من اُصول العقائد الّتي اتفق المسلمون كافَّة علىٰ لزومها ، اعتقادهم أن لهذا الجسم وجوداً ثانياً بعد تفرُّقه بالموت؛ لأنه قابل للجمع ، وإفاضة الوجود عليه؛ لأنه ممكن. والله سبحانه قادر علىٰ إعادة كلِّ ممكن بعد عدمه ، كأصل وجوده. ولأنه قد دلَّ القرآن علىٰ ثبوته بقوله تعالىٰ : (وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَميمٌ * قُلْ يُحْييهَا الَّذي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ) (1).
ولأنه قد انعقد إجماع المسلمين علىٰ ثبوته من غير نكير ، وإجماعهم حجة. ولأن التكليف لما فيه من الكلفة يستلزم التعويض ، ولابدّ من دار غير زمان التكليف ، يكون فيها الجزاء على الأعمال.
فالشيعة كسائر المسلمين يعتقدون أن الله يعيد الخلق بعد الموت ، وإنْ لم يكن المعاد ممن له حقّ أو عليه؛ لدلالة القرآن والأخبار الكثيرة. أما من كان له حقّ أو عليه ، فيدلّ علىٰ لزوم عوده ، العقل والنقل. ولا يجب عندهم معرفة كيفية الإعادة : هل هي إعادة المعدوم ، أو ظهور الموجود؟
ويجب عندهم التصديق بكلّ ما جاء به النبي صلى الله عليه واله سواء كان بعد زمانه ، كإخباره عن الجنَّة والنار ، وعذاب القبر ونعيمه ، والصراط والحساب والميزان. أو قبل زمانه ، كإخباره عن الأنبياء السابقين. أو في زمانه ، كإخباره بتحريم المحرَّمات ، ووجوب الواجبات ، وندب المندوبات ، وإباحة المباحات وكراهة المكروهات؛ لأن كلّ ذلك ممكن ، وقد أخبر به الصادق ، فيكون.
منشأ الخلاف في مسألة العدل
ومن اُصول العقائد عند الإمامية العدل؛ وهو الاعتقاد بأن الله منزَّه عن الظلم والجور ، وعن كل مايستقبحه العقل. وهو في الحقيقة من صفات الحقِّ ، ولازم من لوازم التوحيد وشأن من شؤونه لا أصل برأسه.رأي الأشاعرة
وإفراده بالذكر للاهتمام بشأنه وتنبيهاً علىٰ خلاف الأشاعرة المنكرين للحُسْن والقبح العقليين. بمعنىٰ كون الحسن ما يستحق فاعله المدح عاجلاً والثواب آجلاً ، والقبيح ما يستحق فاعله الذم عاجلاً والعقاب آجلاً. فذهبت الأشاعرة إلى أن العقل لا يدرك الحسن والقبح بهذا المعنىٰ ، بل ما حسَّنه الشرع فهو الحسَنَ وما قبَّحه فهو القبيح. وأنه تعالىٰ لو عذب المطيع بالنار وأنعم على العاصي بالجنّة لم يكن قبيحاً؛ لأنه المالك الحقيقي المتصرف في ملكه ، و : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُون) (2).
بل عندهم لا حكومة للعقل ، حتّىٰ في معرفة الصانع ومعرفة النبي صلى الله عليه واله. وأثبتوا ذلك من طريق الشرع ، فلزمهم الدور الجلي الواضح ، والمحال الفاضح.
رأي المعتزلة
وذهبت المعتزلة والإمامية إلى أن الحاكم هو العقل مستقلّاً فالحَسَن حَسَن في نفسه والقبيح قبيح في نفسه؛ حكم الشرع به أم لا.
نعم ، يتبع حكمه إرشاداً وتأكيداً ، إذ من الواضح حسن الإحسان ، والتصدق ، وإنقاذ الهلكىٰ ، وودُّ الوديعة ، وقبح الكذب الضارّ ، والظلم. بل ذلك متمركز في قلب كلِّ إنسان ، حكم الشرع به أم لا؛ ولأنه لو كان مدركه الشرع لم يتحقق بدونه مع أن من لا يعتقد الشرع ولا يحكم به كالملاحدة يعتقدون به ، فلو كان المدرك فيه الشرع لانتفىٰ بانتفائه.
فالأشاعرة تنكر ما يثبته المعتزلة والإمامية ، من إدراك العقل للحُسْن والقبح ، على الحقّ تعالىٰ شأنه. فليس للعقل عندهم وظيفة الحكم بأن هذا قبيح وهذا حَسَن من الله ، ولا ينكرون كونه عادلاً... إلىٰ آخره.
والعدليّة ـ أعني : المعتزلة والإمامية ـ أثبتوا بقاعدة الحُسْن والقبح العقليّين قواعد كثيرة ، كقاعدة وجوب شكر المنعم؛ وعليها بنوا مسألة الجبر والاختيار؛ لأن الأشاعرة ذهبوا إلى الجبر أو ما يؤدي
إليه؛ لأنّهم قالوا : إن الأفعال كلَّها من الله ، وإنه لا فعل للعبد أصلاً. وذهبت العدلية إلى الاختيار ، وأن الانسان حرُّ في فعله ، له أنْ يفعل وله ألّا يفعل. وهذا هو الحق.
نعم ، القدرة على الاختيار وعدمه ، كأصل وجود الإنسان ، من الله أوجده مختاراً. أما الاختيارات الجزئيَّة الجارية في الوقائع الشخصيَّة فهي من العبد ، وهو تعالىٰ لم يجبره علىٰ فعل ولا ترك. لأنه لو كان مجبوراً لانتفت فائدة بعثة الأنبياء ، وبطل الثواب والعقاب. ولأنه إذا لم يكن العبد موجوداً لأفعاله ، يلزم نسبة صدور القبح من الله ، وظلمه لعبده؛ لفرض أن العبد لم يفعل شيئاً ، فكيف يعاقبه علىٰ ما لم يفعله؟ فمع عقابه يكون ظالماً تعالىٰ الله عن الظلم. ولأن القرآن مصرّح بنسبة الفعل إلى الإنسان.
قال تعالىٰ : (فَوَيْلٌ لِلَّذينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْديهِم) (3). وقال تعالىٰ : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّن) (4). وقال تعالىٰ : (إِنَ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم) (5). وقال تعالىٰ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه) (6). وقال تعالىٰ : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهين) (7). (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُون) (8).
ولأن كلَّ من له شعور يجد الفرق الواضح بين صدور فعله بباعث نفساني اختياري ، وبين صدور الفعل غفلة أو قهراً؛ إذ تكليف الغافل
أو المقهور تكليف بما لا يطاق ، فهو كقوله :
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له / إيّاك إيّاك أنْ تبتلَّ بالماء
والتكيف بغير المقدور مستحيل كاستحالة القبيح عليه تعالىٰ ، إذ علىٰ قول الأشاعرة يلزم أنْ يكون هو تعالىٰ فاعلاً لمجموع الكائنات؛ من شرٍّ وخير وحسَنَ وقبيح وايمان وكفر ، تعالى الله عن ذلك.
قول الأشاعرة بأن الله لا يفعل لغرض والرّد عليهم
وكما قالوا بأن الفعل من الله وأنْ لا فعل للعبد أصلاً ، قالوا : إن الله لا يفل لغرض؛ لاستلزامه النقص المستكمل بذلك الغرض. وذلك باطل جدّاً؛ إذ الحقُّ كما عليه أهله أن أفعال الله معلَّلة بالأغراض ، بنصِّ القرآن ، وبحكم العقل.
ويشهد للأوَّل قوله تعالىٰ : (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُون) (9). (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون) (10). (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلا) (11).
ويشهد للثاني لزوم العبث لو لم يكن فعله لغرض ، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم.
وأمّا قولهم باستلزامه النقص المستكمل بذلك الغرض ، فهو إنّما يكون لو كان الغرض ترجِع إليه مصلحة العبد ، أو إلىٰ نظام الوجود.
فالغرض هو نفع العبد ، والنفع الحقيقي هو الثواب؛ لأنه هو النفع الدائم ، وهو الذي يصلح أنْ يكون غرضاً لخلق العبد. وأما النفع غير المستمرِّ أو دفع الضرر ، فلا يصلح أنْ يعلَّل الخلق به.
أما اقتضاء الحكمة لزوم الخلق والإيجاد عليه تعالىٰ فيمكن الإشارة إليه بقوله تعالىٰ : (إِنَ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ) (12) ؛ إذ القدرة لابدّ لها من مظهر وأوضح المظاهر هو الإيجاد ، وإلّا لبطل وصف نفسه بقدير.
أمّا الغرض من الخلق والإيجاد ، فقد عرفت أنه الثواب ، وهو بمقتضى الحكمة يستدعي توسط التكليف خلافاً للأشاعرة ، فإنهم لم يوجبوا على الله شيئاً ، لا تكليفاً ولا غيره.
ولعلك تقول : إن الابتداء بالثواب مقدور له تعالىٰ ، فلا حاجة إلىٰ توسط التكليف. لكنك الخبير بأن القدرة على الابتداء بالثواب مما لا إشكال فيه. لكنه لا يمكن الابتداء به؛ لأنه تعظيم ، وتعظيم من لا يستحق التعظيم القبيح. والثواب والعقاب من باب الجزاء على الفعل ، لا من باب التفضيل. فتثبت الحاجة إلىٰ توسط التكليف.
معنى التكليف
وهو في اللغة : المشقَّة (13).وفي الصطلاح : هو البعث على الشيء بإرادة جدِّيَّة ، ممن تجب طاعته (14). فها هنا تكليف ومكلِّف ـ بالكسر ـ ومكلَّف ـ بالفتح ـ ومكلَّف به؟ ولكل شرائط :
شرائط الأول :
الأوّل : أنْ يكون ممكن الوقوع ، إذ التكليف بالمستحيل قبيح.
الثاني : أنْ يكون سابقاً علىٰ وقت الفعل.
الثالث : ألّا يكون مشتملاً على مفسدة ، لأنَّ التكليف بما فيه مفسدة قبيح.
الرابع : أن يكون فيه صفة تزيد علىٰ حسن الفعل وتلزم بوقوعه فلا تكليف بالمباح من أكل الطيّبات من الأطعمة والأشربة والنكاح.
وأما شرائط الثاني [فهي] :
[الأوَّل : أن] يكون المكلِّف عالماً بحسن الفعل وقبحه.
الثاني : أنْ يكون منزَّهاً عن فعل القبيح.
الثالث : أنْ يكون عالماً بالمستحقِّ ، وبمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب لكل فرد من أفراد المكلَّفين.
وأما شرائط الثالث ، وهو المكلَّف ـ بالفتح ـ [فهي] :
الأوَّل : أنْ يكون عالماً بما كُلِّف به ولو لكونه ممكناً له ، فالجاهل المتمكّن من العلم غير معذور.
الثاني : أنْ يكون قادراً على الفعل؛ إذ التكليف بغير المقدور مستحيل.
الثالث : أنْ يكون متمكِّناً من آله الفعل.
فهذه الشرائط تعود إلى المكلَّف البالغ ، وهو محل التكليف.
أما متعلق التكليف ، فقد يكون من وظائف العقل والقلب ، كما في اُصول العقائد؛ من معرفة الله وصفاته ، وعدله ، والنبوّة ، والإمامة مما يلزم تحصيل العلم به من الدليل العقلي ولو إجمالاً. فهذه واجبات اعتقاديّة لا يكفي الظنُّ فيها ، ويجب تحصيل العلم بها.
فلك أنْ تقول : إن متعلَّق التكليف ، إما علم عقليٌّ أو سمعيٌّ كالشرعيات ، وإما ظنِّيٌّ كما في جهة القبلة ، وإما عمل ، وهو الموضوع للحكم الشرعيِّ الذي يلزم كلَّ فرد من المكلَّفين الإتيان به بطريق الاجتهاد أو التقليد ، ويعاقب تارك كلا الطريقين.
فهو لا يخلو إما أنْ يكون الغرض منه علاقة بين العبد وربِّه فهي العبادات الّتي لا تصحُّ إلّا بالإتيان بها بداعي أمرها والتقرُّب بها إليه تعالىٰ. وهي تكون بدنيَّة محضة ، كالصلاة والصوم ، وتكون مالية محضة ، كالزكاة والخمس. وتكون مشتركة بين البدن والمال ، كالحجِّ والجهاد. وإما [أن يكون] الغرض من العمل علاقة بين كلِّ مكلَّف من الناس و [آخر] ، فهي المعاملات؛ فإنْ توقّف تحقّقها علىٰ
طرفين ، فهي عقود المعاوضات والمناكحات ، وإنْ توقف علىٰ طرف واحد فهي الإيقاعات كالطلاق والعتق.
[وإمّا أن يكون] متعلّق التكليف هو العمل؛ وهو الموضوع للحكم الشرعي الّذي يلزم كلّ فرد الإتيان به بطريق الاجتهاد والتقليد ، ويعاقب تارك كلٍّ منهما؛ لأن الإمامية تعتقد أن لله في كلّ واقعة حكماً ، حتّى أرش الخدش. وما من عمل من أعمال المكلّفين إلّا وهو متَّصف بأحد الأحكام الخمسة؛ من وجوب وحرمة وندب وكراهة وإباحة.(15)
والمكلّف عندهم إما قاطعٌ بها ، أو ظانٌ أو شاكٌ؛ فمن حصل له القطع وجب عليه العمل علىٰ طبقه ، والجري علىٰ وفقه. ومن حصل له الظنُّ؛ فإنْ قام على اعتباره دليل خرج عن أصالة حرمة العمل بالظنِّ ، وكان العمل به لازماً ، وعوقب علىٰ مخالفته. وإنْ كان شاكّاً ، كانت وظيفته الرجوع إلى الاُصول المقرّرة للشاكّ؛ فإنْ كان الشكّ في التكليف كانت وظيفته الرجوع إلى أصالة البراءة التي ملاكها قبح العقاب بلا بيان ، وإنْ كان الشكّ في المكلَّف به بعد إحراز التكليف ، فإنْ كان له حالة سابقة متيقَّنة ، كانت الوظيفة الرجوع إلى استصحابها ، وإلّا فإنْ أمكن الاحتياط تعيَّن ، وإلّا فالتخيير.
المصادر :
1- يس : 78 ـ 79.
2- الأنبياء : 23.
3- البقرة : 79.
4- الأنعام : 116.
5- الرعد : 11.
6- النساء : 123.
7- الطور : 21.
8- السجدة : 17 ، الأحقاف : 14.
9- المؤمنون : 115.
10- الذاريات : 56.
11- ص : 27.
12- البقرة : 2.
13- مختار الصحاح : 576 ـ كلف ، القاموس المحيط 278 : 3 ـ كلف.
14- مناهج اليقين : 247.
15- الكافي 57 : 1/ 15 ، 299 : 7/ 6 ، التهذيب 184 : 10/ 719.