل بيته، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالقرآن والعترة أهل البيت، فهذان هما الثقلان.
وقد وضح النبي أن أهل البيت هم أصحاب الكساء: فاطمة وعلي والحسن والحسين، فهم الأبناء والنساء والأنفس، كما هو ثابت بآية المباهلة، وهم على رأس قائمة المعنيين بآية المودة في القربى.
ثم إن الزهراء هي سيدة نساء العالمين قاطبة، بالنص الشرعي، والحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة في الجنة بالنص الشرعي، وعلي بن أبي طالب هو ولي الله بالنص الشرعي، وأمير المؤمنين بالنص الشرعي، وخليفة رسول الله بالنص الشرعي، ووصيه بالنص الشرعي، وسيد العرب وفارسها بالنص الشرعي، والمخول ببيان ما تختلف فيه الأمة من بعد النبي بالنص الشرعي، وهو الهادي بالنص الشرعي. ثم إن عليا وفاطمة والحسن والحسين من الذين أذهب الله عنهم الرجس بالنص الشرعي.
فأي جاهة للأنصار أعظم من هذه الجاهة، فاطمة وعلي والحسن والحسين!!
لقد جاءهم بسادة الدنيا والآخرة، وراجع الأنصار بيتا بيتا طالبا النصرة، والانتصار له وللشرعية، ولكن الأنصار أبت عليه ذلك، لسبب بسيط هو أن أبا بكر سبقه، ولو سبق أبا بكر لما عدلت به أحدا!
ثم إن الأنصار أعطوا البيعة لأبي بكر، وتم التعاقد والنص الشرعي يوجب الوفاء بالعقود!
وكسر خاطر الجاهة الشريفة، وفشلت مساعي الآل الكرام، واكتشفوا أنهم وحدهم بمواجهة السلطة!
4 - تجميل السلطة ببيعة آل محمد
لقد صرح نائب الخليفة عند مقابلته للعباس ووجوه بني هاشم أنه لم يأت هو وأبو بكر والمغيرة بن شعبة بسبب ضعفه بقوله: وأخرى إنا لم نأتكم حاجة منا إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن منكم... إلخ. راجع الإمامة والسياسة صفحة 15
فمعنى ذلك أن مبايعة العترة الطاهرة أهل البيت وعدم مبايعتها سيان عند نائب الخليفة، فهو لا يحتاجهم كما صرح، ولكن من تمام الملك خضوع كل الرعية وطاعتها، وخضوع الآل الكرام وطاعتهم للسلطة عملية تجميلية ليست إلا، وقطع لدابر الطعن وإبراز وحدة الأمة وانصياعها للسلطة.
5 - إما المبايعة أو القتل
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة مجلد 1 صفحة 11 ثم إن عليا أتي به إلى أبي بكر وهو يقول أنا عبد الله وأخو رسوله، فقيل له بايع أبا بكر فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. نحن أولى برسول الله حيا وميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. قال عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: إحلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. وعلى الصفحة 13 من الإمامة والسياسة أنهم قالوا لعلي: بايع، فقال علي:
إن لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله نضرب عنقك، فقال علي: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله!! فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو الرسول فلا!
آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين، وبين المهاجرين والمهاجرين، وفي الحالتين آخى الرسول بينه وبين علي. وهذا معروف للعامة والخاصة، ولكن عمر لا يعترف بهذه الأخوة لأنها ليست حقيقية، إنما هي ناتجة عن قول من الرسول، والرسول يتكلم في الغضب والرضا!
عندما سمع الإمام ذلك لحق بقبر الرسول يصيح ويبكي وينادي (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) سيد العرب، وولي الله، وابن عم رسول الله، وفارس الإسلام الأوحد، ووالد السبطين، وزوج البتول يبكي!! ويهدده عمر بالقتل كأنه أحد السوقة! ولم يمض على موت ابن عمه وجد سبطيه، ووالد زوجته إلا يوما أو بعض يوم!
إن العرب لم تعرف ذلك حتى قبل الإسلام!
العرب تتعاطف مع المصاب، وتخفف عنه!! وتحترم الحزن، وتتفاعل معه!
ولكن ما قيمة هذه المشاعر أمام وحدة الأمة وخضوعها وإخضاعها للسلطة، إنها أمة واحدة، لها دولة واحدة وسلطان مطاع واحد، ولا يسمح لأي كان بالخروج على هذا السلطان، أو الجهر بعدم طاعته!
إن الله تعالى خير المشركين ستة أشهر ليسيحوا في الأرض!
6 - إما المبايعة أو حرق البيت
فاطمة بنت النبي، وعلي زوجها وولي الله بالنص، وسيدا أهل الجنة في بيتهم، ولديهم زوار، تحركت سرية بقيادة عمر بن الخطاب فنادى عمر من في الدار أن اخرجوا؟ فأبوا أن يخرجوا فدعا عمر بن الخطاب بالحطب ووضعه حول البيت وقال:
والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها - أي الدار - على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة!! إن فيها عليا!! وحسنا وحسينا!! كما يعلم، فقال عمر: وإن!! فخرج الزوار وبايعوا، إلا علي.
تلك حقيقة مطلقة!! وقد لقيت فاطمة عمر فقالت: يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا! قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة!!
راجع الرياض النضرة ، وأبو بكر الجوهري في سقيفته برواية ابن أبي الحديد 293، وتاريخ الخميس وجاء في أنساب الأشراف وكنز العمال والرياض النضرة ، وأبو بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد ، وأبو بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد وفي أنساب الأشراف للبلاذري فتحلقته فاطمة على الباب فقالت فاطمة: يا بن الخطاب أتراك محرقا علي بابي! قال: نعم!
وإلى هذا أشار عروة بن الزبير حين كان يعتذر عن أخيه عبد الله بن الزبير في ما جرى له مع بني هاشم وحصره إياهم في الشعب وجمعه الحطب لإحراقهم ليدخلوا في طاعته، كما أرهب بني هاشم وجمع لهم الحطب لتحريقهم إذا هم أبوا البيعة في ما سلف.
راجع مروج الذهب ، وأورده ابن أبي الحديد في ، واليعقوبي في تاريخه ، وراجع معالم المدرسين ، وقال اليعقوبي فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار، وكسروا سيف علي ودخلوا الدار.(2)
7 - هذه البطولة في الشعر الحديث
يقول حافظ إبراهيم شاعر النيل في هذه الحادثة:
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها * أمام فارس عدنان وحاميها
وفي رواية أبي بكر الجوهري في السقيفة برواية ابن أبي الحديد مجلد 1 صفحة 134 ومجلد 6 صفحة 286. (وخرجت فاطمة تبكي وتصيح، فنهنهت من الناس) وقال اليعقوبي: فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله، فخرجوا وخرج من كان في الدار. راجع مجلد 2 صفحة 105 من تاريخ اليعقوبي!
ومن الروايات المتواترة عن أهل البيت الكرام، أن فاطمة كانت حاملا، وأنها قد ضربت بالسوط أثناء اقتحام البيت، وأنها سقطت فأسقطت ابنها محسنا!!
8 - عادة قروية
عندما يموت الميت يفتح أهله بيت عزاء، وفي اليوم الثاني للوفاة يتوافد أبناء القرية جميعا المحب والمبغض، ويقدمون التعازي لذوي الميت، ويدعون آل الميت بالتناوب لتناول وجبات الطعام، تعبيرا عن مشاركتهم لأهل الميت بالمصاب، وخلال فترة أربعين يوما يتجنب أهل القرية كلما يثير غضب أهل الميت أو يكسر خواطرهم أو يصدمها، ويقينا أن هذه العادة تسربت إلينا من التقاليد الجاهلية، وليس من المستبعد أن الإسلام قد أقرها، باعتبارها من الأعراف الحميدة المتلائمة مع الطبيعة الإنسانية والفطرة البشرية.
ألم يكن بالإمكان إمهال الآل الكرام ثلاثة أيام فقط، حتى تمر أيام العزاء بوفاة فقيدهم!
هذا على اعتبار أن الفقيد شخص عادي وليس نبيا، وعلى فرض أن الآل الكرام سوقة ومن عامة الناس، وليسوا طبقة متميزة لا تجوز الصلاة المفروضة على العباد بغير الصلاة عليهم!
ولكن الملك عقيم والسلطة الغالبة هي السلطة.
صحيح أنهم فجعوا أهل البيت الكرام، وروعوهم في بيتهم، وبكى علي والحسن والحسين وفاطمة من قلة الناصر، ونادى علي على رسول الله: يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، ونادت فاطمة: يا أبتي يا رسول الله ماذا لقينا من ابن الخطاب وابن أبي قحافة. راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 13، ولكن السلطة استفادت إذ خرج كل الزوار وبايعوا فكسبت السلطة خضوعهم، وضمتهم إلى قطيع السرب، وإلى جموع الطائعين!
هذا هو مقياس الربح والخسارة، ولله عاقبة الأمور، والله إن النفس قد ضاقت بما لا يقال.
9 - فشل المحاولات السابقة لتركيع أهل البيت
فشلت محاولات السلطة لتركيع أهل البيت الكرام عن طريق التهديد بالقتل (راجع الإمامة والسياسة صفحة 13 على سبيل المثال) مثلما فشلت محاولاتها للإيقاع بين أهل البيت وآل البيت، راجع الإمامة والسياسة صفحة 15 على سبيل المثال، ثم فشلت محاولاتها لتركيع أهل البيت عندما جمع أعوانها الحطب وهموا بحرق البيت على من فيه، وفيه فاطمة وعلي والحسن والحسين، واكتشفت السلطة أنها بأعمالها هذه تشحذ تعاطف الناس مع أهل البيت الكرام، وتعطي أهل البيت أكبر من حجمهم الفعلي على الخريطة السياسية.
وبالتالي فقد قررت السلطة اتباع أساليب جديدة أكثر فاعلية وأقل حرجا لها فلجأت إلى الحرب الاقتصادية.
10 - قرارات اقتصادية لتركيع أهل البيت نهائيا
عرفنا أن بطون قريش حاصرت بني هاشم ثلاث سنين في شعب أبي طالب وقاطعتهم، فلم تبعهم ولم تشتر منهم وعزلتهم عزلا كاملا، ولكن في عهد الشرك لم تصادر حقوق بني هاشم الاقتصادية، ولم تؤخذ أموالهم.
وأمام إصرار عميد أهل البيت والسيدة الزهراء وبني هاشم على تحدي السلطة بعدم مبايعتهم لها، وحرصا من السلطة على تقليم أظافر أهل البيت وإجبارهم على الركوع والاستسلام، اتخذت السلطة مجموعة من القرارات الاقتصادية الهامة، لكي تجبر أهل البيت على التفاوض مع السلطة والاحتكام إليها، طمعا بتخليص ما أمكن استخلاصه من حقوق أهل البيت الكرام.
11 - القرار الأول حرمان أهل البيت من إرث النبي
بعد تهديد الإمام علي بالقتل، ومحاولة حرق بيته على من فيه، تبلغت فاطمة أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قررا حرمان أهل البيت من إرث النبي حرمانا كاملا.
12 - الغطاء الشرعي لقرار حرمان أهل البيت من إرث النبي
جاء في سنن الترمذي باب ما جاء في تركة الرسول أن فاطمة بنت محمد جاءت إلى أبي بكر وعمر تسألهما ميراثها من رسول الله، فقالا سمعنا رسول الله يقول (إني لا أورث). وجاء في مسند أحمد ، ، وطبقات ابن سعد ، وابن كثير أن فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟ فقال: ولدي وأهلي. (3)
فقالت: فما لنا لا نرث النبي؟ قال أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: إن النبي لا يورث!
وجاء في طبقات ابن سعد مجلد 2 صفحة 316: أن أبا بكر قال لفاطمة: أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي، وقد قال رسول الله: لا نورث، ما تركناه صدقة. وهذا الحديث برواية عمر. وبالنتيجة فإن أبا بكر منع أهل البيت إرث الرسول استنادا إلى حديث (ما تركناه صدقة).
13 - قصة حديث ما تركناه صدقة
جاء في كنز العمال مجلد 14 صفحة 130 فضل الصديق، برواية عائشة أم المؤمنين حيث قالت: واختلفوا في ميراثه فما وجدوا عند أحد من ذلك علما، فقال أبو بكر سمعت رسول الله يقول (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج مجلد 4 صفحة 82 المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده، وفي صفحة 85 مجلد 4 قال: إن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده، وذكر ذلك أعظم المحدثين حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجاتهم في الخبر برواية الصحابي الواحد، وقال شيخنا أبو علي: لا يقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم واحتجوا بقبول الصحابة برواية أبي بكر وحده (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).
ومع هذا وضعوا أحاديث أسندوا فيها إلى غير أبي بكر أنه روى ذلك عن الرسول!
جاء في كنز العمال مجلد 5 صفحة 365، وطبقات ابن سعد مجلد 2 صفحة 315 أن عليا قال لأبي بكر عندما ذكر أبو بكر حديث انتفاء إرث النبي (وورث سليمان داود) وقال (يرثني ويرث من آل يعقوب) فقال أبو بكر: هو هكذا، وأنت والله تعلم ما أعلم، فقال علي: هذا كتاب الله ينطق، فسكتوا وانصرفوا!
14 - بسط الخصومة علنيا
في سقيفة أبي بكر الجوهري، وفي بلاغات النساء لأحمد بن أبي الطاهر البغدادي، برواية ابن أبي الحديد مجلد 4 صفحة 87 - 89 وصفحة 92، وبلاغات النساء صفحة 12 - 15 أن فاطمة بنت محمد دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار... ثم قالت: أنا فاطمة بنت محمد أقول عودا على بدء: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخ ابن عمي دون رجالكم.... ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ يا بن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي؟!! لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون...
وفي رواية بلاغات النساء صفحة 16 - 17 أن فاطمة قالت: أفعلى عمد تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول الله تبارك وتعالى (وورث سليمان داود) وقال الله عز وجل في ما قص من خبر يحيى بن زكريا (رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال عز وجل (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وزعمتم أن لا حظوة ولا إرث لي من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها نبيه، أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون، أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة، أم لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي (صلى الله عليه وسلم)، أفحكم الجاهلية تبغون....
15 - إذا كان أهل البيت وأولاد النبي لا يرثونه فمن يرثه بحق السماء؟
جاء في مسند أحمد مجلد 1 صفحة 4 الحديث 14، وسنن أبي داود مجلد 3 صفحة 50، وتاريخ ابن كثير مجلد 5 صفحة 289، وشرح النهج مجلد 4 صفحة 81 نقلا عن السقيفة لأبي بكر الجوهري، وتاريخ الذهبي مجلد 1 صفحة 346 أن أبا بكر قال سمعت رسول الله يقول (إن الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن إرثه على المسلمين) وما الذي يمنع من ذلك أليس هو صاحبه في الغار وأخوه في الدين، وخليفته الفعلي على المسلمين!
16 - استثناء من نفي إرث النبي وتوريثه
تحقيقا للعدالة ورحمة بأهل البيت الكرام، فقد تفضل أبو بكر فقال (لقد دفعت آلة رسول الله ودابته وحذاءه إلى علي) وما سوى ذلك... ينطبق عليه الحديث. راجع شرح النهج مجلد 4 صفحة 87 - 89، وبلاغات النساء صفحة 12 - 15، راجع الرواية عند ابن أبي الحديد.
قال الكميت بن زيد الأسدي الطائي من شعراء القرن الأول، يصف هذا المنطق:
يقولون لم يورث ولو لا تراثه * لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير * وكندة والحيان بكر وتغلب
17 - قرار حرمان أهل البيت من ميراث النبي قطعي
يبدو أن قرار السلطة بحرمان أهل البيت الكرام قطعي لا يجوز استئنافه، ولا يجوز الرجوع عنه مهما تعدد المحامون، ومهما كثرت المرافعات، ومهما تواترت النصوص، فالقرار قد صدر لينفذ، وقد نفذ بالفعل، واستثناء تلطفت السلطة فأعطت عليا دابة الرسول وآلته وحذاءه! وهكذا حسمت نهائيا قضية إرث النبي، ولا مجال للمراجعة بخصوصها، فالسلطة وجدت لتطاع، ولا يمكن للرعية أن تعدل قرارات السلطة!!
18 - قرار حرمان أهل البيت من منح الرسول ومصادرة هذه المنح
أثناء حياة الرسول الكريم منح منحا كثيرة للناس، ومنح أهل البيت منحا كغيرهم من الناس، فترك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما منحه الرسول للناس ولم يتعرضا لهم، احتراما لمشيئة رسول الله، وتقديرا للناس الذين دخلوا بالطاعة والتزموا الجماعة.
أما المنح التي منحها رسول الله لأي فرد من أهل البيت، فقد قررا مصادرتهما وحرمان أهل البيت منها، حرصا على مصلحة المسلمين، وكانت فاطمة بنت محمد هي أول من حرمت من منحتها، وصودرت منها هذه المنحة!
19 - منحة فدك
الثابت عن طريق أهل البيت الكرام، أنه بعد نزول آية (وآت ذا القربى حقه) منح الرسول ابنته فاطمة فدكا، جاء في فتوح البلدان مجلد 2 صفحة 34 - 35 أن فاطمة قالت لأبي بكر: أعطني فدكا فقد جعلها رسول الله لي، فسألها البينة، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى رسول الله، فشهدا لها بذلك. فقال لها أبو بكر: إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين، وفي رواية أخرى، شهد لها علي بن أبي طالب فسألها شاهدا آخر لها!!
وفي لفظ ابن أبي الحديد وتاريخ الذهبي (أن فاطمة قالت لأبي بكر: إنك عمدت إلى فدك فأخذتها، وعمدت إلى ما أنزله الله من السماء فرفعته عنا!
ولأن الصديقة لم تأت إلا بعلي بن أبي طالب ولي الله، وأم أيمن، ولأن أبا بكر ملتزم بالشرعية، وبضرورة تقديم شاهدين لإثبات المنحة، ولأن وضع اليد وحده لا يكفي في مثل هذه الأمور، فقد أغلقت الخصومة رسميا، وتم تنفيذ قرار السلطة بمصادرة منح الرسول لأهل بيته وحرمانهم من هذه المنح!!
وتنفيذا لرغبة رسول الله تركت كل المنح التي منحها الرسول للمسلمين بأيديهم، ولم يطلب منهم لا شاهدا ولا شاهدين، لأن وضع اليد على المنحة يكفي!! ولله عاقبة الأمور.
20 - قرار حرمان أهل البيت من الخمس الوارد في القرآن الكريم
جاء في شرح النهج مجلد 4 صفحة 81 نقلا عن الجوهري، وفي تاريخ الإسلام للذهبي مجلد 1 صفحة 347، وفي كنز العمال مجلد 5 من صفحة 367 ثلاث روايات. (لما منعوا ابنة الرسول من إرث أبيها، طالبتهم بسهم ذوي القربى فقالت: لقد ظلمتنا أهل البيت من الصدقات، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى، ثم قرأت عليه قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه ولذي القربى...).
وعن عروة قال: أرادت فاطمة أبا بكر على فدك وسهم ذوي القربى فأبى عليها، وجعلها في مال الله تعالى!
وفي كنز العمال عن أم هاني أنها قالت: إن فاطمة أتت أبا بكر تسأله سهم ذوي القربى. فقال لها أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد موتي. راجع كنز العمال مجلد 5 صفحة 367، كتاب الخلافة 416.
21 - من أين يأكلون بحق السماء؟
مشكلة الآل الكرام الحقيقية أنه محظور عليهم أن يأخذوا الصدقة فهي محرمة عليهم، لذلك خصهم الله تعالى بسهم ذوي القربى لتغطية هذه الناحية.
هل يعيش الآل الكرام وأهل البيت عيش السوقة؟ هل يتسولون الناس، من أين يأكلون؟
عن أنس بن مالك أن أبا بكر قال لفاطمة عندما سألته عن سهم ذوي القربى:
أفلك هو ولأقربائك؟ قال: لا، أنفق عليكم منه... وقال مرة: السهم لكم في حال حياة النبي وبعد موته ليس لكم... وفي سنن الترمذي مجلد 7 صفحة 111 أن أبا بكر قال: إني أعول من كان يعول رسول الله، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه.
فالدولة إذا هي تنفق على أهل بيت محمد، بدليل قول أبي بكر: إن رسول الله قال لا نورث ما تركناه فهو صدقة، إن يأكل آل محمد من هذا المال، ليس لهم أن يزيدوا على المأكل.... راجع صحيح البخاري مجلد 2 صفحة 200 باب مناقب قرابة الرسول، وراجع سنن أبي داود مجلد 2 صفحة 49 كتاب الخراج، وسنن النسائي مجلد 2 صفحة 179 قسم الفئ، ومسند أحمد مجلد 1 صفحة 6 و 9. فالحاكم يقدم لهم المأكل ولا يزيدون على المأكل، فطوال التاريخ يجب على أهل البيت أن يرتبطوا بالحاكم الذي يقدم لهم المأكل، ومن الحشمة وحسن الخلق أن يطيع الإنسان من يطعمه.
22 - تركة رسول الله من الضياع
الف - ترك رسول الله الحوائط السبعة اللاتي وهبهن له مخيزيق.
ب - ما وهبه الأنصار إياه، وهو كل ما ارتفع من أراضيهم الزراعية.
ج - أراضي بني النضير الزراعية ونخيلها.
د - 8 أسهم من مجموع 36 سهما من أراضي خيبر.
هـ - أراضي وادي القرى الزراعية.
وبعد وفاة الرسول استولى عليها أبو بكر، وقد عالج العلامة السيد مرتضى العسكري كل بند من هذه البنود الخمسة في كتابه الرائع معالم المدرستين المجلد الثاني.
23 - حتى تحزوا رقابنا بالمناشير
جاء في مجمع الزوائد للهيثمي مجلد 9 صفحة 39 عن عمر، أنه لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا: ما تقول في ما ترك رسول الله؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله! قال فقلت: والذي بخيبر؟ قال: والذي بخيبر. قلت: والذي بفدك قال: والذي بفدك! فقلت: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير!
24 - قرارات اقتصادية لا بد منها
الف - لإجبار الآل الكرام على الاحتكام للسلطة، بغض النظر عن طبيعة القرارات التي ستصدر عنها.
ب - تجريد الآل الكرام من سلاح خطير وهو المال، فإذا استعمله الآل الكرام، فقد يؤلفون به قلوب المسلمين ويستميلونهم لصالح قضيتهم.
ج - ربط الآل الكرام بالسلطة الحاكمة، وجعل رغيفهم بيد هذه السلطة، لتضمن السيطرة الكاملة عليهم، وتحييدهم وإلغاء دورهم كقيادة سياسية شرعية.
د - عزل الآل الكرام شعبيا، حتى تميل عنهم أعين الناس.
هـ - الحيلولة العملية بين الآل الكرام والمطالبة بالجمع بين النبوة والخلافة.
25 - تحقق هذه الأهداف
فقد فاوض الآل الكرام واحتكموا إلى السلطة، فحكمت السلطة بتنفيذ قراراتها الاقتصادية وحرمانهم من التركة، ومن المنح، ومن سهم ذوي القربى! وبموت فاطمة انصرف الناس عن علي، فشق بنفسه طريق المصالحة، وبايع هو وبنو هاشم وسلموا بالأمر الواقع!! فعساه أن يتمكن يوما من إطلاع الأمة على الحقيقة المرة، وأن يبصر الناس بالتقاطيع الأساسية للمنظومة السياسية الإلهية، فيقارنوا بينها وبين ما حدث في التاريخ!!
26 - احتجاج الزهراء على القرارات الاقتصادية والملجأ الجديد
لما قرر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حرمان أهل البيت الكرام من ميراث النبي ومصادرة المنح التي منحها لهم النبي حال حياته، وتجريد الآل الكرام من حقهم في كل ممتلكات النبي، وحرمانهم من حقهم في الخمس الوارد في آية محكمة (لاثت الزهراء خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ملاءة فجلست، ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم قالت) كما أورده أبو بكر الجوهري في سقيفته، وأحمد بن أبي طاهر البغدادي في بلاغات النساء، راجع شرح النهج مجلد 4 صفحة 87، وبلاغات النساء صفحة 12 - 15، وكما أجمع على مضمون ذلك أئمة أهل البيت الكرام، وإن كانت نصوص احتجاجها وخطبتها متفاوتة على حسب ما حفظه الرواة، أو سمحت بوصوله إلينا قيود الحكومات.
27 - النص الحرفي للاحتجاج
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أمدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته.
ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، وجياشة منه إلى جنته.
وأشهد أن أبي محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، علما من الله تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور.
ابتعثه تعالى إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) ظلمتها، وكشف عن القلوب بهمها، وخلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم ودعاهم إلى الصراط المستقيم.
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد (صلى الله عليه وآله) من تعب عن هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي نبيه، وأمينه على الوحي وصفيه، وخيرته من الخلق ورضيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت:
أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، وزعمتم حق لله فيكم، عهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاء أسماعه، به تنال حجج الله المنورة وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.
فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب. وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة، والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية. فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به، ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء.
ثم قالت:
أيها الناس! اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد (صلى الله عليه وآله) أقول عودا وبدءا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) فإن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخ ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه (صلى الله عليه وآله)، فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكت الهام، حتى انهزم الجمع، وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيق النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص، في نفر من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيد أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون عند القتال!!
فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلبات الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهد فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألقاكم تدعونه مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمأكم فألقاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر ابتدارا زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين!
فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون، أم بغيره تحكمون، بئس للظالمين بدلا، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين!
ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نقرتها، ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإخماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا بارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم على مثل حز المدى، ووخز السنان في الحشا، وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون!
أفلا تعلمون؟ بلى تجلى لكم كالشمس الضاحية، أني ابنته.
أيها المسلمون أأغلب على إرث أبي؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ (لقد جئت شيئا فريا) أفعلى عمد تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول (وورث سليمان داود) وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا (عليهما السلام) إذ قال (رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وزعمتم أن لا حظوة لي، ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا!! أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي!! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان!! أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة!! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة، مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة ما تحيرون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم!
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت:
يا معاشر الفتية، وأعضاء الملة، وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي؟
والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول (المرء يحفظ في ولده) سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول!
أتقولون مات محمد (صلى الله عليه وآله) فخطب جليل استوسع وهبه، واستشهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم، في ممساكم ومصبحكم، هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حسم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) إيها بني قيلة أأهضم تراث أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع ومبتدأ ومجمع، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووا العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجلبة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، وأنتم معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتى دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخصصت نصرة الشرك، وسكنت فوارة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين.
فأنى جسرتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة! أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم (فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد)!
ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القنا، وبثة الصدور، وتقدمة الحجة.
فدونكموها فاحتقبوها، دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب الله، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. فبعين الله ما تفعلون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد (فاعملوا إنا عاملونوانتظروا إنا منتظرون!!!)
28 - جواب أبي بكر
يا ابنة رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا لبعلك دون الأخلاء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا كل سعيد، ولا يبغضكم إلا كل شقي، فأنتم عترة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطيبين، والخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا، وإنما نورث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر، بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح، يقاتل به المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون المردة ثم الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك، لا نزوي عنك، ولا نذخر دونك، وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا يدفع ما لك من فضل، ولا يوضع من فرعك وأصلك، حكمك نافذ في ما ملكت يدي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك.
فقالت (عليها السلام): سبحان الله ما كان رسول الله عن كتاب صادفا، ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته، شبيه بما بقي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكما عدلا، وناطقا فصلا يقول (يرثني ويرث من آل يعقوب)، (وورث سليمان داود) فبين عز وجل ما وزع عليه من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح علة المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين، ولا (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون).
فقال أبو بكر: صدق رسول الله وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر ولا مستبد، ولا مستأثر وهم بذلك شهود!
فالتفتت (عليها السلام) وقالت: معاشر الناس المسرعة إلى قبل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأولتم، وساء ما به أشرتم، وشر ما
منه اعتضتم، لتجدن والله محمله ثقيلا، وغبه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراء الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تخشون، وخسر هنالك المبطلون.
ثم عطفت على قبر رسول الله وقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم وقد نكبوا
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم * لما مضيت وحالت دونك الترب
تجهمتنا رجال واستخف بنا * لما فقدت وكل الأرض مغتصب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به * عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات ينبئنا * فقد فقدت فكل الخير محتجب
إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن * من البرية لا عجم ولا عرب
29 - كلامها مع نساء المهاجرين والأنصار
زارتها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها: يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علتك؟ فقالت (عليها السلام) أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، لفظتهم قبل أن عجمتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لفلول الحد، وخور القناة، وخطل الرأي، بئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. لا جرم لقد قلدتهم ربقتها، وسنت عليهم عارها، فجدعا وعقرا، وسحقا للقوم الظالمين. ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الوحي الأمين، والطبين بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين. وما نقموا من أبي الحسن، نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطئه، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله عز وجل.
والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاعتلفه، ولسار بهم سيرا سجحا، لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا، تطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطانا، قد تحير بهم الري، غير منحل منه بطائل إلا بغمر الماء، وردعة شررة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض. وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.
ألا هلم فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أي سناد استندوا، وبأي عروة تمسكوا، استبدلوا الذنابا والله بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون! أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون!!
أما لعمر إلهك لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القصب دما عبيطا، وذعافا محقرا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما سن الأولون، ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا، وطامنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيدا، وزرعكم حصيدا، فيا حسرتي لكم، وأنى بكم وقد عميت عليكم! أنلزمكموها وأنتم لها كارهون!!! (4)
30 - رأي آخر لفاطمة الزهراء
(أما والله لو تركوا الحق على أهله، واتبعوا عترة نبيه، ما اختلف في الله اثنان، وورثها سلف عن سلف، وخلف بعد خلف، حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله). راجع البحار مجلد 36 صفحة 352.
31 - أقيلوني بيعتي
مما لا شك فيه أن أبا بكر رقيق القلب، فقد تأثر بكلام الزهراء وخاف من قولها له (والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها). راجع الإمامة والسياسة صفحة 14
وهاله منظر الصديقة بعد محاولة عمر لإحراق بيتها، وقوة حجة الإمام، كل هذه الأمور تزاحمت في ذهنه فاجتمع إليه الناس بعد خروجه من بيت فاطمة فقال لهم يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي. راجع الإمامة والسياسة صفحة 14.
32 - لشيعة أبي بكر رأي آخر
حتى لو أراد أبو بكر أن يتنازل عن الخلافة لما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلا يقبل عمر ذلك، ولا تقبل بطون قريش ذلك، ولا يقبل المؤملون في نظامه والمستفيدون منه، ولا يقبل الذين يكرهون آل محمد، فاتحد الجميع وقالوا يا خليفة رسول الله إن هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين! فقال أبو بكر:
والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة، ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعد ما سمعت ورأيت من فاطمة. راجع الإمامة والسياسة صفحة 14.
33 - احتجاجات الإمام علي (عليه السلام)
لقد احتج الإمام علي بكل أساليب الاحتجاج، فقد أخذت قريش الخلافة من الأنصار بحجة أن قريش عشيرة النبي، وأهله وأولياؤه، وأن العرب تأبى أن تولى الخلافة إلا من كانت النبوة فيهم. راجع كلمة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، وكلمة عمر رضي الله عنهما، وكما أجمع على نقلهما بهذا الجوهر كافة المؤرخين. أنظر على سبيل المثال الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري.
وقد واجه الإمام القوم وقال لهم: لقد احتججتم على الأنصار بالقرابة من رسول الله، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا.
وعندما انهارت وتداعت حجة القرابة كمسند للخلافة، احتجت بطون قريش بالشورى، فاحتج عليهم الإمام بقوله: فكيف بهذا والمشيرون غيب!! على حد تعبير الكميت بن زيد الأسدي الشاعر، إذ من الواضح أنه لم يستشر أحد من أهل البيت ولم يحضر هذه الشورى أي هاشمي، فما معنى الشورى التي لا يحضرها أعدال الكتاب، والمتفردون بمعرفة الصواب؟
وطوال حياة الإمام، وطوال حياة العترة الطاهرة، وهم يحتجون ويشكون، ويوضحون طبيعة الإمامة وأنها اختصاص من كل الوجوه، فليس بإمكان أي متغلب أن يكون إماما، فقد ركز الإمام على علم أهل البيت، والإعداد الإلهي لهم لقيادة الأمة، وعلى موقعهم في النظام السياسي الإسلامي، وأنهم حجر الأساس فيه، وركز على الظلم الذي لحق به وبأهل بيته وباتحاد على قريش على منازعته في حقه بالخلافة، وعلى الاستبداد على أهل البيت في هذا الأمر وهم (الأعلون نسبا، والأشدون برسول الله نوطا) حتى إذا آلت الخلافة إليه وبالطريقة التي سنتها أقطاب قريش، انتفضت عليه قريش، وأفسدت عليه أمره، وما زالت به حتى زعزعت أركان ملكه، وسلبته سلطان ابن أمه!
لذلك فإن شعور الإمام بالظلم كان فظيعا، واكتسبت شكواه صدى خاصا يقطع نياط القلوب! وقد سمع الإمام يوما صارخا ينادي أنا مظلوم فقال الإمام: هلم فلنصرخ معا، فإنني ما زلت مظلوما! مجلد 3 صفحة 351 من شرح النهج لابن أبي الحديد.
وكانت طبيعة احتجاجات الإمام سلمية، قائمة على الحجة الشرعية، ومنطق العقل.
34 - أسباب عدم استعمال الإمام للقوة
لقد استقام أمر الحكم، وبحث الناس عن مصالحهم بالمشاركة في النظام الجديد، فحاول الإمام أن يطلب النصرة هو وزوجته ووالده من كل بيت من بيوت الأنصار، ولكن الأنصار كانت قد انبهرت وبايعت وتعذر أن تجيبه لهذا السبب، مؤكدة أنه لو سبق أبا بكر إليهم ما عدلوا به، فكان يقول: أفكنت أدع رسول الله جنازة لم أجهزه، وأخرج لأنازع الناس أمره؟!!
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنه ليس معه من الناحية الفعلية إلا الهاشميون، وماذا يغني الهاشميون عنه أمام وحدة قريش ضده، وحياد الأنصار أو اتحادهم مع قريش!! فأي مواجهة بين الهاشميين وبين هذا التجمع الكبير هي من قبيل الانتحار ، وعبر الإمام عن هذه الحقيقة بقوله (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء...). راجع مجلد 1 صفحة 134 من شرح النهج أو بقوله (فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا مساعد إلا أهل بيتي، فظننت بهم عن الغنية... مجلد 3 صفحة 639
وهنالك سبب آخر دفع الإمام للاحتجاج السلمي وعدم استعمال القوة وهو ما عبر عنه بقوله:
فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف... راجع المجلد الأول من شرح النهج صفحة 249. ولعل هذا أهم سبب من أسباب موادعة الإمام وجنوحه للاحتجاج الشرعي والعقلي بصورة سلمية.
وهنالك سبب آخر أنه لو تجاوز الإمام حدودا معينة بالاحتجاج فقد تقتله السلطة، لأنها لا تسمح لأحد من رعاياها أن يشكك بشرعية وجودها، والإمام لا يجزع من الموت بل يعشق الموت أكثر من عشق الرضيع لثدي أمه، لكن لو قتلته السلطة
ونتيجة الزخم الإعلامي وسيطرة السلطة على وسائل الإعلام، فقد يضيع الجانب الأهم في النظام السياسي الإسلامي ولا تعرفه الأمة، ووجود الإمام على قيد الحياة ضروري لإحاطة الأمة علما بالفرق بين ما وقع، وما كان لازما أن يقع حسب قواعد الشرع.
فمن خلال احتجاجاته السلمية، وفي ظروف غاية في الضنك والقسوة، بين الإمام النظام السياسي الإسلامي بخطوطه العريضة وتفاصيله، وترك للأمة أن تتأكد من صواب بيانه، وأن هذا البيان كان متعارضا تماما مع الواقع التاريخي.
35 - الإحتجاج بتميز أهل البيت الكرام
بنو هاشم عامة، وأهل البيت خاصة يشكلون فئة متميزة تماما عن غيرها من جماعات الأمة وفئاتها، ومن يسبر غور المنظومة الحقوقية الإلهية وتاريخ نشأة الإسلام، ويعرف طبيعة النظم السياسية في العالم، يدرك بأقل جهد بأن هذه الفئة خصصت شرعا لقيادة الأمة، ولمرجعيتها، وأهلت للقيادة والمرجعية معا، وتحملت من التبعات ما لم تتحمله أي فئة أخرى! وأن هذه الفئة قد أعدت لتكون نقطة استقطاب للأمة أيضا كلما انفرط عقدها، وتبعثر جمعها! وما يؤكد هذا التوجه ما بينه الرسول وأجمعت عليه الأمة بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خير الناس فرقة وقبيلة وبيتا ونسبا وحسبا، راجع صحيح الترمذي مجلد 2 صفحة 269، والمستدرك على الصحيحين مجلد 4 صفحة 73، وكنز العمال مجلد 6 صفحة 108، والدر المنثور في ذيل آية التطهير.
فضلا عن الآيات القرآنية النازلة بهم، كآية التطهير، راجع صحيح مسلم بشرح النووي مجلد 15 صفحة 194، وصحيح الترمذي مجلد 5 صفحة 30 حديث 3158، وأية المودة في القربى، راجع الصواعق المحرقة لابن حجر صفحة 101، والمستدرك للحاكم مجلد 3 صفحة 172 وكآية المباهلة، راجع صحيح مسلم مجلد 2 صفحة 360، وصحيح الترمذي مجلد 4 صفحة 293، وآية الإطعام، وآية الاعتصام، وآية الصادقين، وآية أولي الأمر، وآية أهل الذكر، وآية المنازعة، وآية الإنذار والهداية، وآية الصراط المستقيم، وآية الولاية، وآية الغفران، وآية السلم، وآية التبليغ، وآية الإكمال.... إلخ.
وقد لخص النبي الكريم هذا التميز بحديث الثقلين الذي أجمعت الأمة على صحته، حيث بين أن الهدى لا يدرك إلا بالتمسك بالثقلين، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالثقلين معا، وهما كتاب الله، وعترة النبي أهل بيته. وهذا قمة التميز المبارك.
والإمام علي (عليه السلام) أشار إلى هذا التميز أكثر من مرة، كقوله: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذبا وبغيا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى، مجلد 3 صفحة 187
أو كقوله: إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاية من غيرهم. مجلد 3 صفحة 187 مكتبة الحياة.
أو كقوله: إن الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه... مجلد 3 صفحة 238
أو كقوله: نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتى من غير أبوابها سمي سارقا. مجلد 3 صفحة 247
أو كقوله: منهم كرائم الإيمان، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا. مجلد 3 صفحة 256
أو كقوله: أسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، أغصانها معتدلة، وثمارها متهدلة... مجلد 3 صفحة 300
أو كقوله: أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا والأشدون برسول الله (صلى الله عليه وآله) نوطا، فإنها كانت أثرة... مجلد 3 صفحة 303
أو كقوله: هم موضع سره، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه. المجلد الأول صفحة 124
أو كقوله: لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق التالي، لهم خصائص النبوة، ولهم حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة... وقال عندما انتقلت إليه الخلافة: الآن رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله، المجلد الأول صفحة 125 من شرح النهج.
أو كقوله: بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العليا، وبنا انفجرتم عن السرار، وقر سمع لم يفقه الداعية، وكيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة... المجلد الأول صفحة 174
36 - التصدي لدعايات السلطة والاحتجاج عليها
السلطة لم تخش فئة كما خشيت آل البيت، لذلك قادت السلطات طوال التاريخ حملة إعلامية هائلة لخلط الأوراق! ومن أقدم دعايات السلطة أن علي بن أبي طالب طالب إمارة وحريص على السلطة، وبالتالي لا ينبغي أن يولي الإمارة...
انظر إلى قوله (عليه السلام): وقال قائل إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص، فقلت بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، إنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني... مجلد 3 صفحة 350
وقال (عليه السلام): اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري وقالوا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الفنية، فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار. مجلد 3 صفحة 69
أو كقوله: وقد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم فقال: هلم فلنصرخ معا فإنني ما زلت مظلوما. مجلد 3 صفحة 351
37 - هجروا السبب الذي أمروا بمودته ورجعوا على الأعقاب
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ساروا في الحيرة، ودخلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا ساكن، أو مفارق للدين مباين... راجع شرح النهج مجلد 3 صفحة 222
قال (عليه السلام): أصفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير مورده، وسينتقم الله ممن ظلم، مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب، من مطايا العلقم، ومشارب الصبر والمقر، ولباس الخوف، ودثار السيف، وإنما هم مطايا الخطيئات، وزوامل الآثام...
38 - أنين أمير المؤمنين علي
عندما دفن الزهراء تكلم (عليه السلام) بقلب يقطر أسى إلى أن قال مخاطبا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما حزني عليك فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار لي داره التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها، فأحفها السؤال واستخبرها الحال...
مجلد 3 صفحة 552
39 - آنس بالموت من الطفل بثدي أمه
وقال (عليه السلام): فإن أقل يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت قولوا جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البيعدة، مجلد 1 وقال (عليه السلام): فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي، مستأثرا علي منذ قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى يوم الناس هذا، مجلد 1 صفحة 185
40 - وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف
وقال (عليه السلام): فإنه لما قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) قلنا نحن أهله وورثته وعترته، وأولياؤه من دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذا انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصار الأمر لغيرنا، وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، وخشيت الصدور، وجزعت النفوس، وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا عليه... مجلد أول صفحة 248 - 249
41 - استأثرت علينا قريش
وقال (عليه السلام): إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلاف..... مجلد أول 249
42 - ألبا الناس علي ونكثا بيعتي
ورفع يديه بعد وقعة ذي قار وقال: اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني، وألبا علي، ونكثا بيعتي، فاحلل ما عقدا، وانكث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبدا، وأرهما المساءة في ما عملا وأملا، مجلد 1 صفحة 251
وقال (عليه السلام): فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم، مجلد 1 صفحة 291
وقال (عليه السلام): فيا عجبا! عجبا والله يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون.
وقال (عليه السلام): في كتابه لأخيه عقيل إن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه، وصد عن سبيل الله وبغاها عوجا، فدع ابن أبي سرح، ودع عنك قريش، وخلهم وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، ألا وإن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه وجحدوا فضله، ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه كل الجهد، وجردوا إليه جيش الأحزاب، اللهم فاجز قريشا عني الجوازي، فقد قطعت رحمي، وتظاهرت علي، ودفعتني عن حقي، وسلبتني سلطان ابن أمي، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي، في قرابتي من الرسول وسابقتي في الإسلام، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرف ولا أظن الله يعرفه.... مجلد 1 صفحة 358 - 359 من الشرح.
43 - أسباب نقمة قريش على أهل البيت
وقال (عليه السلام): ما لي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم، والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا، فكانوا كما قال الأول:
أدمت لعمري شربك المحض صابحا * وأكلك بالزبد المقشرة البجرا
ونحن وهبناك العلى ولم تكن * عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا
المجلد الأول صفحة 404
44 - كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية
فكان أول من أجاب وأناب وصدق ووافق فأسلم، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب، فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه كل هول، وواساه بنفسه وماله من كل خوف فحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع، حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاما، وأصدق الناس نية، وأطيب الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم، وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل، وتجتهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتحالفان في ذلك القبائل، على هذا مات أبوك وعلى ذلك خلفته.
والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصارهم الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله بأسيافهم، ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في إتباعه، والشقاق والعصيان في خلافه، فكيف يالك الويل تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله ووصيه، وأبو ولده، وأول الناس له اتباعا، وآخرهم به عهدا، يخبره بسره ويشركه في أمره... راجع المجلد الأول صفحة 631 - 632 وأقرأ رسالة معاوية لمحمد بن أبي بكر.
وقال سلمان الفارسي عندما بويع أبو بكر: أصبتم ذا السن منكم، وأخطأتم أهل بيت نبيكم، لو جعلتموها فيهم، ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغدا. مجلد 1 صفحة 310 من شرح النهج نقلا عن السقيفة للجوهري.
45 - الخطبة المعروفة بالشقشقية ويبين فيها الإمام حقائق الأمور
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عن السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها
الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول إلى سبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر
فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم.
فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة.
حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت (أقرن) إلى هذه النظائر! لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن!
إلى أن قام ثالث القوم، نافجا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه، يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن (انتكث) به قتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته.
فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة، بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا (يقاروا) على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.
وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس: لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت. فقال:
هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت. راجع المجلد الأول من شرح النهج تحقيق حسن تميم صفحة 134، 142، 158، 167، 171، 172
46 - مقولات لا تصمد في مواجهة منطق القانون
رئاسة الدولة أو الإمامة في الإسلام مجذرة ومغروسة ومربوطة ربطا محكما بالمنظومة الحقوقية الإلهية، تنبع منها، وتتغذى عليها وتتكامل معها، فالإمام هو وحده بعد النبي الذي يفهم المنظومة الحقوقية الإلهية فهما قائما على الجزم واليقين، فهو مرجع الأمة الديني، والحقوقي، بالدرجة الأولى ومرجعها وقائدها الدنيوي بالدرجة الثانية. والمنظومة الحقوقية الإلهية هي بمثابة القانون النافذ الذي يطبقه الإمام على أقاليم وشعب دولة الأمة.
ولا تستقيم الأمور بالضرورة إلا إذا تولى القيادة السياسية ذات الإمام الشرعي الذي يشهد له الله والرسول والمنطق والعقل بأنه هو الأعلم والأفهم بأحكام المنظومة الحقوقية الإلهية وأنه الأصلح والأفضل من بين أتباع الملة.
هذان أساسان، منظومة حقوقية إلهية هي بمثابة القانون النافذ، وقيادة سياسية ومرجعية معا وهي وحدها القادرة على فهم هذه المنظومة الفهم الشرعي تماما، وهما معا لا يفترقان بالضرورة.
هذا هو منطق القانون. أما المقولات التي روجها الحكام بأن المنظومة الإلهية لم تحدد ولم تبين للناس من يتولى القيادة من بعد النبي، وأن النبي قد ترك أمته ولا راعي لها من بعده، فهي مقولات لم تعد قادرة على الثبات أمام المنطق وأمام العقل وأمام الدين نفسه. إذ من الثابت أن الله أكمل الدين وأتم النعمة وبين كل شئ على الإطلاق وأعلن كمال الدين وتمام النعمة وتم بيان كل شئ بما فيه كيفية (التبول)، فهل يعقل أن يغفل الشارع الحكيم عن بيان أهم شئ وهو رئاسة الدولة أو الإمامة؟ وهل يعقل أن لا يبين للأمة كيف تنتقل هذه الإمامة من إمام إلى إمام؟ فهل يمكن أن يبين الهين ويترك الصعب؟ أو أن يوضح المهم ويترك الأهم.
47 - حتى معاوية، وحتى النساء لا تتعقل ذلك!
فقد بينا أن أم المؤمنين عائشة قالت لعمر استخلف عليك ولا تدعهم بعدك هملا، وأن ابن عمر قال لأبيه لو جاءك راعي غنمك أو إبلك وقد ترك ولا راعي لها للمته، ووثقنا ذلك، وهذا هو معاوية يقول (كرهت أن أدع أمة محمد لا راعي لها) الإمامة والسياسة صفحة 184 فهل يعقل أن يكون ابن عمر، ومعاوية، وأم المؤمنين أدرى بعواقب الأمور من الله ورسوله؟!! ما لكم كيف تحكمون؟ ثم إنني أتساءل: دلوني على هذا الحاكم الذي مات ولم يستخلف إما تصريحا أو تلميحا؟
بل إنني أتحدى عبدة التقليد أن يدلوني على منظومة حقوقية إلهية أو وضعية لم تبين من يخلف الحاكم القائم أو كيفية انتقال رئاسة الدولة من شخص إلى آخر؟
فهل المنظومات الوضعية أكثر كمالا من المنظومة الإلهية؟!
ثم إذا كانت هذه المقولات صحيحة، فلماذا لا تتركوا أمة محمد كما تركها رسول الله بزعمكم؟
فإذا كان الرسول ترك فلماذا لا تتركون، وإذا كان الرسول استخلف فلماذا رفضتم استخلافه؟!!
48 - ما هو القصد من هذه المقولات
القصد من ترويج هذه المقولات غير الصحيحة هو تبرير رفضهم للترتيبات الإلهية ، وكراهية بطون قريش أن يجمع الهاشميون النبوة والخلافة، أو بتعبير أدق للتغطية على غصب سلطان النبي من آله الكرام!!
49 - القواعد التي أوجدها الحكام لرئاسة الدولة وانتقالها ليست هي حكم الشرع
القواعد الحقوقية التي يتناقلها ويرددها منظرو الفكر السياسي الإسلامي منا نحن أهل السنة ويربطونها ربطا ببعضها، ليست هي حكم الشرع في رئاسة الدولة وكيفية انتقال الرئاسة، إنما هي وقائع التاريخ الإسلامي ولا سند لها من الشرعية إلا فعل الحكام، وقد اخترع أشياع الحكام مبدأ إجماع الصحابة الكرام كسند لهذه القواعد، ولإخفاء الشرعية على هذه القواعد.مع أن إجماع الصحابة لم يتحقق قط بعد وفاة الرسول.
ثم إن هذه القواعد نفسها لم تدم على حال إنما كانت عرضة للتبديل والتحويل والتغيير. فبيعة أبي بكر كانت فلتة كما وصفها عمر رضي الله عنهما، وأبو بكر عهد لعمر، وعمر عهد لستة، والغالب كان يعهد لابنه، حتى يأتي غالب جديد ويرى رأيه.
50 - وجه الاعتراض على ما حدث
بطون قريش ترفض أن يجمع الآل الكرام النبوة والخلافة معا، وقد رأت أن الترتيبات الإلهية بجمع النبوة والخلافة لآل محمد مجحفة بحق البطون فقررت تلك البطون أن تقسم قسمة جديدة بعد وفاة النبي فتكون النبوة لبني هاشم والخلافة للبطون، وخططت على هذا الأساس حتى أثناء حياة النبي ونفذت هذه الخطة أثناء مرضه ونجحت بتخطيطها وعينت أول خليفة وهو أبو بكر أثناء انشغال الآل الكرام بتجهيز النبي ليواري في ضراحه الأقدس حتى يتم الأمر بغيابهم ويواجهوا الآل الكرام بواقع جديد وبموقف موحد لا طاقة لهم على مواجهته، وهكذا كان فغلب الآل الكرام على أمرهم.
إن الخليفة الذي نصبته البطون رجل صالح من كل الوجوه، ومحترم من كل الوجوه، ومن أجلاء الصحابة الكرام، ولا (مطلق) لنا عليه، لكنه ليس هو الإمام الذي عينه الله ورسوله، وليس هو الشخص المجذر بالمنظومة الإلهية، وليس هو الشخص الذي يفهم المنظومة الحقوقية فهما قائما على الجزم واليقين، لأن الفهم القائم على الجزم واليقين اختصاص وعمل فني من كل الوجوه وهو صادر عن الأعلم والأفهم بالمنظومة والأفضل والأصلح من بين أتباعها وتلك صفات لا يعلمها إلا الله!
ومن هنا فإن الله تعالى حدده وبينه وأمر الرسول أن يعلن ذلك للناس فأعلنه الرسول مرات ومرات ومنها مرة بمكان يدعى غدير خم، ولا يوجد في العالم اسم مشابه لإسم هذا المكان حتى يتذكر الناس، وبمناسبة حجة الوداع حتى لا ينسى الناس، وأمام جمع يزيد على مائة ألف مسلم، وهو أكبر تجمع عرفه تاريخ الجزيرة آنذاك.
هذا هو وجه الاعتراض، فوجه الاعتراض منصب على مستقبل النظام، على عدم إعمال القواعد الشرعية، على طريقة التنصيب، على الإصرار باستعباد الذين لا تدرك الهداية إلا بهم، ولا تتجنب الضلالة إلا بهم!!! هذا هو فقط وجه الاعتراض.
51 - وجه الخلل فيما حدث
الخليفة الذي نصبته البطون رجل صالح من كل الوجوه، ولكن ليس هو الخليفة الذي عينه الله وشهد له بأنه الأعلم والأفهم والأفضل والأصلح.
الخليفة الذي عينه الله ورسوله أصبح من الناحية الواقعية محكوما، ومهانا، ومظلوما، وواحدا من الرعية، ومجردا من كل سلطة، ولا حول بيده ولا قوة.
الخليفة الفعلي المتغلب عاجز عن فهم المنظومة الحقوقية الإلهية فهما قائما على الجزم واليقين، وفي نفس الوقت من اختصاصه الواقعي أن يطبقها على الرعية.
والخليفة الشرعي المغلوب على أمره يفهم المنظومة، ولكنه لا يستطيع أن يطبق هذا الفهم.
كل هذا أدى لوقوع خلل بدأ بسيطا ثم أخذ يستفحل حتى عصف بالأمة طوال تاريخها، وعصف بالمنظومة الحقوقية الإلهية نفسها، ففهمتها الأمم الأخرى على غير حقيقتها.
ومع الأيام تداعت صلة المنظومة الحقوقية الإلهية بمؤسسة الخلافة أو الإمامة، فأصبحت الإمامة تقرأ وحدها، والخلافة وحدها، والمنظومة وحدها! وأصبحت الخلافة حقا خالصا لمن غلب وأحسن التخطيط والتدبير بالخفاء، فكثر الطامعون بالخلافة، وتحولت عملية الاستيلاء على الخلافة إلى مشكلة مستعصية الحل صارت هي الأصل لكل بلاء، والشرارة لكل حرب أو فتنة، فأصبحت هذه المشكلة سنة، فطالما أن الآباء اجتهدوا بالخروج على الشرعية وترك النص الصريح، والاجتهاد مع وجوده، وطالما أن الآباء لم يلتزموا بموالاة أهل البيت وهم القاسم المشترك، وأنفوا من القبول بحكمهم ورئاستهم للدولة، فكيف نطلب من الأبناء أن يخالفوا سنة آبائهم؟!
52 - قانون الغلبة
أبو بكر لم ينل الخلافة بسبب صفاته الشخصية الحميدة فحسب أو لأنه من المبشرين بالجنة، أو لأنه كبير السن... إلخ. إنما أصبح خليفة لأنه تعاون مع عمر ومع البطون، وخططوا وأحسنوا التخطيط وحققوا الغلبة. كذلك فإن عمر نصب خليفة لأنه شريك الغالب ولأن قائد الحزب الغالب قد عينه وعهد إليه. كذلك عثمان رضي الله عنهم أجمعين أصبح خليفة لأن الغالب قد عهد إليه. كذلك حكم الأمويون لأنهم غلبوا، ثم حكم العباسيون لأنهم غلبوا أيضا، ثم حكم العثمانيون لأنهم غلبوا، ثم تحولت الأقاليم إلى دول بعد سقوط نظام الخلافة، وتغلبت كل فئة على إقليم فحكمته، فالرئاسة أو الخلافة أصبحت حقا لمن غلب. ولو نفذت الترتيبات الإلهية وحصرت رئاسة الدولة بعمادة أهل بيت النبوة لما اختلف اثنان على حد تعبير سلمان الفارسي، وبشير بن سعد الأنصاري أول المبايعين لأبي بكر، ولما تحولت رئاسة الدول إلى مشكلة مستعصية الحل... ولكن عسير على الأبناء أن يعصوا الآباء، فصار عمل الآباء سنة، وإبعاد أهل البيت الكرام عن حقهم سنه، وتحويل الأمة إلى حقل تجارب للمتغلبين سنة، وإرغام أنوف أهل البيت الكرام سنة، بالوقت الذي نصلي فيه على محمد وعلى آل محمد في كل صلاة!
53 - أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يستعرض تاريخ الاحتجاجات والآلام
قال لبعض أصحابه يا فلان: ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض، وقد أخبر أننا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر من معدنه، واحتجت على الأنصار
بحجتنا، ثم تداولتها قريش، واحدا بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه، وعوهد ثم غدر به وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دماء أهل بيته وهم قليل جد قليل.
ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم!
ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم، ونقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا!
ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلد، فحدثوا بالأحاديث الموضوعة المكذوبة وزوروا علينا ما لم نقله ليبغضونا إلى الناس!
وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن فقتلت شيعتنا في كل بلد، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله أو هدمت داره!
ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين.
ثم جاء الحجاج، فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي... مجلد 3 ص 595 شرح النهج.
54 - معاوية بعد عام الجماعة
روى المدائني في كتاب الأحداث أن معاوية كتب نسخة واحدة إلى كل عماله أن برئت الذمة ممن روى شيئا عن فضل أبي تراب (يعني عليا) وأهل بيته (يعني أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه.
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي ومحبيه وأعوانه وأهل بيته شهادة ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان أن (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقطوا رزقه وعطاءه)!
وشفع ذلك بنسخة أخرى (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم أي - أهل بيت الرسول - فنكلوا به واهدموا داره).
راجع شرح النهج لابن أبي الحديد صفحة 595 - 596 مجلد 3 فنفذوا أوامره وهم يتلون آية التطهير، وآية المودة بالقربى، ولم ينسوا أبدا الصلاة على النبي وآله في كل صلاة مفروضة! ألم أقل أن الصلة قد انقطعت بين مؤسسة الخلافة وبين المنظومة الإلهية!!
وإن وجدت صلة أو اعترف بوجود صلة في ذلك إلا للضحك على العامة، وكسب رضاهم.قال الرسول من والى عليا فقد والاني، ومن كنت وليه فهذا علي وليه، ومعاوية يقول من والى عليا فاهدموا داره، وامحوا اسمه من ديوان العطاء ولا تقبلوا له شهادة ونلكوا به!
فأي القولين أحق بالتنفيذ قول الرسول أم قول معاوية؟ للأسف قول معاوية!
إن الإسلام لا يسمح أن يعامل اليهود والنصارى بهذه القسوة التي عومل بها أهل البيت وأعوانهم!
55 - خلاصة الإنقلاب
نجحت البطون بقيادة عمر بن الخطاب بالحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد، وصدموا خاطره الشريف بقولهم هجر أو يهجر - حاشا له -.ثم نجحت البطون باختيار مكان تنصيب الخليفة، ونجحت بتنصيب الخليفة الجديد في (غياب) العترة الطاهرة وأثناء انشغالهم بتجهيز جثمان النبي.ثم نجحت البطون باستقطاب أنصارها وحشدهم معا فزفوا الخليفة زفا إلى مسجد الرسول، فأقنعوا سكان المدينة أنهم السلطة ولا سلطة سواها، وأنهم مصدر القوة وبيدهم القوة ولا قوة بيد غيرهم، وأن من مصلحة الجميع أن يوالي السلطة الجديدة التي تجمع بيدها كل عناصر القوة، فانبهر سكان الجديد، وصفقوا للغالب، ومن خلال الزفة المبايعة والحشد، أرسلت قيادة البطون رسالة ضمنية لأهل بيت محمد بأنهم وحدهم ومعزولون تماما فالسكان والأمة وقيادتها الجديدة في جانب والهاشميون ومن والاهم وهم أقلة في جانب آخر، ثم إن الأنصار كلها قد بايعت، وعلى الرغم من أن سعد بن عبادة هو سيد الخزرج لكنه عزل تماما عن الخزرج لأن عارض السلطة الجديدة.
ثم إن الهاشميين لن يكونوا أقرب للأنصار من سعد، وقد تخلت عنه الأنصار ووالت السلطة الجديدة التي تجمع بيدها المال والجاه، وتتحكم عمليا في الحاضر والمستقبل، فتصل من تشاء وتقطع من تشاء، وتعطي من تشاء وتحرم من تشاء تلك هي الحقيقة ولا يمكن لعاقل أن يتجاهلها.
وقد فهم الهاشميون مضمون الرسالة، ولكن ثقتهم بالشرعية وسلطانها كانت مطلقة فاحتجوا بالشرعية، فكانت السلطة الجديدة هي الخصم والحكم ففسرت الشرعية لصالحها.
فأنف الآل الكرام أن يسلموا بالأمر الواقع وأن يعترفوا بشرعيته، أو حقه بالحكم، فردت السلطة على ذلك ردا موجعا وحاسما وأليما فأصدرت قراراتها الاقتصادية، حرمت الآل الكرام من إرث النبي، وصادرت المنح التي أعطاها لهم النبي أثناء حياته، ثم حرمت عليهم الخمس الثابت لهم بآية محكمة، وحتى تثبت أنها سلطة عادلة قررت أن تتفضل وتقدم لآل محمد المأكل من كل ذلك وليس لهم إلا المأكل وحده وقد وثقنا ذلك ذهل الآل الكرام من هول هذه القرارات وقسوتها، فضجوا واحتجوا بالقرآن والسنة والمنطق، فكان رد السلطة حاسما أن كل ما تركه محمد، وكل ما منحه محمد لأهل بيته، والخمس المخصص لأهل البيت الكرام كل هذه مجرد طعمة من الله للخليفة الجديد!! ومرة أخرى صارت السلطة هي الخصم والحكم وفسرت الشرعية لصالحها ففازت القوة وانتصرت الغلبة، وسقطت الشرعية، وختمت فاطمة الزهراء حجتها بالقول:
فيا حسرتي لكم، وأنى بكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
ولا بد أمام الآل الكرام من قبول الأمر الواقع، ومن التسليم بأن الشرعية قد هزمت تماما، وأن الإنقلاب قد نجح، وأن السلطة الجديدة قد أحكمت قبضتها على الرعية، فإما أن يقبل الآل الكرام ذلك أو يموتوا جوعا وقهرا، أو قتلا، لأن السلطة الجديدة لن تسمح لأحد أن يعيش تحت حكمها وأن لا يواليها والسلطة الجديدة عادلة فيكفيها أن يتظاهر الآل الكرام بالموالاة وأن يكفوا عن الطعن فإن فعلوا ذلك فقد نجوا ونجاة الآل الكرام وطعنهم واحتجاجهم وموالاتهم للسلطة لا قيمة لها فالسلطة لا تحتاجهم على حد تعبير عمر، ولكن السلطة الجديدة تخشى على الآل الكرام من غضب العامة، فقد تبطش العامة بالآل الكرام بوصف الآل الكرام خارجين على الجماعة عندئذ يتفاقم الخطب بالآل الكرام والعامة على حد تعبير عمر عندما حاول أن يحصل على رضا العباس مقابل أن يخصص له ولعقبه شيئا من الأمر، كأن يضعه واليا، أو يجري عليه جراية، أو يعطيه عطية، فإن قبل العباس ذلك فقد شق وحدة الهاشميين وربحت السلطة الجديدة. وباختصار فإن الآل الكرام قد عزلوا، وكسرت ظهورهم بالإجراءات والقرارات الاقتصادية الصارمة التي اتخذتها السلطة الجديدة وبالنتيجة استقر النظام في العاصمة وتوطدت أركانه، وهزمت المعارضة شر هزيمة، ولله عاقبة الأمور.
56 - وفاة الخليفة الأول
لو أراد عمر أن يكون أول خليفة لكان، فهو المهندس الأعظم لعصر ما بعد النبوة، وهو الذي تحمل كل المشاق وركب الهول حتى وطد أركان النظام.
وقد بينا أن أبا بكر قد كتب أثناء مرضه العهد بأن يخلفه عمر وكان ذلك واضحا للإمام علي قبل حدوثه فقد قال لعمر احلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا كما روى ابن قتيبة وابن أبي الحديد.
ولا فرق عمليا بين حكم أبي بكر وحكم عمر، فما لم يرده عمر في عهد أبي بكر لم ينفذ.
وكان واضحا أن الخليفة من بعد عمر هو عثمان فقد كان يسمى بالرديف وبينا أن أبا بكر قد قال لعثمان عندما كتب عهد عمر: لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها.
57 - مستقبل النظام الذي أسسه عمر
وعمر على فراش الموت أخذ يستعرض الرجال المؤهلين لقيادة النظام بعده فوجدهم وللأسف أمواتا فقال: كما في رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة صفحة 23 لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيا استخلفته ووليته... ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته... ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته... وقال مرة لو أدركت سالم مولى أبي حذيفة لوليته واستخلفته، ويجدر بالذكر أن معاذا من الأنصار وفي بداية العهد كان لا يجوز أن يتولى الأنصار الأمر لأن أهل محمد وعشيرته هم الأولى!!
ثم إن سالم من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب، فكيف نوفق بين توليته وبين قول عمر في سقيفة بني ساعدة ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم... صفحة 8 من الإمامة والسياسة.
58 - عمر يتصرف وفق المتاح
بعد أن استذكر عمر بأن الرجال المؤهلين لقيادة النظام قد انتقلوا إلى رحمة الله تعالى، تذكر ما تبقى من العشرة المبشرين بالجنة وهم ستة، وبالرغم من وجود مبشرين في الجنة غيرهم، وبالرغم من وجود أسياد لأهل الجنة غيرهم، إلا أن اختيار عمر وقع على ستة وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وكان واضحا حسب الترتيبات أن عثمان هو الخليفة في كل الأحوال، وكان علي يدرك ذلك، ولكنه لو لم يشترك بالشورى لما أقام عليهم الحجة، ولقالوا أنه زهد بحقه الثابت بالخلافة.
59 - رأي عمر بقادة المستقبل للنظام
قال عمر والله ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلا شدتك وغلظتك مع أنك رجل حرب، وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلا أنك فرعون هذه الأمة وما يمنعني منك يا زبير إلا أنك مؤمن الرضا كافر الغضب، وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته وما يمنعني منك يا عثمان إلا عصبيتك وحبك قومك وأهلك، وما يمنعني منك يا علي إلا حرصك عليها... راجع الإمامة والسياسة، صفحة 24 - 25 على سبيل المثال وصار عثمان خليفة كما رتبت الأمور.
60 - رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر
النص الحرفي للرسالة
من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر سلام الله على أهل طاعته أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه، وما أصفى به نبيه، مع كلام ألفته ووضعته، لرأيك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف ذكرت حق ابن أبي طالب، وقديم سوابقه ومراتبه من نبي الله (صلى الله عليه وسلم)، ونصرته له، ومواساته إياه في كل خوف وهول واحتجاجك علي بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد إلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك.
وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا (صلى الله عليه وسلم) نرى حق بن أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم) ما عنده، وأتم له ما وعده وأظهر دعوته، وأفلح حجته قبضه الله إليه.
فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه على ذلك اتفقا واتسقا، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم، وأرادا به العظيم، فبايع وسلم لهما، لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضا وانقضى أمرهما، ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان يهتدي بهما... (5)
61 - لرأي معاوية أهمية خاصة
تكتسب رسالة معاوية أهمية خاصة، فمعاوية هو العدو اللدود لعلي بن أبي طالب، فمعاوية وأبوه قادا حربا ضارية طوال 21 عاما ضد النبي وضد علي، وخلال هذه الحرب، قتل علي سادات بني أمية فضلا عن المنافرات السابقة بين الهاشميين وبين الأمويين وأثمرت كل هذه المداخلات حقدا أمويا على علي لا يزول.
ومن جهة ثانية فقد اقتنع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بأهمية آل أبي سفيان، وضرورة استقطابهم لتأييد السلطة منعا لوحدة بني عبد مناف وتضييقا وعزلا وحصارا لآل البيت الكرام فتركا لأبي سفيان ما جمع من الصدقات كما روى الجوهري في سقيفته، وزيادة على ذلك وليا يزيد بن أبي سفيان قيادة جيش الشام وبوفاة يزيد عين معاوية قائدا لهذا الجيش وواليا محل أخيه وفي زمن عمر وسع له ولايته وترك معاوية بلا حسيب ولا رقيب، يجمع كما يشاء، ويعطي من يشاء على عكس سيرته مع بقية الولاة، كأن الخليفة يدخر معاوية لأيام شدة النظام البديل، فمعاوية موضع ثقة أبي بكر وعمر، وهما موضع ثقة معاوية، ومعاوية من الفطنة والذكاء بحيث لا تفوته مطاوي الخليفتين الراشدين ومراميهما. وهذه الرسالة من الوضوح بحيث أنها لا تحتاج إلى بيان.
فمعاوية يؤكد أن جميع المسلمين بما فيهم أبو بكر وعمر ومعاوية كانوا يرون حق علي لازما لهم، وفضله مبرزا عليهم.
وهو يؤكد أنه بعد وفاة رسول الله بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا أول من ابتزا على حقه، وخالفاه، وقد اتفقا واتسقا على ذلك، وعندما احتج عليهما علي هما به الهموم وأرادا به العظيم ولم يشركاه في أمرهما، ولم يطلعاه على سرهما هذا هو اعتراف معاوية وإقراره على نفسه وعلى الذين عيناه واليا!
المصادر :
1- تاريخ اليعقوبي مجلد 2 صفحة 105 وابن أبي الحديد في مجلد 2 صفحة 4 من شرح النهج / أبي الحديد مجلد 6 صفحة 28 ، /ابن قتيبة الدينوري في صفحة 12 من الإمامة والسياسة.
2- الرياض النضرة مجلد 1 صفحة 197، /ابن أبي الحديد مجلد 1 صفحة 133 ومجلد 6 صفحة 293، وتاريخ الخميس مجلد 1 صفحة 188 /أنساب الأشراف مجلد 1 صفحة 586، وكنز العمال مجلد 3 صفحة 140، والرياض النضرة مجلد 1 صفحة 167، / ابن أبي الحديد مجلد 1 صفحة 132 ومجلد 6 صفحة 2، والخميس مجلد 1 صفحة 178/ابن أبي الحديد مجلد 1 صفحة 134/مروج الذهب مجلد 2 صفحة 100، /أبي الحديد في مجلد 2 صفحة 481، واليعقوبي في تاريخه مجلد 2 صفحة 105، وراجع معالم المدرسين صفحة 127، وقال اليعقوبي في مجلد 2 صفحة 105 .
3- سنن الترمذي مجلد 7 صفحة 111 وجاء في مسند أحمد مجلد 1 صفحة 10 الحديث رقم 60، وفي سنن الترمذي مجلد 7 صفحة 109، وطبقات ابن سعد مجلد 5 صفحة 77، وابن كثير مجلد 5 صفحة 286 .
4- شرح النهج لابن أبي الحديد مجلد 16 صفحة 234، وبلاغات النساء صفحة 19، والإحتجاج للطبرسي مجلد 1 صفحة 147 – 149
5- راجع وقعة صفين لنصر بن مزاحم صفحة 118 و 119، ومروج الذهب للمسعودي مجلد 3 صفحة 11