إنّ الإمامة في الحضارة الإسلاميّة هي ولاية أُمور المسلمين المرتبطة بدينهم وبدنياهم . والإمام هو الوالي المدبّر لتلك الأُمور حسب المصالح المتوفّرة في زمنه ، وبالأدوات والأساليب الممكنة له كمّاً وكيفاً.
ولا بُدّ أن يتّصف الإمامُ بالأهليّة التامّة لمثل تلك الولاية التي يرتبط بها مصيرُ الأُمّة كلّها ، والإسلام نفسه ، كما إنّ إرادته هي التي تحدد مسير الدولة ودوائرها وسياستها.
ومن أجل خُطورة المنصب وعظمة ما يترتّب عليه ويرتبط به من أُمور مصيريّة فإنّ العلم بتوفّر تلك الأهليّة التي تكوّنها مقوّمات خلقيّة ونفسية وقابليّات ، ونيّات وأهداف ، لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من خلال المعرفة التامة ، والتداخل الوثيق في الماضي والحاضر وحتّى المستقبل المستور ، وذلك ليسَ متصوّراً حصوله إلاّ لله العالم بكلِّ الأُمور.
ومن هُنا فإنّ عنصر «النَّص» والتعيين الإلهيّ من خلاله لشخص الإمام المالك لأهليّة الإمامة شرط أساسيّ وضروريّ لإثبات الإمامة لأَي إمام.
والفضل وأدواته من الشرف والتقى ومكارم الأخلاق فلا بُدّ أن يكون الإمام مقدَّماً على أُمّته فيها حتّى يكون «القدوة» لهم.
والقيادة ، بأن يكون بمستوى رفيع من الحكمة والتدبير ، والجرأة في الإقدام على الصالح للدين وللمسلمين ، والمتكفّل لعزته ودوامه.
وفي الفترة من سنة 50 إلى سنة 60 انحصرت هذه الخلال ، واجتمعت في شخص الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) بالإجماع وبلا منازع.
أمّا النصّ :
فقد روى أهل الإسلام كافّة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في الحسن والحسين صلوات الله عليهما : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» الحديث الذي أجمع عليه أهل القبلة ، وتلقّته الأُمّة بالقبول ، وبلغ حدّ التواتر (1).
مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على إمامة الحسين بعد أخيه الحسن ، وما دلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر ، أوّلهم عليّ أمير المؤمنين ، والآخرون من ذرّيّته. ممّا طفحت به كتب الإمامة.
وأمّا العلم :
فمن أوْلى باستيعابه من الحسين (عليه السّلام) الذي تربّى في حجر الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو مدينة العلم ، ونشأ ونما في مدرسة الزهراء البتول ، ولازم عليّاً (عليه السّلام) أباه باب مدينة العلم ، وصحب أخاه الحسن (عليه السّلام) الإمام بإجماع أُولي العلم؟! فلا بُدّ أنّه قد امتلأ من علم الدين من هذه العيون الضافية.
وقد أجمع أهل الولاء على تقدّمه على مَنْ عاصره في ذلك ، والتزموا بإمامته لذلك ، أمّا الآخرون فقد اضطرّهم هذا الواقع إلى الاعتراف :
فهذا ابن عمر لمّا يُحاسب على تصّرفه ، ويقاس عمله إلى عمل الحسنين (عليهما السّلام) المتّزن والملي بالحكمة ـ مع أنّهما أصغر سنّاً منه ـ أجاب ابن عمر بقوله :
ابنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، إنّهما كانا يُغَرّان بالعلم غَرَّاً ـ أي يُزَقّانِه كما يَزُقّ الطائر فرخه وهذا يُعطي أنّهما كانا منذ الصِغَر يَبُثُّ فيهما الجَدُّ والأبُ والأُمُّ العلمَ ، فَهَلْ يكون أحدٌ أعلمَ منهما في عصرهما؟!
وروى عكرمة حديثاً فيه الاعتراف بعلم الحسين عليه السّلام ، إليك نصّه بطوله :
روى عكرمة : بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق ، فقال له : يابن عبّاس ، تفتي الناسَ في النملة والقَمْلة! صِفْ لي إلهك الذي تعبد!
فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لقوله ، وكان الحسينُ بن عليّ جالساً ناحيةً ، فقال : «إليّ يابن الأزرق»!
قال [ابن الأزرق] : لستُ إياك أسأل!
قال ابن عبّاس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم.
فأقبل نافع نحو الحسين (عليه السّلام) ، فقال له الحسين : «يا نافع ، إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس ، سائلاً ناكباً عن المنهاج ، طاعناً بالاعوجاج ، ضالاً عن السبيل ، قائلاً غير الجميل.
يابن الأزرق ، أصِفُ إلهي بما وصف به نَفْسَه ، وأُعرّفه بما عرّف به نفسه ، لا يُدرَك بالحواس ، ولا يُقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، وبعيد غير منتقص ، يُوحَّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إلهَ إلاّ هو الكبير المتعال».
فبكى ابنُ الأزرق ، وقال : يا حسين ، ما أحسنَ كلامك!
قال له الحسين (عليه السّلام) : «بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر ، وعليَّ؟!».
قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك ، لقد كنتم منارَ الإسلام ، ونجومَ الأحكام ... (2).
فشهادة ابن عبّاس الحقّة بأنّ الحسين (عليه السّلام) «من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم» ليست الأُولى منه ، لكن رواية عكرمة ـ وهو من الخوارج ـ لها دليل على خضوع الأعداء لعلم أهل البيت (عليهم السّلام).
أمّا إعراض ابن الأزرق عن مسائلة الحسين (عليه السّلام) وتوجّهه إلى ابن عبّاس ، فهذا يكشف جانباً من مظلوميّة أهل البيت ، وصَدّ الناس عن معادن العلم وورثته وخزنته!
أمّا الحسين (عليه السّلام) فهو لا يترك الأمر سُدىً ، بينما السؤال على رؤوس الأشهاد عن أعظم قضيّة جاء من أجلها الإسلام ، وهيَ «التوحيد» فهو ينبري للجواب.
أمّا ابن الأزرق ، فحيث يجد الحقّ من معدنه لا يملك إلاّ الإقرار والخضوع والقبول.
ولمّا يستغل الإمام الحسين (عليه السّلام) الموقف ليحرق جذور العدوان ، ويقطع أوداجَ الظلم ، ويبدّد نتائج المهاترات السياسية طيلة الأعوام السوداء ممّا تكدّس في عقول علماء الأُمّة ـ مثل ابن الأزرق ـ وصار فكرة ورأياً وقولاً ، على فظاعته ، وشناعته وسوئه ، وهو تكفيره أهل البيت (عليهم السّلام) بدلاً من تقديسهم! ولمّا يُبهتُ الحسينُ ابنَ الأزرق ، ويواجهه بهذا الكلام الثقيل ، لا يملك ابن الأزرق إلاّ الاعتراف والتراجع عن أشدّ المواقف للخوارج التزاماً وتصلباً واعتقاداً.
ويصرّح ابن الأزرق معترفاً بأنّ أهل البيت «منار الإسلام ونجوم الأحكام».
وابن هند :
ذلك العدو اللدود لمحمّد وآل محمّد ، ولما جاؤوا به من معالم دين الإسلام ومكارم الأخلاق ، والذي استنفد كلّ سهام مكره ودهائه في قمع هذا الدين واجتثاث أُصوله وفروعه ، وقتل ذويه وأنصاره ، وإطفاء أنواره ، وتهديم مناره ، وتحريف شرائعه وإبطال أحكامه.
هذا المنافق الحسود الحقود لم يجدْ بُدّاً من الاعتراف بعلم الحُسين (عليه السّلام) والإشادة بمنزلته.
فقد أخذ الحسين (عليه السّلام) العلوم في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، حيث فتح عينه ، وتعلّم ألف باء الحياة والإسلام معاً ، ومعلّمه الأمين هو جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
واليوم ، حين آلتْ إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) مهمّة تعليم الأُمّة وإرشادها ، اتّخذ نفس المسجد مدرسةً.
وابن هند ـ ذلك الضلّيل ـ الذي لم يهدأ لحظةً يجدّ في تحريف مسيرة الإسلام ، ويطمس تعاليمه السامية لا يمكنه أن يتغافل عن وجود تلك المدرسة ، لأنّه باسمها يتسنّم العرش ، ولا يمكنه أن يغضّ الطرف عن وجود معلّم مثل أبي عبد الله الحسين الذي هو الامتداد الحقيقيّ لجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) مؤسّس المدرسة ، فقال معاوية لرجل من قريش :
إذا دخلتَ مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فرأيت حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله ، مؤتزراً على أنصاف ساقيه ، ليس فيها من الهُزّيلى شيء.
والهُزّيلى فعلُ المشعوذ الذي يسحر أعين الناس ، لكن ليس في مجلس درس الحسين (عليه السّلام) إلاّ حقائق المعرفة ، وعيون الحكمة ، والعلم الموروث ، ومعارف الكتاب ، وأحكام السُنّة.
وأمّا الفضل :
فلا يرتاب مسلم بأنّ «آل محمّد» أشرف بني هاشم ، وأنّ بني هاشم أشرف قريش ، وأنّ قريشاً أشرف العرب ، وآل محمّد (عليهم السّلام) أعرق بني هاشم نسباً ، وأطهرهم رحماً ، وأكرمهم حَسَباً ، وأوفاهم ذِمَماً ، وأحمدهم فعلاً ، وأنزههم ثوباً ، وأتقاهم عملاً ، وأرفعهم همماً.
وقد أقرّ لهم العدوّ والصديق بالشرف والفضل والكرم والمجد (3).
فهذا عمرو بن العاص ـ الداهية النكراء الذي حارب آل محمّد (عليهم السّلام) جهاراً عن علم وعمد ، وبكلّ صلافة وحقد ، زاعماً أنّه يستغلّ الظروف المؤاتية لصالح دُنياه القصيرة ـ يعلن عن بعض الحقيقة عندما يستظلّ بالكعبة التي كان يعبد أصنامها من قبل ، فجاء جدّ الحسين (عليه السّلام) ليشرّفه وقومه بعبادة الله ، ويطهرّ الكعبة من رجس الأصنام والأزلام.
وبالرغم من أنّ ابن النابغة نبغ في محاربة كلّ القيم التي جاء بها الإسلام ، وعارض كلّ الذين وقفوا مدافعين عن تلك القيم ، وكانت لهم فضيلة التشرّف بها ، وجدّ بكلّ دهاء ومكر وحيلة يملكها ، فنفث في الأُمّة روح الجاهليّة ليعيد مجدها ، ونابذ عليّاً والحسن والحسين (عليهم السّلام) بكلّ الطرق ، ووقف في وجه العدالة سنين طوالاً.
لكنّه اليوم ، يجد الكعبة وبناءَها الرفيع الشامخ تَزْخَرُ بالعظمة الإسلاميّة ، طاهرة من أوثان الجاهليّة وأرجاسها ، فلا يجد بُدّاً من الاعتراف ، وبينما هو كذلك إذ رأى الحسين (عليه السّلام) ابن ذلك الرسول ، فلم يملك أيضاً إلاّ الإعتراف ، فقال :
هذا أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء اليومَ!
ومعاوية ، أخوه الضلّيل ، يخنع لهذه الحقيقة يوم دخل الحسن والحسين (عليهما السّلام) عليه ، فأمر لهما بمئتي ألف درهم ، وقال متبجّحاً : خذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحدٌ بعدي!
وكأنَّ معاوية استغلّ سياسة الإمام الحسن (عليه السّلام) المبتنية على عدم مجابهته بالأجوبة حتّى وُصف بأنّه كان «سكّيتاً» ولكنّ الحسين (عليه السّلام) وهو يسير على خطّ إمامه الحسن (عليه السّلام) ولا يخرج عن طوع إرادته ـ يعطي الموقف حقّه ، ويدمغ معاوية بالحقيقة الصارخة ، ويقول :
«والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ، ولا أحدٌ بعدك لرجلين أشرفَ ولا أفضلَ منّا» (4).
فأُفْحِمَ معاوية ولم يَحْرِ جواباً.
وأمّا الآخرون :
فالمؤمنون يتشرّفون بآل محمّد ، كابن عبّاس حبر الأُمّة ، وتلميذ أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فهو قرين الحسنين (عليهما السّلام) في التربية في هذا البيت الطاهر ، بيت الرسالة والإمامة ، رفيع العماد ، وبالرغم من تقدّمه في السنّ على الحسنين (عليهما السّلام) فهو لمعرفته بفضلهما وجلالتهما ، وشرفهما على قومهما لا يقصّر في إظهار ما يعرف ، وإبراز ما يجب القيام به تجاههما من الحرمة والكرامة فيما قال الراوي :
رأيتُ ابن عبّاس آخذاً بركاب الحسن والحسين
فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنتَ أسَنُّ منهما؟!
فقال : إنّ هذين ابنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أوَليس من سعادتي أن آخذ بركابيهما (5)؟!
بلى ، إنّها من نعم الله الكبرى ، ومن السعادة العظمى أن يتشرّف الإنسان بخدمة أشرف الخلق وأفضلهم ، وخاصة في تلك الظروف السياسية الحرجة وأنْ يُقدّم بذلك خدمة للأُمّة فيعرّفها بفضل أهل البيت (عليهم السّلام).
وحتّى أبو هريرة
الذي التقى بالنبي في أواخر سنيِّ حياته (صلّى الله عليه وآله) «فأسلم في السنة السابعة للهجرة» ملازماً الصُفّة الشريفة بباب المسجد على شبع بطنه فلا بدّ أنّه كان يرى الحسين (عليه السّلام) يروح ويغدو بين بيت أُمّه الزهراء وجدّه الرسول ، ويصحب جدّه في رواحه إلى المحراب ، وعلى ظهر المنبر ، وغدوّه منهما.
هذا الذي ادّعى ملازمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) أكثر من أصحابه الّذين شغلهم الصفقُ بالأسواق ، وانفضّوا إلى التجارات ، فكان لذلك أكثرهم حديثاً ـ بزعمه ـ على الإطلاق ، حتّى اتّخذ لنفسه موقعاً رفيعاً في نفوس مَن صدّقه من الناس ، على الرغم ممّن كذّبه من كبار الصحابة وزوجات النبي ، كعليّ (عليه السّلام) ، وعمر ، وعائشة (6).
فهو إذن ـ حسب زعمه ـ يعلم من الحسين (عليه السّلام) وفضائله أكثر ممّا يعرفه غيره ، لكنّه يبيت من أمر إعلانها وروايتها على خَطَرين :
فكيف يظهرها في دولة بني أُميّة وهو يرتع في مراعيهم ، ويطمع في برّهم ويقصع من مضيرتهم؟
وكيف يتغافل عنها وله دعاوٍ طويلة عريضة في سماع الحديث الكثير عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والاتّصال به باستمرار؟!
وإذا اضطرّ إلى إبراز شيء فهو يعتمد على الإجمال.
اقرأ معي هذه الصورة من مواقف أبي هريرة :
أعْيَا الحسينُ فقعدَ في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفُضُ الترابَ عَن قدميه بطرف ثوبه.
فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا أبا هريرة ، وأنتَ تفْعَل هذا!».
قال أبو هريرة : دعني ، فوالله لو يعلم الناسُ منك ما أعلم ، لحملوك على رقابهم (7).
لكن لماذا قصّر أبو هريرة في تعليم الناس بعض ما يعلم عن الحسين (عليه السّلام)؟!
فلو كان يعلمهم لم يكن الجهلُ يؤدّي بالناس إلى أن يحملوا رأس الحسين على رؤوس الرماح! ولا أن يطؤوا جسده بخيولهم قبل أن يحملوه على رقابهم؟! أليسَ هذا غَدْراً بأُمّة الإسلام ، وإماتة للسُنّة التي كان أبوهريرة ينوء بدعوى حملها؟!
المصادر :
1- الشيخ المفيد في النكت في مقدمات الأُصول. الفقرة (82).
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 130.
3- لاحظ مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 125.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 115.
5- مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور 7 / 128.
6- تدوين السُنّة الشريفة ص 7 ـ 488 والمحدّث الفاصل ص 4 ـ 555.
7- مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور 7 / 128.
ولا بُدّ أن يتّصف الإمامُ بالأهليّة التامّة لمثل تلك الولاية التي يرتبط بها مصيرُ الأُمّة كلّها ، والإسلام نفسه ، كما إنّ إرادته هي التي تحدد مسير الدولة ودوائرها وسياستها.
ومن أجل خُطورة المنصب وعظمة ما يترتّب عليه ويرتبط به من أُمور مصيريّة فإنّ العلم بتوفّر تلك الأهليّة التي تكوّنها مقوّمات خلقيّة ونفسية وقابليّات ، ونيّات وأهداف ، لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من خلال المعرفة التامة ، والتداخل الوثيق في الماضي والحاضر وحتّى المستقبل المستور ، وذلك ليسَ متصوّراً حصوله إلاّ لله العالم بكلِّ الأُمور.
ومن هُنا فإنّ عنصر «النَّص» والتعيين الإلهيّ من خلاله لشخص الإمام المالك لأهليّة الإمامة شرط أساسيّ وضروريّ لإثبات الإمامة لأَي إمام.
ثمّ المواصفات الأُخرى :
فالعلم بالدين بجميع معارفه وشؤونه ، وبشكل كامل وتامّ من أبده الأُمور اللازم وجودها في الإمام الذي يتولّى أمر الدولة الإسلاميّة ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالاتّصال الوثيق بمصادر المعرفة الإسلاميّة الثرّة الغنية ، والبعيدة عن الشوب والتحريف ، ليكون الإمام أعلم الناس ، ومرجعاً لهم في أُمور الدين ومعارفه.والفضل وأدواته من الشرف والتقى ومكارم الأخلاق فلا بُدّ أن يكون الإمام مقدَّماً على أُمّته فيها حتّى يكون «القدوة» لهم.
والقيادة ، بأن يكون بمستوى رفيع من الحكمة والتدبير ، والجرأة في الإقدام على الصالح للدين وللمسلمين ، والمتكفّل لعزته ودوامه.
وفي الفترة من سنة 50 إلى سنة 60 انحصرت هذه الخلال ، واجتمعت في شخص الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) بالإجماع وبلا منازع.
أمّا النصّ :
فقد روى أهل الإسلام كافّة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في الحسن والحسين صلوات الله عليهما : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» الحديث الذي أجمع عليه أهل القبلة ، وتلقّته الأُمّة بالقبول ، وبلغ حدّ التواتر (1).
مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على إمامة الحسين بعد أخيه الحسن ، وما دلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر ، أوّلهم عليّ أمير المؤمنين ، والآخرون من ذرّيّته. ممّا طفحت به كتب الإمامة.
وأمّا العلم :
فمن أوْلى باستيعابه من الحسين (عليه السّلام) الذي تربّى في حجر الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو مدينة العلم ، ونشأ ونما في مدرسة الزهراء البتول ، ولازم عليّاً (عليه السّلام) أباه باب مدينة العلم ، وصحب أخاه الحسن (عليه السّلام) الإمام بإجماع أُولي العلم؟! فلا بُدّ أنّه قد امتلأ من علم الدين من هذه العيون الضافية.
وقد أجمع أهل الولاء على تقدّمه على مَنْ عاصره في ذلك ، والتزموا بإمامته لذلك ، أمّا الآخرون فقد اضطرّهم هذا الواقع إلى الاعتراف :
فهذا ابن عمر لمّا يُحاسب على تصّرفه ، ويقاس عمله إلى عمل الحسنين (عليهما السّلام) المتّزن والملي بالحكمة ـ مع أنّهما أصغر سنّاً منه ـ أجاب ابن عمر بقوله :
ابنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، إنّهما كانا يُغَرّان بالعلم غَرَّاً ـ أي يُزَقّانِه كما يَزُقّ الطائر فرخه وهذا يُعطي أنّهما كانا منذ الصِغَر يَبُثُّ فيهما الجَدُّ والأبُ والأُمُّ العلمَ ، فَهَلْ يكون أحدٌ أعلمَ منهما في عصرهما؟!
وروى عكرمة حديثاً فيه الاعتراف بعلم الحسين عليه السّلام ، إليك نصّه بطوله :
روى عكرمة : بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق ، فقال له : يابن عبّاس ، تفتي الناسَ في النملة والقَمْلة! صِفْ لي إلهك الذي تعبد!
فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لقوله ، وكان الحسينُ بن عليّ جالساً ناحيةً ، فقال : «إليّ يابن الأزرق»!
قال [ابن الأزرق] : لستُ إياك أسأل!
قال ابن عبّاس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم.
فأقبل نافع نحو الحسين (عليه السّلام) ، فقال له الحسين : «يا نافع ، إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس ، سائلاً ناكباً عن المنهاج ، طاعناً بالاعوجاج ، ضالاً عن السبيل ، قائلاً غير الجميل.
يابن الأزرق ، أصِفُ إلهي بما وصف به نَفْسَه ، وأُعرّفه بما عرّف به نفسه ، لا يُدرَك بالحواس ، ولا يُقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، وبعيد غير منتقص ، يُوحَّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إلهَ إلاّ هو الكبير المتعال».
فبكى ابنُ الأزرق ، وقال : يا حسين ، ما أحسنَ كلامك!
قال له الحسين (عليه السّلام) : «بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر ، وعليَّ؟!».
قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك ، لقد كنتم منارَ الإسلام ، ونجومَ الأحكام ... (2).
فشهادة ابن عبّاس الحقّة بأنّ الحسين (عليه السّلام) «من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم» ليست الأُولى منه ، لكن رواية عكرمة ـ وهو من الخوارج ـ لها دليل على خضوع الأعداء لعلم أهل البيت (عليهم السّلام).
أمّا إعراض ابن الأزرق عن مسائلة الحسين (عليه السّلام) وتوجّهه إلى ابن عبّاس ، فهذا يكشف جانباً من مظلوميّة أهل البيت ، وصَدّ الناس عن معادن العلم وورثته وخزنته!
أمّا الحسين (عليه السّلام) فهو لا يترك الأمر سُدىً ، بينما السؤال على رؤوس الأشهاد عن أعظم قضيّة جاء من أجلها الإسلام ، وهيَ «التوحيد» فهو ينبري للجواب.
أمّا ابن الأزرق ، فحيث يجد الحقّ من معدنه لا يملك إلاّ الإقرار والخضوع والقبول.
ولمّا يستغل الإمام الحسين (عليه السّلام) الموقف ليحرق جذور العدوان ، ويقطع أوداجَ الظلم ، ويبدّد نتائج المهاترات السياسية طيلة الأعوام السوداء ممّا تكدّس في عقول علماء الأُمّة ـ مثل ابن الأزرق ـ وصار فكرة ورأياً وقولاً ، على فظاعته ، وشناعته وسوئه ، وهو تكفيره أهل البيت (عليهم السّلام) بدلاً من تقديسهم! ولمّا يُبهتُ الحسينُ ابنَ الأزرق ، ويواجهه بهذا الكلام الثقيل ، لا يملك ابن الأزرق إلاّ الاعتراف والتراجع عن أشدّ المواقف للخوارج التزاماً وتصلباً واعتقاداً.
ويصرّح ابن الأزرق معترفاً بأنّ أهل البيت «منار الإسلام ونجوم الأحكام».
وابن هند :
ذلك العدو اللدود لمحمّد وآل محمّد ، ولما جاؤوا به من معالم دين الإسلام ومكارم الأخلاق ، والذي استنفد كلّ سهام مكره ودهائه في قمع هذا الدين واجتثاث أُصوله وفروعه ، وقتل ذويه وأنصاره ، وإطفاء أنواره ، وتهديم مناره ، وتحريف شرائعه وإبطال أحكامه.
هذا المنافق الحسود الحقود لم يجدْ بُدّاً من الاعتراف بعلم الحُسين (عليه السّلام) والإشادة بمنزلته.
فقد أخذ الحسين (عليه السّلام) العلوم في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، حيث فتح عينه ، وتعلّم ألف باء الحياة والإسلام معاً ، ومعلّمه الأمين هو جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
واليوم ، حين آلتْ إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) مهمّة تعليم الأُمّة وإرشادها ، اتّخذ نفس المسجد مدرسةً.
وابن هند ـ ذلك الضلّيل ـ الذي لم يهدأ لحظةً يجدّ في تحريف مسيرة الإسلام ، ويطمس تعاليمه السامية لا يمكنه أن يتغافل عن وجود تلك المدرسة ، لأنّه باسمها يتسنّم العرش ، ولا يمكنه أن يغضّ الطرف عن وجود معلّم مثل أبي عبد الله الحسين الذي هو الامتداد الحقيقيّ لجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) مؤسّس المدرسة ، فقال معاوية لرجل من قريش :
إذا دخلتَ مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فرأيت حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله ، مؤتزراً على أنصاف ساقيه ، ليس فيها من الهُزّيلى شيء.
والهُزّيلى فعلُ المشعوذ الذي يسحر أعين الناس ، لكن ليس في مجلس درس الحسين (عليه السّلام) إلاّ حقائق المعرفة ، وعيون الحكمة ، والعلم الموروث ، ومعارف الكتاب ، وأحكام السُنّة.
وأمّا الفضل :
فلا يرتاب مسلم بأنّ «آل محمّد» أشرف بني هاشم ، وأنّ بني هاشم أشرف قريش ، وأنّ قريشاً أشرف العرب ، وآل محمّد (عليهم السّلام) أعرق بني هاشم نسباً ، وأطهرهم رحماً ، وأكرمهم حَسَباً ، وأوفاهم ذِمَماً ، وأحمدهم فعلاً ، وأنزههم ثوباً ، وأتقاهم عملاً ، وأرفعهم همماً.
وقد أقرّ لهم العدوّ والصديق بالشرف والفضل والكرم والمجد (3).
فهذا عمرو بن العاص ـ الداهية النكراء الذي حارب آل محمّد (عليهم السّلام) جهاراً عن علم وعمد ، وبكلّ صلافة وحقد ، زاعماً أنّه يستغلّ الظروف المؤاتية لصالح دُنياه القصيرة ـ يعلن عن بعض الحقيقة عندما يستظلّ بالكعبة التي كان يعبد أصنامها من قبل ، فجاء جدّ الحسين (عليه السّلام) ليشرّفه وقومه بعبادة الله ، ويطهرّ الكعبة من رجس الأصنام والأزلام.
وبالرغم من أنّ ابن النابغة نبغ في محاربة كلّ القيم التي جاء بها الإسلام ، وعارض كلّ الذين وقفوا مدافعين عن تلك القيم ، وكانت لهم فضيلة التشرّف بها ، وجدّ بكلّ دهاء ومكر وحيلة يملكها ، فنفث في الأُمّة روح الجاهليّة ليعيد مجدها ، ونابذ عليّاً والحسن والحسين (عليهم السّلام) بكلّ الطرق ، ووقف في وجه العدالة سنين طوالاً.
لكنّه اليوم ، يجد الكعبة وبناءَها الرفيع الشامخ تَزْخَرُ بالعظمة الإسلاميّة ، طاهرة من أوثان الجاهليّة وأرجاسها ، فلا يجد بُدّاً من الاعتراف ، وبينما هو كذلك إذ رأى الحسين (عليه السّلام) ابن ذلك الرسول ، فلم يملك أيضاً إلاّ الإعتراف ، فقال :
هذا أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء اليومَ!
ومعاوية ، أخوه الضلّيل ، يخنع لهذه الحقيقة يوم دخل الحسن والحسين (عليهما السّلام) عليه ، فأمر لهما بمئتي ألف درهم ، وقال متبجّحاً : خذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحدٌ بعدي!
وكأنَّ معاوية استغلّ سياسة الإمام الحسن (عليه السّلام) المبتنية على عدم مجابهته بالأجوبة حتّى وُصف بأنّه كان «سكّيتاً» ولكنّ الحسين (عليه السّلام) وهو يسير على خطّ إمامه الحسن (عليه السّلام) ولا يخرج عن طوع إرادته ـ يعطي الموقف حقّه ، ويدمغ معاوية بالحقيقة الصارخة ، ويقول :
«والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ، ولا أحدٌ بعدك لرجلين أشرفَ ولا أفضلَ منّا» (4).
فأُفْحِمَ معاوية ولم يَحْرِ جواباً.
وأمّا الآخرون :
فالمؤمنون يتشرّفون بآل محمّد ، كابن عبّاس حبر الأُمّة ، وتلميذ أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فهو قرين الحسنين (عليهما السّلام) في التربية في هذا البيت الطاهر ، بيت الرسالة والإمامة ، رفيع العماد ، وبالرغم من تقدّمه في السنّ على الحسنين (عليهما السّلام) فهو لمعرفته بفضلهما وجلالتهما ، وشرفهما على قومهما لا يقصّر في إظهار ما يعرف ، وإبراز ما يجب القيام به تجاههما من الحرمة والكرامة فيما قال الراوي :
رأيتُ ابن عبّاس آخذاً بركاب الحسن والحسين
فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنتَ أسَنُّ منهما؟!
فقال : إنّ هذين ابنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أوَليس من سعادتي أن آخذ بركابيهما (5)؟!
بلى ، إنّها من نعم الله الكبرى ، ومن السعادة العظمى أن يتشرّف الإنسان بخدمة أشرف الخلق وأفضلهم ، وخاصة في تلك الظروف السياسية الحرجة وأنْ يُقدّم بذلك خدمة للأُمّة فيعرّفها بفضل أهل البيت (عليهم السّلام).
وحتّى أبو هريرة
الذي التقى بالنبي في أواخر سنيِّ حياته (صلّى الله عليه وآله) «فأسلم في السنة السابعة للهجرة» ملازماً الصُفّة الشريفة بباب المسجد على شبع بطنه فلا بدّ أنّه كان يرى الحسين (عليه السّلام) يروح ويغدو بين بيت أُمّه الزهراء وجدّه الرسول ، ويصحب جدّه في رواحه إلى المحراب ، وعلى ظهر المنبر ، وغدوّه منهما.
هذا الذي ادّعى ملازمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) أكثر من أصحابه الّذين شغلهم الصفقُ بالأسواق ، وانفضّوا إلى التجارات ، فكان لذلك أكثرهم حديثاً ـ بزعمه ـ على الإطلاق ، حتّى اتّخذ لنفسه موقعاً رفيعاً في نفوس مَن صدّقه من الناس ، على الرغم ممّن كذّبه من كبار الصحابة وزوجات النبي ، كعليّ (عليه السّلام) ، وعمر ، وعائشة (6).
فهو إذن ـ حسب زعمه ـ يعلم من الحسين (عليه السّلام) وفضائله أكثر ممّا يعرفه غيره ، لكنّه يبيت من أمر إعلانها وروايتها على خَطَرين :
فكيف يظهرها في دولة بني أُميّة وهو يرتع في مراعيهم ، ويطمع في برّهم ويقصع من مضيرتهم؟
وكيف يتغافل عنها وله دعاوٍ طويلة عريضة في سماع الحديث الكثير عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والاتّصال به باستمرار؟!
وإذا اضطرّ إلى إبراز شيء فهو يعتمد على الإجمال.
اقرأ معي هذه الصورة من مواقف أبي هريرة :
أعْيَا الحسينُ فقعدَ في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفُضُ الترابَ عَن قدميه بطرف ثوبه.
فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا أبا هريرة ، وأنتَ تفْعَل هذا!».
قال أبو هريرة : دعني ، فوالله لو يعلم الناسُ منك ما أعلم ، لحملوك على رقابهم (7).
لكن لماذا قصّر أبو هريرة في تعليم الناس بعض ما يعلم عن الحسين (عليه السّلام)؟!
فلو كان يعلمهم لم يكن الجهلُ يؤدّي بالناس إلى أن يحملوا رأس الحسين على رؤوس الرماح! ولا أن يطؤوا جسده بخيولهم قبل أن يحملوه على رقابهم؟! أليسَ هذا غَدْراً بأُمّة الإسلام ، وإماتة للسُنّة التي كان أبوهريرة ينوء بدعوى حملها؟!
المصادر :
1- الشيخ المفيد في النكت في مقدمات الأُصول. الفقرة (82).
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 130.
3- لاحظ مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 125.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 115.
5- مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور 7 / 128.
6- تدوين السُنّة الشريفة ص 7 ـ 488 والمحدّث الفاصل ص 4 ـ 555.
7- مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور 7 / 128.