التفسيرالموضوعي

لا شكّ في تنوّع التفسير واختلاف مذاهبه وتعداد مدارسه والتباين في كثير من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته ، فهناك التفسير الذي يهتمّ بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النصّ القرآني ، وهناك التفسير الذي يهتمّ بجانب المحتوى‏ََ والمعنى‏ََ
Friday, November 18, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
التفسيرالموضوعي
التفسيرالموضوعي

 
 
 
 
 
 
 

 

لا شكّ في تنوّع التفسير واختلاف مذاهبه وتعداد مدارسه والتباين في كثير من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته ، فهناك التفسير الذي يهتمّ بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النصّ القرآني ، وهناك التفسير الذي يهتمّ بجانب المحتوى‏ََ والمعنى‏ََ والمضمون ، وهناك التفسير الذي يركّز على‏ََ الحديث ويفسّر النصّ القرآني بالمأثور عنهم عليهم السلام أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين ، وهناك التفسير الذي [ يعتمد ] العقل أيضاً كأساس من عمق التفسير وفهم كتاب اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، وهناك التفسير المتحيّز الذي يتّخذ مواقف مذهبية مسبقة يحاول أن يطبّق النصّ القرآني على‏ََ أساسها ، وهناك التفسير غير المتحيّز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه ، ويطبّق الرأي على‏ََ القرآن لا القرآن على‏ََ الرأي ، إلى‏ََ غير ذلك من الاتّجاهات المختلفة في التفسير الإسلامي .
إلّاأنّ الذي يهمّنا بصورة خاصّة ونحن على‏ََ أبواب هذه الدراسة القرآنية أن نركّز على‏ََ إبراز اتّجاهين رئيسيين لحركة التفسير في الفكر الإسلامي ، ونطلق على‏ََ أحدهما اسم : الاتّجاه التجزيئي في التفسير ، وعلى‏ََ الآخر اسم : الاتّجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير .

الاتجاه التجزيئي :

ونعني بالاتجاه التجزيئي : المنهج الذي يتناول المفسّر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف .
والمفسّر في إطار هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسّر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير ، من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو العقل أو الآيات الاُخرى‏ََ التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم بالقدر الذي يلقي ضوءاً على‏ََ مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها ، مع أخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الإعتبار من كلّ تلك الحالات .
وطبعاً نحن حينما نتحدّث عن التفسير التجزيئي نقدّمه في أوسع وأكمل صورة التي انتهى‏ََ إليها ، فالتفسير التجزيئي تدرّج تأريخيّاً إلى‏ََ أن وصل إلى‏ََ مستوى‏ََ الإستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية .
وكان بدأ في عصر الصحابة والتابعين على‏ََ مستوى‏ََ شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنية وتفسير لمفرداتها ، وكلّما امتدّ الزمن ازدادت الحاجة إلى‏ََ تفسير المزيد من الآيات ، إلى‏ََ أن انتهى‏ََ إلى‏ََ الصورة التي قدّم فيها ابن ماجه‏ والطبري‏ وغيرهما كتبهم في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع ، وكانت تمثّل أوسع صورة من المنهج التجزيئي في التفسير .
فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث إنّه كان يستهدف فهم مدلول اللفظ ، وحيث إنّ فهم مدلول اللفظ كان في البداية متيسّراً لعدد كبير من الناس ، ثم بدأ اللفظ يتعقّد من حيث المعنى‏ََ بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم القدرات والتجارب وتطوّر الأحداث والأوضاع .
من هنا توسّع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النصّ القرآني من غموض‏ ومن شكّ في تحديد مفهوم اللفظ حتى‏ََ تكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير ، حيث إنّ المفسّر يبدأ من الآية الاُولى‏ََ من سورة الفاتحة إلى‏ََ سورة الناس فيفسّر القرآن آية آية ؛ لأنّ كثيراً من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة إلى‏ََ إبراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك . هذا هو التفسير التجزيئي .
طبعاً نحن لا نعني بالتجزيئية لمثل هذا المنهج التفسيري أنّ المفسّر يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث ، بل إنّه قد يستعين بآيات اُخرى‏ََ في هذا المجال كما يستعين بالأحاديث والروايات ، ولكنّ هذه الاستعانة تتمّ بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث ، فالهدف في كلّ خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي‏ يواجهها المفسّر بكلّ الوسائل الممكنة ، أي إنّ الهدف هدف تجزيئي ؛ لأنّه يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النصّ القرآني ولا يتجاوز ذلك غالباًب .
وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كلّه تساوي على‏ََ أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضاً ، أي إنّه سوف نحصل على‏ََ عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنيه لكن في حالة تناثر وتراكم عددي ، دون أن نكتشف أوجه الإرتباط ، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار ، دون أن نحدّد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكلّ مجال من مجالات الحياة .
فهناك تراكم عددي للمعلومات ، إلّاأنّ مجموعَ ما بين هذه المعلومات ، الروابطَ والعلاقات ما بين هذه المعلومات التي تحوّلها إلى‏ََ مركّبات نظرية ومجاميع فكرية ، بالامكان أن نحضّر على‏ََ أساسها نظرية القرآن في مختلف المجالات والمواضيع ، أمّا هذا فليس مستهدفاً بالذات في منهج التفسير التجزيئي وإن كان قد يحصل أحياناً ، ولكنّه ليس هو المستهدف بالذات في منهج التفسير التجزيئي .
وقد أدّت حالة التناثر ونزعة الاتّجاه التجزيئي في النظر التفسيري إلى‏ََ ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية ؛ إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسّر أو ذاك آية تبرّر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع ، كما وقع في كثير من المسائل الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلاً ، بينما كان بالامكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أنّ المفسّر التجزيئي خطا خطوة اُخرى‏ََ ولم يقتصر على‏ََ هذا التجميع العددي ، كما نرى‏ََ ذلك في الاتّجاه الثاني .

الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي :

الاتجاه الثاني نسمّيه : الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير . هذا الاتّجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي ، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ، فيبيّن ويبحث ويدرس مثلاً عقيدة التوحيد في القرآن ، أو يبحث عن النبوّة في القرآن ، أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن ، أو عن‏ سنن التاريخ في القرآن ، أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا .
ويستهدف التفسير التوحيدي الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم ، وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون .
وينبغي أن يكون واضحاً أنّ الفصل بين الاتّجاهين المذكورين ليس حدّياً على‏ََ مستوى‏ََ الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير ؛ لأنّ الاتّجاه الموضوعي بحاجة طبعاً إلى‏ََ تحديد المدلولات التجزيئية للآيات التي يريد التعامل معها ضمن إطار الموضوع الذي يتبنّاه ، كما أنّ الاتّجاه التجزيئي قد يعثر في أثناء الطريق على حقيقة قرآنية من حقائق الحياة الاُخرى‏ََ ، ولكنّ الاتّجاهين على‏ََ أيّ حال يظلّان على‏ََ الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما وأهدافهما وحصيلتهما الفكرية .
ومما ساعد على‏ََ شيوع الاتّجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على‏ََ الساحة قروناً عديدة النزعةُ الروائية والحديثية للتفسير ؛ حيث إنّ التفسير لم يكن في الحقيقة وفي البداية إلّاشعبة من الحديث بصورة واُخرى‏ََ ، وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريباً مضافاً إلى‏ََ بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية ، كان هو الأساس الوحيد مضافاً إلى‏ََ بعض هذه المعلومات التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن .
ومن هنا لم يكن بإمكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والأئمة ، الروايات التي كانت تثيرها استفهامات عقلية على‏ََ الأغلب من قبل الناس ، من قبل السائلين ، لم يكن بإمكان تفسير يعتمد على‏ََ هذه الروايات التي تستثار من قبل أسئلة عقلية من هذا القبيل ، لم يكن بإمكانه أن يتقدّم خطوة اُخرى‏ََ وأن يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات اللفظية .
التفسير كان بطبعه تفسيراً لفظياً ، تفسيراً للمفردات ، لما استبدل من المفردات ، وشرح بعض المستجدّ من المصطلحات وتطبيق بعض المفاهيم على‏ََ أسباب النزول ، ومثل هذه العملية لم يكن بامكانها أن تقوم بدور اجتهادي مبدع‏ في التوصّل إلى‏ََ ماوراء المدلول اللغوي واللفظي ، التوصّل إلى‏ََ الأفكار الأساسية التي حاول القرآن الكريم أن يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة .

المقارنة بين التفسير والفقه :

ويمكننا أن نقرّب إلى‏ََ أذهانكم فكرة هذين الاتّجاهين المختلفين في تفسير القرآن الكريم بمثال من تجربتكم الفقهية ، فالفقه هو بمعنى‏ََ من المعاني تفسير للأحاديث الواردة عن النبي والأئمة عليهم السلام ، ونحن نعرف من البحث الفقهي أنّ هناك كتباً فقهية شرحت الأحاديث حديثاً حديثاً ، تناولت كلّ حديث وشرحته وتكلّمت عنه دلالة أو سنداً أو متناً ، أو دلالة وسنداً ومتناً على‏ََ اختلاف اتّجاهات الشرّاح ، كما نجد ذلك في شرّاح الكتب الأربعة وشرّاح الوسائل‏ ، غير أنّ القسم الأعظم من الكتب الفقهية والدراسات العلمية في هذا المجال لم تتّجه هذا الاتّجاه ، بل صنّفت البحث إلى‏ََ مسائل وفقاً لوقائع الحياة ، وجعلت في إطار كلّ مسألة الأحاديث التي تتّصل بها ، وفسّرتها بالقدر الذي يلقي ضوءاً على‏ََ تلك المسألة ويؤدّي إلى‏ََ تحديد موقف الإسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة . وهذا هو الاتّجاه الموضوعي على‏ََ الصعيد الفقهي ، بينما ذاك هو الاتّجاه‏

التجزيئي في تفسير الأحاديث على‏ََ هذا الصعيد .

كتاب الجواهر(1) في الحقيقة شرح لروايات الكتب الأربعة ، شرح كامل شامل لروايات الكتب الأربعة ، ولكنّه ليس شرحاً يبدأ بالكتب الأربعة رواية رواية ، وإنّما يصنّف روايات الكتب الأربعة وفقاً للحياة ، وفقاً لمواضيع الحياة : كتاب البيع ، كتاب الجعالة ، كتاب إحياء الموات ، كتاب النكاح ، ثم يجمع تحت كلّ عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتّصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها ، يخرج بنظرية ؛ لأنّه لا يكتفي بأن يفهم معنى‏ََ هذه الرواية فقط بصورة منفردة ، ومعنى‏ََ هذه الرواية بصورة منفردة ؛ إذ مع هذه الحالة من الفردية لا يمكن أن يصل إلى‏ََ الحكم الشرعي ، وإنّما يصل إلى‏ََ الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات التي تحمل مسؤولية توضيح حكم واحد أو باب واحد من أبواب الحياة ، ثم عن طريق هذه الدراسة الشاملة يستخرج نظرية واحدة ، التي تُعطى من قبل مجموعة مجموعة من الروايات لا من قبل رواية رواية . هذا هو الاتّجاه الموضوعي في شرح الأحاديث .
ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نلاحظ اختلاف مواقع الاتّجاهين على‏ََ الصعيدين ، فبينما انتشر الاتّجاه الموضوعي والتوحيدي على‏ََ الصعيد الفقهي - وما خطا الفقه والفكر الفقهي خطوات في مجال نموّه وتطوّره حتى‏ََ ساد هذا الاتّجاه جُلّ البحوث الفقهية - نجد أنّ العكس هو الصحيح على‏ََ الصعيد القرآني حيث سيطر الاتّجاه التجزيئي في التفسير على‏ََ الساحة عبر ثلاثة عشر قرناً تقريباً ؛ إذ كان كلّ مفسّر يبدأ كما بدأ سلفه فيفسّرالقرآن آية آية . إذن الاتّجاه الموضوعي هو الذي سيطر على‏ََ الساحة الفقهية ، بينما الاتّجاه التجزيئي هو الذي سيطر على‏ََ الساحة القرآنية .
وأمّا ما ظهر على‏ََ الصعيد القرآني من دراسات تسمّى‏ََ بالتفسير الموضوعي أحياناً من قبيل دراسات بعض المفسّرين حول موضوعات معيّنة تتعلّق بالقرآن الكريم - كأسباب النزول أو القراءات أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن - فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى‏ََ الذي نريده ، فإنّ هذه الدراسات ليست في الحقيقة إلّاتجميعاً عددياً لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شي‏ء من التشابه . وفي كلمة اُخرى ليست كلّ عمليّة تجميع أو عزل دراسة موضوعيّة ، وإنّما الدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية وتتّجه إلى‏ََ درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده .
وأكثر ظنّي أنّ الاتّجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبيرة على‏ََ تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية في هذا المجال ، بقدر ما ساعد انتشار الاتّجاه التجزيئي في التفسير على‏ََ إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المستمرّ ، وساعد على‏ََ اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى‏ََ نكاد نقول : إنّ قروناً من الزمن متراكمة مرّت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي لم يحقّق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة ، وظلّ التفسير ثابتاً لا يتغيّر إلّاقليلاً خلال تلك القرون على‏ََ الرغم من ألوان التغيّر التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين ، وسوف يتّضح إن شاء اللََّه تعالى‏ََ من خلال المقارنة بين الاتّجاهين - الاتّجاه التجزيئي والاتّجاه التوحيدي - السبب والسّر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة .

أوجه الفرق بين الاتجاهين التجزيئي والموضوعي

لماذا كانت الطريقة التجزيئية عاملاً في إعاقة النمو ؟ ولماذا تكون الطريقة الموضوعية والاتّجاه التوحيدي عاملاً في النمو والإبداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد ؟
لكي نعرف لماذا كان هذا ولماذا كان ذاك ؟ يجب أن نكوّن انطباعات أوضح وأكثر تحديداً عن هذين الاتّجاهين : عن الاتّجاه التجزيئي والاتّجاه التوحيدي ، وإنّما يتّضح ذلك بعد أن نشرح بعض أوجه الاختلاف بين الاتّجاهين .
ويمكن توضيح بعض أوجه الاختلاف بين هذين الاتّجاهين التفسيريين فيما يلي :
1 - السلبيّة في الاتجاه التجزيئي والإيجابيّة في الاتجاه الموضوعي :
أوّلاً : أنّ المفسّر التجزيئي دوره في التفسير على‏ََ الأغلب سلبي ، فهو يبدأ بتناول النّص القرآني المحدّد آية مثلاً أو مقطعاً قرآنياً دون أيّ افتراضات أو طروحات مسبقة ، ويحاول أن يحدّد المدلول القرآني على‏ََ ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتّصلة والمنفصلة . العملية في طابعها العام عملية تفسير نصّ معيّن ، وكأنّ دور النّص فيها دور المتحدّث ودور المفسّر هو الإصغاء والتفهّم ، وهذا ما نسمّيه بالدور السلبي . المفسّر هنا شغله أن يستمع لكن بذهن مضي‏ء ، بفكر صافٍ ، بروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها في التعبير ، بمثل هذه الروح ، بمثل هذه الذهنية وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع ، فهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور إيجابي ، والقرآن يعطي حينئذٍ ، وبقدر ما يفهم هذا المفسّر من مدلول اللفظ يسجّل في تفسيره .
وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي فإنّه لا يبدأ عمله من النّص ، بل من واقع الحياة ، يركّز نظره على‏ََ موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل ، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول ، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ، ثم يأخذ النصّ القرآني ، لا ليتّخذ من نفسه بالنسبة إلى‏ََ النّص دور المستمع والمسجّل فحسب ، بل ليطرح بين يدي النّص موضوعاً جاهزاً مشرّباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية ، ويبدأ مع النّص القرآني حواراً ، سؤالاً وجواباً ، المفسّر يسأل والقرآن يجيب ، المفسّر على‏ََ ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة ، من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكّرون على‏ََ الأرض ، لابدّ وأن يكون قد جمع حصيلةً ترتبط بذلك الموضوع ، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم ، لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً ، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبّراً ، فيبدأ مع النّص القرآني حواراً حول هذا الموضوع ، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النّص ، من خلال مقارنة هذا النّص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتّجاهات .
ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيّار التجربة البشرية ؛ لأنّها تمثّل المعالم والاتّجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة .
ومن هنا أيضاً كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن ـ الكريم واستنطاق له ، وليست مجرّد استجابة سلبية ، بل استجابة فعّالة وتوظيفاً هادفاً للنّص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى‏ََ .
قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام - وهو يتحدّث عن القرآن الشريف - : « ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن اُخبركم عنه : ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديثَ عن الماضي ، ودواءَ دائكم ، ونظمَ ما بينكم »(2) . التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن عليه الصلاة والسلام أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حواراً مع القرآن الكريم وطرحاً للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على‏ََ الإجابة القرآنية عليها .
إذن فأوّل أوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتّجاه التجزيئي في التفسير والاتّجاه الموضوعي في التفسير أنّ الاتّجاه التجزيئي يكون دور المفسّر فيه دوراً سلبياً : يستمع ويسجّل ، بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كُنهَه ، وإنّما وظيفة التفسير الموضوعي دائماً وفي كلّ مرحلة وفي كلّ عصر أن يحمل كلّ تراث البشرية الذي عاشه ، يحمل أفكار عصره ، يحمل المقولات التي تعلّمها في تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن ، بين يدي الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ ليحكم على‏ََ هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسّر أن يفهمه ، أن يستشفّه ، أن يتبيّنه من خلال مجموعة آياته الشريفة .
إذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ، يلتحم القرآن مع الحياة . التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى‏ََ القرآن ، لا أ نّه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن ، فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية ، بل هذه العملية عملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن القيّم ، بوصفه المصدر الذي يحدَّد على‏ََ ضوئه‏الاتّجاهات الربانية بالنسبة إلى‏ََ ذلك الواقع .
ومن هنا تبقى‏ََ للقرآن حينئذٍ قدرته على‏ََ القيمومة دائماً ، قدرته على‏ََ العطاء المستجدّ دائماً ، قدرته على‏ََ الإبداع دائماً ؛ لأنّ المسألة هنا ليست مسألة تفسير لفظ ، طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لا متناهية ، بينما القرآن الكريم دلّت الروايات على‏ََ أ نّه لا ينفد(3) ، وصرّح القرآن الكريم بأنّ كلمات اللَّه لا تنفد(4) .
القرآن الكريم عطاؤه لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفد ؛ لأنّ اللغة لها طاقات محدودة ، وليس هناك تجدّد في المدلول اللغوي ، ولو وجد تجدّد في المدلول اللغوي فلا معنى‏ََ لتحكيمه على‏ََ القرآن ، ولو وجدت لغة اُخرى‏ََ بعد القرآن لا معنى‏ََ لأن يفهم القرآن من خلال لغة جديدة أو مصطلحات جديدة أو ألفاظ تحمل مدلولات وضعية استحدثت بعد القرآن .
إذن هذا العطاء الذي لا ينفد للقرآن ، هذه المعاني التي لا تنتهي للقرآن ، التي نصّ عليها القرآن نفسه ونصّت عليها أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، هذه الحالة من عدم النفاد ، تكمن في هذا المنهج ، في منهج التفسير الموضوعي ؛ لأنّنا نستنطق القرآن ، وإنّ في القرآن علم ما كان وعلم ما يأتي ؛ لأنّ في القرآن دواء دائنا ، لأنّ في القرآن نظم ما بيننا ، لأنّ في القرآن ما يمكن أن‏

نستشفّ منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض .

فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادراً على‏ََ أن يتطوّر ، على‏ََ أن ينمو ، على‏ََ أن يثرى‏ََ ؛ لأنّ التجربة البشرية تثريه من ناحية ، ثم الدرس القرآني والتأمّل القرآني على‏ََ ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محوّلاً إلى‏ََ فهم إسلامي قرآني صحيح .
المصادر :
1- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام للشيخ محمد حسن النجفي ( ت 1266 )
2- نهج البلاغة : الخطبة 158
3- نهج البلاغة : الخطبة 198
4- انظر قوله تعالى : «ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللَّه »لقمان : 27 .
5- وقوله تعالى : «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً »الكهف : 109

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.