تُعنَى الدبلوماسية التقليدية بدرجةٍ كبيرة بإبرام المعاهدات. ويضع قاموس أكسفورد الإنجليزي عدة تعريفات مختلفة لمصطلح «معاهدة»؛ فمن حيث المعنى المحدود، تُعرَّف المعاهدة على أنها: «عقد بين دولتين أو أكثر يُعنَى بالسلم، أو التحالف لتحقيق هدنة، أو بالتجارة، أو غير ذلك من العلاقات الدولية.»
وهي بالمعنى الأكثر اتساعًا: «تسوية أو ترتيب يتم التوصل إليه باتفاقٍ أو تفاوض، ويكون في صورة اتفاقيات أو مواثيق أو عقود.» كما كان من الممكن أن يذكر قاموس أكسفورد شيئًا عن التمييز بين المعاني المحددة لكلٍّ من «الاتفاقية» و«المعاهدة»، لكنه لم يفعل. بينما كان مصطلح «اتفاقية» يُستخدم في القرن التاسع عشر عادةً للإشارة إلى الاتفاقيات الثنائية، أصبح في القرن العشرين يُستخدم بوجهٍ عام للإشارة إلى المعاهدات الرسمية المتعددة الأطراف، أو التي يشارك فيها الكثير من الأطراف. وعادة ما يُطلق على الوثائق التي يجري التفاوض عليها تحت رعاية منظمة دولية - كالأمم المتحدة مثلًا - «اتفاقيات»، أما في العلاقات الثنائية، فيُستخدم هذا المصطلح غالبًا للإشارة إلى المعاهدات ذات الطابع التقني أو الاجتماعي؛ كالمعاهدات حول الضمان الاجتماعي أو الازدواج الضريبي.
لكن أيًّا كان المصطلح المستخدَم، تعد سلطة إبرام المعاهدات - التي تعد أكثر صور الاتفاقيات رسميةً وأرفعها مقامًا بين الدول، والتي يضطلع بها غالبًا الدبلوماسيون - سمةً أساسية من سمات التمتع بالسيادة. ويعد مبدأ أن المعاهدات المبرمة بصورة شرعية مُلزمة على الموقعين - الذين يتعين عليهم الالتزام بها بحسن نية - قاعدةً أساسية في القانون الدولي، كما أن هذا المبدأ هو الأساس الذي يقوم عليه النظام الحديث للعلاقات الدولية. والشروط المعتادة اللازمة لإبرام المعاهدات السارية هي تمتعُ الأطراف المتعاقدة بالأهلية اللازمة للدخول في ارتباطات دولية، ويجب أن يكون المبعوثون للتفاوض بشأنها لهم من السلطات ما يخوِّل لهم ذلك، كما يجب أن يتمتع الموقعون بحُرية التصرف.
ومن المتعارف عليه أيضًا أن المعاهدات تصبح مُلغاةً إن أُبرمت تحت التهديد أو باستخدام القوة مما يشكل انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي الذي يجسده ميثاق الأمم المتحدة. أما معاهدات السلام التي تُبرم بعد وقف أعمال الحرب، فكانت تعد سارية المفعول بسبب الحروب التي سبقتها. ورغم ذلك، وضعت الولايات المتحدة سياسة تقضي بعدم الاعتراف بأي معاهدة أو اتفاقية تُبرم بسبل مغايرة لميثاق كيلوج-بريان (١٩٢٨)، أو معاهدة سلام باريس التي انضمت الولايات المتحدة بموجبها إلى دول العالم الأخرى في نبذ الحرب كأداة تُستخدم في السياسات الوطنية. يُعرف هذا المبدأ بمبدأ ستيمسون، نسبةً إلى وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هنري ستيمسون الذي أعرب رسميًّا في عام ١٩٣١ عن معارضة الولايات المتحدة الأمريكية لغزو اليابان لمنطقة منشوريا، رافضًا قَبول أي تغيير في توزيع الممتلكات الإقليمية نتيجةً لهذا الغزو، وقد تبنَّت عصبة الأمم مبدأ ستيمسون، وتضمنت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام ١٩٦٩ مبادئ مماثلة.
على المستوى الدولي، فإن نطاق سلطة الدولة في إبرام المعاهدات لا تقيده حدود من الناحية العملية، ويتضمن إبرام المعاهدات المتصلة بالاستحواذ على الأراضي خارج البلاد، والتنازل عن الأراضي الداخلية، وترسيم الحدود وتعديلها، والتعهُّد بالتعاون المتبادل، وضمان الاستثمارات الأجنبية، وتسليم المتهمين أو المدانين بالجرائم لحكوماتهم. وقد تكتسب المعاهدات طبيعة تجعلها صانعة للقوانين، وطبيعة دولية كالاتفاقيات حول القوانين البحرية، أو حول المزايا والحصانات التي تتمتع بها البعثات الدبلوماسية والعاملون بها. علاوةً على أن المعاهدات المتعددة الأطراف تعد أساسًا لقيام المنظمات الدولية، وتحديد سلطاتها ومهامها الخاصة.
يمكن تصنيف العديد من المعاهدات بوصفها اتفاقيات إما سياسية أو تجارية. وقد تتعلق المعاهدات السياسية بوجهٍ خاص بالدفاع المشترك في حالات الهجوم المسلح، أو بضمان التزام موقف سياسي محدد كالحياد، أو بالحفاظ على حدود الدولة الحالية. وكان مفهوم الأمن المشترك على وجه الخصوص - أي الالتزام العالمي الدائم والمشترك بمناهضة أعمال العدوان وضمان الأمن - من المستحدثات الشديدة الأهمية للعلاقات الدولية في القرن العشرين، وقد تضمنه ميثاق عصبة الأمم (في المادة العاشرة) تحت إصرار الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، وعاد للظهور بصورةٍ معدلة في ميثاق الأمم المتحدة. أما المعاهدات التجارية فتُؤمِّن عادةً مزية اقتصادية متبادلة؛ كخفض التعريفة الجمركية على المنتجات المستوردة بين أطراف الاتفاقية. وتشمل هذه الاتفاقيات في العصر الحديث في أحيانٍ كثيرة فقرة تشترط على كل طرف موقِّع للاتفاقية منح أطراف الاتفاقية الأخرى شروطًا جيدة مماثلة للشروط التي اتفقت عليها هذه الأطراف مع أي دولة أخرى (فقرة «الدولة الأَولى بالرعاية»).
وأبرز المعاهدات المتعددة الأطراف من هذا النوع هي الاتفاقية العامة للتعاريف الجمركية والتجارة (اتفاقية الجات). ثَمَّةَ نوع آخر من المعاهدات يشترط طرح النزاعات للتحكيم أمام محاكم خاصة، أو أمام مؤسسات كالمحكمة الدائمة للتحكيم، أو محكمة العدل الدولية.
لا يفرض القانون الدولي شكلًا محددًا للمعاهدات أو إجراءات محددة لإبرامها؛ فقد تُبرم بتبادل مذكرات دبلوماسية تتضمن نصًّا متفقًا عليه وموقَّعًا من قِبل المسئولين المُخوَّلين بذلك، أو بتوقيع نسخة أو أكثر من نص الاتفاقية من قِبل مسئولين مُخوَّلين بالتعبير عن موافقة حكوماتهم على الالتزام بالمعاهدة.
ويتطلب الكثير من المعاهدات الهامة التصديق عليه من قِبل كل طرف من أطراف المعاهدة، وفي مثل هذه الحالات يوقع المتفاوضون - بعد التوصل إلى اتفاقٍ على النص النهائي للمعاهدة - على وثيقة المعاهدة، ثم يطرحون المعاهدة المقترَحة للتصديق عليها من قِبل السلطات المخوَّلة بذلك دستوريًّا، التي تتمثل عادةً في رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. وتمضي هذه الإجراءات في بعض الدول - وفي بعض الأحيان - بسهولة وبالصورة المتوقَّعة.
على سبيل المثال، عندما أراد القائد الأعلى للاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين إبرام ميثاق عدم الاعتداء مع أدولف هتلر عام ١٩٣٩ (الميثاق النازي-السوفييتي)، لم تنطوِ العملية على أي عراقيل أو إجراءات، ولكن في مواضع أخرى يصبح إبرام المعاهدات شديد التعقيد، ومشحونًا سياسيًّا، والنتيجة غير مؤكدة.
تُعد المعاهدات ملزمة لأطرافها (مبدأ العقد شريعة المتعاقدين)، لكنها قد تتعرض للإنهاء بعدة طرق؛ فقد تنص المعاهدة نفسها على انتهائها في وقتٍ محدد، أو قد تسمح لطرفٍ بتقديم إخطار بإنهائها يسري إما بوقت تسلُّم الإخطار أو بانقضاء فترة محددة، وقد تبطل بإنكار أحد موقِّعيها لالتزاماته، غير أن هذا الإنهاء من طرفٍ واحد قد يثير إجراءات انتقامية. وقد تُفسَخ المعاهدة بصورة طبيعية؛ سواءٌ بقيام حرب، أو بإنكارها، أو في أوقات أخرى بالاعتماد على مبدأ «تغيُّر الظروف»؛ أي عندما تنقضي الأحوال التي ارتآها الطرفان عندما وقَّعا المعاهدة (الظروف المحيطة بتوقيع المعاهدة، ومن ثَمَّ الأساس الفعلي الذي قامت عليه المعاهدة)، ويطرأ تغيُّر جسيم على هذه الظروف. لكن من الملحوظ أن مبدأ تغير الظروف لا ينطبق بصفةٍ عامة على المعاهدات الأساسية العامة؛ كميثاق الأمم المتحدة أو اتفاقية جنيف. ويزخر التاريخ الدبلوماسي بأمثلة لكلتا الحالتين؛ على سبيل المثال، قدمت إمبراطورية اليابان وألمانيا النازية إخطارًا رسميًّا بالانسحاب من عصبة الأمم، بينما انهارت اتفاقيات تحالفات الحرب الباردة العظمى؛ كحلف سياتو (حلف جنوب شرق آسيا) ومعاهدة وارسو. ومؤخرًا قدمت الولايات المتحدة إخطارًا بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية مع الاتحاد السوفييتي السابق؛ روسيا الاتحادية.
اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات
صيغت قواعد القانون الدولي التي تحكم إبرام المعاهدات وسريانها وآثارها وتفسيرها، وإجراء التعديلات عليها وتعليقها وإنهاءها في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التي تم تبنِّيها عام ١٩٦٩، في مؤتمر عُقد بقرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد شارك في هذا الحدث ممثلون من ١١٠ دول، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا والاتحاد السوفييتي، وأغلب الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، إلى جانب العديد من الدول غير الأعضاء من بينها سويسرا.وقد وضع مسودة الاتفاقية لجنة القانون الدولي. وقد دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في يناير عام ١٩٨٠ بعد التصديق عليها مِنْ قِبَل ٣٥ دولة. وقد وقَّعت الولايات المتحدة الاتفاقية، لكنها لم تصدق عليها بعدُ، إلا أن الولايات المتحدة تَعتبر أغلب قواعد اتفاقية فيينا ممثلة للقانون الدولي المتعارف عليه.
تتضمن اتفاقيات التعاون والسلام الدولي الخلفية الدبلوماسية للتاريخ البشري بدءًا من المعاهدات الأوروبية التي قام بها كونجرس فيينا (عام ١٨١٥)، والتي تُعد علامة استرشادية فارقة، ومعاهدة برست ليتوفسك (عام ١٩١٨)، ومعاهدة فرساي عام (١٩١٩)، إلى أحداث بارزة كميثاق عصبة الأمم (عام ١٩١٩)، وميثاق الأمم المتحدة عام (١٩٤٨)، ومنظمة حلف شمال الأطلسي عام (١٩٤٩). وقد تمتعت المعاهدات المؤثرة في السلام الدولي ونزع السلاح بصمود مذهل. كان إبرام معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد السوفييتي عام ١٩٦٣ - التي منعت الدول الموقِّعة من إجراء تفجيرات نووية في الجو أو فوق الأرض - بمنزلة نقطة التحول في الحرب الباردة.
لقد خَطَتِ القوى العظمى خطوة أخرى في اتجاه العقلانية النووية. وتبقى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية - التي وقَّع عليها ١٩٠ دولة - العقبة العالمية القانونية والدبلوماسية الوحيدة أمام انتشار الأسلحة النووية. وقد نجحت هذه المعاهدة في وضع معايير دولية تقف في وجه انتشار الأسلحة النووية إلى جانب تأسيس نظام تفتيش دولي يبقى إلى اليوم أفضل آمالنا في منع تحويل وقود المفاعلات النووية إلى أسلحةٍ للدمار الشامل. إن الدبلوماسية والدبلوماسيين هما اليوم مفتاحا مواجهة أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين، بما فيها الانتشار النووي (كما في حالتَي إيران وكوريا الشمالية كبداية)، والإرهاب الدولي، والاحترار العالمي، وهي التحديات التي لا تقترب من نطاق لعبة التنافس الدولي.
المصادر :
راسخون 2017