
يروى القاضي ابن العربي اهداف الخارجين علی ولاية امیر المؤمين علي بن ابي طالب عليه السلام واجتماعهم في البصرة ويقول : أن تغيّبهم قطعاً للشغب بين الناس، فخرج طلحة والزبير وعائشة اُم المؤمنين رجاء أن يرجع الناس الى اُمّهم، فيرعوا حرمة نبيهم، واحتجوا عليها بقوله تعالى (لا خَيرَ في كثير مِنْ نَجواهُم إلاّ مَنْ أَمرَ بصدقة أو مَعروف أو إصلاح بينَ الناسِ). وقد خرج النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلح وأرسل فيه، فرجت المثوبة، واغتنمت الفرصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها(1).
أما البلاذري فروى قصة خروج المتحالفين الى البصرة بسنده الى الزهري قال: صار طلحة والزبير الى مكة، وابن عامر بها يجرّ الدنيا، قد قدم من البصرة، وبها يعلى بن اُميّة - وهي اُمه وأبوه اُمية تميمي- ومعه مال كثير قدم به من اليمن، وزيادة على أربعمائة بعير.
فاحتجوا عند عائشة فأداروا الرأي فقالوا: نسير الى المدينة فنقاتل علياً.
فقال بعضهم: ليست لكم بأهل المدينة طاقة.
قالوا: فنسير الى الشام فيه الرجال والأموال، وأهل الشام شيعة لعثمان، فنطلب بدمه ونجد على ذلك أعواناً وأنصاراً ومشايعين! فقال قائل منهم: هناك معاوية، وهو والي الشام والمطاع به، ولن تنالوا ما تريدون، وهو أولى منكم بما تحاولون لأنه ابن عم الرجل. فقال بعضهم: نسير الى العراق; فلطلحة بالكوفة شيعته، وللزبير بالبصرة من يهواه ويميل إليه.
فاجتمعوا على المسير الى البصرة، وأشار عبدالله بن عامر عليهم بذلك وأعطاهم مالا كثيراً قوّاهم به، وأعطاهم يعلى بن اُمية التميمي مالا كثيراً وإبلا.
فخرجوا في تسعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل.
فبلغ علياً مسيرهم، ويقال: إن اُم الفضل بنت الحارث بن حزن كتبت به الى علي، فأمر علي سهل بن حنيف الأنصاري، وشخص حتى نزل ذا قار.
وقال البلاذري أيضاً:
وكان بمكة سعيد بن العاص بن اُمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص ابن اُمية، وعبدالرحمان بن عتاب بن اُسيد بن أبي العاص بن اُمية، والمغيرة بان شعبة الثقفي، قد شخصوا من المدينة; فأجمعوا على فراق علي والطلب بدم عثمان، والمغيرة يحرّض الناس ويدعوهم الى الطلب بدمه، ثم صار الى الطائف معتزلا للفريقين معاً. فجعلت عائشة تقول: إن عثمان قتل مظلوماً، وأنا أدعوكم الى الطلب بدمه وإعادة الأمر شورى.
وكانت اُم سلمة بنت أبي اُمية بمكة، فكانت تقول: أيها الناس، آمركم بتقوى الله، وإن كنتم تابعتم علياً فارضوا به، فوالله ما أعرف في زمانكم خيراً منه(2).
وهكذا بدأ التحالف الذي صار يضم خصوم الأمس مسيره الى البصرة للانتقاض على الحكم الجديد بدعوى تأليف الكلمة والقضاء على الشغب والمطالبة بدم عثمان!
ولقد كان في أفراد التحالف من يعرف أن قتلة عثمان الحقيقيين هم الذين كانوا يحرضون على قتله، لذا قال سعيد بن العاص لمروان بن الحكم عندما لقيه بذات عرق وهم في طريقهم الى البصرة: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الابل؟! اقتلوهم ثم ارجعوا الى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم.
قالوا: بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً; فخلا سعيد بطلحة والزبير، فقال: إن ظفرتما، لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: لأحدنا، أيّنا اختاره الناس. قال: بل اجعلوه لولد عثمان فانكم خرجتم تطلبون بدمه. قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: أفلا أراني أسعى لاخراجها من بني عبدمناف(3).
وهكذا بدأت تتكشف الأهداف الحقيقية لبعض أعضاء هذا التحالف، وإن ما فعله مروان بن الحكم أثناء معركة الجمل، حينما رمى طلحة بسهم قاتل وقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم، لأصدق دليل على حقيقة تلك النوايا.
الحوأب
من الاُمور التي تبعث على الاستغراب حقاً، أن ينبري القاضي ابن العربي لينسف قضية الحوأب جملة وتفصيلا، بقوله:
فإن قيل: لم خرجت عائشة(رض) وقد قال (صلى الله عليه وآله) لهم في حجة الوداع: "هذه، ثم ظهور الحصر". قلنا: حدث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة، يا عقول النسوان، ألم أعهد إليكم ألا ترووا أحاديث البهتان، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان; فلم تقولون ما لا تعلمون، وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون؟ (إنَّ شرَّ الدوابّ عندَ اللهِ الصُّم البكم الذينَ لا يعقلونَ).
وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب! ما كان شيء قط مما ذكرتم! ولا قال النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك الحديث! ولا جرى ذلك الكلام! ولا شهد أحد بشهادتهم! وقد كتبت شهادتكم بهذا الباطل وسوف تُسألون(4).
فابن العربي يتهم كل المحدثين والمؤرخين الذين أخرجوا حديث الحوأب ويصفهم بقلة العقول، ويحمّلهم أوزار ذلك!
لكن الذين أثبتوا قضية الحوأب أكثر من أن يُحصوا، وقد أخرجوا هذا الحديث وأرسلوه إرسال المسلمات، بل إنه يكاد يكون من المسائل المتواترة تماماً. ذكر ابن أبي الحديد أن أبا مخنف قال:
حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى جرير بن يزيد عن عامر الشعبي، وروى محمد ابن إسحاق عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً:
لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة الى البصرة، طرقت ماء الحوأب -وهو ماء لبني عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها!
فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم.
فقالت: ردّوني ردّوني.
فسألوها ما شأنها، ما بدا لها! فقالت: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "كأنّي بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي"، ثم قال لي: "إياك يا حميراء أن تكونيها".
فقال الزبير: مهلا يرحمك الله، فإنا قد جُزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟
فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً، فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب. فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام، فسارت عائشة لوجهها!(5).
قال القرطبي تعليقاً على كلام ابن العربي حول قضية الحوأب:
والعجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه، منها في كتاب العواصم من القواصم، وذكر أنه لا يوجد أصلا، وأظهر العلماء المحدّثين بانكاره غباوة وجهلا. وشهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح!(6).
المصادر :
1- العواصم من القواصم: 155.
2- أنساب الأشراف 3: 21، 23، وانظر الطبري 4: 452 عن أحمد بن زهير، تاريخ اليعقوبي2:179، مروج الذهب للمسعودي 3: 182.
3- الطبري 4: 453 عن عمر بن شبة.
4- العواصم من القواصم: 159.
5- شرح نهج البلاغة 9: 310، الطبري 4: 469 عن احمد بن زهير، انساب الأشراف 3: 24 وفيه أن الذي جاء بالشهود هو عبدالله بن الزبير.
6- التذكرة في احوال الموتى: 621.