
يذکر أن معاوية بعث إلى ابن الحصين (ابن الحصين : هو عمران بن حصين الخزاعي ، أسلم عام خيبر وغزا عدة غزوات وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح ـ كذا في الإصابة. واعتزل حرب الجمل ، وكان قد نزل البصرة ، وفي سنة ٤٥ للهجرة ولاه زياد قضاء البصرة ، وتوفي في سنة ٥٢. كما في الكامل) بعث اليه ليلاً فخلا به وقال له : يا بن الحصين ؛ بلغني أن عندك ذهناً وعقلاً ، فأخبرني عن شيءٍ أسألك عنه.
قال : سلني عما بدا لك.
قال : اخبرني مالذي شتت أمر المسلمين وفرّق أهوائهم ؟
قال : قتل الناس عثمان ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير علي إليك وقتاله إياك ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتال عليّ إياهم ! قال : ما صنعت شيئاً.
قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين.
قال : فأنا أخبرك ، إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهوائهم ، ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر .. فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف ابو بكر ، ما كان في ذلك إختلاف. (١)
تحليل رائع من سياسي بارع خاض تجارب كثيرة في مضماري الملك والزعامة ، فمعاوية وان كان قد باع شرفه وآخرته بدنياه في خوضه حرباً ظالمةً ضد ثاني رجل في الدولة الإسلامية ، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون له نظرة صائبة وعميقة حول بعض المفاهيم السياسية ! إنه هنا يكشف ـ في الحقيقة ـ سراً من الأسرار التي أودت إلى تمزق الأمة وتفككها ، فالشورى كانت واحدة من الأسباب التي ساهمت في ذلك ، وليست هي السبب الرئيسي.
هو هنا يطرح لمحدثه سبباً واحداً كان يراه علة الكل ، وعلة العلل في تفرق شمل الأمة ، يرى الشورى ـ بما زرعت في قلوب أعضائها من طموح للخلافة دفعهم للتهيؤ لها ـ هي السبب الوحيد في ذلك !
وربما كان معاوية يلمز من حديثه هذا إلى علي ، وكأنه يريد أن يجعله في عداد هؤلاء الطامحين ، كما تكشف عن ذلك مواقفه من علي.
لكن الشيء الواضح من أخطاء هذه الشورى ، أنها بالإضافة إلى كونها حفزت أعضائها على التهيوء للخلافة وأوجدت تكتلات حزبية مختلفة ومتناحرة ، فقد جعلت في نفس الوقت أناساً آخرين ليسوا من أعضائها ينحون هذا المنحى. « فقد طمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشورى من قريش ، لأنهم رأوا أن بعض من رشحهم عمر لا يفضلونهم في شيء ، بل ربما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة. » (2) ولعل معاوية واحد منهم.
بدء المعارضة
فوجئ الناس ـ في اليوم الأول لبيعة عثمان ـ بأمور ما عهدوها من سيرة الشيخين أبي بكر وعمر ، وانما تفرد بها عثمان ، مما دفعهم لإِعلان الاستياء والاستنكار ، جاعلين في حسابهم أنه بذلك يخرق العهد الذي اخذه عليه عبد الرحمن.قال اليعقوبي : وخرج عثمان والناس يهنئونه ، فصعد المنبر ، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : اليوم ولد الشر.
وروي : أنه خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة وبين يديه شمعة ، فلقيه المقداد بن عمرو ، فقال ما هذه البدعة ! (3)
ولم تكن حكاية المنبر والشمعة هذه بذات بال لولا أنها خارجة على سيرة الشيخين ، وأنها مؤشر لإِرتكاب أمور أفضع وأخطر بكثير !.
لكن أمراً آخر حصل في ذلك اليوم أثار حفيظة المخلصين ، فدفعهم إلى الجهر بالمعارضة ، فقد تناهى إلى سمعهم قول لأبي سفيان في محضر الخليفة تستشم منه رائحة الإِلحاد في دين الله ، وبداية التفكير في تحويل الخلافة الى ملك ، وذلك.
أن عثمان ـ بعد البيعة ـ دخل رحله ، فدخل اليه بنو أمية حتى إمتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا.
قال : تلقّفوها يا بني أميّة تلقُّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنّةٍ ، ولا نار ، ولا بعث ، ولا قيامة ! » فانتهره عثمان وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه.
فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان ، فقال له : ما صنعت ! فوالله ما وُفقت حيث تدخل رحلك قبل ان تصعد المنبر ، فتحمد الله وتثني عليه ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعدَ الناس خيراً.
فخرج عثمان ، فصعد المنبر ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال : هذا مقام لم نكن نقومه ، ولم نُعدّ له من الكلام الذي يقام به في مثله ، وسأهيء ذلك ان شاء الله .. (4)
وشاعت مقالة أبي سفيان بين المسلمين ، فساءهم ذلك ، فكان أول من أعلن استنكاره وغضبه ، عمار بن ياسر ، فأقبل في اليوم التالي حتى دخل المسجد والناس مجتمعون فيه ، فقام وقال :
« يا معشر قريش ؛ أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة ، وههنا مرة ، فما أنا بآمنٍ من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله. (5)
وخرج المقداد في ذلك اليوم ، فلقي عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيده وقال :
إن كنت أردت ـ بما صنعت ـ وجه الله ، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإن كنت إنما أردت الدنيا ، فاكثر الله مالك !
فقال عبد الرحمن : إسمع ، رحمك الله ، إسمع ! قال : لا أسمع والله. وجذب يده من يده ، ومضى حتى دخل على علي عليهالسلام ، فقال :
قم ، فقاتل حتى نقاتل معك. قال علي : فبمن أقاتل ؛ رحمك الله ؟!
وأقبل عمار بن ياسر ينادي :
يا ناعي الإِسلام قم فإنعه / قد مات عرفٌ وبدا نُكرُ
أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم ! والله لئن قاتلهم واحد ، لأكونن له ثانياً !
فقال علي : يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعواناً ، ولا احب أن أعرضكم لما لا تطيقون. (6)
وجاءت حادثة العفو عن عبيد الله بن عمر « قاتل الهرمزان » فزادت الطين بلة.
قال اليعقوبي : واكثر الناس في دم الهرمزان ، وإمساك عبيد الله بن عمر ! وصعد عثمان المنبر ، فخطب الناس ، ثم قال :
آلا إني ولي دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر !
فقام المقداد بن عمرو ، فقال : إن الهرمزان مولىً لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله.
قال : فننظر ، وتنظرون. ثم اخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً فنسب الموضع إليه فقيل : « كويفة ابن عمر .. » (7)
المصادر :
1- العقد الفريد : ٤ ـ ٢٨١.
2- ثورة الحسين / ٣٣.
3- اليعقوبي ٢ / ١٦٢ ـ ١٦٣.
4- شرح النهج ٩ / ٥٣ ـ ٥٤.
5- مروج الذهب ٢ / ٣٤٣.
6- شرح النهج ٩ / ٥٥ ـ ٥٦ ـ ٥٧.
7- اليعقوبي ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤.