لقد تعرضت أحداث معركة الجمل الى أبشع صور التزييف والتحريف دون شك، ولكن الأمر الذي يحزّ في النفس حقاً، أن هذه الروايات المزيفة هي التي أصبحت الرواية الرسمية المعتمدة عند جمهور المؤلفين قديماً وحديثاً، حتى أن أحد المؤلفين المعاصرين، وهو أحمد راتب عرموش، جمع الروايات المزيفة كلها في كتاب صغير أسماه (معركة الجمل برواية سيف بن عمر) اعتمد فيها على المحاضرات التي القاها استاذه الدكتور يوسف العش، ووصف الرواية بأنها الرواية التي تتماشى مع العقل!
ويذكر اسم الطبري كأعظم مؤرخ، شاهداً على صحة هذه الروايات لأنه أوردها في سفره الكبير، ولكن هؤلاء المؤلفين يتناسون أن الطبري قد أورد روايات اُخرى مخالفة لرواية سيف تماماً، نقلاً عن المؤلفى الثقاة، ولكن معظم المؤلفين أعرضوا عنها وكأنها لم توجد في تاريخ الطبري الذي يمجّدونه ولاخطّها بيراعه، لذا فإنني استشهدت بتلك الروايات التي أوردها الطبري، والتي تؤيدها الروايات التي جاءت عن غيره من المؤرخين- شاهداً على صحتها- وإسقاطاً لحجج الذين يتخذون من الطبري جسراً لتمرير الروايات الساقطة وترسيخها في أذهان المسلمين تجاهلا للحقيقة وإعراضاً عن الحق، بدعاوى متهافتة لا تصمد أمام الحقائق التي سوف نظل نكشف النقاب عنها فيما يتبع من مباحث وفصول.
وبما أننا اتخذنا كتاب العواصم من القواصم لمؤلفه ابن العربي المالكي شاهداً ومثالا على هذا التهافت الذي وقع فيه المؤلفون القدامى، واحتذى حذوهم المعاصرون، فإنني أجد نفسي مضطراً للاستشهاد أولا بأقوال ابن العربي - من القدماء- وتابعه محب الدين الخطيب - من المعاصرين- وارجاعها الى مصدرها الأصلي، ومن ثم مقارنتها مع الروايات الاُخرى، مروراً - في بعض الأحيان- بآراء مؤلفين آخرين ممن يؤيدون وجهة النظر المحافظة التي تبناها ابن العربي شاهداً على ما نقول.
لقد انتهت معركة الجمل الأصغر بما جرّته من فواجع أليمة استبيحت فيها الأرواح البريئة، وانتهبت فيها الأموال المحرّمة، وجُعلت الاُمور في غير نصابها، خلافاً للشرعية التي تقتضيها قوانين الاسلام.
ولو أن الأمر اقتصر على ذلك، ثم ثاب المبطلون الى رشدهم وقرروا التوقف عن هذه اللعبة الخطرة، وأصلحوا ذات البين، لهان الأمر، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، من إصرار أصحاب الجمل على الاستمرار في السير على هذا الطريق الشائك، وما جرّه بعد ذلك من ويلات فاقت ما حدث في معركة الجمل الأصغر أضعافاً مضاعفة، إلاّ أن مما يبعث على الاستغراب، أن المؤلفين الذين دونوا هذه الحوادث، يصرّون على عكس الاُمور التي وقعت، ويحاولون إلقاء التبعة فيما حدث بعد ذلك على جهات اُخرى، ظناً منهم أن ذلك يبرئ أصحاب الجمل من ارتكاب تلك الطامات، وتبعاً لذلك وقع الكثير من المؤلفين في جملة من المتناقضات التي لا يجد المرء لها مخرجاً، مما يفضح التلاعب الذي وقع في نقل هذه الأخبار، وسوف أبداً أولا بذكر ما أورده ابن العربي ملخصاً -كعادته- مستخدماً العبارات المنمّقة، حيث قال:
وقدم عليٌّ البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا باراقة الدماء، واشتجر الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا تقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإن واحداً في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف! وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال: لا أطلب أثراً بعد عين، ورماه بسهم فقتل..
وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن لا يريقوا دماءهم، فأصابه سهم غرب فقتله، ولعل طلحة مثله!.
ومعلوم أنه عند الفتنة، وفي ملحمة القتال يتمكن اُولو الإحن والحقود من حلّ العرى ونقض العهود، وكانت آجالا حضرت، ومواعيد انتجزت...(1).
هكذا يموّه ابن العربي على القارئ الأحداث، فيقتطع عبارات قصيرة، ويصفّها مع بعضها، معتقداً بأنه قد أعطى الأحداث بعدها الكامل، فلا شيء يدعو الى التفكير والبحث، كل ما هنالك أن بعض أصحاب الأهواء أنشبوا الحرب بين الفريقين اللذين كانا يبغيان الصلح، ووقع ما وقع، هذا كل ما في الأمر!
لكن محب الدين الخطيب استطرد على قول ابن العربي ما ظنّه يزيل هذا الغموض، فقال معلقاً:
" كان ذلك يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 "... وكان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة; فاستجاب له أصحاب الجمل، وأذعن علي لذلك، وبعث علي الى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو، فكفّوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر، فأرسلا إليه: إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس. قال الحافظ بن كثير: فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي عبدالله بن عباس إليهم، وبعثوا محمد بن طلحة السجّاد الى علي، وعوّلوا جميعاً على الصلح، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على انشاب الحرب في السر، واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم، انسلوا الى ذلك الأمر انسلالا، (وانظر مع ذلك الموضع من تاريخ ابن كثير، تاريخ الطبري 5: 202 – 203، ومنهاج السنة 2: 185، و 3: 225 و 241)، وهكذا انشبوا الحرب بين علي وأخويه طلحة والزبير، فظن أصحاب الجمل أن علياً غدر بهم، وظن علي أن اخوانه غدروا به، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية فكيف بعد أن بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن"(2).
تناقض الرواية وتهافت المؤلفين
لقد استشسهد الخطيب بابني كثير وتيمية، وهما مع ابن العربي من أكثر المؤلفين الذين اعتمدوا على روايات الطبري بطريق سيف بن عمر حول الأحداث المهمة في تاريخ المسلمين، وعملوا على ترويجها، ولا أظن أن ذلك كان عن جهل منهم بعدم صحة هذه الروايات، ولكن هناك أهدافاً بعيدة المدى – سنكشف النقاب عنها فيما بعد- من وراء تمسك اُولئك المؤلفين ومن بعدهم معظم المؤلفين المعاصرين بهذه الروايات. فإن أدوات البحث العلمي لم تكن تنقص أحدهم للتوصل الى الحقائق، والكفيلة بكشف نواحي الخلل والتناقض في روايات سيف، والأراجيف المكشوفة التي يروّجها بين المسلمين، والتي ذهب ضحيتها – بسبب المؤلفين- جمهور المسلمين من غير الباحثين، والذين اعتمدوا على هؤلاء المؤلفين ثقة بهم.لقد أورد الطبري الرواية التي يروّج لها الخطيب والمؤلفون الذين نقل عنهم بشكل مفصّل، ونظراً لطولها، ومخافة إملال القارئ، فسوف أقتطع الأجزاء المهمة منها، بهدف الكشف عن المتناقضات التي فيها، مع الاشارة الى تعليقات بعض المؤلفين عليها، والتي تظهر مدى تهافت أصحاب هذه النظرية السطحية.
قال الطبري نقلا عن سيف باسناده المعروف:
" لما جاءت وفود أهل البصرة الى الكوفة، ورجع القعقاع من عند اُم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم، جمع علي الناس، ثم قام على الغرائر; فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله)، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وانعام الله على الاُمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث الذي جرّه على هذه الاُمة أقوام طلبوا الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة. وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره ومصيب ما أراد، ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا لا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من اُمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم.
فاجتمع نفر منهم: علياء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر، في عدّة ممن سار الى عثمان ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء، وخالد بن ملجم...الخ.
من المتناقضات العجيبة في هذا الجزء من الرواية، هي جرأة علي بن أبي طالب في ردّ المتآمرين على عثمان وطلبه عدم التحاقهم به! مع العلم أن روايات سيف ومن تابعه عليها، تذكر عجز علي بن أبي طالب أمام هؤلاء المتآمرين، ولا ندري لماذا انتظر علي كل هذه المدة، وسمح لهم بمرافقته من المدينة الى البصرة، ولم يصرفهم عنه كل هذه المدة. كما لم يخبرنا سيف عن الذي منع اولئك المتآمرين عن الامتثال لأمر علي بالرجوع، وظلوا يرافقونه حتى انشبوا المعركة، وهل تركهم علي اعتماداً على صحوة ضمائرهم في الامتثال لأمره –وهو أمر غير معقول- أم أنه كان يجهل أشخاصهم، فيصبح طلبه ذلك بلا معنى!
ومن الطريف أن ابن كثير نقل هذا الجزء من الرواية، وبعد أن عدد أسماء المتآمرين كما وردت في رواية سيف، قال: "وليس فيهم صحابي والحمدلله".
ولا أدري هل نسي ابن كثير أن عدي بن حاتم هو أحد الصحابة أم لا، أم أنه عرف وتغافل إيهاماً للقارئ ليس إلاّ!.
ويستكمل الطبري الرواية عن سيف بقوله:
"... فخرج طلحة والزبير، فنزلا بالناس من الزابوقة في موضع قرية الرزق، فنزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن جميعاً أسفل منهم وهم لا يشكون في الصلح، وعائشة في الحدّان، والناس في الزابوقة على رؤسائهم هؤلاء، وهم ثلاثون ألفاً، وردوا حكيماً ومالكاً الى علي: بأنّا على ما فارقنا عليه القعقاع، فأقدم; فخرجا حتى قدما عليه بذلك.
فارتحل حتى نزل عليهم بحيالهم، فنزلت القبائل الى قبائلهم، مضر الى مضر، وربيعة الى ربيعة، واليمن الى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج الى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلاّ الصلح...
وبعث علي من العشي عبدالله بن عباس الى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة الى علي، وأن يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسوا، وذلك في جمادى الآخرة، أرسل طلحة والزبير الى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي الى رؤساء أصحابه، ما خلا اولئك الذين حضّوا عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثله للعافية من الذي أشرفوا عليه... الخ(3).
ويلاحظ على هذا الجزء من الرواية من المتناقضات الكثيرة التي تشي بكذبها، أن المتآمرين المشتركين في أمر عثمان قد ظلوا يرافقون علياً رغم أمره لهم بالانصراف، ولا أدري كيف يجازف علي هذه المجازفة، فيغضي عن مصاحبتهم، وهو الذي لابد وأن يكون قد تخوّف من غائلتهم، لذا أمرهم بالانصراف، ولكنه لم يتخذ التدابير اللازمة لدفع شرهم بعد أن رافقوه.
والأمر الآخر، أننا نجد طلحة والزبير يبادران الى المصالحة دون أية إشارة الى قتلة عثمان الذين كانوا يرافقون علي بن أبي طالب! وهم ما خرجوا- حسب ادعائهم- إلاّ للاقتصاص من قتلة عثمان، وها هم قتلة عثمان أمام أعينهم ولا يطالبون برؤوسهم، ولا يشترطون على علي في معاهدة الصلح المزعومة الاقتصاص منهم!
وإذا كانت هذه النيّات الحسنة موجودة عند الطرفين منذ البداية، فلماذا خرج أصحاب الجمل إذاً؟ ولماذا لاحقهم علي بجيشه الى البصرة! ولماذا كل هذه التدابير والاستعدادات العسكرية! ولماذا لم يأمر الطرفان جيشيهما بالانسحاب وبقيا متواجهين ليتركا لقتلة عثمان الفرصة في انشاب المعركة، ولماذا لم تكتب بنود المصالحة التي تمت بين الفريقين، ثم يتلوه الانسحاب الفوري من ساحة المعركة تفويتاً لأصحاب الأغراض الدنيئة; بدلا من البقاء متواجهين تحت السلاح!
أسئلة كثيرة تثيرها روايات سيف، لتلقي ضلالا قاتمة على الأحداث، ولا أعتقد أن الذين يؤيدون هذه الروايات ويروجونها، يستطيعون أن يجدوا جواباً شافياً لأي سؤال من كل تلك الاسئلة.
المعركة على حقيقتها
أخرج الطبري عن أحداث معركة الجمل، روايتين مخالفتين للرواية التي ذكرها بطريق سيف، وكأنه أراد أن يجعل من القارئ حكماً على الأحداث، وهو يلفت الانتباه من طرف خفي الى الاختلاف في الروايات، فقال: وأما غير سيف، فإنه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير وانصرافه عن الموقف الذي كان فيه ذلك اليوم، غير الذي ذكر سيف عن صاحبيه.ثم يورد الطبري رواية عن أحمد بن زهير بسنده الى الزهري، حيث يقول: وبلغ الخبر علياً –يعني خبر السبعين الذين قُتلوا مع العبدي بالبصرة- فأقبل –يعني علياً- في اثني عشر ألفاً، فقدم البصرة وجعل يقول:
يا لهف نفسي على ربيعة/ربيعة السامعة المطيعة
سنتها كانت بها الوقيعة
فلما تواقفوا خرج علي على فرسه، فدعا الزبير فتواقفا، فقال علي للزبير: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا، ولا أولى به منّا! فقال علي: لستُ أهلا له بعد عثمان، قد كنّا نعدّك من بني عبدالمطلب، حتى بلغ ابنك ابن السوء، ففرّق بيننا وبينك; وعظّم عليه أشياء، فذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) مرّ عليهما فقال لعلي: "ما يقول ابن عمتك؟ ليقاتلنك وهو لك ظالم".
فانصرف عنه الزبير وقال: إني لا اُقاتلك.
فرجع الى ابنه عبدالله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنك قد خرجت على بصيرة، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب، وعرفت أن تحتها الموت فجبنت. فأحفظه حتى أرعد وغضب، وقال: ويحك إني قد حلفت له لا اُقاتله.
فقال له ابنه: كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس.
فاعتقه وقام في الصف معهم، وكان علي قال للزبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره.
وقال علي: يا طلحة، جئت بعرس رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني! قال: بايعتك وعلى عنقي اللّج. فقال علي لأصحابه: أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الاُخرى، وإن قطعت أخذه بأسنانه؟
قال فتىً شاب: أنا.
فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله الاّ ذلك الفتى.
فقال له علي: أعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوله الى آخره، والله في دمائنا ودمائكم; فحُمل على الفتى وفي يده المصحف فقطعت يداه; فأخذه بأسنانه حتى قُتل.
فقال علي: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم، فقُتل يومئذ سبعون رجلا كلهم يأخذ بخطام الجمل. فلما عُقر الجمل وهُزم الناس، أصابت طلحة رمية فقتلته، فيزعمون أن مروان بن الحكم رماه، وقد كان ابن الزبير أخذ بخطام جمل عائشة، فقالت: من هذا؟ فأخبرها، قالت: واثكل أسماء! فجرح فالقى نفسه في الجرحى، فاستُخرج فبرأ من جراحته، واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة، فضرب عليها فسطاط، فوقف علي عليها فقال: استفززت الناس وقد فزّوا، فألّبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً، في كلام كثير، فقالت عائشة: ياابن أبي طالب، ملكت فاسجح، نعم ما أبليت قومك اليوم. فسرّحها علي...(4).
وهذه الرواية تتفق مع رواية اُخرى أخرجها الطبري عن عمرو بن شبة بسنده قال: أخذ علي مصحفاً يوم الجمل، فطاف به في أصحابه وقال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم الى ما فيه، وهو مقتول؟
فقام إليه فتىً من أهل الكوفة عليه قباء أبيض محشو، فقال: أنا.
فأعرض عنه... (ثلاث مرات) فدفعه إليه، فدعاهم فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فدعاهم، فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقُتل(رضي الله عنه)، فقال علي: الآن حلّ قتالهم.
فقالت اُم الفتى:
لاهمَّ إنّ مسلماً دعاهُمُ يتلو كتاب الله لا يخشاهُم
واُمّهم قائمة تراهُم يأتمرون الفيَّ لا تنهاهُم
قد خُضبت من علق لحاهُم(5)
هذه هي حقيقة الأحداث من بدء خروج المتحالفين وحتى انتهاء معركة الجمل، وقد تبين للقارئ مدى التزييف الذي تعرضت له الأحداث بسبب اعتماد معظم المؤلفين قديماً وحديثاً على ما ورد عن الطبري برواية سيف ابن عمر، وبانتهاء أحداث معركة الجمل، انقطعت سلسلة روايات سيف عند الطبري، بعد أن أورد له مئات الروايات في أخبار تلك الفترة المهمة من تاريخ صدر الإسلام.
وقد لاحظنا أن أصحاب الجمل كانوا هم المصرّين على القتال، سواء في الأحداث التي وقعت قبل مجيء علي بن أبي طالب، ونقضهم العهد مع عثمان ابن حنيف، أو في إصرارهم على الحرب بعد مجيء علي ودعوته إياهم الى كتاب الله، وبعد أن التقى بطلحة والزبير ووبخهما ووعظهما، ولكن دون جدوى.
نكث البيعة
بقي هناك أمر مهم لعل القارئ قد ظل متحيّراً فيه، وهو موقف هؤلاء الصحابة. والذي بدا واضحاً من الدراسة المقارنة التي قمنا بها، أنهم لم يخرجوا بدافع الاصلاح بين الناس –كما ادعى بعض المؤلفين- بل إن كل الدلائل تشير الى أن أصحاب الجمل قد نكثوا بيعتهم ونقضوا العهود والمواثيق لأهداف ودوافع باتت واضحة للقارئ، إلاّ أن الأمر الذي قد يبدو محيراً للبعض، هو كيف يفعل اولئك ذلك رغم الصحبة والسابقة والجهاد والفضل!عند استعراض بعض الحوادث التي وقعت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنها قد تلقي بعض الأضواء على حقيقة نفسيات اولئك الصحابة، فالزبير قد سمع قول النبي (صلى الله عليه وآله) وتحذيره إياه من مقاتلة علي، ورغم ذلك فقد أخذته الحمية بكلمة عيّره بها ابنه عبدالله، فعاد الى الصف; ولا شك أن الزبير قد فرّ من المعركة بعدما تحقق من الهزيمة، ثم لحقه ابن جرموز فقتله، ولا عبرة للروايات التي تدّعي بأن الزبير انسحب من المعركة قبل نشوب القتال، لأن قول النبي (صلى الله عليه وآله) له: "لتقاتلنه وأنت له ظالم" يؤكد بأن الزبير سيباشر القتال وهو يعلم أنه ظالم، كما وأن انسحابه قبل المعركة لو صح لما نفعه ذلك أيضاً ولا برّأه من الجريمة، لأنه كان ينبغي عليه أن يتبع الحق بعد ما عرفه لا أن يترك المسلمين يذبح بعضهم بعضاً وينصرف، بل كان عليه أن يعلن توبته وندمه على الملأ، ويقف على صف جيش أصحاب الجمل فيخبرهم بما عرف من الحق ويدعوهم الى التخلي عن مواقعهم واجتناب الفتنة، فإن استجابوا له فبها ونعمت، وإن لم يستجيبوا فإن الواجب كان يفترض عليه أن ينضم الى معسكر الحق وينصر إمامه على الخارجين عليه، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وما حدث بالنسبة للزبير يقال مثله في طلحة أيضاً، فقد قُتل هو الآخر في المعركة بعد أن نكث البيعة وخرج على إمامه، رغم أن هذين الصحابيين قد سمعا النبي (صلى الله عليه وآله) يهتف في أكثر من مناسبة محذراً من نكث البيعة أو تفريق كلمة المسلمين ونزع اليد من الطاعة، كما وردت بذلك الأحاديث المتكاثرة التي خرّجها المحدثون، فمنها:
عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتةً جاهلية".
وعن ابن عباس يرويه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتة جاهلية".
وعن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو الى عصبية، فقُتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على اُمتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه"(6).
وعن اُسامة بن شريك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من فرّق بين اُمتي وهم جميع، فاضربوا رأسه كائناً من كان"(7).
وعن زياد بن علاقة، أنه سمع عرفجة، سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: "إنها ستكون هناة وهناة، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الاُمة وهم جميع، فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان"(8).
وقد أثبتنا فيما سبق أن الأوصاف المذكورة في الأحاديث النبوية الشريفة المتقدمة تنطبق تماماً على المتحالفين الذين أشعلوا نار حرب ذهب ضحيتها اُلوف المسلمين من الطرفين، من بينهم عدد من الصحابة، وفي مقدمتهم طلحة والزبير نفسيهما.
المصادر:
1- العواصم من القواصم: 159.
2- العواصم من القواصم: هامش 226.
3- تاريخ الطبري 4: 493 باختصار.
4- تاريخ الطبري 4: 508، أنساب الأشراف 3: 51.
5- المصدر السابق.
6- صحيح مسلم 3: 1476 كتاب الامارة، باب وجوب ملازمة الجماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.
7- سنن النسائي 2: 166، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 512 وصححه الألباني.
8- صحيح مسلم 3: 1479، مسند الطيالسي: 1224، سنن النسائي 2: 166، مسند أحمد 5: 23، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 512 وصححه الالباني