الوطن حيِّزٌ جغرافي له حدود، تكونت من خلال مسار وتطورات تاريخية، ينتمي إليه من وُلد فيه، ما يُكسبه حقوق المواطنة، ولا يملك أحد حق نزع هذه الصفة عنه. فالوطن لجميع أبنائه الذين ولدوا فيه.
الولاء للوطن: تعبيرٌ ملتبس، حيث تختلط فيه الجغرافيا بالسياسة، فإذا ما كان المقصود هو الارتباط الجغرافي، فكل فرد مواطن ما لم يتخلَّ عن جنسيته ليختار جنسية أخرى في بلدٍ آخر.
وإذا ما كان المقصود الموقف السياسي، فسيأتي الحديث عن قواعد الولاء وتطبيقاتها، لنعرف كيفية ارتباط المواطن بوطنه.
تعريف الإسلام: الإسلام هو آخر رسالة سماوية أتى بها سيد الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تحمل منهجاً كاملاً للحياة، ففيها العقيدة والشريعة، وهي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية كاملة صالحة للفرد والجماعة، ولنظام حكم الدولة طبق تعاليمها، وهي دعوة إلهية تحث الناس على أن يلتزموها، فلا تقتصر على علاقة الإنسان بربه وبنفسه، وإنما تشمل تنظيم علاقات الناس كافة، إذا ما اختاروا تطبيقها في حياتهم ودولتهم.
ولي أمر المسلمين: قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾(1)
فهو الآمر الناهي للمؤمنين، وقد أمرهم بالطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولأولي الأمر الذين يتولون شؤونهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(2)
والواضح أن السلطة من الموقع الديني لأولي الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن للمؤمن أن تبرأ ذمته أمام الله تعالى إلاَّ إذا التزم أوامر وتوجيهات الولي، وهذه مسألة إيمانية عقيدية، ولكن من هو الولي؟ وما هي حدود سلطته على المؤمنين؟ وما تأثير ذلك في وطن لا يتبنى نظامه السياسي الحكم الإسلامي على أساس قيادة "ولاية الأمر"؟
حزب الله: انطلق حزب الله على أساس التزامه بالإسلام عقيدة وشريعة، ويضم في صفوفه من يؤمن بالإسلام كمنهج حياة. وهو يلتزم قيادة الولي الفقيه انسجاماً مع إيمانه بولاية الأمر، كركنٍ أساس لهذا الإيمان، ويتحرك في الساحة كحزب لبناني له تطلعاته وآراؤه ومساهماته في حماية الوطن وإدارته. وقد برز بمقاومته لإسرائيل المحتلَّة في مفصل تاريخي واكب نشأته وقناعاته، وله رؤيته المتكاملة كحزب جهادي سياسي من كل القضايا المطروحة على الساحة، والتي يترجمها عملياً من خلال المواقف التي يتخذها، ومنها ما سنبينه في النظرة إلى الوطن وولاية الفقيه.
اختلفت عقائد الناس عبر التاريخ، فانقسموا إلى اتجاهين كبيرين متباينين:
1- الاتجاه الإلهي: بإتباع الأنبياء والرسل وتعاليمهم بحذافيرها.
2- الاتجاه المادي: بتحديد تعاليم ابتدعها الناس من خلال مفكريهم وقياداتهم وزعمائهم، مبنية على رؤيتهم المادية للحياة..
ثم اختلطت الأمور اختلاطاً كبيراً، فتمايز الاتجاهان مع مرور الزمان بخلافٍ حاد بينهما، وفي الوقت نفسه صاحبهما اتجاهات كثيرة مزجت وحذفت وعدَّلت بين الاتجاهين، فنشأت اتجاهات جديدة مختلفة تماماً عنهما، لها خصوصياتها ومعالمها البارزة.
برز الإسلام كاتجاه إلهي يحمل منظومة متكاملة منذ ألف وأربعمائة سنة ونيِّف، في حياة المؤمنين به من ناحية، وفي موقع الحكم والسلطة من ناحية أخرى. ولكنَّ الكثير من ممارسات الحكام والدول شوَّهت وأساءت وراكمت سلبياتٍ لا علاقة لها بالإسلام، أضرَّت كثيراً بهذه التجربة، ومنها بدعة وراثة الحكم، والنزاعات الدموية على السلطة، وقهر المواطنين على إتباع مذهب السلطان... وإنْ بقيت الشريعة من خلال الأحكام الشرعية في المعاملات محفوظة بالإجمال، والعهدة على سلامة التطبيق ومداه.
كما تمَّت صياغة وتطبيق أنظمة حكم مادية عبر التاريخ، كان أبرزها كصيغ مترابطة ما اشتهر في القرنين الأخيرين من خلال الاتجاهين الشيوعي والرأسمالي. وقد طغى على الشيوعي الجانب العقيدي فبرز بوضوح أنه موجِّه للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن هذا الطغيان موجوداً في الاتجاه الرأسمالي الذي آثر في عقيدته حرية الفرد بما فيها حرية الاعتقاد، متجاوزاً إلى رسم معالم المنظومة الاقتصادية المجتمعية على أساس آراء المفكرين الذين صاغوا المبدأ الرأسمالي.
ومع نشوء الدول وانقسامها، كما هي موزعة اليوم، أصبحنا أمام اتجاهات سياسية حاكمة كثيرة التنوع، وإن كانت المعالم الأساسية في أنظمة حكم العالم بشكل عام هي الأنظمة المادية، التي استفادت من بعضٍ من التشريعات الإلهية، واستقلت ببعضٍ آخر، وتفاوتت فيما بينها.
العقيدة والشريعة: يحتاج الإنسان إلى مبدأ، وهو ما نعبِّر عنه بأمرين متلازمين: العقيدة التي يؤمن بها وهي التي تتعلق بالنظرة إلى الخالق وطبيعة الحياة ودور الإنسان فيها، والشريعة أو "طريقة الحياة" التي تنظم الحياة والعلاقات بين الناس، في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...
تنعكس العقيدة على حياة الفرد الشخصية، فإذا ما كان مؤمناً بالله تعالى التزم بالعبادات، وامتنع عن المحرمات، وذلك بحسب ما تمليه عقيدته الإيمانية، وإذا ما كان ملحداً، انعكس إلحاده على ما يفعله وما يرفضه في حياته الشخصية بحرية تامة تعود إلى تقديره فيما يناسب أو لا يناسب، وكذلك إذا لم يكن مؤمناً ولا كافراً بحدودٍ واضحة، وإنما في حالة اعتقاد انتقائية، يعود الأمر إلى تقديره للخير والشر، وللعادات التي نما عليها واقتنع بها. فبذلك تكون العقيدة مؤثرة على السلوك الفردي، وعلى العلاقات مع الناس بتطبيق ما في الشريعة في هذا المجال، وهو إطار محدود وضيِّق، لأنَّ الإطار الأرحب في العلاقات بين الناس يتمثَّل في نظام الحكم.
أمَّا الشريعة فهي المدى الأوسع الذي تشمل معاملات الناس كلها، ومنها ما يرتبط بنظام الحكم، وبذلك يمكن أن تكون الشريعة قاعدة لنظام الحكم السائد في البلد، فيطبقها الأفراد كقوانين، أو أن لا تُطبَّق كنظام للحكم فيختار الأفراد من الشريعة ما يستطيعونه في علاقاتهم اليومية في التعامل الاجتماعي والاقتصادي بما لا يتصادم مع النظام العام، أو بما يدخل في المعاملات الفردية. فالشريعة تؤدي إلى نظام الحكم في الدولة، فإنْ لم يتحقق هذا الأمر، فهي تطبيقات محدودة في حياة الأفراد بحسب إيمانهم وبما يتاح لهم.
بما أنَّ خيارات الناس مختلفة ومتنوعة جداً، فسنكون أمام حالات عدة، في الحالة الفردية وحالة الجماعة.
1- على المستوى الفردي:
إمَّا أن يحمل الفرد على مستوى العقيدة والشريعة أو "طريقة الحياة" رؤية متجانسة، بارتباط الشريعة بالعقيدة، وإمَّا ان تكون رؤيته غير متجانسة بعدم ارتباطهما، فتكون العقيدة من اتجاه، والشريعة أو "طريقة الحياة" من اتجاهٍ آخر.
فيطبِّق من الشريعة أو "طريقة الحياة" في حياته الفردية، بحسب ما يحمله طابع التكليف الفردي ومستوى إيمان هذا الفرد، ويسعى لتُطبِّق الجماعة في حياتها ما يؤمن به.
2– على مستوى الجماعة:
بما أن المجتمعات اليوم محكومة في إطار دول لها حدود جغرافية، فإنَّ الانتظام العام لاستمرارية أي دولة واستقرارها، أن تختار نظام الحكم فيها، وأن يكون لها قوانين وأنظمة تنسجم مع خياراتها، وتتضمن آليات التغيير والتعديل فيها، وبالتالي فلا يمكن لجماعة واحدة داخل الدولة الواحدة أن تنفرد بما تريد، ولا تستطيع أن تفرض ما تريد، وبالتالي فإنَّ ترويج كل جماعة لأفكارها وقناعاتها والدفاع عنها، جزء لا يتجزأ من محاولة تكوين الرأي العام في الدولة، الذي ينتج عنه التوافق أو الأرجحية، ثم يتكون نظام الدولة.
أمَّا رغبة تغيير نظام الحكم أو تثبيته، والتعبير عن الرضا به أو عدمه، فهو أمر يعود للأفراد أو الجماعات في كيفية تظهير قناعاتهم، وعندها يكون تقييم كل حزب أو حركة أو جماعة من خلال طروحاتهم، وما يتخذه مواطنو الدولة من موقف بتأييد أو رفض هذه الطروحات. فالشريعة أو "طريقة الحياة" للجماعة تتجلَّى بنظام الحكم الذي لا يُطبَّق في دولةٍ ما لمجرد إيمان أفراد أو جماعةٍ ما به، بل هو مسارٌ معقَّد لتثبيت اختيار نظام الحكم تتداخل فيه عوامل كثيرة. فإذا ما كانت الشريعة مختلفة عما يؤمن به الفرد أو الجماعة، فهذا لا يمنعهم من التعبير النظري عن إيمانهم، وتطبيق ما أمكن من الشريعة في حياتهم الخاصة، وهو حق مشروع لجميع الناس في التعبير عن الموقف، من دون إكراه أو فرضٍ بالقوة.
المصادر :
1- البقرة: 257.
2- النساء: 59.
الولاء للوطن: تعبيرٌ ملتبس، حيث تختلط فيه الجغرافيا بالسياسة، فإذا ما كان المقصود هو الارتباط الجغرافي، فكل فرد مواطن ما لم يتخلَّ عن جنسيته ليختار جنسية أخرى في بلدٍ آخر.
وإذا ما كان المقصود الموقف السياسي، فسيأتي الحديث عن قواعد الولاء وتطبيقاتها، لنعرف كيفية ارتباط المواطن بوطنه.
تعريف الإسلام: الإسلام هو آخر رسالة سماوية أتى بها سيد الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تحمل منهجاً كاملاً للحياة، ففيها العقيدة والشريعة، وهي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية كاملة صالحة للفرد والجماعة، ولنظام حكم الدولة طبق تعاليمها، وهي دعوة إلهية تحث الناس على أن يلتزموها، فلا تقتصر على علاقة الإنسان بربه وبنفسه، وإنما تشمل تنظيم علاقات الناس كافة، إذا ما اختاروا تطبيقها في حياتهم ودولتهم.
ولي أمر المسلمين: قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾(1)
فهو الآمر الناهي للمؤمنين، وقد أمرهم بالطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولأولي الأمر الذين يتولون شؤونهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(2)
والواضح أن السلطة من الموقع الديني لأولي الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن للمؤمن أن تبرأ ذمته أمام الله تعالى إلاَّ إذا التزم أوامر وتوجيهات الولي، وهذه مسألة إيمانية عقيدية، ولكن من هو الولي؟ وما هي حدود سلطته على المؤمنين؟ وما تأثير ذلك في وطن لا يتبنى نظامه السياسي الحكم الإسلامي على أساس قيادة "ولاية الأمر"؟
حزب الله: انطلق حزب الله على أساس التزامه بالإسلام عقيدة وشريعة، ويضم في صفوفه من يؤمن بالإسلام كمنهج حياة. وهو يلتزم قيادة الولي الفقيه انسجاماً مع إيمانه بولاية الأمر، كركنٍ أساس لهذا الإيمان، ويتحرك في الساحة كحزب لبناني له تطلعاته وآراؤه ومساهماته في حماية الوطن وإدارته. وقد برز بمقاومته لإسرائيل المحتلَّة في مفصل تاريخي واكب نشأته وقناعاته، وله رؤيته المتكاملة كحزب جهادي سياسي من كل القضايا المطروحة على الساحة، والتي يترجمها عملياً من خلال المواقف التي يتخذها، ومنها ما سنبينه في النظرة إلى الوطن وولاية الفقيه.
المبدأ واتجاهاته
يحتاج الإنسان إلى مبدأ أو رؤية أو منهج يؤمن به في حياته، ليرسم معالمه على أساسه، ما يؤمِّن له ترابط خطواته انطلاقاً من هذا المبدأ. والقاعدة الأمثل أن يختار الإنسان مبدأه بقناعة عقلية بعيداً عن المؤثرات المجتمعية الضاغطة. لكنَّ المجتمع بعاداته وموروثاته يؤثر غالباً في تشويش الصورة. لكنَّها مسؤولية الإنسان في بحثه عن خياره، وهو الأمر الاعتقادي الذي تتأثر به كل حياته فكرياً وسياسياً واجتماعياً... فالمنطلق قبل كل شيء يبدأ من عقيدة الإنسان، ما يعتقده ويؤمن به ويعتبره مبدأ له ومنهاجاً، والذي ينعكس على حياته وسلوكه على جميع الأصعدة في المجتمع، فإذا ما اختار الشريعة المنسجمة مع هذه العقيدة حقَّق الترابط الأفضل في إطار المبدأ الذي آمن به.اختلفت عقائد الناس عبر التاريخ، فانقسموا إلى اتجاهين كبيرين متباينين:
1- الاتجاه الإلهي: بإتباع الأنبياء والرسل وتعاليمهم بحذافيرها.
2- الاتجاه المادي: بتحديد تعاليم ابتدعها الناس من خلال مفكريهم وقياداتهم وزعمائهم، مبنية على رؤيتهم المادية للحياة..
ثم اختلطت الأمور اختلاطاً كبيراً، فتمايز الاتجاهان مع مرور الزمان بخلافٍ حاد بينهما، وفي الوقت نفسه صاحبهما اتجاهات كثيرة مزجت وحذفت وعدَّلت بين الاتجاهين، فنشأت اتجاهات جديدة مختلفة تماماً عنهما، لها خصوصياتها ومعالمها البارزة.
برز الإسلام كاتجاه إلهي يحمل منظومة متكاملة منذ ألف وأربعمائة سنة ونيِّف، في حياة المؤمنين به من ناحية، وفي موقع الحكم والسلطة من ناحية أخرى. ولكنَّ الكثير من ممارسات الحكام والدول شوَّهت وأساءت وراكمت سلبياتٍ لا علاقة لها بالإسلام، أضرَّت كثيراً بهذه التجربة، ومنها بدعة وراثة الحكم، والنزاعات الدموية على السلطة، وقهر المواطنين على إتباع مذهب السلطان... وإنْ بقيت الشريعة من خلال الأحكام الشرعية في المعاملات محفوظة بالإجمال، والعهدة على سلامة التطبيق ومداه.
كما تمَّت صياغة وتطبيق أنظمة حكم مادية عبر التاريخ، كان أبرزها كصيغ مترابطة ما اشتهر في القرنين الأخيرين من خلال الاتجاهين الشيوعي والرأسمالي. وقد طغى على الشيوعي الجانب العقيدي فبرز بوضوح أنه موجِّه للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن هذا الطغيان موجوداً في الاتجاه الرأسمالي الذي آثر في عقيدته حرية الفرد بما فيها حرية الاعتقاد، متجاوزاً إلى رسم معالم المنظومة الاقتصادية المجتمعية على أساس آراء المفكرين الذين صاغوا المبدأ الرأسمالي.
ومع نشوء الدول وانقسامها، كما هي موزعة اليوم، أصبحنا أمام اتجاهات سياسية حاكمة كثيرة التنوع، وإن كانت المعالم الأساسية في أنظمة حكم العالم بشكل عام هي الأنظمة المادية، التي استفادت من بعضٍ من التشريعات الإلهية، واستقلت ببعضٍ آخر، وتفاوتت فيما بينها.
العقيدة والشريعة: يحتاج الإنسان إلى مبدأ، وهو ما نعبِّر عنه بأمرين متلازمين: العقيدة التي يؤمن بها وهي التي تتعلق بالنظرة إلى الخالق وطبيعة الحياة ودور الإنسان فيها، والشريعة أو "طريقة الحياة" التي تنظم الحياة والعلاقات بين الناس، في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...
تنعكس العقيدة على حياة الفرد الشخصية، فإذا ما كان مؤمناً بالله تعالى التزم بالعبادات، وامتنع عن المحرمات، وذلك بحسب ما تمليه عقيدته الإيمانية، وإذا ما كان ملحداً، انعكس إلحاده على ما يفعله وما يرفضه في حياته الشخصية بحرية تامة تعود إلى تقديره فيما يناسب أو لا يناسب، وكذلك إذا لم يكن مؤمناً ولا كافراً بحدودٍ واضحة، وإنما في حالة اعتقاد انتقائية، يعود الأمر إلى تقديره للخير والشر، وللعادات التي نما عليها واقتنع بها. فبذلك تكون العقيدة مؤثرة على السلوك الفردي، وعلى العلاقات مع الناس بتطبيق ما في الشريعة في هذا المجال، وهو إطار محدود وضيِّق، لأنَّ الإطار الأرحب في العلاقات بين الناس يتمثَّل في نظام الحكم.
أمَّا الشريعة فهي المدى الأوسع الذي تشمل معاملات الناس كلها، ومنها ما يرتبط بنظام الحكم، وبذلك يمكن أن تكون الشريعة قاعدة لنظام الحكم السائد في البلد، فيطبقها الأفراد كقوانين، أو أن لا تُطبَّق كنظام للحكم فيختار الأفراد من الشريعة ما يستطيعونه في علاقاتهم اليومية في التعامل الاجتماعي والاقتصادي بما لا يتصادم مع النظام العام، أو بما يدخل في المعاملات الفردية. فالشريعة تؤدي إلى نظام الحكم في الدولة، فإنْ لم يتحقق هذا الأمر، فهي تطبيقات محدودة في حياة الأفراد بحسب إيمانهم وبما يتاح لهم.
بما أنَّ خيارات الناس مختلفة ومتنوعة جداً، فسنكون أمام حالات عدة، في الحالة الفردية وحالة الجماعة.
1- على المستوى الفردي:
إمَّا أن يحمل الفرد على مستوى العقيدة والشريعة أو "طريقة الحياة" رؤية متجانسة، بارتباط الشريعة بالعقيدة، وإمَّا ان تكون رؤيته غير متجانسة بعدم ارتباطهما، فتكون العقيدة من اتجاه، والشريعة أو "طريقة الحياة" من اتجاهٍ آخر.
فيطبِّق من الشريعة أو "طريقة الحياة" في حياته الفردية، بحسب ما يحمله طابع التكليف الفردي ومستوى إيمان هذا الفرد، ويسعى لتُطبِّق الجماعة في حياتها ما يؤمن به.
2– على مستوى الجماعة:
بما أن المجتمعات اليوم محكومة في إطار دول لها حدود جغرافية، فإنَّ الانتظام العام لاستمرارية أي دولة واستقرارها، أن تختار نظام الحكم فيها، وأن يكون لها قوانين وأنظمة تنسجم مع خياراتها، وتتضمن آليات التغيير والتعديل فيها، وبالتالي فلا يمكن لجماعة واحدة داخل الدولة الواحدة أن تنفرد بما تريد، ولا تستطيع أن تفرض ما تريد، وبالتالي فإنَّ ترويج كل جماعة لأفكارها وقناعاتها والدفاع عنها، جزء لا يتجزأ من محاولة تكوين الرأي العام في الدولة، الذي ينتج عنه التوافق أو الأرجحية، ثم يتكون نظام الدولة.
أمَّا رغبة تغيير نظام الحكم أو تثبيته، والتعبير عن الرضا به أو عدمه، فهو أمر يعود للأفراد أو الجماعات في كيفية تظهير قناعاتهم، وعندها يكون تقييم كل حزب أو حركة أو جماعة من خلال طروحاتهم، وما يتخذه مواطنو الدولة من موقف بتأييد أو رفض هذه الطروحات. فالشريعة أو "طريقة الحياة" للجماعة تتجلَّى بنظام الحكم الذي لا يُطبَّق في دولةٍ ما لمجرد إيمان أفراد أو جماعةٍ ما به، بل هو مسارٌ معقَّد لتثبيت اختيار نظام الحكم تتداخل فيه عوامل كثيرة. فإذا ما كانت الشريعة مختلفة عما يؤمن به الفرد أو الجماعة، فهذا لا يمنعهم من التعبير النظري عن إيمانهم، وتطبيق ما أمكن من الشريعة في حياتهم الخاصة، وهو حق مشروع لجميع الناس في التعبير عن الموقف، من دون إكراه أو فرضٍ بالقوة.
المصادر :
1- البقرة: 257.
2- النساء: 59.