إختلف الأعلام ـ سنّة وشيعة ـ في إمكان رؤية النبيّ في المنام ، فأجازه بعض اعتماداً على الخبر الوارد عنه صلىاللهعليهوآله وسلم ، ومنعه آخرون لضعف الخبر المرويّ عنه.
وأمّا الخبر فممّا رووه السنّة في كتبهم بألفاظ مختلفة عنه صلىاللهعليهوآله ، قال : « من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة ، ولا يتمثّل الشيطان بي » (1)
وقوله صلىاللهعليهوآله : « من رآني في المنام فقد رآني ، لا ينبغي للشيطان أن يتمثّل في صورتي » (2).
وعن الرضا عليهالسلام ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبيه عليهالسلام : « أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من رآني في منامه فقد رآني ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي ، ولا في صورة أحد من أوصيائي ، ولا في صورة أحد من شيعتهم » (3).
فقال البغوي في شرح السنّة : « رؤية النبيّ في المنام حقّ ، وكذلك جميع الأنبياء والملائكة » (4).
قال العلاّمة المجلسي : « واعلم أنّ العلماء اختلفوا في أنّ المراد رؤيتهم عليهالسلام في صورهم الأصليّة ، أو بأي صورة كانت ، ولا يخفى أنّ ظاهر حديث الرضا عليهالسلام التعميم ؛ لأنّ الرائي لم يكن رأى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولم يسأله عليهالسلام في أي صورة رأيته ؟
وحمله على أنّه عليهالسلام علم أنّه رآه بصورته الأصليّة بعيد عن السياق ، فإنّ من رأى أحداً من الأئمّة في المنام لم يحصل له علم في المنام بأنّه رآه ، ويقال في العرف واللغة أنّه رآهم ، وإن رأى الشخص الواحد بصور مختلفة ، فيقال : رآه بصورة فلان ، ولا يعدّون هذا الكلام من المتناقض » (5).
وأمّا المفيد فله تفصيل في المقام ، فقال : « أمّا رؤية الإنسان للنبيّ أو لأحد الأئمّة عليهالسلام في المنام ، فإنّ ذلك عندي على ثلاثة أقسام :
قسم أقطع على صحّته ، وهو كلّ منام رأى فيه النبيّ أو أحد من الأئمّة ، وهو فاعل لطاعة أو آمر بها ، وناهٍ عن معصية أو مبيّن لقبحها ، وقائل بالحقّ ، أو داعٍ إليه ، وزاجر عن باطلٍ ، أو ذامٍّ لمن هو عليه.
وأمّا الذي أقطع على بطلانه فهو كلّ ما كان بضدّ ذلك ؛ لعلمنا أنّ النبيّ والإمام صاحبا حقّ ، وصاحب الحقّ بعيد عن الباطل.
وأمّا الذي يجوز فيه الصحّة والبطلان ، فهو المنام الذي يرى فيه النبيّ والإمام وليس هو آمراً ولا ناهياً ، ولا على حال يختصّ بالديانات ، ومثل : أن يراه راكباً ، أو ماشياً ، أو جالساً ، أو نحو ذلك ... » (6).
وعدّ السيّد المرتضى هذا الحديث من الضعاف ، وأوّل ذلك مع تسليم صحته ، قائلاً :
« هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا يعوّل على مثل ذلك ، على أنّه يمكن مع تسليم صحّته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل بي للقيظان ، فقد قيل إنّ الشيطان ربّما تمثّل بصورة البشر ، وهذا أشبه بظاهر ألفاظ الخبر ؛ لأنّه قال : من رآني فقد رآني ، فأثبت غيره رائياً له ونفسه مرئيّة ، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئي ، وإنّما ذلك في اليقظة ، ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام ، من اعتقد أنّه يراني في منامه ـ ، إن كان غير راءٍ لي في الحقيقة ـ فهو في الحكم كمن قد رآني ، وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته » (7).
قلت : وقد اضطربت كلمات الأعلام في إثبات صحّة رؤية النبيّ والإمام ، وقد أسهب العلاّمة المجلسي والسيّد عبد الله شبّر ، وغيرهما في هذا المجال ، ومن أراد التحقيق أكثر ممّا ذكرنا فليراجع كتابيهما ، ولكن إثبات هذه المسألة لم تنحصر فيما روي عنه صلىاللهعليهوآله ، بل روي عن العترة الطاهرة عدّة روايات فيمن أراد أن يرى النبيّ في منامه ، كما رواه الكفعمي في مصباحه ، والمفيد في الإختصاص ، وابن طاووس في فلاح السائل وإقباله ، والبرقي في محاسنه ، وإليك ما روي في ذلك :
الرواية الاُولى : روى البرقي : بسنده عن عليّ بن خالد ، عمّن حدّثه ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : « من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ويرى منزله في الجنّة » (8).
الرواية الثانية : روى الكفعمي في المصباح : عن الصادق عليهالسلام ، قال : « من قرء سورة القدر بعد صلاة الزوال وقبل الظهر إحدى وعشرين مرّة لم يمت حتّى يرى النبيّ صلىاللهعليهوآله »(9).
الرواية الثالثة : روى المفيد في الإختصاص : بسنده عن أبي المعزا ، عن موسى بن جعفر عليهالسلام ، قال : « سمعته يقول : مَن كانت له إلى الله حاجة ، وأراد أن يرانا ، وأن يعرف موضعه ، فليغتسل ثلاثة ليال يناجي بنا ، فإنّه يرانا ، ويغفر له بنا ، ولا يخفى عليه موضعه » (10).
الرواية الرابعة : وذكر الكفعمي في الفصل الثامن والعشرين من مصباحه ـ أيضاً ـ في شرح دعاء المجير ، فقال : « إنّه مروي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، نزل به جبرئيل وهو يصلّي في مقام إبراهيم ، وذكر جملة من فضائله ، ومن صام ثلاثاً وقرأه سبعاً ونام على ظهره رآك في نومه »(11).
الرواية الخامسة : روى السيّد ابن طاووس : بسنده عن سهل بن صفة ، قال :
« سمعت أبا عبدالله عليهالسلام يقول : من أراد أن يرى رسول الله صلىاللهعليهوآله في منامه فليصلِّ العشاء الآخرة وليغتسل غسلاً نظيفاً ، وليصلِّ أربع ركعات بأربعمائة مرّة آية الكرسي ، وليصلِّ على محمّد وآل محمّد ألف مرّة ، وليبيت على ثوب نظيف لم يخلق عليه حلالاً ولا حراماً ، وليضع يده اليمنى تحت خدّه الأيمن ، وليسبّح مأة مرّة : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وليقل مأة مرّة ما شاء الله ، فإنّه يرى النبيّ صلىاللهعليهوآله في منامه »(12).
وقد جمع العلامة محسن آل عصفور هذه الموارد من مظانّها ، فمن أراد فليراجع كتاب بلغة الشيعة الكرام في تعبير رؤيا المنام.
وممّا يشهد بذلك أيضاً منامات المعصومين عليهمالسلام لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، كرؤيا الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام قبيل استشهاده ، وما قال له النبيّ عندما قدّم الشكوى إليه من اُمّته ، وهكذا رؤيا الزهراء سلام الله عليها ، وسائر العترة الطاهرة ، وقد ذكرنا
بعض هذه الأحلام في فصل مستقلّ ، فراجع.
وممّا يشهد بذلك أيضاً رؤيا بعض الناس للرسول ، كسدير الصيرفي وغيره ، وبيان رؤياه للصادق عليهالسلام ـ أو للرضا عليهالسلام ـ من دون ردّ الإمام لذلك ، كما رواه في المجالس عن أبيه ، عن المفيد ، عن الصدوق عن أبيه عن محمّد بن القاسم ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، قال : « حدّثني من سمع حنّان بن سدير يقول : سمعت أبي سدير الصير في يقول : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله فيما يرى النائم ، وبين يديه طبق مغطّى بمنديل ، فدنوت منه وسلّمت عليه ، فردّ السلام وكشف المنديل عن الطبق ، فإذا فيه رطب ، فجعل يأكل منه ، فدنوت منه فقلت :
يا رسول الله ، ناولني رطبة ، فنا ولني واحدة ، فأكلتها ، ثمّ قلت : يا رسول الله ، ناولني اُخرى ، فناولنيها ، فأكلتها ، فجعلت كلّما أكلت واحدة سألته اُخرى ، حتّى أعطاني ثماني رطبات ، فأكلتها ، ثمّ طلبت منه اُخرى ، فقال لي : حسبك.
قال : فانتبهت من منامي ، فلمّا كان من الغد دخلت على جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام ، وبين يديه طبق مغطّى بمنديل كأنّه الذي رأيته في المنام بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فسلّمت عليه ، فردّ علَيَّ السلام ، ثمّ كشف الطبق فإذا فيه رطب ، فجعل يأكل منه ، فعجبت لذلك وقلت : جعلت فداك ، ناولني رطبة ، فناولني فأكلتها ، ثمّ طلبت اُخرى حتّى أكلت ثماني رطبات ، ثمّ طلبت منه اُخرى ، فقال لي : لو زادك جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله لزدتك.فأخبرته ، فتبسّم تبسّم عارف بما كان » (13).
ما هي الفوائد المترتّبة على رؤية النبيّ
وهناك سؤال يطرح نفسه ، وهو : ما هي الفوائد المترتّبة على رؤية النبيّ أو أحد من المعصومين ؟
قلنا : لو لم يكن لهذه الرؤى والمنامات فائدة إلاّ ارتياح النفس ، وانبساط الروح ، لكفى ، فما تقول لو رفع عنك الهمّ والغمّ ، وانفتح لك أبواب الفرج ، وتبدّل خوفك أمناً ، وعسرك يسراً إثر هذه المنامات ؟
وما تقول إذاً لو أدركك عزّ وجاه ، وسلطان وقوّة ، ونور من الله جلّ وعلا ، كما فسرّ ذلك في بعض الروايات ؟
ما تقول إذاً لو كان إثر هذه المنامات فرج لبعض المؤمنين حيث يراه بعض الطواغيت ، ويكون سبباً لرفع الظلم عن الآخرين ، كما قرأنا ذلك في حياة بعض المعصومين وطواغيت زمانهم ، أو رفع الظلم والأذى عن بعض أصحابهم.
فأيّ فائدة أهمّ وأعظم وأكبر وأنفع من هذه الفوائد ، وإليك ما اُشير إلى بعضها :
1 ـ أمان لأهل المدينة والقرية
قال الصدوق رحمهالله : « يروى في الأخبار الصحيحة عن أئمّتنا عليهالسلام : أنّ من رأى رسول الله صلىاللهعليهوآله وآله أو أحداً من الأئمّة عليهالسلام قد دخل مدينة أو قرية في منامه ، فإنّه أمن لأهل المدينة أو القرية مّا يخافون ويحذرون ، وبلوغ لما يأملون ويرجون » (14).
2 ـ بشارة الشيعة
وعن شرف الدين الحسيني : بسنده عن الحارث الهمداني ، قال : « دخلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وهو ساجد يبكي حتّى علا نحيبه وارتفع صوته بالبكاء.
فقلنا : يا أمير المؤمنين ، لقد أمرضنا بكاك ، وأمضنا وأشجانا وما رأيناك قد فعلت مثل هذا الفعل قطّ.
فقال : كنت ساجداً أدعو ربّي بدعاء الخير في سجدتي ، فغلبتني عيني ، فرأيت رؤيا هالتني وأفضعتني ، رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله قائماً وهو يقول : يا أبا الحسن ، طالت غيبتك عنّي ، وقد اشتقت إلى رؤيتك ، وقد أنجز لي ربّي ما وعدني فيك.
فقلت : يا رسول الله : وما الذي أنجز لي فيَّ ؟
قال : أنجز لي فيك وفي زوجتك وابنيك ، وذرّيّتك في الدرجات العلى في علّيّين.
فقلت : بأبي أنت واُمّي ، يا رسول الله ، فشيعتنا ؟
قال : شيعتنا معنا وقصورهم بحذا قصورنا ، ومنازلهم مقابل منازلنا.
فقلت : يا رسول الله ، فما لشيعتنا في الدنيا.
قال : الأمن والعافية.
قلت : فما لهم عند الموت ؟
قال : يحكم الرجل في نفسه ، ويؤمر ملك الموت بطاعته وأيّ موتة شاء ماتها ، وأنّ شيعتنا ليموتون على قدر حبّهم لنا.
قلت : فما لذلك حدّ يعرف.
قال : بلى إنّ أشدّ شيعتنا لنا حبّاً يكون خروج نفسه كشرب أحدكم في اليوم الصائف الماء البارد الذي ينتفع منه القلب ، وأنّ سائرهم ليموت كما يغطّ أحدكم على فراشه كأقرّ ما كانت عينه بموته » (15).
المصادر :
1- مجمع الزوائد : 7 / 181.
2- السنن الكبرى : 4 / 384.
3- عيون أخبار الرضا عليهالسلام : 2 / 257.
4- بحار الأنوار : 58 / 237.
5- بحار الأنوار : 58 / 235.
6- مصابيح الأنوار : 2 / 8.
7- مصابيح الأنوار : 2 / 10.
8- المحاسن : 1 / 69.
9- بحار الأنوار : 53 / 331 ، ولم نجده في المصباح.
10- الإختصاص : 90.
11- بلغة الشيعة الكرام : 220.
12- بلغة الشيعة الكرام : 220 ، نقلاً عن فلاح السائل.
13- أمالي الشيخ الطوسي : 114. بحار الأنوار : 58 / 241.
14- كمال الدين : 1 / 210.
15- تأويل الآيات : 752.