لنفترض أ نّ العمر الطويل غير ممكنٍ علمياً ، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم ولا على خطّها الطويل أن تتغلّب عليه وتغيّر من ظروفه وشروطه ، فماذا يعني ذلك ؟
إنّه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان - كنوحٍ أو كالمهدي - قروناً متعدّدةً هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة ، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزةً عطّلت قانوناً طبيعياً في حالةٍ معيّنةٍ للحفاظ على حياة الشخص الذي اُنيط به الحفاظ على رسالة السماء .
وليست هذه المعجزة فريدةً من نوعها ، أو غريبةً على عقيدة المسلم المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة ، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامةً من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقلّ حرارةً حتى يتساويا ، وقد عُطِّل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم عليه السلام حين كان الاُسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون ، فقيل للنار حين اُلقي فيها إبراهيم : « قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ »(1)،
فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذىً ، إلى كثيرٍ من القوانين الطبيعية التي عُطِّلت لحماية أشخاصٍ من الأنبياء وحجج اللَّه على الأرض ، فَفُلِقَ البحر لموسى(2) ، وشُبِّه للرومان أ نّهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه(3) .
وخرج النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم من داره وهي محفوفة بحشود قريشٍ التي ظلّت ساعاتٍ تتربّص به لتهجم عليه ، فستره اللََّه تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم(4) .
كلّ هذه الحالات تمثّل قوانين طبيعيةً عُطِّلت لحماية شخصٍ كانت الحكمة الربّانية تقتضي الحفاظ على حياته ، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين .
وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهومٍ عامّ ، وهو أ نّه كلّما توقّف الحفاظ على حياة حجّةٍ للََّهِ في الأرض على تعطيل قانونٍ طبيعي ، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضروريةً لإنجاز مهمّته التي اُعِدَّ لها تدخّلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك ، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمّته التي اُعِدَّ لها ربانياً ، فإنّه سيلقىََ حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لِمَا تقرّره القوانين الطبيعية .
ونواجه عادةً بمناسبة هذا المفهوم العامّ السؤال التالي : كيف يمكن أن يتعطّل القانون ؟ وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية ؟ وهل هذه إلّامناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي وحدّد هذه العلاقة الضرورية على اُسسٍ تجريبيةٍ واستقرائية ؟
والجواب : أنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي .
وتوضيح ذلك : أنّ القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة ، فحين يطّرد وقوع ظاهرةٍ طبيعيةٍ عقيب ظاهرةٍ اُخرى يُستدلّ بهذا الاطّراد على قانونٍ طبيعي ، وهو أ نّه كلّما وُجِدَت الظاهرة الاُولى وُجِدَت الظاهرة الثانية عقيبها ، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقةً ضروريةً بين الظاهرتين نابعةً من صميم هذه الظاهرة وذاتها وصميم تلك وذاتها ؛ لأنّ الضرورة حالة غيبية لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها ؛
ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث يؤكّد أنّ القانون الطبيعي - كما يعرّفه العلم - لا يتحدّث عن علاقةٍ ضرورية ، بل عن اقترانٍ مستمرّ بين ظاهرتين ، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الاُخرى في قانونٍ طبيعيّ لم يكن ذلك فصماً لعلاقةٍ ضروريةٍ بين الظاهرتين .
والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر ممّا كانت عليه في ظلّ وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية .
فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أنّ كلّ ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالاُخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة ، والضرورة تعني أنّ من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الاُخرى ، ولكنّ هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية .
وبهذا تصبح المعجزة حالةً استثنائيةً لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورةٍ أو تؤدّي إلى استحالة .
وأمّا على ضوء الاُسس المنطقية للاستقراء(5) فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أنّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ، ولكنّا نرى أ نّه يدلّ على وجود تفسيرٍ مشتركٍ لاطّراد التقارن او التعاقب بين الظاهرتين باستمرار ، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية ، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمةٍ دعت منظِّم الكون إلى ربط ظواهر معيّنةٍ بظواهر اُخرى باستمرار ، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة .
لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمر الامام ؟
لماذا كلّ هذا الحرص من اللَّه سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ، فتُعطَّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره ؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخصٍ يتمخّض عنه المستقبل ، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر ؟وبكلمةٍ اُخرى : ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة ؟ وما المبرّر لها ؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً ، فنحن نؤمن بأنّ الأئمّة الاثني عشر مجموعة فريدة لا يمكن التعويض عن أيِّ واحدٍ منهم ، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسيرٍ اجتماعيّ للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود .
وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين ، ونطرح السؤال التالي :
إنّنا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود بقدر ما تكون مفهومةً على ضوء سنن الحياة وتجاربها ، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدَّخَر عاملاً من عوامل إنجاحها وتمكّنه من ممارستها وقيادتها بدرجةٍ أكبر ؟
ونجيب على ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدّة أسبابٍ منها ما يلي :
العمر الطويل ودوْره في إنجاح القائد :
إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها ، مشحوناً بالشعور بالتفوّق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي اُعِدَّ للقضاء عليها وتحويلها حضارياً إلى عالمٍ جديد .فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيِّر من شعورٍ بتفاهة الحضارة التي يصارعها ، وإحساسٍ واضحٍ بأ نّها مجرّد نقطةٍ على الخطّ الطويل لحضارة الإنسان ، يصبح أكثر قدرةً من الناحية النفسية على مواجهتها والصمود في وجهها ، ومواصلة العمل ضدّها حتى النصر .
ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه وما يُراد القضاء عليه من حضارةٍ وكيان ، فكلّما كانت المواجهة لكيانٍ أكبر ولحضارةٍ أرسخ وأشمخ ، تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم .
ولمّا كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالَمٍ مليءٍ بالظلم وبالجور تغييراً شاملاً بكلِّ قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي أن تفتّش هذه الرسالة عن شخصٍ أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كلّه ، عن شخصٍ ليس من مواليد ذلك العالَم الذين نشأوا في ظلّ تلك الحضارة التي يُراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحقّ ؛ لأنّ من ينشأ في ظلّ حضارةٍ راسخة تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها ، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها ؛ لأنّه ولد وهي قائمة ، ونشأ صغيراً وهي جبّارة ، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة .
وخلافاً لذلك شخص يتوغّل في التأريخ ، عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاُخرى ثمّ تداعت وانهارت ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تأريخ .
ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن .
ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر .
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتُصاب بالنكسة تارةً ، ويحالفها التوفيق تارةً اُخرى .
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالَمٍ بكامله ، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنةٍ وانتباهٍ كاملين ينظر إلى هذا العملاق الذي يريد أن يصارعه من زاوية ذلك الامتداد التأريخي الطويل الذي عاشه بحسّه ، لا في بطون كتب التأريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً ، ولا كما كان ينظر ( جان جاك روسو ) إلى الملَكيّة في فرنسا ، فقد جاء عنه أ نّه كان يرعبه مجرّد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ؛ لأنّ ( روسو ) هذا نشأ في ظلّ الملَكيّة ، وتنفّس هواءها طيلة حياته .
وأمّا هذا الشخص المتوغّل في التأريخ فله هيبة التأريخ ، وقوة التأريخ ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيانٍ وحضارةٍ وليدُ يومٍ من أيّام التأريخ ، تهيّأت له الأسباب فوجِد ، وستتهيّأ الأسباب فيزول ، فلا يبقى منه شيء ، كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد ، وأنّ الأعمار التأريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلّا أياماً قصيرةً في عمر التأريخ الطويل .
هل قرأت سورة الكهف ؟ وهل قرأت عن اُولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم اللَّه هدى ؟ وواجهوا كياناً وثنيّاً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أيِ بذرةٍ من بذور التوحيد والارتفاع عن وهدة الشرك ، فضاقت نفوسهم ودَبَّ إليها اليأس وسُدَّت منافذ الأمل أمام أعينهم ،ولجأوا إلى الكهف يطلبون من اللَّه حَلّاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أن يظلّ الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحقّ ويُصفِّي كلّ مَن يخفق قلبه للحقّ .
هل تعلم ماذا صنع اللََّه تعالى بهم ؟ إنّه أنامهم ثلاثمائة سنةٍ وتسع سنين في ذلك الكهف ، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة ، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بَهَرهم بقوّته وظلمه قد تداعى وسقط ، وأصبح تأريخاً لا يُرعِبُ أحداً ولا يُحرِّك ساكناً ، كلّ ذلك لكي يشهدَ هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره ، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ، ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
ولَئِن تحقّقت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخمٍ وشموخ نفسيَّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمائة سنة فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم ، والشجرة الباسقة وهي بذرة ، والإعصار وهو مجرّد نسمة .
الإعداد الفكري والقيادي لليوم الموعود :
أضف إلى ذلك أنّ التجربة التي تُتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود ؛ لأنّها تضع الشخص المدَّخَر أمام ممارساتٍ كثيرةٍللآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة ، ومن ألوان الخطأ والصواب ، وتعطي لهذا الشخص قدرةً أكبر على تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها وكلّ ملابساتها التأريخية .
ثمّ إنّ عملية التغيير المدَّخَرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالةٍ معيَّنةٍ هي رسالة الإسلام ، ومن الطبيعي أن تتطلّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الاُولى ، قد بُنيت شخصيته بناءاً كاملاً بصورةٍ مستقلّةٍ ومنفصلةٍ عن مؤثّرات الحضارة التي يُقدّر لليوم الموعود أن يحاربها .
وخلافاً لذلك ، الشخص الذي يولَد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتّح أفكاره ومشاعره في إطارها ، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها وإن قاد حملةً تغييريةً ضدّها .
فلكي يُضمَن عدم تأثّر القائد المدَّخَر بالحضارة التي اُعِدَّ لاستبدالها لابدّ أن تكون شخصيته قد بُنيت بناءاً كاملاً في مرحلةٍ حضاريةٍ سابقة هي أقرب ما تكون - في الروح العامة ومن ناحية المبدأ - إلى الحالة الحضارية التي يتّجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته .
ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل : كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أ نّه لم يعاصر أباه الإمام العسكريّ إلّاخمس سنواتٍ تقريباً ؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد ، فما هي الظروف التي تكامَل من خلالها ؟
ظاهرة الإمامة المبكّرة في حياة أهل البيت :
والجواب : أنّ المهديّ عليه السلام خَلَفَ أباه في إمامة المسلمين ، وهذا يعني أ نّه كان إماماً بكلِّ ما في الإمامة من محتوىً فكريّ وروحيّ في وقتٍ مبكِّرٍ جدّاً من حياته الشريفة .
والإمامة المبكِّرة ظاهرة سَبقهُ إليها عدد من آبائه عليهم السلام ، فالإمام محمد بن عليّ الجواد عليه السلام تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره(6) ، والإمام عليّ بن محمد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره(7) ، والإمام أبو محمد الحسن
العسكري - والد القائد المنتظر - تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره(8) ، ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ عليه السلام والإمام الجواد عليه السلام ونحن نسمّيها ظاهرةً ؛ لأنّها كانت بالنسبة إلى عددٍ من آباء المهدي عليه السلام تشكِّل مدلولاً حسّياً عملياً عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكلٍ وآخر ، ولا يمكن أن نُطالب بإثباتٍ لظاهرةٍ من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة اُمّة . ونوضّح ذلك ضمن النقاط التالية :
أ - لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم ، كإمامة الخلفاء الفاطميّين ، وخلافة الخلفاء العباسيّين ، وإنّما كانت تكتسِب ولاءَ قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على اُسسٍ روحيةٍ وفكرية .
ب - إنّ هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكِّل تيّاراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي ، يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلِّمين والمفسِّرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ ، حتى قال الحسن بن عليّ الوشّاء : إنّي دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخٍ كلّهم يقولون : حدّثنا جعفر بن محمد(9) .
ج - إنّ الشروط - التي كانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيةٍ في المجتمع الإسلامي تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة - شروطٌ شديدة ؛ لأنّها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلّاإذا كان أعلم علماء عصره .
د - إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدِّم تضحياتٍ كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة ؛ لأنّها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائياً ولو من الناحية الفكرية على الأقلّ ، الأمر الذي أدّىََ إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرارٍ تقريباً بحملاتٍ من التصفية والتعذيب ، فقُتِل من قُتِل ، وسُجِن من سُجن ، ومات في ظلمات المعتقلات المئات . وهذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً ، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلى اللََّه تعالى والزلفىََ عنده .
هـ - إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ، ولا متقوقعين في بروجٍ عاليةٍ شأن السلاطين مع شعوبهم ، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلّاأن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجنٍ أو نفي ، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدِّثين عن كلِّ واحدٍ من الأئمّة الأحد عشر ، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه ، وما كان الإمام يقوم به من أسفارٍ من ناحية ، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحيةٍ اُخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمّتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة عندما يؤمُّون الديار المقدّسة من كلّ مكانٍ لأداء فريضة الحجّ ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمرّاً بدرجةٍ واضحةٍ بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم .
و - إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة عليهم السلام كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطرٍ كبيرٍ على كيانها ومقدّراتها ، وعلى هذا ـ الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة ، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك ، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّةً للأئمّة أنفسهم ، على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعورٍ بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم .
إذا أخذنا هذه النقاط الستَّ بعين الاعتبار - وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ - أمكن أن نخرج بنتيجة ، وهي أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة كانت ظاهرةً واقعيةً ولم تكن وهماً من الأوهام ؛ لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين ، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيّار الواسع ، لا بدّ أن يكون على قدرٍ واضحٍ وملحوظٍ بل وكبيرٍ من العلم والمعرفة وسعة الاُفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ؛ لأنّه لولم يكن كذلك لَما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدّم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تُتيح لقواعدهم التفاعل معهم ، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط على حياتهم وموازين شخصيتهم .
فهل ترى أنّ صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمْنِها وحياتها بدون أن تكلِّف نفسها اكتشاف حاله ، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكّرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقويم هذا الصبيّ الإمام ؟
وَهَبْ أنّ الناس لم يتحرّكوا لاستطلاع المواقف ، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس ؟ وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقّاً ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل ؟
وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يُتَح لها أن تكتشف واقع الأمر فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها ؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان ، وما كان أنجحه من اُسلوبٍ أن تقدِّم هذا الصبيّ إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته ، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية . فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخصٍ في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقَدَرٍ كبيرٍ من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبيّ اعتياديّ مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون ، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقَّدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ .
إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة ، هو أ نّها أدركت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً .
والحقيقة أ نّها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع ، والتأريخ يحدِّثنا عن محاولاتٍ من هذا القبيل وفشلها ، بينما لم يحدِّثنا إطلاقاً عن موقفٍ تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة أو واجه فيه الصبيُّ الإمامُ إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه .
وهذا معنى ما قلناه من أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت وليست مجرّد افتراض .
الإمامة المبكّرة في رسالات السماء :
كما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانية .ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الربّاني لأهل البيت عليهم السلام يحيى عليه السلام ؛ إذ قال اللََّه سبحانه وتعالى : «يَا يَحْيىََ خُذِ الْكِتَابَ بقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً »(10).
ومتى ثبت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت لم يعُدْ هناك اعتراض فيما يخصّ إمامة المهدي عليه السلام وخلافته لأبيه وهو صغير .
المصادر :
1- الأنبياء : 69
2- قال تعالى: «فَأوْحَيْنَا إلى مُوسَىََ أنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظيمِ ». الشعراء : 63
3- قال تعالى : «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ... ». النساء : 157
4- راجع سيرة ابن هشام 2 : 127
5- راجع كتاب « الاُسس المنطقية للاستقراء » للشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره
6- راجع التتمّة في تواريخ الأئمة : 98
7- راجع التتمّة في تواريخ الأئمة : 102
8- راجع التتمّة في تواريخ الأئمة : 106
9- رجال النجاشي : 40
10- مريم : 12