الأدلة على عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل كثيرة مذكورة في الكتب المفصّلة ، لا حاجة إلى إيرادها هاهنا بعد أن قال الشارح في توجيه جعل الشورى بين الستة :
« وانما جعلها شورى بينهم لأنّه رآهم أفضل ممّن عداهم وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم » .
وقال ابن تيمية :
« تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم ... » (1) .
وقال محبّ الدّين الطبري : « قولنا : لا ينعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل » (2) .
وكذا قال غيرهم .
فظهر أن القول بمنع إمامة المفضول متفق عليه بين الإمامية وغيرهم ، فيكون إمامته باطلةً بالكتاب والسنة والعقل والإجماع .
وحيث أن ظاهر الماتن والشارح هنا هو التوقف عن تجويز إمامة المفضول ، وقد كانا غير جازمين بأفضلية أبي بكر ، كان اللازم عليهما عدم الجزم بحقية خلافة أبي بكر .
أما أصحابنا فقد أثبتوا من الكتاب والسنة المتفق عليها أفضلية أمير المؤمنين ن وقد ثبت عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الافضل ، فتكون النتيجة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام .
في الكلام حول الصحابة
( يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم ، لأن الله عظّمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ، والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة ) .
لابدّ أولاً من تعريف الصّحابي ، فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه ، والذي يهمّنا الآن رأي الماتن والشارح ، لنبني البحوث اللاحقة :
قال ابن الحاجب : « الصّحابي من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو ولم تطل » .
فقال الماتن في شرحه : « قد اختلف في الصحابي ، فقيل من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو عنه حديثاً ولم تطل صحبته له ، وقيل : إن طالت الصحبة ، وقيل : إن اجتمعا أي طول الصحبة والرواية .
والحق : أن المسألة لفظية وإن ابتني عليها ما تقدم من عدالة الصحابة . لنا : إنّ الصحبة فعل يقبل التقييد بالقليل والكثير ... » .
فهو إذن موافق لابن الحاجب في أنه « من رأى النبي » فقط .
ووافقهما الشارح التفتازاني مع إضافة قوله : وإن كان أعمى ، وهذه عبارته : « قوله : الصحابي من رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم أي : مسلم رأي النبي يعني صحبه ولو أعمى ، وفي بعض الشروح : أي رآه النبي عليه الصلاة والسلام » (3) .
فالصحابي : « من رأى النبي أو رآه النبي » .
هذا هو الموضوع الذّي اختاره هناك .
والحكم الذي اختاره هنا هو : « يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم » .
فيكون الحاصل : يجب تعظيم كل من رأى النبي أو رآه النبي والكف عن القدح فيه ...
وهل يرضى بهذا أحد ؟ وما الدليل عليه ؟
ثم ما معنى « تعظيم الصّحابة كلهم والكف عن القدح فيهم » ؟
أما « الكف عن القدح فيهم » فلا يختص بالصحابة ، لأنّه ان أريد من الكف عن القدح عدم الإتهام والرمي بالقوادح ، فالسلم لا يجوز رميه والإفتراء عليه مطلقاً ، وإن أريد منه عدم ذكر المساوي والقوادح الموجودة فيهم ، فكلذ مسلم يجب الكف عن إشاعة معايبه والسّتر على نقائصه ، إلاّ إذا اقتضت الضرورة ، كما في أبواب الإخبارات والشهادات ، ومن هنا كان وضع علم الرجال والجرح والتعديل لهم .
وأما « تعظيمهم » فإن أريد منه حفظ حرمتهم ، فهذا لا يختص بهم بل يعمّ المسلمين جميعاً ، وإن أريد القول بعدالتهم كلّهم فهذا مختلف فيه ، ولاأولى أن نذكر عبارة الماتن في شرح المختصر :
قال ابن الحاجب : « مسألة : الأكثر على عدالة الصحابة ، وقبل كغيرهم ، وقيل : إلى حين الفتن فلا يقبل الداخلون لأن الفاسق غير معيّن . وقالت المعتزلة عدول إلاّ من قاتل علياً . لنا : والذين معه . أصحابي كالنجوم ، وما تحقق بالتواتر تعنهم من الجد في الامتثال ، وأمّا الفتن فتحمل على اجتهادهم ،ولا إشكال بعد ذلك على قول المصوبة وغيرهم » .
قال الماتن بشرحه : « أقول : أكثر الناس على أن الصحابة كلهم عدول وقيل : هم كغيرهم فيهم العدل وغير العدل فيحتاج إلى التعديل ، وقيل : هم كغيرهم إلى ظهور الفتن أعني بين علي ومعاوية ، وأمّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، أي من الطرفين ، وذلك لأن الفاسق من الفريقين غير معيّن فكلاهما مجهول العدالة فلا يقبل . وأما الخارجون عنها فكغيرهم . وقالت المعتزلة : هم عدول إلاذ من علم أنه قاتل علياً فإنه مردود .
لنا ما يدلّ على عدالتهم من الآيات نحو قوله ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) أي عدولاً ، وقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقوله : ( والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم ) .
ومن الحديث نحو قوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . وقوله : خير القرون قرني ثم من بعدهم الأقرب فالأقرب . وقوله في حقهم : لو أنفق أحد مثل الأرض ذهباً لما نال مدّ أحدهم . ولنا أيضاً ما تحقق عنهم بالتواتر من الجلد في أمتثالهم الأوامر والنواهي وبذلهم الأموال الأنفس ، وذلك ينافي عدم العدالة ، وأما ما ذكروه من الفتن فيحمل علىالإجتهاد (4) » .
فالماتن يقول هناك بعدالة الصحابة كلّهم ، ويستدل لهذا القول بنفس الأدلة التي يستدل بها أو نحوها في هذا الكتاب على « وجوب تعظيم الصحابة كلّهم والكف عن القدح فيهم » فلماذا غيّر العبارة من العدالة إلى هذا القول ؟
لا يبعد عدوله عن ذلك الرأي ، ولأنّ غاية ما تدل عليه تلك الأدلة ـ إن تمت سنداً ودلالة ـ هو وجوب إكرامهم وإحترامهم وعدم إشاعة قوادحهم ومطاعنهم ، فيكون حالهم كحال غيرهم من المسلمين ، « فيهم العدل وغيرالعدل ، فيحتاج إلى التعديل » .
كما أنه يجوز ـ بل قد يجب ـ ذكر ما صدر منهم مما يوجب الفسق إذا احتيج إلى ذلك ... فضلاً عن حمل ذلك على الإجتهاد أو غيره من المحامل ... وهذا هوالقول الثاني من الأقوال المذكورة ، وهو الحق .
فظهر أن غاية مدلول ما استدل به في الكتاب كتاباً وسنةً ، هو المدح فلو فرض تمامية تلك الأدلة سنداً ودلالةً فإنها تكون مخصّصةً بالأدلة الدالة على جواز ـ وأحياناً وجوب ـ الذم والطعن والقدح والجرح ، لئلا يقتدي أحد بهكذا أناس في عقائده وأفعاله ، ولا يرتّب الأثر على رواياتهم وأقوالهم وشهاداتهم .
نعم حديث « أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم » الذي استدل به الماتن تبعاً لابن الحاجب يدل على عدالة الصحابة جميعاً وجواز الاقتداء بكل واحد منهم في أقواله وأفعاله ... لكنه حديث « باطل » ، « منكر » ، « موضوع » كما نص على ذلك كبار الأئمة والحفاظ أمثال : أحمد بن حنبل ، البزار ، ابن عدي ، الدار قطني ، ابن حزم ، البيهقي ، ابن عبدالبر ، ابن عساكر ، ابن الجوزي ، ابن دحية ، الذهبي ، الزين العراقي ، ابن حجر العسقلاني ، السخاوي ، السيوطي ، المتقي ، القاري ،
فالعجب من الماتن كيف استدل به هناك ، ولقد أحسن إذ لم يستدل به هنا ؟!
وكيف يكون كلّهم عدوالاً ؟ وفي القرآن المجيد آيات بنفاق بعضهم ، وفي السنّة الصحيحة تصريح بأن أكثرهم يذادون عن الحوض يوم القيام ؟ ومن تأمل في سيرتهم ووقف على أحوالهم في الكتب الموثوق بها وجد كثيراً منهم ( لما يدخل الايمان في قلوبهم ) .
فكما أن فيهم أناساً ثبت « جدّهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله » كذلك فيهم أناس ثبت ارتكابهم الكبائر الموبقة الموجبة للقصاص والحدود ... كما لا يخفى على من راجع السير المعتبرة والتواريخ المتقنة ، « نحن لا نلوّث كتابنا بأمثال ذلك ، وهي مذكورة هي المطولات ، وقد ذكرنا بعضها تبعاً للكتاب » .
فمن يليق بالتعظيم وبالإقتداء منهم القسم الأول ، وهم الذين بقوا بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على هدية وسنته ، حافظين لشريعته ووصيته وهي :
« إني يوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي ، وإنهم لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » .
أللهم اجعلنا من الثابتين على التوحيد وشريعة خاتم النبيّين ، ومن المتمسكين بالكتاب والعترة الطاهرين ، والحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله المعصومين .
المصادر:
1- منهاج السنّة 3 / 277 .
2- الرياض النضرة ـ باب خلافة أبي بكر .
3- شرح مختضر الأصول 2/ 67 .
4- شرح المختصر في الأصول 2 / 67 .