يتعرض القرآن الكريم إلى أدب العطاء ، فنجد فيما يخص الموضوع آية واحدة توجه المنفق إلى كيفية العطاء بما يضمن له ثواباً أكثر فيما لو كانت عطيته على النحو الذي بينته الآية الكريمة في قوله تعالى :
( إن تُبدوا الصّدقاتِ فنعمّا هي وإن تخفوهَا وتؤتوهَا الفقراءَ فهوَ خيرٌ لكم ويكفِّرُ عنكم من سيئاتكُم والله بما تعملونَ خبيرٌ ) (1).
وطبيعي أن يكون العطاء إلى المحتاج سراً أفضل من الاعلان به ... وذلك لأن صدقة السر تحقق أهدافاً ثلاثة بينما صدقة العلن لا تحقق إلا هذفاً وحداً.
أما الأهداف التي تحققها صدقة السر فهي :
أولاً : عطاء من المنفق إلى الفقير وإصّال خيرٍ له ، به يُسدُّ حاجته.
ثانياً : ان صدقة السر بعيدة عن الرياء إذ الرياء إنما يتحقق مع الإظهار والإعلان بالشيء ، أما مع الإخفاء فلا معنى للرياء لعدم إطلاع أحد على العطاء غير الفقير ، وبذلك تسلم عملية الإنفاق من الشوائب غير المحبوبة.
ثالثاً : إن صدقة السر تحفظ الفقير كرامته ، ولا تجرح شعوره إذ الكثير من الناس لا يقبلون أن تهدر كرامتهم ولو كان ذلك من طريق الإحسان إليهم ، فلا يريدون أن يعرف عنهم أنهم بحاجة وعَوَز ولذلك قالت عنهم الآية الكريمة : ( يحسبهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّفِ ) (2).
كل هذه المميزات لا نجدها متوفرة في صدقة العلن لاحتمال أن يصاحبها الرياء ـ وفي الوقت نفسه ـ قد يتضايق منها الفقير فيما لو كان غير راغبٍ بأن يفهم الناس عنه بأنه محتاج وفقير ـ كما قلنا ـ.
هذا هو الفارق بين الصدقتين : صدقةِ السر ، وصدقةِ العلن.
مضافاً إلى أنه قد وردت أخبار كثيرة في فضل صدقة السر ، وأنها تحقق أهدافاً عديدةً :
منها : أنها تطفئ غضب الرب ، وتطفيء الخطيئة ، وتنفي الفقر وتزيد في العمر ، وتدفع سبعين ميتةَ سوء ، وتدفع سبعين باباً من البلاء.
وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوآله قوله : « سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ـ إلى أن قال ـ : ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله » (3).
وهذا الرجل بهذه النفسية الطيبة يخفي عطاءه حتى لا يعلم به أحد ، وهو واحد من السبعة الذين يظلهم الله يومن القيامة ، وعطاؤه يطفئ غضب الرب ـ وفي الوقت نفسه ـ محبوب لله.
هذا الرجل لماذا نال هذه الدرجات ؟
ويأتي الجواب واضحاً بأنه حصل على كل ذلك لأنه ستر أخاه المؤمن ، وحفظ له كرامته ، ولم يجرح عواطفه.
ومن الواضح أن الله يحب الساترين ، ويمنحهم الثواب ويجزل لهم العطاء.
وقد سار أئمة أهل البيت عليهمالسلام على هذا النهج ، فكانوا يخفون عطاءهم فإذا ضرب الليل باجنحته ، ولف المدينة بظلامه الدامس قاموا ليتفقدوا البؤساء ، والمحتاجين يطرقون أبواب الفقراء ليوصلوا لهم الطعام ، والكساء ، والنقود.
وسنتطرق إلى هذا الموضوع بشكل أوسع في فصل قادم.
« وقد اختلفوا في الصدقة التي يكون إخفاؤها أفضل فهل هي الصدقة الواجبة أم المستحبة ؟
فقيل : صدقة التطوع إخفاءها أفضل لأن إخفاءها يبعدها عن الرياء ، وأما المفروضة فلا يدخلها الرياء ، بل على العكس لو أخفاها الإنسان للحقته تهمة منع الحق المفروض فإظهارها أفضل من التستر بها ».
يقول الإمام أبو عبد الله الصادق عليهالسلام موضحاً هذا المعنى :
« الزكاة المفروضة تخرج علانية ، وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سراً أفضل ، وقيل الأخفاء في كل صدقة من زكاة ، وغيرها أفضل » (4).
أما إذا رجعنا إلى القرآن الكريم فإن الآية الكريمة مطلقة لا تفصل بين الصدقتين الواجبة والتطوعية بل تقول :
( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ).
ونظراً لإطلاق هذه الآية والتفصيلات في الأخبار كما عرفت فقد خرج الفقهاء بالنتيجة التالية :
وهي أن مطلق الصدقة زكاة كانت أو غيرها من الصدقات المستحبة إخفاؤها أفضل من اعلانها لما بيناه من وجود الفائدة في الإخفاء.
ولكن إذا كان الإخفاء موجباً لاتهام الإنسان بعدم إخراج الزكاة ، أو برمية بالبخل والشح ، أو كان المنفق يقصد من وراء إظهار الصدقة تشجيع الآخرين ، وتعويدهم على فعل الخير وإنعاش هؤلاء الضعفاء المحرومين ففي مثل هذه الموارد لابد من الاعلان للأسباب المذكورة ، أما إذا لم يحصل شيء من ذلك فإن الأخفاء أفضل نظراً لما يحققه من الأهداف السامية ـ كما بينا ذلك ـ.
الإيثار على النفس :
من الصفات الممدوحة التي يرغب الله أن يتحلى بها المنفق هي ما ذكرته الآية الكريمة في قوله سبحانه :( ويؤثرونَ على أنفسهِم ولو كانَ بهم خصاصةٌ ) (5).نفوس خيرة مؤمنة تتوجه إلى خالقها في كل صغيرة ، وكبيرة لتكسب رضاه ، ولتوطد العلاقة معه.
نفوس آمنت بربها فتسابقت إلى العمل بما يرضيه فقالت عنهم الآية الكريمة :( ويؤثرون على أنفسهم ).
والإيثار : هو احتساب الشيء ، وتقديمه على ما سواه في الوقت الذي تكون حالة مثل هؤلاء الأشخاص كما عبرت عنهم الآية : ( ولو كان بهم خصاصة ).
والخصاصة : هي الحاجة ، والاملاق فإذا كان الإيثار على النفس مع الحاجة الشديدة الملحة فإن ذلك غاية ما يتصور في تحلي الواحد من هؤلاء بالخلق الرفيع.
ومن هم هؤلاء الذين ذكرهم القرآن ، وأهاب بنفوسهم الرفيعة ؟
يقول المفسرون : هؤلاء قوم اكلهم الفقر ، فكانوا بأشد الحاجة إلى المال ولكنهم مع ذلك حفظوا أنفسهم ، وقدموا ما عندهم من المال إلى السائل ؛ والمسكين يبتغون بذلك رضا الله ، والتقرب إليه ، فوصفهم سبحانه بأنهم ( المفلحون ) فقال في نهاية الآية المذكورة : ( فأولئك هم المفلحون ).
وهم الفائزون بما وعدهم به من الثواب الجزيل.
وقد قيل في سبب نزول هذه الآية « أن رجلاً جاء إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : أطعمني فإني جائع ، فبعث النبي إلى أهله فلم يكم عندهم شيء فقال : من يضيفه هذا الليلة ؟ فأضافه رجل من الأنصار ، وأتى به إلى منزله ولم يكن عنده شيء إلا قوت صبية له ، فأتوا بذلك إليه ، وأطافؤا السراج ، وقامت المرأة إلى الصبية ، فعللتهم حتى ناموا ، وجعلا يمضغان لسانيهما لضيف رسول الله صلىاللهعليهوآله فظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف ، وباتا طاويين فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله فنظر إليهم ، وتبسم ، وتلا عليهم هذه الآية :
وقد عقب الشيخ الطبرسي في تفسيره على هذه الآية بقوله :
« وأما الذين رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة إن الذي أضافه وأنام الصبية وأطفأ السراج هو علي بن أبي طالب وفاطمة عليهاالسلام »(6)
لقد أضاف الإيثار المذكور ثواباً آخر إلى ثواب الإنفاق نفسه ، وبذلك حصل المنفق الذي آثر غيره عليه على ثوابين :
ثواب على عطائه وإنفاقه لوجه الله سبحانه. وثواب على إيثاره غيره على نفسه.
الذين يسخرون من المتصدقين :
كما توجد نفوس مؤمنة خيرة تتجه إلى خالقها للتقرب إليه كذلك توجد نفوس شريرة همّها النفاق ، والبعد عن ساحة الله ، ورضوانه.
وهذا القسم الثاني عندما نلاحظ أعمالهم في المجتمع نجدهم لا هم لهم إلا العبث ، والشغب ، وإيذاء المنفقين بالسخرية منهم على إنفاقهم وهؤلاء هم المنافقون الذين يعيبون على المنفقين إنفاقهم ، ويطعنون في عملهم ويؤولون ذلك على حسب ما تشتهيه نفوسهم القذرة.
في هؤلاء يقول سبحانه :
( الّذينَ يلمزونَ المُطوّعينَ من المؤمنينَ في الصَّدقاتِ والّذينَ لا يَجدونَ إلا جهدهُمْ فيسخرونَ منهم سخر اللهُ منهم ولهم عذابٌ أليم ) (7).
وفي سبيل نزول هذه الآية « قيل أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي صلىاللهعليهوآله بصرةٍ من دراهم تملأ الكف ، وأتاه عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال : يا رسول الله : عملت في النخل بصاعين فصاعٌ تركته لأهلي ، وصاع أقرضته ربي.
فقال : معتب بن قشير ، وعبد الله بن بنثل إن عبد الرحمن بن عوف رجل يحب الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك ، وإن الله غني عن الصاع من التمر ، فعابوا المكثر بالرياء ، والمقل بالاملاق (8).
إن الحقد الدفين يظهر من خلال هذا العيب فلا المكثر في الصدقة مقبول في نظرهم ، ولا المقل بل هم في دوامة من السرخية لمن تطوع بالصدقة ... لذلك رد الله سخريتهم بقوله سبحانه :( سخر الله منهم ).
وطبيعي أن سخر الله هي : أن كتب لهم نار جهنم خالدين فيها ولهم عذاب اليم.
عدم رد السائل :
هذه صفة ممدوحة من صفات المنفق وهي : قبول السائل وعدم رده.يقول الخبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام :« إن رسول الله صلىاللهعليهوآله ما منع سائلاً قط إن كان عنده أعطى وإلا قال : يأتي الله به ».
وجاء فيما ناجى الله به موسى بن عمران عليهالسلام أنه قال :« يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردٍ جميل » (9).
كل ذلك لئلا يخرج السائل كسير القلب مردوداً من قبل المعطي.
ثم من يدري فلعل عملية السؤال تكون امتحاناً من الله للمنفق ليراه الله ويكشف عما تجيش به نفسه من حبه للخير للجميع بغض النظر عن الفقير ، أو من كانت نفسه غيره طيبة ، ويتحلى بضعف بحيث يرضى لنفسه أن ينزل إلى مثل هذا المستوى الضحل من الذل والإنكسار وقد جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قوله :« ردوا السائل ببذل يسير وبِليْنٍ ورحمة فأنه يأتيكم حتى يقف على بابكم من ليس بإنس ولا جان ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله ».
وفي حديث آخر عنه صلىاللهعليهوآله ان السائل قد يصرح ويقول : « انني رسول من الله لأبلوك فوجدتك شاكراً فجزاك خيراً » (10).
مشكلة التسول :
الفقير العاجز لا الفقير المتسول الذي يتخذ من التكفف وملاحقة الناس مكسباً له فإن إعطاء مثل هذا المتحرف تشجيع على البطالة ، والاحتيال على جيوب الناس ومضايقتهم في أغلب الأوقات ومثل هذا الشخص يبغضه الله ـ وسنتعرض فيما سيأتي ـ إلى ذكر بعض الأحاديث التي صرحت بأن السائل لو لم يكن فقيراً ، ومد يده يتكفف ، فكأنما يتناول الخمر ، أو أن جزاءه النار ، أو يأتي يوم القيامة مخموش الوجه.
وقد يرد السؤال عن التوفيق بين هذه الأخبار التي يظهر منها بغض الله سبحانه للسائل ، وبين الأخبار المتقدمة التي تقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله ما منع سائلاً قط ، أو ما جاء في مناجاة لله لموسى بن عمران من قوله تعالى :
( يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو ببردٍ جميل ).
لأن الأخذ بظاهر هذه الأخبار إكرام السائل بإعطائه أو برده رداً جميلاً لو لم يكن المعطي يرغب في إعطائه ، ومعنى ذلك تشجيع السائل على التسول لأنه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد من يكرمه ولا يرد له طلباً.
والجواب عن ذلك : أن الأخبار لم تأمرنا باعطاء المال على كل حال بل خيرت المعطي بين الإعطاء والرد وحينئذٍ فإن عرف حال السائل ، وأنه متسول رد رداً جميلاً أما لو كان محتاجاً ، وفقيراً ، أكرم ، وأعطى.
على أن هذه الأخبار ، وإن أطلق فيها لفظ السائل الشامل لكليهما المتوسل المحترف والمحتاج الحقيقي إلا أن الأخبار المصرحة : بأن النار جزاء المتسول تقيد إطلاق تلك الأخبار فتكون النتيجة : عدم رد السائل الواقعي ، ورد السائل المحترف طبقاً لأخبار التقيد ، وبذلك تنحل مشكلة التسول.
التماس الدعاء من السائل :
بذلك صرحت بعض الأخبار تبين بأن دعوة السائل في حق المنفق تستجاب لذلك نرى الأئمة عليهمالسلام يحثون المنفق أن يطلبوا ممن يسألهم حاجة أو شيئاً من المال أن يدعو لهم.وبهذا الصدد نرى أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : « إذا ناولتم السائل شيئاً فاسألوه أن يدعو لكم ».
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام أن علي بن الحسين عليهالسلام قال :« ما من رجل تصدق على مسكين مستضعف ، فدعا له المسكين بشيء تلك الساعة إلا استجيب له ».
ويقول الإمام زين العابدين عليهالسلام في حديث له : « دعوة السائل الفقير لا ترد » (11).
وقد تكرر هذا الارشاد منهم ( صلوات الله عليهم ) في حق المعطين ، وان يطلبوا من السائل الدعاء لأنهم يستجاب في حقهم حيث نبه على هذا المعنى الإمام زين العابدين عليهالسلام في حديث آخر له فقال : « إذا اعطيتموهم فلقنوهم الدعاء فإنه يستجاب بهم فيكم ولا يستجاب لهم في أنفسهم » (12).
عدم الرجوع في الصدقة :
ومن أدب العطاء أن لا يرد المعطي الصدقة إذا أخرجها ليعطيها إلى الفقير فليس من المستحسن أن يردها من غير فرق في السبب بين أن يكون السائل قد رفضها ، أو لم يجد سائلاً ، أو ما شاكل ذلك من الأسباب.يقول الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام :« من تصدق بصدقة فردت عليه ، فلا يجوز له أكلها ولا يجوز له إلا انفاقها إنما منزلتها بمنزلة العتق لله ، فلو أن رجلاً أعتق عبداً لله ، فرد ذلك العبد لم يرجع في الأمر الذي جعله لله فكذلك لا يرجع في الصدقة ».
وعن الإمام الصادق عليهالسلام عندما سئل عن رجل يخرج بالصدقة ليعطيها السائل فيجده قد ذهب فقال :« فليعطها غيره ، ولا يردها في ماله » (13).
إن الأمر بعدم ارجاع الصدقة يجسد لنا الحرص الشديد على أن يبقى الثواب الذي حصل عليه المعطي مجرداً له فلا يفوت ما حصل عليه بإرجاع الصدقة ، بل يبقيها لينال ثوابه.
المصادر :
1- سورة البقرة / آية : ٢٧١.
2- سورة البقرة / آية : ٢٧٣.
3- وسائل الشيعة ـ ٦ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.
4- لاحظ مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.
5- سورة الحشر / آية : ٩.
6- مجمع البيان : الموضع السابق.
7- سورة التوبة : آية / ٧٩.
8- مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.
9- مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.
10- وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٢.
11- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٩٤ ـ وما بعد.
12- وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٦ / ٢٩٤ / ٢٩٥.
13- وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٦ / ٢٩٤ / ٢٩٥.