قوانين تحكم التاريخ

لعمليّة التغيير جانبان، إلهيّ فوق التاريخ والخسارة والربح، وبشريّ خاضع للسنن التاريخيّة. إنّ القرآن الكريم كتاب هدايةٍ وعمليّة تغييرٍ، وإخراجٍ للناس من الظلمات إلى النور يبتدئ الشهيد السید محمد باقر الصدر بعرض السنن التاريخيّة، معتبراً أنّ القرآن
Sunday, August 21, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
قوانين تحكم التاريخ
 قوانين تحكم التاريخ

 





 

لعمليّة التغيير جانبان، إلهيّ فوق التاريخ والخسارة والربح، وبشريّ خاضع للسنن التاريخيّة. إنّ القرآن الكريم كتاب هدايةٍ وعمليّة تغييرٍ، وإخراجٍ للناس من الظلمات إلى النور يبتدئ الشهيد السید محمد باقر الصدر بعرض السنن التاريخيّة، معتبراً أنّ القرآن الكريم تفرّد بالإشارة إلى هذا النوع من السنن، وقد كان له الدور البارز في تنبيه الفكر البشريّ للبحث في هذا الميدان، ليكون الإنسان فاعلاً ومؤثّراً في التاريخ بدل أن يبقى متأثّراً ولا يعرف ما ستؤول إليه الأمور، وقد تعرّض الشهيد لعددٍ من الآيات التي يظهر منها صراحةً الحثّ على السير في الأرض، لاستفادة العبر وأخذ السنن التاريخيّة منها.
هل للتاريخ البشريّ سننٌ في مفهوم القرآن الكريم؟
هل له قوانين تتحكّم في مسيرته وفي حركته وتطوّره؟
ما هي هذه السنن التي تتحكّم في التاريخ البشريّ؟
لقد بُحثَ في القرآن الكريم الجزء الأعظم من مواده ومفرداته من زوايا مختلفة، وهناك أيضاً زاوية أخرى للبحث تضاف إلى تلك الزوايا، من زاوية مقدار ما تلقي هذه المادّة من أضواء على سنن التاريخ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكّم في عمليّة التاريخ، إذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيءٌ من هذه النواميس والضوابط والقوانين.
الساحة التاريخيّة كأيّ ساحةٍ أخرى زاخرةٌ بمجموعةٍ من الظواهر، كما أنّ الظواهر في كلّ ساحةٍ أخرى من الساحات لها سنن ولها نواميس. من حقّنا أن نتساءل:
هل هذه الظواهر أيضاً ذات سننٍ وذات نواميس؟
وما موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس؟
وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم إيجاباً أو سلباً، إجمالاً أو تفصيلاً؟

ضرورة البحث عن السبب

السنن التاريخيّة عبارة عن الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكّم في عمليّة التاريخ.
لقد بيّنت هذه الحقيقة في عدّة آياتٍ. في بعض هذه الآيات أعطيت الفكرة بصيغتها الكليّة، وفي بعض الآيات أعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج، وفي آيات أخرى حصل الحثّ الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية، وشحذ الهمم لإيجاد عمليّة استقراء للتاريخ. وعمليّة الاستقراء للحوادث ـ كما تعلمون ـ هي عمليّة علميّة بطبيعتها، تريد أن تفتّش عن سنّةٍ، عن قانونٍ، وإلا فلا معنى للإستقراء من دون افتراض سنّةٍ أو قانونٍ. إذاً هناك ألسِنَةٌ متعددةٌ درَجت عليها الآيات القرآنيّة في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها.

تفرّد القرآن بمفهوم السنن التاريخيّة

وهذا المفهوم القرآنيّ يعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم، لأنّنا في حدود ما نعلم، القرآن أوّل كتابٍ عرفه الإنسان أكّد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصرّ عليه، وقاوم بكلّ ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم. الإنسان الاعتياديّ كان يفسّر أحداث التاريخ بوصفها كومةً متراكمةً من الأحداث، يفسّرها على أساس الصدفة تارةً، و تارةً أخرى على أساس القضاء والقدر والإستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى. القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفويّة، وقاوم هذه النظرة الإستسلامية، ونبّه العقل البشريّ إلى أنّ هذه الساحة لها سننٌ، ولها قوانين، وأنّه لكي تستطيع أن تكون إنساناً فاعلاً مؤثّر، لا بدّ لك أن تكتشف هذه السنن، لا بدّ لك أن تتعرّف إلى هذه القوانين، لكي تستطيع أن تتحكّم فيها، وإلا تحكّمت هي فيك وأنت مغمض العينين.افتح عينيك على هذه القوانين، افتح عينيك على هذه السنن، لكي تكون أنت المتحكّم، لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكّمة فيك.
هذا الفتح القرآنيّ الجليل، هو الذي مهّد إلى تنبيه الفكر البشريّ بعد ذلك بقرون، إلى أن تجرى محاولاتٌ لفهم التاريخ فهماً علميّاً. بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات، بدأت على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولةٍ لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثمّ بعد ذلك بأربعة قرون ـ على أقلّ تقديرـ اتّجه الفكر الأوروبّي في بدايات ما يسمّى بعصر النهضة، بدأ لكي يجّسد هذا المفهوم الذي ضيّعه المسلمون، والذي لم يستطع المسلمون أن يتوغّلوا إلى أعماقه. هذا المفهوم أخذه الفكر الغربيّ في بدايات عصر النهضة، وبدأت هناك أبحاثٌ متنوّعة ومختلفةٌ حول فهم التاريخ، وفهم سنن التاريخ، ونشأت مدارس متعدّدة كلّ واحدةٍ منها تحاول أن تحدّد نواميس التاريخ.
وقد تكون الماديّة التاريخيّة أشهر هذه المدارس، وأوسعها تغلغلاً، وأكثرها تأثيراً في التاريخ نفسه. إذاً كلّ هذا الجهد البشريّ في الحقيقية، هو استمرار لهذا التنبيه القرآنيّ. ويبقى للقرآن الكريم مجده، في أنّه طرح هذه الفكرة لأوّل مرّةٍ على ساحة المعرفة البشريّة.

التأثير المباشر للسنن في عمليّة التغيير

إنّ البحث في سنن التاريخ مرتبطٌ ارتباطاً عضويّاً شديداً بكتاب الله بوصفه كتاب هدىً، بوصفه إخراجاً للناس من الظلمات إلى النور، لأنّ الجانب العمليّ البشريّ والتطبيقيّ من هذه العمليّة، يخضع لسنن التاريخ، فلا بدّ إذاً أن نستلهم، ولا بدّ إذاً أن يكون للقرآن الكريم تصوّرات وعطاءات في هذا المجال، لتكوين إطارٍ عامٍ للنظرة القرآنيّة والإسلاميّة عن سنن التاريخ.
إذاً هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات. تلك السنن ليست داخلةً في نطاق التأثير المباشر على عمليّة التاريخ، ولكن هذه السنن داخلةٌ في نطاق التأثير المباشر على عمليّة التغيير، باعتبار الجانب الثاني (البشريّ).
إذاً لا بدّ من شرح ذلك ولا بدّ أن نترقّب من القرآن إعطاء عموميّات في ذلك. نعم لا ينبغي أن نترقّب من القرآن أن يتحوّل أيضاً إلى كتابٍ مدرسيٍّ في علم التاريخ وسنن التاريخ، بحيث يستوعب كلّ التفاصيل وكلّ الجزئيّات، حتّى ما لا يكون له دخل في منطق عمليّة التغيير التي مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما القرآن الكريم يحتفظ دائماً بوصفه الأساسيّ والرئيسيّ، يحتفظ بوصفه كتاب هدايةٍ، كتاب إخراج للناس من الظلمات إلى النور، وفي حدود هذه المهمّات الكبيرة العظيمة التي مارسها، في صدور هذه المهمّة، يعطي مقولاته على الساحة التاريخيّة، ويشرح سنن التاريخ. بالقدر الذي يلقي ضوءاً على عمليّة التغيير التي مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بقدر ما يكون موجّهاً وهادياً وخالقاً لتبصّرٍ موضوعيٍّ للأحداث والظروف والشروط. ونحن في القرآن الكريم نلاحظ هذه الحقيقة، حقيقة أنّ للتاريخ سنناً، أنّ الساحة التاريخيّة عامرةٌ بسننٍ كما عمرت كلّ الساحات الكونيّة الأخرى بسنن.

الفرق بين سنن التاريخ والساحات الأخرى

ننتظر من القرآن الكريم أن يعطينا عموميّات، أن يعطينا مواقف، أن يبلور له مفهوماً علميّاً في سنن التاريخ على هذه الساحة (التاريخيّة) من ساحات الكون، بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الأخرى. يوجد فرقٌ جوهريٌّ بين الساحة التاريخيّة وبقيّة ساحات الكون. هذا الفرق الجوهريّ يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمراً مرتبطاً أشدّ الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هدايةٍ، خلافاً لبقيّة الساحات الكونيّة، والميادين الأخرى للمعرفة البشريّة، وذلك أنّ القرآن الكريم كتاب هدايةٍ وعمليّة تغييرٍ، هذه العمليّة التي عبّر عنها في القرآن الكريم بأنّها إخراجٌ للناس من الظلمات إلى النور.
وعمليّة التغيير هذه فيها جانبان:
الجانب الأول، إلهيّ
جانب المحتوى والمضمون: ما تدعو إليه هذه العمليّة التغييريّة من أحكام، من مناهج، ما تتبنّاه من تشريعات، هذا الجانب من عمليّة التغيير جانبٌ ربانيٌّ، جانبٌ إلهيٌّ سماويٌّ. هذا الجانب يمثّل شريعة الله سبحانه وتعالى التي نزلت على النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحدّى بنفس نزولها عليه كلَّ سنن التاريخ الماديّة، لأنّ هذه الشريعة كانت أكبر من الجوّ الذي نزلت عليه، ومن البيئة التي حلّت فيها، ومن الفرد الذي كلّف بأن يقوم بأعباء تبليغها.
الجانب الثاني، بشريّ
لكن هناك جانبٌ آخر لعمليّة التغيير، التي مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأطهار. هذه العمليّة حينما تلحظ بوصفها عمليّة اجتماعيّة متجسّدة في جماعةٍ من الناس، وهم النبيّ والصفوة من الصحابة، وبوصفها عمليّة قد واجهت تيّاراتٍ اجتماعيّةً مختلفةً من حولها، واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والعسكريّ، حينما تؤخذ هذه العمليّة التغييريّة بوصفها تجسيداً بشريّاً واقعاً على الساحة التاريخيّة، مترابطاً مع الجماعات والتيّارات الأخرى التي تكتنف هذا التجسيد، والتي تؤيّد أو تقاوم هذا التجسيد، حينما تؤخذ العمليّة من هذه الزاوية تكون عمليّةً بشريّةً، يكون هؤلاء أناساً كسائر الناس، تتحكّم فيهم إلى درجةٍ كبيرةٍ سنن التاريخ، التي تتحكّم في بقيّة الجماعات، وفي بقيّة الفئات على مرّ الزمن.
إذاً عمليّة التغيير التي مارسها القرآن و مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي، هي ربانيّة، هي فوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملاً قائماً على الساحة التاريخيّة، من حيث كونها جهداً بشريّاً يقاوم جهوداً بشريّةً أخرى، من هذه الناحية يعتبر هذا عملاً تاريخيّاً، تحكمه سنن التاريخ، وتتحكّم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسمّاة بالساحة التاريخيّة.
ولهذا نرى أنّ القرآن الكريم حينما يتحدّث عن الزاوية الثانية، عن الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدّث عن أناسٍ، يتحدّث عن بشرٍ، لا يتحدّث عن رسالة السماء، بل يتحدّث عنهم بوصفهم بشراً، تتحكّم فيهم القوانين التي تتحكّم في الآخرين.

ألف- أجَلُ الفرد وأجَلُ الأمّة

فمن الآيات الكريمة التي أعطيت فيها الفكرة الكليّة، فكرة أن التاريخ له سنن وله ضوابط، ما يلي:
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1)
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(2)
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين، أنّ الأجل أضيف إلى الأمّة، إلى الوجود المجموعيّ للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات، أو ذاك الفرد بالذات. إذاً، هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكلّ إنسانٍ بوصفه الفرديّ، هناك أجلٌ آخر وميقاتٌ آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للأمّة بوصفها مجتمعاً ينشئ ما بين أفراد العلاقات والصلاحيّات القائمة على أساس مجموعةٍ من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعةٍ من القوى والقابليّات. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمّة، هذا له أجلٌ، له موتٌ، له حياةٌ، له حركةٌ، كما أن الفرد يتحرّك فيكون حيّاً ثمّ يموت. كذلك الأمّة تكون حيّة ثمّ تموت. وكما أنّ موت الفرد يخضع لأجلٍ ولقانونٍ ولناموس، كذلك الأُمم أيضاً لها آجالها المضبوطة.
﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون﴾(3)
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون﴾(4)
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونِ﴾(5)
ظاهر الآية الكريمة أنّ الأجل الذي يترقّب أن يكون قريباً أو يهدّد هؤلاء بأن يكون قريباً، هو الأجل الجماعيّ لا الأجل الفرديّ، لأنّ قوماً بمجموعهم لا يموتون عادةً في وقتٍ واحدٍ، وإنّما وجود الجماعة المعنويّ الكليّ هو الذي يمكن أن يكون ﴿قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُم﴾.
فالأجل الجماعيّ هنا يعبّر عن حالةٍ قائمةٍ بالجماعة، لا عن حالةٍ قائمةٍ بهذا الفرد أو بذاك، لأنّ الناس عادةً تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمنظار الفرديّ، لكن حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعيّ، بوصفهم مجموعةٍ واحدةٍ متفاعلةٍ في ظلمها وعدلها، في سرّائها وضرّائها، حينئذٍ يكون لها أجلٌ واحدٌ. فهذا الأجل الجماعيّ المشار إليه، إنّما هو أجل الأمّة، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة.

نتيجة الظلم والطغيان

﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدا﴾(6)
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرا﴾(7)
في هذه الآيات الكريمات، تحدّث القرآن الكريم، عن أنّه لو كان الله يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم، وبما كسبوا، لما ترك على ساحة الناس من دابّة، يعني لأهلك الناس جميعاً.
كيف يكون الهلاك للأمّة مع وجود الصالحين؟
وقد وقعت مشكلة في كيفيّة تصوير هذا المفهوم القرآنيّ، حيث إنّ الناس ليسوا كلّهم ظالمين عادةً، فيهم الأنبياء، فيهم الأئمّة، فيهم الأوصياء. هل يشمل الهلاك الأنبياء، والأئمّة
العدول من المؤمنين؟ حتّى أنّ بعض الناس استغلّ هذه الآيات لإنكار عصمة الأنبياء عليهم السلام.
والحقيقة أنّ هذه الآيات تتحدّث عن عقابٍ دنيويٍّ لا عن عقابٍ أخرويٍّ، تتحدّث عن النتيجة الطبيعيّة لما تكسبه أمّةٌ عن طريق الظلم والطغيان. هذه النتيجة الطبيعيّة لا تختصّ حينئذٍ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع، بل تعمّ أبناء المجتمع على اختلاف هويّاتهم، وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم.
حينما وقع التيه أربعين عاماً على بني إسرائيل، نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرّده، هذا التيه لم يختصّ بخصوص الظالمين من بني إسرائيل، وإنّما شمل موسى عليه السلام، شمل أطهر الناس، وأزكى الناس، وأشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت، شمل موسى عليه السلام، لأنّه جزءٌ من تلك الأمّة وقد حلّ الهلاك بتلك الأمّة.
حينما حلّ البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم، فأصبح يزيد بن معاوية خليفةً عليهم، يتحكّم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم، حينما حلّ هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الإسلاميّ، وقتئذٍ شمل الحسين عليه السلام، أطهر الناس وأزكى الناس وأطيب الناس وأعدل الناس، شمل الإمام المعصوم عليه السلام، قُتِلَ تلك القتلة الفظيعة هو وأصحابه وأهل بيته.

بين العذاب الدنيويّ والأخرويّ

هذا كلّه هو منطق سنّة التاريخ. والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمعٍ، وفق سنن التاريخ، لا يختصّ بخصوص الظالمين من أبناء ذلك المجتمع، ولهذا قال القرآن الكريم في آية أخرى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾(8) بينما يقول في موضع آخر: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(9)
فالعقاب الأخرويّ دائماً ينصبّ على العامل مباشرةً، وأمّا العقاب الدنيويّ فيكون أوسع من ذلك.
إذاً هاتان الآيتان الكريمتان تتحدّثان عن سنن التاريخ، لا عن العقاب بالمعنى الأخرويّ، والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة، بل عن سنن التاريخ وما يمكن أن يحصل نتيجة كسب الأمّة، سعي الأمّة، جهد الأمّة.

ب- التدبّر بالحوادث التاريخيّة

وهناك آيات أكّدت وحثّت على الإستقراء والنظر والتدبّر في الحوادث التاريخيّة، من أجل تكوين نظرةٍ إستقرائيّة، من أجل الخروج بنواميس وسننٍ كونيّةٍ للساحة التاريخيّة، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَاِ﴾(10)
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ِ﴾(11)
﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾(12)
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد﴾(13)
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين﴾(14)
تؤكّد هذه الآيات على السنن، وتؤكّد على ضرورة التتبّع لأحداث التاريخ، من أجل استكشاف هذه السنن، ومن أجل الاعتبار بها.
ومن مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآنيّ الذي أوضحناه، وهو تأكيد القرآن على أنّ الساحة التاريخيّة لها سننٌ، ولها ضوابط، كما يكون هناك سننٌ وضوابط لكلّ الساحات الكونيّة الأخرى.

الخلاصة

هل للتاريخ البشريّ سننٌ في مفهوم القرآن تتحكّم في مسيرته وحركته وتطوّره؟
إنّ السنن التاريخيّة عبارة عن الضوابط والقوانين التي تتحكّم في عمليّة التاريخ. وقد بيّنت هذه الحقيقة في عدّة آياتٍ.
وإنّ القرآن أوّل كتابٍ أكّد على هذا المفهوم، ونبّه العقل البشريّ إلى أنّ هذه الساحة لها سننٌ.
إنّ البحث في سنن التاريخ مرتبطٌ ارتباطاً عضويّاً شديداً بكتاب الله بوصفه كتاب هدىً وإخراج للناس من الظلمات إلى النور، فلا بدّ أن نترقّب من القرآن إعطاء عموميّات في ذلك، في نطاق التأثير المباشر على عمليّة التغيير.
وعمليّة التغيير هذه فيها جانبان:
جانب إلهيّ: ما تدعو إليه هذه العمليّة التغييريّة من أحكام ومناهج، وما تتبنّاه من تشريعات. هذا الجانب يمثّل شريعة الله التي نزلت على النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وتحدّى بنفس نزولها عليه كلَّ سنن التاريخ الماديّة.
جانب بشريّ: حينما تلحظ العمليّة بوصفها عمليّة اجتماعيّة متجسّدة في جماعةٍ من الناس، النبيّ والصفوة، وبوصفها عمليّة قد واجهت تيّاراتٍ اجتماعيّةً مختلفةً من حولها، بوصفها تجسيداً بشريّاً واقعاً على الساحة التاريخيّة، مترابطاً مع الجماعات والتيّارات الأخرى التي تكتنف هذا التجسيد.
ألفـ من الآيات الكريمة التي أعطيت فيها الفكرة الكليّة، فكرة أنّ التاريخ له سنن وله ضوابط ما يلي:
1ـ ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
نلاحظ أنّ الأجل أضيف إلى الأمّة، إلى الوجود المجموعيّ للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات، أو ذاك الفرد بالذات.
2ـ ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾.
هل يشمل الهلاك كل المجتمع بما فيه الأنبياء والأوصياء؟!
الآية تتحدّث عن عقابٍ دنيويٍّ لا عن عقابٍ أخرويٍّ، عن النتيجة الطبيعيّة لما تكسبه أمّةٌ عن طريق الظلم والطغيان، وأنّها لا تختصّ حينئذٍ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع، بل تعمّ أبناء المجتمع على اختلاف هويّاتهم، وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم.
حينما وقع التّيه أربعين عاماً على بني إسرائيل، نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه، لم يختصّ بخصوص الظالمين منهم، وإنّما شمل موسى عليه السلام أيضاً. هذا هو منطق سنّة التاريخ، ولهذا قال سبحانه في آية أخرى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾، بينما يقول في موضع آخر: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَأُخْرَى﴾.
ب ـ وهناك آيات أكّدت وحثّت على الإستقراء والنظر في الحوادث التاريخيّة، من أجل تكوين نظرةٍ إستقرائيّة، والخروج بنواميس وسننٍ كونيّةٍ للساحة التاريخيّة، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَ﴾.
ومن مجموع هذه الآيات وغيرها يتبلور المفهوم القرآنيّ الذي أوضحناه، وهو تأكيد القرآن على أنّ الساحة التاريخيّة لها سننٌ، ولها ضوابط، كما يكون هناك سننٌ وضوابط لكلّ الساحات الكونيّة الأخرى.
منبع مقاله :
المصادر : من محاضرتين للشهيد السيّد محمّد باقر الصدر رضوان الله عليه ألقاهما بتاريخ: 25 و26/ جمادى الأولى / 1399 هـ.
1- يونس: من الآية 49
2- الأعراف: 34,
3- الحجر: 4 و 5
4- المؤمنون:43
5- الأعراف: 185
6- الكهف: 58 و 59
7- فاطر 45
8- الأنفال: 25
9- فاطر: من الآية 18
10- محمد: 10
11- يوسف من الآية 109
12- الحج: 45 و 46
13- ق: 36 و 37
14- آل عمران: 137

 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.