معجزة العمر الطويل

لنفترض أ نّ العمر الطويل غير ممكنٍ علمياً ، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم ولا على خطّها الطويل أن تتغلّب عليه وتغيّر من ظروفه وشروطه ، فماذا يعني ذلك ؟
Thursday, December 8, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
معجزة العمر الطويل
 معجزة العمر الطويل

 





 

لنفترض أ نّ العمر الطويل غير ممكنٍ علمياً ، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم ولا على خطّها الطويل أن تتغلّب عليه وتغيّر من ظروفه وشروطه ، فماذا يعني ذلك ؟
إنّه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان - كنوحٍ أو كالمهدي - قروناً متعدّدةً هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة ، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزةً عطّلت قانوناً طبيعياً في حالةٍ معيّنةٍ للحفاظ على حياة الشخص الذي اُنيط به الحفاظ على رسالة السماء .
وليست هذه المعجزة فريدةً من نوعها ، أو غريبةً على عقيدة المسلم المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة ، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامةً من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقلّ حرارةً حتى يتساويا ، وقد عُطِّل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم عليه السلام حين كان الاُسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون ، فقيل للنار حين اُلقي فيها إبراهيم : « قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ »(1)،
فخرج منها كما دخل سليماً لم‏ يصبه أذىً ، إلى كثيرٍ من القوانين الطبيعية التي عُطِّلت لحماية أشخاصٍ من الأنبياء وحجج اللَّه على الأرض ، فَفُلِقَ البحر لموسى‏(2) ، وشُبِّه للرومان أ نّهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه‏(3) .
وخرج النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم من داره وهي محفوفة بحشود قريشٍ التي ظلّت ساعاتٍ تتربّص به لتهجم عليه ، فستره اللََّه تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم‏(4) .
كلّ هذه الحالات تمثّل قوانين طبيعيةً عُطِّلت‏ لحماية شخصٍ كانت الحكمة الربّانية تقتضي الحفاظ على حياته ، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين .
وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهومٍ عامّ ، وهو أ نّه كلّما توقّف الحفاظ على حياة حجّةٍ للََّهِ في الأرض على تعطيل قانونٍ طبيعي ، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضروريةً لإنجاز مهمّته التي اُعِدَّ لها تدخّلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك ، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمّته التي اُعِدَّ لها ربانياً ، فإنّه سيلقى‏ََ حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لِمَا تقرّره القوانين الطبيعية .
ونواجه عادةً بمناسبة هذا المفهوم العامّ السؤال التالي : كيف يمكن أن يتعطّل القانون ؟ وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية ؟ وهل هذه إلّامناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي وحدّد هذه العلاقة الضرورية على اُسسٍ تجريبيةٍ واستقرائية ؟
والجواب : أنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي .
وتوضيح ذلك : أنّ القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة ، فحين يطّرد وقوع ظاهرةٍ طبيعيةٍ عقيب ظاهرةٍ اُخرى يُستدلّ بهذا الاطّراد على قانونٍ طبيعي ، وهو أ نّه كلّما وُجِدَت الظاهرة الاُولى وُجِدَت الظاهرة الثانية عقيبها ، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقةً ضروريةً بين الظاهرتين نابعةً من صميم هذه الظاهرة وذاتها وصميم تلك وذاتها ؛ لأنّ الضرورة حالة غيبية لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها ؛
ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث يؤكّد أنّ القانون الطبيعي - كما يعرّفه العلم - لا يتحدّث عن علاقةٍ ضرورية ، بل عن اقترانٍ مستمرّ بين‏ ظاهرتين ، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الاُخرى في قانونٍ طبيعيّ لم يكن ذلك فصماً لعلاقةٍ ضروريةٍ بين الظاهرتين .
والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر ممّا كانت عليه في ظلّ وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية .
فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أنّ كلّ ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالاُخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة ، والضرورة تعني أنّ من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الاُخرى ، ولكنّ هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية .
وبهذا تصبح المعجزة حالةً استثنائيةً لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورةٍ أو تؤدّي إلى استحالة .
وأمّا على ضوء الاُسس المنطقية للاستقراء(5) فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أنّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ، ولكنّا نرى أ نّه يدلّ على وجود تفسيرٍ مشتركٍ لاطّراد التقارن او التعاقب بين الظاهرتين باستمرار ، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية ، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمةٍ دعت منظِّم الكون إلى ربط ظواهر معيّنةٍ بظواهر اُخرى باستمرار ، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة .

لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمر الامام ؟

لماذا كلّ هذا الحرص من اللَّه سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ، فتُعطَّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره ؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخصٍ يتمخّض عنه المستقبل ، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر ؟
وبكلمةٍ اُخرى : ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة ؟ وما المبرّر لها ؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً ، فنحن نؤمن بأنّ الأئمّة الاثني عشر مجموعة فريدة لا يمكن التعويض عن‏ أيِّ واحدٍ منهم ، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسيرٍ اجتماعيّ للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود .
وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين ، ونطرح السؤال التالي :
إنّنا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود بقدر ما تكون مفهومةً على ضوء سنن الحياة وتجاربها ، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدَّخَر عاملاً من عوامل إنجاحها وتمكّنه من ممارستها وقيادتها بدرجةٍ أكبر ؟
ونجيب على ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدّة أسبابٍ منها ما يلي :

العمر الطويل ودوْره في إنجاح القائد :

إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها ، مشحوناً بالشعور بالتفوّق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي اُعِدَّ للقضاء عليها وتحويلها حضارياً إلى عالمٍ جديد .
فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيِّر من شعورٍ بتفاهة الحضارة التي يصارعها ، وإحساسٍ واضحٍ بأ نّها مجرّد نقطةٍ على الخطّ الطويل لحضارة الإنسان ، يصبح أكثر قدرةً من الناحية النفسية على مواجهتها والصمود في وجهها ، ومواصلة العمل ضدّها حتى النصر .
ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه وما يُراد القضاء عليه من حضارةٍ وكيان ، فكلّما كانت المواجهة لكيانٍ أكبر ولحضارةٍ أرسخ وأشمخ ، تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم .
ولمّا كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالَمٍ ملي‏ءٍ بالظلم وبالجور تغييراً شاملاً بكلِّ قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي أن تفتّش هذه الرسالة عن شخصٍ أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كلّه ، عن شخصٍ ليس من مواليد ذلك العالَم الذين نشأوا في ظلّ تلك الحضارة التي يُراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحقّ ؛ لأنّ من ينشأ في ظلّ حضارةٍ راسخة تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها ، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها ؛ لأنّه ولد وهي قائمة ، ونشأ صغيراً وهي جبّارة ، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة .
وخلافاً لذلك شخص يتوغّل في التأريخ ، عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاُخرى ثمّ تداعت وانهارت ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تأريخ .
ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن .
ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر .
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتُصاب بالنكسة تارةً ، ويحالفها التوفيق تارةً اُخرى .
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالَمٍ بكامله ، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنةٍ وانتباهٍ كاملين ينظر إلى هذا العملاق الذي يريد أن يصارعه من زاوية ذلك الامتداد التأريخي الطويل الذي عاشه بحسّه ، لا في بطون كتب التأريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً ، ولا كما كان ينظر ( جان جاك روسو ) إلى الملَكيّة في فرنسا ، فقد جاء عنه أ نّه كان يرعبه مجرّد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ؛ لأنّ ( روسو ) هذا نشأ في ظلّ الملَكيّة ، وتنفّس هواءها طيلة حياته .
وأمّا هذا الشخص المتوغّل في التأريخ فله هيبة التأريخ ، وقوة التأريخ ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيانٍ وحضارةٍ وليدُ يومٍ من أيّام التأريخ ، تهيّأت له الأسباب فوجِد ، وستتهيّأ الأسباب فيزول ، فلا يبقى منه شي‏ء ، كما لم يكن يوجد منه شي‏ء بالأمس القريب أو البعيد ، وأنّ الأعمار التأريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلّا أياماً قصيرةً في عمر التأريخ الطويل .
هل قرأت سورة الكهف ؟ وهل قرأت عن اُولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم اللَّه هدى ؟ وواجهوا كياناً وثنيّاً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أيِ‏ بذرةٍ من بذور التوحيد والارتفاع عن وهدة الشرك ، فضاقت نفوسهم ودَبَّ إليها اليأس وسُدَّت منافذ الأمل أمام أعينهم ،ولجأوا إلى الكهف يطلبون من اللَّه حَلّاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أن يظلّ الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحقّ ويُصفِّي كلّ مَن يخفق قلبه للحقّ .
هل تعلم ماذا صنع اللََّه تعالى بهم ؟ إنّه أنامهم ثلاثمائة سنةٍ وتسع سنين في ذلك الكهف ، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة ، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بَهَرهم بقوّته وظلمه قد تداعى وسقط ، وأصبح تأريخاً لا يُرعِبُ أحداً ولا يُحرِّك ساكناً ، كلّ ذلك لكي يشهدَ هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره ، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ، ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
ولَئِن تحقّقت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخمٍ‏ وشموخ نفسيَّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمائة سنة فإنّ الشي‏ء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم ، والشجرة الباسقة وهي بذرة ، والإعصار وهو مجرّد نسمة .

الإعداد الفكري والقيادي لليوم الموعود :

أضف إلى ذلك أنّ التجربة التي تُتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود ؛ لأنّها تضع الشخص المدَّخَر أمام ممارساتٍ كثيرةٍ
للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة ، ومن ألوان الخطأ والصواب ، وتعطي لهذا الشخص قدرةً أكبر على تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها وكلّ ملابساتها التأريخية .
ثمّ إنّ عملية التغيير المدَّخَرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالةٍ معيَّنةٍ هي رسالة الإسلام ، ومن الطبيعي أن تتطلّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الاُولى ، قد بُنيت شخصيته بناءاً كاملاً بصورةٍ مستقلّةٍ ومنفصلةٍ عن مؤثّرات الحضارة التي يُقدّر لليوم الموعود أن يحاربها .
وخلافاً لذلك ، الشخص الذي يولَد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتّح أفكاره ومشاعره في إطارها ، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها وإن قاد حملةً تغييريةً ضدّها .
فلكي يُضمَن عدم تأثّر القائد المدَّخَر بالحضارة التي اُعِدَّ لاستبدالها لابدّ أن تكون شخصيته قد بُنيت بناءاً كاملاً في مرحلةٍ حضاريةٍ سابقة هي أقرب ما تكون - في الروح العامة ومن ناحية المبدأ - إلى الحالة الحضارية التي يتّجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته .
ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل : كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع‏ أ نّه لم يعاصر أباه الإمام العسكريّ إلّاخمس سنواتٍ تقريباً ؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد ، فما هي الظروف التي تكامَل من خلالها ؟
ظاهرة الإمامة المبكّرة في حياة أهل البيت :
والجواب : أنّ المهديّ عليه السلام خَلَفَ أباه في إمامة المسلمين ، وهذا يعني أ نّه كان إماماً بكلِّ ما في الإمامة من محتوىً فكريّ وروحيّ في وقتٍ مبكِّرٍ جدّاً من حياته الشريفة .
والإمامة المبكِّرة ظاهرة سَبقهُ إليها عدد من آبائه عليهم السلام ، فالإمام محمد بن عليّ الجواد عليه السلام تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره‏(6) ، والإمام عليّ بن محمد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره‏(7) ، والإمام أبو محمد الحسن‏
العسكري - والد القائد المنتظر - تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره‏(8) ، ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ عليه السلام والإمام الجواد عليه السلام ونحن نسمّيها ظاهرةً ؛ لأنّها كانت بالنسبة إلى عددٍ من آباء المهدي عليه السلام تشكِّل مدلولاً حسّياً عملياً عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكلٍ وآخر ، ولا يمكن أن نُطالب بإثباتٍ لظاهرةٍ من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة اُمّة . ونوضّح ذلك ضمن النقاط التالية :
أ - لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم ، كإمامة الخلفاء الفاطميّين ، وخلافة الخلفاء العباسيّين ، وإنّما كانت تكتسِب ولاءَ قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على اُسسٍ روحيةٍ وفكرية .
ب - إنّ هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكِّل تيّاراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي ، يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلِّمين والمفسِّرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ ، حتى قال الحسن بن عليّ الوشّاء : إنّي دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخٍ كلّهم يقولون : حدّثنا جعفر بن محمد(9) .
ج - إنّ الشروط - التي كانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيةٍ في‏ المجتمع الإسلامي تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة - شروطٌ شديدة ؛ لأنّها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلّاإذا كان أعلم علماء عصره .
د - إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدِّم تضحياتٍ كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة ؛ لأنّها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائياً ولو من الناحية الفكرية على الأقلّ ، الأمر الذي أدّى‏ََ إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرارٍ تقريباً بحملاتٍ من التصفية والتعذيب ، فقُتِل من قُتِل ، وسُجِن من سُجن ، ومات في ظلمات المعتقلات المئات . وهذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً ، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلى اللََّه تعالى والزلفى‏ََ عنده .
هـ - إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ، ولا متقوقعين في بروجٍ عاليةٍ شأن السلاطين مع شعوبهم ، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلّاأن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجنٍ أو نفي ، وهذا ما نعرفه من‏ خلال العدد الكبير من الرواة والمحدِّثين عن كلِّ واحدٍ من الأئمّة الأحد عشر ، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه ، وما كان الإمام يقوم به من أسفارٍ من ناحية ، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحيةٍ اُخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمّتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة عندما يؤمُّون الديار المقدّسة من كلّ مكانٍ لأداء فريضة الحجّ ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمرّاً بدرجةٍ واضحةٍ بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم .
و - إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة عليهم السلام كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطرٍ كبيرٍ على كيانها ومقدّراتها ، وعلى هذا ـ الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة ، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك ، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّةً للأئمّة أنفسهم ، على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعورٍ بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم .
إذا أخذنا هذه النقاط الستَّ بعين الاعتبار - وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ - أمكن أن نخرج بنتيجة ، وهي أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة كانت ظاهرةً واقعيةً ولم تكن وهماً من الأوهام ؛ لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين ، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيّار الواسع ، لا بدّ أن يكون على قدرٍ واضحٍ وملحوظٍ بل وكبيرٍ من العلم والمعرفة وسعة الاُفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ؛ لأنّه لولم يكن كذلك لَما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدّم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تُتيح لقواعدهم التفاعل معهم ، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط على حياتهم وموازين شخصيتهم .
فهل ترى أنّ صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمْنِها وحياتها بدون أن تكلِّف نفسها اكتشاف حاله ، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكّرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقويم هذا الصبيّ الإمام ؟
وَهَبْ أنّ الناس لم يتحرّكوا لاستطلاع المواقف ، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس ؟ وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقّاً ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل ؟
وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يُتَح لها أن تكتشف واقع الأمر فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها ؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان ، وما كان أنجحه من اُسلوبٍ أن تقدِّم هذا الصبيّ إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته ، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية . فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخصٍ في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقَدَرٍ كبيرٍ من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبيّ اعتياديّ مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون ، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقَّدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ .
إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة ، هو أ نّها أدركت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً .
والحقيقة أ نّها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم‏ تستطع ، والتأريخ يحدِّثنا عن محاولاتٍ من هذا القبيل وفشلها ، بينما لم‏ يحدِّثنا إطلاقاً عن موقفٍ تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة أو واجه فيه الصبيُّ الإمامُ إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه .
وهذا معنى ما قلناه من أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل‏ البيت وليست مجرّد افتراض .

الإمامة المبكّرة في رسالات السماء :

كما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانية .
ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الربّاني لأهل البيت عليهم السلام يحيى عليه السلام ؛ إذ قال اللََّه سبحانه وتعالى : «يَا يَحْيى‏ََ خُذِ الْكِتَابَ بقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً »(10).
ومتى ثبت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل‏ البيت لم يعُدْ هناك اعتراض فيما يخصّ إمامة المهدي عليه السلام وخلافته لأبيه وهو صغير .
المصادر :
1- الأنبياء : 69
2- قال تعالى: «فَأوْحَيْنَا إلى مُوسَى‏ََ أنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظيمِ ». الشعراء : 63
3- قال تعالى : «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ... ». النساء : 157
4- راجع سيرة ابن هشام 2 : 127
5- راجع كتاب « الاُسس المنطقية للاستقراء » للشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره
6- راجع التتمّة في تواريخ الأئمة : 98
7- راجع التتمّة في تواريخ الأئمة : 102
8- راجع التتمّة في تواريخ الأئمة : 106
9- رجال النجاشي : 40
10- مريم : 12

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.