
من الأركان الأساس في الأديان السماويّة الإيمان بالمعاد، أي الإيمان بيوم يبعث الله فيه الناس للحساب.
وليوم المعاد أسماء عديدة تعرّض لها القرآن الكريم مثل: يوم القيامة، يوم الحساب، اليوم الآخر، يوم البعث وغير ذلك.إنّ إنكار المعاد كان السمة البارزة للكافرين الذين أنكروا نبوّة الأنبياء (عليهم السلام)، وقد تعرّض القرآن الكريم لهذا الأصل المهمّ في أكثر من ألفيّ آية.والمعاد مأخوذ من العود بمعنى الرجوع، فيقال: هذا وقت مَعَادِه أي وقت رجوعه. فالإنسان بعد مرحلة الموت سوف تعود إليه الحياة، وسوف يعود من جديد ليلقى جزاء عمله من خير أو شرّ.
1ـ الدليل على المعاد
ورد في القرآن الكريم العديد من الأدلّة المُثبِتَة للمعاد، وهذه الأدلّة تُثبت المعاد من خلال رجوع الإنسان إلى عقله، فلو اعتمد الإنسان طريقة صحيحة في التفكير، لتمكّن من الوصول إلى هذه النتيجة. ونتعرّض هنا لدليلين لهذه الأدلّة
أ ـ الدليل الأول: دليل الحكمة الإلهيـّة
من الصفات الإلهيـّة أنّه حكيم، والحكيم هو الّذي يصدر كلّ فعلٍ منه لغاية ولهدف، ولا يصدر منه فعل عبثاً ولغواً، دون غاية وقصد ومطلوب.
وبما أنّ الإنسان مخلوق من مخلوقات الله، أتقن الله صنعه، وخَلَقَه في أفضل صورة، ووَهَبَه القدرة على تسخير السماوات والأرض وما فيها. إذاً، لا بدّ وأن يكون خلق الإنسان لغاية ولهدف، ومن غير الممكن أن يكون الإنسان مخلوقاً عبثا، وإلا لكان فعلا عبثاً ينافي في حكمته تعالى عن ذلك.
إذا اتـّضح هذا، فنحن أمام احتمالين:
الأوّل: أن تكون هذه الحياة الدنيا هي النهاية والخاتمة، فلا حياة بعد هذه الحياة، ولا وجود لعَالَم يسمّى عالم الآخرة والمعاد، وهذا يعني أن الإنسان لم يخلق لغاية ولا لهدف، وأنّ حياته وخلقته عبث ولغو، لأنّ الإنسان لو كان مخلوقاً للحياة المادّية والحيوانيّة فقط لكان تجهيزه بالعقل الّذي يُدرك به أسرار الوجود لغواً، وما فطره فيه على حبّ الكمال الّذي لا حدّ له عبثاً والله عزّ وجلّ حكيم
منزّه عن أن يكون خلقه للإنسان كذلك.
لو كانت هذه الدنيا هي النهاية لهذا الإنسان، لكانت خلقته عبثاً وهباءً.
الثاني: أن يكون هناك عالم آخر، يُبعث فيه الإنسان بعد الموت، وذلك العالم هو الغاية والهدف. وهنا لا يكون خلق الإنسان عبثاً، وتختم حياته بالحياة الماديّة والحيوانيّة بل يتناسب خلقه مع الحكمة الإلهيـّة الّتي توجب أن تتواصل هذه الحياة لتحقيق الهدف الّذي خُلق الإنسان لأجله وهو يوم المعاد.
وتختصر لنا الآية هذا الدليل، بقوله تعالى:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾1.
ب ـ الدليل الثاني: دليل العدالة الإلهيـّة
إذا تأمّلنا في المجتمعات البشريّة كافّة، وقرأنا تاريخها فسوف نجد أنّ المجتمع مكوّن من طائفتين من الناس: مُسيء لغيره ومحسن لغيره.
فالطائفة الأولى: هم الذين يعيشون على ظلم الناس، وأَكْلِ حقوقهم، يفعلون المنكرات، ويمارسون القتل والاضطهاد والأذى بحقّ سائر الناس.والكثير من هؤلاء، لا ينال جزاءه في هذه الدنيا، ولا يتمكّن أحد من الناس أن يسترجع حقّه منه.
والطائفة الثانية: هم الذين يعيشون العدالة ورعاية الحقوق، ويتحمّلون المشاقّ في سبيل سلوك طريق الخير.
والكثير من هؤلاء، لا ينال جزاءه في هذه الدنيا، ولا يتمكّن أحد من الناس أن يسترجع حقّه منه.
والطائفة الثانية: هم الذين يعيشون العدالة ورعاية الحقوق، ويتحمّلون المشاقّ في سبيل سلوك طريق الخير.
والكثير من هؤلاء لا ينالون ثواب عملهم وتضحيتهم في هذه الدنيا، بل لعلّ منهم من يضحّي بنفسه وبروحه في سبيل حفظ حقوق الناس وكراماتهم، كالمجاهدين والشهداء، الذين لم يبخلوا بشيء في سبيل الحقّ.
إذا لاحظنا ذلك فنحن أمام احتمالين أيضاً
الاحتمال الأوّل: أن لا يكون هناك يوم معاد، ويوم جزاء ويوم حساب، وهذا مخالف للعدالة، إذ كيف يستعيد المظلوم حقّه، وكيف يقتصّ من الظالم، وكيف يثاب المحسن على إحسانه؟ الاحتمال الثاني: أن يكون هناك يوم معاد، للحساب والجزاء، فينال العاصي جزاءه ويقتصّ منه، وينال المطيع جزاءه ويُعْطى ثواب عمله، وهو الموافق للعدالة.
﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ﴾السجدة:18
ومن صفات الله عزّ وجلّ العدل، فهو لا يظلم أحداً من الناس ولا يرضى بظلم أحد منهم، وهو الذي يَأخذ بحقّ المظلوم مِن الظالم، ويُثيب المطيع المضحّي، وإذ ليس ذلك في الدنيا كما هو المشهود في يوم آخر وهو يوم المعاد.
ويتعرّض القرآن الكريم لهذا الدليل، بقوله تعالى:﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾2.
لا يجوزُ اليومَ ظالمٌ
عن ثُوير قال: سمعت عليّ بن الحسين يحدّث في مسجد رسول الله قال: حدّثني أبي أنّه سمع أباه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يحدّث الناس قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حُفَرِهِم عزلاً (أي لا سلاح ولا شيء معهم)، جرداً مرداً (أي بدون ثياب) في صعيد واحد، يَسُوقهم النور، وتَجمَعُهم الظلمة حتّى يقفوا على عَقَبَة المَحْشَر، فيركب بعضهم بعضاً، ويزدحمون دونها، فيُمنعون من المُّضي، فتَشتدّ أنفاسهم، ويَكثُر عرَقُهم، وتَضِيْق بهم أمورهم، ويَشتدّ ضجيجهم، وتَرتفع أصواتهم، قال: وهو أوّل هَوْل من أهوال يوم القيامة، قال فيُشرِف الجبّار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة، فيأمر مَلَكاً من الملائكة فينادي فيهم: يا مَعْشَر الخلائق أنصِتُوا واستَمِعُوا منادي الجبّار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم. وقال: فتنكسر أصواتهم عند ذلك وتَخشع أبصارهم وتَضطرب فرائصهم، وتَفزع قلوبهم، ويَرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت،﴿مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾ قال: فعند ذلك يقول الكافر:﴿هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾3.قال: فيُشرِف الجبّار عزّ وجلّ الحَكَم العَدْل عليهم، فيقول: أنا الله لا إله إلّا أنا الحَكَمُ العَدْل الذي لا يَجُور اليوم، أحْكُم بينكم بعدلي وقسطي، لا يُظلَم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القويّ بحقّه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيّئات، وأُثيب على الهِبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم، ولا أحد عنده مظلمة إلّا مظلمة يهبها صاحبها وأُثيبه عليها وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيّها الخلائق، واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهد لكم عليهم وكفى بي شهيدا.
قال: فيَتعارفون ويَتلازمون، فلا يبقى أحد له عند أحد مظْلَمة أو حقّ إلّا لزمه بها، قال: فيَمْكُثون ما شاء الله فيشتدّ حالهم، ويَكثُر عرقهم، ويَشتدّ غمّهم، وترتفع أصواتهم بضجيج شديد، فيتمنّون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها.
قال: ويطّلع الله عزّ وجلّ على جُهدهم، فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى يُسمع آخرهم كما يَسمع أوّلهم: يا معشر الخلائق انصتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا، إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: أنا الوهّاب إن أحببتم أن تواهبوا فتواهبوا، وإن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم. قال: فيفرحون بذلك لشدّة جهدهم، وضيق مسلكهم، وتزاحمهم.
قال: فيَهَبْ بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلّصوا ممّا هم فيه. ويبقى بعضهم فيقول: يا ربِّ مظالمنا أعظم من أن نَهَبَها قال: فينادي مناد من تلقاء العرش، أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس؟ قال: فيأمره الله عزّ وجلّ أن يُطْلِع من الفردوس قصراً من فضّة بما فيه من الأبنية والخدم، قال: فيُطْلِعُه عليهم في حفافة القصر الوصائف والخدم. قال: فينادي منادٍ من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال: فيرفعون رؤوسهم فكلّهم يتمنّاه.
قال: فينادي مناد من عند الله تعالى: يا معشر الخلائق هذا لكلّ من عفا عن مؤمن، قال: فيَعفُون كلّهم إلّا القليل، قال: فيقول الله عزّ وجلّ لا يجوز إلى جنّتي اليوم ظالم4.
المصادر :
1-المؤمنون:115
2-ص:28
3- إشارة إلى قوله تعالى ﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ القمر: 8.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 104 ـ 106.