ما زال المسيحيون أو بالاحری البناءون في مثل هذا الاضطهاد حتى أيام قسطنطين الأكبر، الذي أمر باتباع هذه الديانة في كل مملكته على الأسلوب الذي رتَّبه مجمع نيقيا سنة ٣٢٥، فعاد البناءون إلى بلادهم، وانتشرت تعاليمهم في سائر العالم، ولا سيما في رومية، حيث أقاموا الكنائس العظيمة بأمر قسطنطين المذكور، وأول كنيسة أُقِيمت سنة ٣٢٣ كانت في لاتران.
ثم بنوا كثيرًا غيرها على بقايا الهياكل الوثنية القديمة، من جملتها كنيسة القديس بولس التي أقيمت في الفاتيكان على شكل الصليب.
وفي سنة ٣٣٠ جعل قسطنطين الأكبر بيزانس سريرًا لملكه ودعاها القسطنطينية نسبةً إليه، وجمع إليها البنَّائين ليقيموا معاقلها وحصونها ومعابدها، وأول كنيسة أقيمت فيها كنيسة القديسة صوفيا الشهيرة، ابتدأ في بنائها سنة ٣٢٦.
ثم بنى كثيرًا غيرها، وجعل في القسطنطينية مدرسة للبنَّائين يعلم فيها البناء على النمط الروماني ممزوجًا بالنمط العربي، فتولَّد منهما النمط القسطنطيني، وما زال هذا متَّبَعًا إلى الجيل الثامن.
وشُغِف قسطنطين بعاصمته الجديدة، فنقل إليها جميع ثروات رومية وأثينا ورودس وشيوس وقبرص وسيسيليا، فازدهت وعظمت وطار صيتها.
أما الماسونيون الذين هاجروا إلى سوريا وفلسطين أيام الاضطهاد، فلبثوا فيهما إلى أيام قسطنطين، ولما تولَّى هذا — وكان من انتصاره للديانة المسيحية ما كان — استخدمهم في بناء الكنائس في تلك الأنحاء، وأول ما أقيم منها كان في أورشليم وبيت لحم، ثم أمر ببناء القبر المقدَّس في أورشليم وكنائس أخرى في أنطاكية وغيرها.
وانتشرت جمعيات الإخوة البنَّائين إذ ذاك في الشرق، فملأت سوريا وفلسطين، وبلغت شبه جزيرة العرب إلى ما وراء أملاك الدولة الرومانية.
وكانت هذه الجمعيات تعظم في القسطنطينية أيضًا، حتى لم تأتِ سنة ٣٤٠ إلا وفي تلك العاصمة ٢٣ كنيسة من صنعها.
وفي سنة ٤١٠ لم ينفك السكسونيون والبيكت عن سلب راحة الرومانيين في بريطانيا، فهدموا أسوارهم وحصونهم، وما زالوا حتى قهروهم سنة ٤١١، وقال آخرون سنة ٤٢٦، فاضطر الإخوة البنَّاءون — وكانوا عددًا يسيرًا من الوطنيين — أن يلتجئوا إلى غاليا واسكوتلاندا، ولكنهم لم ينفكوا حيث أقاموا عن بث مبادئهم ونَشْر الديانة المسيحية، مع المحافظة على طقوس محافلهم المؤسسة قديمًا.
ثم إن غزوات الشعوب المدعوين بربرًا ما زالت تتوالى على المملكة الرومانية حتى سنة ٤٧٦، إذ جاءوا على تدميرها وإحراق معابدها، فأصبحت الماسونية لا نصير لها، فهاجر أعضاؤها إلى أنحاء المشرق واليونان ومصر، وقطن قسم عظيم منهم في سوريا.
وأما الماسونيون الذين أقاموا في سوريا فعظم أمرهم، وشادوا البنايات العظيمة، واتسع صيتهم فبلغ مسامع العائلة الساسانية في فارس، فانتدبت فئة منهم لبناء المعاقل والمعابد والتماثيل على نمط جديد ناتج عن امتزاج النمط الرومانية واليونانية والبيزانتية، وذلك سنة ٥٣٠.
وفي سنة ٥٥٠ أمر الإمبراطور جوستنيان الأول في القسطنطينية فئةً من البنَّائين الأحرار أن يرمِّموا كنيسة القديسة صوفيا على إثر حريق هدَّ أركانها.
وقد تحوَّلت هذه الكنيسة الآن — بعد أن عُرِفت بكنيسة أجيا وصوفيا — إلى جامع إسلامي ملوكي، وهو بالحقيقة من أعظم بنايات ذلك العصر.
ومن القسطنطينية انتشرت جماعة البنَّائين إذ ذاك إلى سائر أنحاء إيطاليا وسردينيا وسيسيليا وجانب من أفريقيا، فشادوا فيها المعابد المسيحية على مثال كنيسة أجيا وصوفيا، وبثوا مبادئ هذه الديانة بين الشعب، غير أن هذه المباني ذهبت جميعها ضياعًا في أيام الملوك الإيكونوكلاستيين سنة ٧٢٦.
وفي سنة ٥٥٧ جاء إنكلترا القسيس أوستين وكان ماسونيًّا، ومن غرضه التبشير بالمسيحية في تلك الأصقاع، فترأَّس على جماعة الماسون هناك واتحدوا معًا على العمل على نشر تعاليمهم المقدسة، فانتعشت تلك الجمعية في إنكلترا.
ولم تأتِ سنة ٥٨٠ حتى نهض الماسون من غفلتهم في بريطانيا، إلا أنهم لم يكونوا عددًا كافيًا لبناء جميع البنايات التي اقتضتها حالة البلاد من انتشار الديانة المسيحية بينهم، فكانوا إذا ساروا إلى رومية لاستحضار مواد البناء، يأتون معهم بمَن يريد المجيء من البنَّائين والمصوِّرين والنقَّاشين ومَن شاكلهم من ذوي الصناعات.
وفي سنة ٦٠٢ تأسست كنيستَا كنتربري وروشستر المشهورتان في إنكلترا، وبعد ذلك بسنتين تأسست كنيسة القديس بولس في لندرا، وهي من أعظم كنائس تلك العاصمة، ولا تزال مقصودة من المتفرجين إلى هذا اليوم.
وكل مَن شاهدها يعجب لهول بنائها وإتقانه. وقد أتيح لي زيارتها منذ يسير، فرأيت فيها من دقة الصنع والارتفاع واتساع قاعة الصلاة ما هو جدير بالالتفات، والقوم هناك يصعدون إلى قبتها للتفرج على العاصمة، حيث يراها الناظر دفعة واحدة لأنها من أرفع مبانيها.
أما قاعة الصلاة فقد قدَّرتُ ما فيها من الكراسي والمقاعد، وما يمكن أن تسعه فوق ذلك، فرأيت أنها يمكن أن تَسَعَ عشرة آلاف شخص دفعة واحدة جلوسًا بغير ازدحام.
وفي سنة ٦١٠ توفي أوستين وكان مفتشًا عامًّا للبنَّائين الأحرار، ثم عُرِف بعد ذلك على ما يظن بالقديس أوغسطين.
وفي بريطانيا كانوا يُلقَّبون بالماسون الأحرار إشارةً إلى الامتيازات التي أُعطِيت لهم. وكانت جميع هذه الجماعات يدًا واحدة في بث المبادئ الدينية والأدبية، وكانوا يجتمعون في الأديرة يرأسهم في محافلهم رؤساء روحيون، نعني بهم الأكليروس، ومن ذلك الحين أضيف إلى اسم رئيس المحفل كلمة «محترم»، وهو لقب أكليركي كما لا يخفى، ولا يزال الماسون إلى هذا العهد يدعون الأخ الذي يترأس على المحفل الماسوني «الأخ المحترم».
فكانت الأديرة مأوى الماسونيين في حال اضطراب البلاد على إثر ثورة أو حرب أو اضطهاد، وكان ينضم إليهم كثير من القسس والأحبار. واشتهر بينهم كثيرون عُرِفوا بعد ذلك بألقاب القداسة، ولا تزال تقدَّم لهم شعائر العبادة إلى يومنا هذا. وأما العالميون من الإخوة فكانوا يشتغلون ببناء المعابد.
وفي سنة ٦٨٠ كان الماسون الأحرار في بريطانيا بعد وفاة أوستين لا يزالون بغير رئيس، فاهتَمَّ بذلك ملك موريس وكان من أعظم نصراء الماسونية، فأقام لهم الأب ويرال مفتِّشًا عامًّا.
المصدر : من کتاب تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان
ثم بنوا كثيرًا غيرها على بقايا الهياكل الوثنية القديمة، من جملتها كنيسة القديس بولس التي أقيمت في الفاتيكان على شكل الصليب.
وفي سنة ٣٣٠ جعل قسطنطين الأكبر بيزانس سريرًا لملكه ودعاها القسطنطينية نسبةً إليه، وجمع إليها البنَّائين ليقيموا معاقلها وحصونها ومعابدها، وأول كنيسة أقيمت فيها كنيسة القديسة صوفيا الشهيرة، ابتدأ في بنائها سنة ٣٢٦.
ثم بنى كثيرًا غيرها، وجعل في القسطنطينية مدرسة للبنَّائين يعلم فيها البناء على النمط الروماني ممزوجًا بالنمط العربي، فتولَّد منهما النمط القسطنطيني، وما زال هذا متَّبَعًا إلى الجيل الثامن.
وشُغِف قسطنطين بعاصمته الجديدة، فنقل إليها جميع ثروات رومية وأثينا ورودس وشيوس وقبرص وسيسيليا، فازدهت وعظمت وطار صيتها.
أما الماسونيون الذين هاجروا إلى سوريا وفلسطين أيام الاضطهاد، فلبثوا فيهما إلى أيام قسطنطين، ولما تولَّى هذا — وكان من انتصاره للديانة المسيحية ما كان — استخدمهم في بناء الكنائس في تلك الأنحاء، وأول ما أقيم منها كان في أورشليم وبيت لحم، ثم أمر ببناء القبر المقدَّس في أورشليم وكنائس أخرى في أنطاكية وغيرها.
وانتشرت جمعيات الإخوة البنَّائين إذ ذاك في الشرق، فملأت سوريا وفلسطين، وبلغت شبه جزيرة العرب إلى ما وراء أملاك الدولة الرومانية.
وكانت هذه الجمعيات تعظم في القسطنطينية أيضًا، حتى لم تأتِ سنة ٣٤٠ إلا وفي تلك العاصمة ٢٣ كنيسة من صنعها.
انحطاط الدولة الرومانية وتبعثُر الماسونية
وكان شأنها مثل ذلك في غاليا تحت حكم الإمبراطور جوليان سنة ٣٦٠، إلا أنها لم تأتِ سنة ٣٨٠ حتى تشتَّت شملها لما قاست المملكة الرومانية من غزوات الجرمانيين والسكسونيين، ثم غزوات الألينيين وغيرهم، فانحطت الصناعة ولا سيما البناء، فالتجأ البنَّاءون إلى الأديرة، فدخل في أسرارهم الكهنة وتمكَّنُوا فيها عمليًّا ونظريًّا.وفي سنة ٤١٠ لم ينفك السكسونيون والبيكت عن سلب راحة الرومانيين في بريطانيا، فهدموا أسوارهم وحصونهم، وما زالوا حتى قهروهم سنة ٤١١، وقال آخرون سنة ٤٢٦، فاضطر الإخوة البنَّاءون — وكانوا عددًا يسيرًا من الوطنيين — أن يلتجئوا إلى غاليا واسكوتلاندا، ولكنهم لم ينفكوا حيث أقاموا عن بث مبادئهم ونَشْر الديانة المسيحية، مع المحافظة على طقوس محافلهم المؤسسة قديمًا.
ثم إن غزوات الشعوب المدعوين بربرًا ما زالت تتوالى على المملكة الرومانية حتى سنة ٤٧٦، إذ جاءوا على تدميرها وإحراق معابدها، فأصبحت الماسونية لا نصير لها، فهاجر أعضاؤها إلى أنحاء المشرق واليونان ومصر، وقطن قسم عظيم منهم في سوريا.
نهضة الماسونية وانتشارها
وفي سنة ٥٠٠ قام بعض مَن بقي في رومية من البنائين وجدَّدوا همتهم، فأنشئوا اجتماعات ونظَّموا حالتهم، ثم اقتدى بهم مَن كان في غاليا وأخذوا في تدمير الهياكل الوثنية وبناء الهياكل المسيحية، وكانوا متمتعين بجميع امتيازاتهم القديمة.وأما الماسونيون الذين أقاموا في سوريا فعظم أمرهم، وشادوا البنايات العظيمة، واتسع صيتهم فبلغ مسامع العائلة الساسانية في فارس، فانتدبت فئة منهم لبناء المعاقل والمعابد والتماثيل على نمط جديد ناتج عن امتزاج النمط الرومانية واليونانية والبيزانتية، وذلك سنة ٥٣٠.
وفي سنة ٥٥٠ أمر الإمبراطور جوستنيان الأول في القسطنطينية فئةً من البنَّائين الأحرار أن يرمِّموا كنيسة القديسة صوفيا على إثر حريق هدَّ أركانها.
وقد تحوَّلت هذه الكنيسة الآن — بعد أن عُرِفت بكنيسة أجيا وصوفيا — إلى جامع إسلامي ملوكي، وهو بالحقيقة من أعظم بنايات ذلك العصر.
ومن القسطنطينية انتشرت جماعة البنَّائين إذ ذاك إلى سائر أنحاء إيطاليا وسردينيا وسيسيليا وجانب من أفريقيا، فشادوا فيها المعابد المسيحية على مثال كنيسة أجيا وصوفيا، وبثوا مبادئ هذه الديانة بين الشعب، غير أن هذه المباني ذهبت جميعها ضياعًا في أيام الملوك الإيكونوكلاستيين سنة ٧٢٦.
وفي سنة ٥٥٧ جاء إنكلترا القسيس أوستين وكان ماسونيًّا، ومن غرضه التبشير بالمسيحية في تلك الأصقاع، فترأَّس على جماعة الماسون هناك واتحدوا معًا على العمل على نشر تعاليمهم المقدسة، فانتعشت تلك الجمعية في إنكلترا.
ولم تأتِ سنة ٥٨٠ حتى نهض الماسون من غفلتهم في بريطانيا، إلا أنهم لم يكونوا عددًا كافيًا لبناء جميع البنايات التي اقتضتها حالة البلاد من انتشار الديانة المسيحية بينهم، فكانوا إذا ساروا إلى رومية لاستحضار مواد البناء، يأتون معهم بمَن يريد المجيء من البنَّائين والمصوِّرين والنقَّاشين ومَن شاكلهم من ذوي الصناعات.
وفي سنة ٦٠٢ تأسست كنيستَا كنتربري وروشستر المشهورتان في إنكلترا، وبعد ذلك بسنتين تأسست كنيسة القديس بولس في لندرا، وهي من أعظم كنائس تلك العاصمة، ولا تزال مقصودة من المتفرجين إلى هذا اليوم.
وكل مَن شاهدها يعجب لهول بنائها وإتقانه. وقد أتيح لي زيارتها منذ يسير، فرأيت فيها من دقة الصنع والارتفاع واتساع قاعة الصلاة ما هو جدير بالالتفات، والقوم هناك يصعدون إلى قبتها للتفرج على العاصمة، حيث يراها الناظر دفعة واحدة لأنها من أرفع مبانيها.
أما قاعة الصلاة فقد قدَّرتُ ما فيها من الكراسي والمقاعد، وما يمكن أن تسعه فوق ذلك، فرأيت أنها يمكن أن تَسَعَ عشرة آلاف شخص دفعة واحدة جلوسًا بغير ازدحام.
وفي سنة ٦١٠ توفي أوستين وكان مفتشًا عامًّا للبنَّائين الأحرار، ثم عُرِف بعد ذلك على ما يظن بالقديس أوغسطين.
الماسونية تحت رئاسة الأكليروس
وفي سنة ٦٢٠ زاد اهتمام الجماعات الماسونية في الأمور الدينية، وكانوا يُلقَّبون بألقاب مختلفة حسب الأماكن التي يقيمون فيها؛ فكانوا يُعرَفون في إيطاليا مثلًا بمدارس المهندسين أو البنَّائين أو الأخوية الماسونية، وكانوا يُعرَفون في غاليا باسم الإخوة الماسونيين، أو الإخوة الأحبار، أو الجمعيات الحرة.وفي بريطانيا كانوا يُلقَّبون بالماسون الأحرار إشارةً إلى الامتيازات التي أُعطِيت لهم. وكانت جميع هذه الجماعات يدًا واحدة في بث المبادئ الدينية والأدبية، وكانوا يجتمعون في الأديرة يرأسهم في محافلهم رؤساء روحيون، نعني بهم الأكليروس، ومن ذلك الحين أضيف إلى اسم رئيس المحفل كلمة «محترم»، وهو لقب أكليركي كما لا يخفى، ولا يزال الماسون إلى هذا العهد يدعون الأخ الذي يترأس على المحفل الماسوني «الأخ المحترم».
فكانت الأديرة مأوى الماسونيين في حال اضطراب البلاد على إثر ثورة أو حرب أو اضطهاد، وكان ينضم إليهم كثير من القسس والأحبار. واشتهر بينهم كثيرون عُرِفوا بعد ذلك بألقاب القداسة، ولا تزال تقدَّم لهم شعائر العبادة إلى يومنا هذا. وأما العالميون من الإخوة فكانوا يشتغلون ببناء المعابد.
وفي سنة ٦٨٠ كان الماسون الأحرار في بريطانيا بعد وفاة أوستين لا يزالون بغير رئيس، فاهتَمَّ بذلك ملك موريس وكان من أعظم نصراء الماسونية، فأقام لهم الأب ويرال مفتِّشًا عامًّا.
المصدر : من کتاب تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان