![سياسة التقسيم في العصر العباسي سياسة التقسيم في العصر العباسي](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9%20,%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%B3%D9%8A%D9%85%20,%D9%81%D9%8A%20,%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%8A.jpg)
كان المنصور احد ایام حکمه يطوف بالكعبة ليلًا، إذ سمع قائلًا يقول: «اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع»، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فطلب أن يؤمنه حتى يقول الحق فأمنه. فقال له: «إن الذي حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين».
قال المنصور: «ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟».
فقال الرجل: «لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد وحجابًا معهم الأسلحة وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق … إلخ».
فهذا وأمثاله نبه المنصور لجرأة العرب، فجعل يفكر في إذلالهم ويستنبط له الحيل، وكان للعرب ديوان خاص لهم فيه الرواتب على أنسابهم ومراتبهم، وفيهم اليمنية والمضرية.
فلما فرغ المنصور من تأييد دولته بمقاتلة العلويين والخوارج وغيرهم، وقد بنى بغداد وحصنها وأنشأ فيها منازل الجند، نظر إلى من حوله منهم على الإجمال، فإذا هم ثلاث فرق كبرى:
اليمنية والمضرية والخراسانية، فاتفق سنة ١٥١ﻫ أن بعض الجند شغبوا عليه وحاربوه على باب الذهب، وهو قصره في بغداد، فأوجس خيفة من تكرار ذلك؛ لعلمه أن دولته إنما قامت بالجند، فإذا اجتمعوا عليه أخرجوها من يده، وهو يعلم أيضًا أن لكل من هذه الفرق هوى مع بعض دعاة الخلافة العلويين أو غيرهم، فليس أهون عليهم من ردها إلى دولة جديدة.
وكان كبير بني العباس يومئذ قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس، وهو شيخهم وله الحرمة والتقدم عندهم، فاستشاره المنصور في ذلك قائلًا:
«أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا؟ وقد خفت أن تجتمع كلمة هؤلاء فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فماذا ترى؟».
قال: «يا أمير المؤمنين عندي رأي إن أظهرته لك فسد، وإن تركته أمضيته وصلحت خلافتك وهابك جندك».
قال له: «أفتمضي في خلافتي شيئًا لا أعلمه؟»
قال له: «إن كنت عندك متهمًا فلا تشاورني، فإن كنت مأمونًا عليها فدعني أفعل رأيي».
فقال له المنصور: «فأمضه».
فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلامًا له فقال:
«إذا كان الغد فتقدمني واجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فانهض وخذ بعنان بغلتي، واستحلفني بحق رسول الله وبحق العباس وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك عند ذلك وأغلظ لك فلا تخف وعاود المسألة، فإني سأضربك فعاود وقل لي: أي الحيين أشرف، اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر».
ففعل الغلام كما أمره، وفعل قثم به ما قاله، إلى أن قال: «مضر أشرف؛ لأن منها رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله».
فامتعضت اليمن من قوله؛ لأنه لم يذكر لهم شيئًا، وقال بعض قوادهم: «ليس الأمر كذلك مطلقًا بغير فضيلة لليمن».
ثم قال لغلام له: «قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها» ففعل حتى كاد يعقبها، فامتعضت مضر وقالوا: «يفعل هذا بشيخنا؟» فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان ودخل قثم على المنصور، وافترق الجند العربي من ذلك الحين، فصارت مضر فرقة واليمن فرقة والخراسانية فرقة، وقال قثم للمنصور: «قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابًا كل حزب منهم يخاف أن يحدث حدثًا فتضربه بالآخر».(1)
وكان المهدي بن المنصور قد جاء من خراسان، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها، فهنأوه بمقدمه فأجازها وكساهم، وفعل المنصور بهم مثل ذلك، فقال قثم للمنصور: «قد بقي عليك بالتدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك «المهدي» فتنزله في ذلك الجانب من بغداد، وتحول معه قطعة من جيشك، فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبائل الأخرى» فقبل رأيه واستقام ملكه، وبنى المهدي بلدًا سماه الرصافة فاستعان المهدي في استبقاء دولته بسياسة التقسيم.
وما زال شأن العرب يضعف في الدولة العباسية تدريجًا، وحزب الفرس يقوى حتى أصبحت الدولة في أيام الرشيد بين عاملين كبيرين: أحدهما فارسي والآخر عربي كل منهما يحاول الاستئثار بالسلطة.
وكانت بطانة الخليفة أيضًا حزبين، أحدهما ينتمي إلى الفرس والآخر إلى العرب، مرجعهما إلى ابني الرشيد الأمين والمأمون؛ لأن الأول أمه عربية هاشمية (زبيدة) وأم الثاني أمة فارسية يقال: إن الرشيد اشتراها لتلد له؛ لأن امرأته زبيدة أبطأت الحمل، فولدت له عبد الله المأمون، ثم حملت زبيدة فولدت محمدًا الأمين(2)
فوقع بين الوالدتين من التحاسد مثل الذي وقع بين سارة وهاجر امرأتي إبراهيم الخليل. وسرى هذا التحاسد في البطانة ومنه إلى سائر رجال الدولة، وهو بني هاشم وسائر العرب مع الأمين، وهوي سائر رجال الدولة من الفرس وغيرهم مع المأمون، وكان زعيم الحزب العربي الربيع بن يونس وأبناؤه من بعده.
والربيع يتصل نسبه بكيسان مولى الحرث مولى عثمان بن عفان، فجده مولى مولى. ودخل الربيع في جملة موالي المنصور، فولاه حجابته ثم جعله وزيره، وكان المنصور شديد الميل إليه حسن الاعتماد عليه، فسأله يومًا عما يتمناه منه فقال: «أن تحب ابني الفضل». فقال المنصور: «كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟».
فقال: «لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه وصغر عندك كبير إساءته».
ومات الربيع في أيام الهادي سنة ١٧٠ﻫ. ولما تولى الرشيد الخلافة واستوزر البرامكة، سقط في يد الفضل بن الربيع لخروج الوزارة من يده، فرام التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، فكان في نفسه منهم إحن وشحناء، فسعى بهم عند الرشيد، وكان سعيه من جملة أسباب نكبتهم.
وكان المأمون، فضلًا عن نسبه الفارسي من أمه، قد ربى في حجر جعفر بن يحيي البرمكي، وهو الذي سعى له في ولاية العهد(3) والفضل بين الربيع سعى في تأييد بيعة الأمين.
ولما توفى الرشيد بعد مقتل البرامكة، كان الفضل بن الربيع هو الذي حمل الأمين على نقض بيعة المأمون(4)
واختلف الإخوان على البيعة، وكان المأمون عند أخواله بخراسان، والأمين في أهله ببغداد، وانتشب القتال بين الفريقين وهو قتال بين الفرس والعرب؛ لأن العرب في معظم المملكة العباسية كانوا من حزب الأمين.(5)
وقد نصر الخراسانيون ابن أختهم المأمون، بتدبير الفضل بن سهل. وكان الأمين يحرض جنده في بغداد بمشورة الفضل بن الربيع.
وكان العرب من الجند العباسي قد أنهكتهم الحضارة والترف، وتبددوا بسياسة التقسيم، فلم يستطيعوا دفاعًا.
فلما ضاق الحال بالأمين، ولم يبق عنده مال للتجنيد، استنجد رعاع أهل بغداد، وفيهم العيارون والشطار وكانوا طوائف كبيرة. وأمر بعض قواده أن يتتبعوا أصحاب الأموال والودائع والذخائر من أهل الملة وغيرهم، فلم يزده ذلك إلا ضعفًا.
وانقضت تلك الحروب بفوز المأمون،. فأخرج الخراسانيون الخلافة من العرب وسلموها إلى المأمون، كما أخرجوها قبلًا من بني أمية وسلموها إلى أجداده. فاستفحل أمر الفرس في أيام المأمون وازداد العرب ضعفًا، حتى كثيرًا ما كانوا يتعرضون له في الشوارع يشكون إغضاءه عنهم، ومن أقوالهم: «يا أمير المؤمنين، انظر إلى عرب الشام كما نظرت إلى عجم خراسان …».(6)
فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم سنة ٢١٨ﻫ، وقد جمع ما جمعه من الأتراك والفراغنة، كانت الضربة القاضية على العرب في الدولة العباسية؛ لأنه كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعلوا وهم يستعيذون بالله من ذلك، وانحط شأن العرب من ذلك الحين ومنعوا من الولايات. (7)
وآخر من ولي مصر منهم عنبسة بن إسحق، صرف عنها سنة ٢٤٢ﻫ(8)
فتمكن الفرس من الدولة وزادت رغبتهم في نزعها من العرب على الإطلاق، فقام مرداويج في أصفهان سنة ٣٢٢ﻫ يريد أن يأخذ بغداد وينقل الدولة إلى الفرس، ويبطل دولة العرب فلم يفلح، على أن النفوذ تحول بالتدريج إلى الخدم. (9)
الشعوبية والعرب
وفي أيام المأمون ومن جاء بعده تظاهر الشعوبية بالطعن على العرب، وكان المأمون يقربهم ويجعلهم من بطانته ويجيزهم، ومنهم سهل بن هارون قيم بيت الحكمة، وكان شديد التعصب على العرب وأبو عبيدة الراوية الشهير، وعلان الشعوبي. وألف الشعوبية الكتب في ذكر مثالب العرب والرد على القائلين بتفضيلهم على سواهم من الأمم.
والشعوبية يقولون: بالمساواة بين بني الإنسان؛ ولذلك سموهم أيضًا: «أهل التسوية»، ومن أقوالهم في الرد على العرب: أن النبي صلی الله عليه وآله وسلم نفسه ساوى بين المسلمين على اختلاف جنسياتهم بقوله:
«المسلمون إخوة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».
وقوله في خطبة حجة الوداع: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى».
وما جاء في القرآن: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.
والشعوبية ينوبون بدفاعهم عن كل أمم الأرض في ذلك العهد، إلا العرب، فإذا افتخروا (أي: الشعوبية) بملوكهم ذكروا الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وافتخروا بسليمان الحكيم والإسكندر الكبير وبملوك الهند.
وإذا فاخروهم بالأنبياء والمرسلين ذكروا الأنبياء من آدم إلى أيامهم، وإنهم جميعًا من غير العرب، إلا أربعة هم: هود، وصالح، وإسماعيل، ومحمد صلی الله عليه وآله وسلم.
وإذا فاخروهم بالعلم والصناعة والفلسفة، ذكروا اختراع لعبة الشطرنج ورمانة القبان والاسطرلاب، وفخروا بفلسفة اليونان وأشعارهم وسائر علومهم وعلوم الهند والفرس وغيرهم.
وبلغ من جسارة بعض الشعوبية في بعض ردوده أن قال: «فما الذي تفخر به العرب على العجم؟ فإنما هي كالذئاب العادية والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضًا ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل».(10) واستشهدوا على ذلك بأبيات من أقوال العرب تدل على ضعف غيرتهم على العرض وقالوا: «لا يفلح العربي إن لم يكن معه نبي ينصره».(11)
وعيروهم باستلحاق الأدعياء ونظموا الأشعار طعنًا فيهم. وممن نظم المطاعن عليهم الحسن بن هانئ وبشار بن برد وغيرهما، على أن بشارًا كان تارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء.
وقام المتعصبون للعرب فألفوا الكتب في الرد على الشعوبية. ومن أشهر ما ألف في ذلك كتاب «تفضيل العرب» لابن قتيبة، وقد رد الشعوبية عليه في مناظرات يطول شرحها.
المصادر :
1- ابن الأثير ٢٨٥ ج٥
2- المسعودي ٢١١ ج٢
3- ابن الأثير ٩٤ ج٦
4- ابن الأثير ٨٩ ج٦
5- المقريزي ١٧٨ ج١
6- ابن الأثير ١٧٦ ج٦
7- المقريزي ٩٤ و٣١١ و٣١٣ ج١ وابن خلدون ١٣٠ ج١
8- المقريزي ٢٩٤ ج٢
9- الفخري ٢٥٣
10- العقد الفريد ٦٩ ج٢
11- ابن الأثير ٥٧ ج٧