الوطن مكان ينتمي اليه الانسان ويُنسب اليه، إما لأنه موطن آبائه وأجداده السالفين، وإما لأنه ولد وعاش فيه، وإما لأنه سكنه الى حد يسمح بنسبته اليه. والوطن ليس مكاناً فحسب، بل هناك منظومة من التفاعلات العاطفية التي تجعل الانسان يحنّ الى المكان، ويطمئن فيه، ويتحيز لرموزه ويتعصّب له، ويسالم من سالمه ويعادي من عاداه.1
وفي اللغة الوطن يستبطن الإقامة مع الاستقرار والطمأنينة. وقد أقر الشرع ما ذهب إليه العرف في مفهوم الوطن إلا أنه أضاف بعض المحددات بأن الوطن هو ما يحملك، ما يوفر لك أسباب العيش، المكان الذي تقدر فيه على التعبير عن رأيك وأن تحقق طموحاتك دون ظلم أو قيد أو معوقات.
ومن جملة النصوص التي يمكن الاستدلال بها:
"قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض، قال أوَلم تك أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" / الآية تفيد الدعوة للهجرة الى المكان حيث ينتفي الاستضعاف وتتاح للإنسان فرصة الاختيار والتعبير والتنمية (وهي من مقوّمات الوطن).
"الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن" حديث للإمام علي عليه السلام. الفقر هو أحد أسباب عدم الاستقرار، فلو كان الإنسان فقيراً في وطنه فهو حالة غربة حقيقية لأن من مزايا الوطن أن تتوفر فيه أسباب العيش.
فالوطن إذاً ليس انتماءً بلا شرط، بل هو انتماء بشرط شيء أو أشياء ترتبط بحياة الإنسان وقدرته على توفير أسبابها ومقوماتها.
بين الوطن الخاص والأرض الوطن
الاستخلاف الإلهي للإنسان كان في الارض، عموم الأرض، شرقها وغربها وجميع أبعادها واتجاهاتها، "هو الذي استخلفكم في الارض واستعمركم فيها". والمسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان تمتد لتغطي مساحة الأرض. وعملية الاصلاح الواجبة يجب أن تشمل مساحة الأرض كما أن خطورة الفساد تكمن في الحيّز الذي تشغله من الارض، من هنا كان الذّم لبني اسرائيل في إفسادهم في عموم الأرض (في الماضي وفي المستقبل).والانتماء الى الأرض، إلى العالم، له ارتباط وثيق بطبيعة النهج الإلهي القائم على رحمة الله الشاملة للعباد جميعاً وللكائنات عموماً، والذي تجسد(أي النهج) في أن رسالات السماء عالمية حتى لو نزلت في أطر جغرافية محددة، وأن الرسالة الجامعة والمصدقة لها (أي الإسلام) نزلت للعالمين جميعاً وليظهر على الدين كله (أي على كل ما يدين به الإنسان من فلسفات وأفكار وتوجهات).
والانتماء الى الأرض، أي عالمية الانتماء، هو من خصوصيات الإسلام العظيم الذي يوجه أتباعه نحو فك قيود الأنفس والخروج من العصبيات ولوازمها ومد الارتباط وشبكة العلاقات مع الانتماءات البشرية المختلفة دون حواجز العرق واللون والجنس واللغة والأزمنة والأمكنة والخصوصيات (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
وإن الانتماء إلى الأرض أي العالمية لا يتنافى بأي حال من الأحوال مع الانتماء الأول إلى الأسرة، والثاني إلى المحيط القريب (البلدة / المنطقة) والثالث إلى الوطن والرابع إلى الإقليم والخامس إلى الأمة، بل إن عالمية الإنتماء تتفاعل إيجاباً مع تلك الانتماءات وهي الحاضنة لها والتي تصنع المناخ المؤاتي لحسن أداء الحقوق المترتبة على كل انتماء، وهكذا نصل الى نتيجة مؤداها: "الانسان عالمي الانتماء بحسب تكوينه الفطري ينزع تبعاً لنشأته التدريجية إلى انتماءات تفصيلية لا يفترض أن تتنافى أو تتضارب مع عالميته وإنسانيته".
الوطنية والإسلامية
إن الوطن يعود إلى مقولة "الأين"، أي إلى المكان، والمكان وجوده كما كل الممكنات اعتباري وليس للمكان قيمة ذاتية وإنما بحسب نسبتهوارتباطه بالانسان، والقيمة الحقيقية هي لأهم ممكن في الوجود أي الإنسان فكما أسلفنا في المقدمة فإن الوطن ما يقيم فيه الانسان على نحو الطمأنينة والثبات ويترعرع فيه وينمو بلا معوقات وتتوفر فيه مقومات الحياة، وليس هناك مكان في هذا العالم له قيمة تفوق قيمة الإنسان، بل إن أي مكان يأخذ قيمته بحسب نسبته إلى الإنسان، وكلما كان الإنسان عظيماً كان المكان الذي ينتمي إليه عظيماً.
وإن عظمة الانسان الحقيقية تكمن في انتمائه الى الحق، الذي هو المقدس ذاتاً وبلا أي لحاظ، وكلما كان الإنسان أكثر حقانية كان أكثر مقاماً وتعظيماً، والعكس كذلك، حيث الابتعاد عن الحق هو منشأ انعدام الكرامات، وإن وجود الإنسان بالحق، كما إن سلب وجوده لا يتم إلا بالحق (ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق).
وإن جدلية العلاقة بين الإنسان والرسالة منشؤها هذا الانتماء المشترك المفترض إلى الحق، فكون الرسالة هي موصلة الإنسان إلى الحق بمنهجها وأحكامها فإنها تأخذ قداستها من هذه الحيثية (أي إبلاغ الإنسان مأمله وهدفه وغايته) وعندما يدافع الإنسان عن الرسالة فإنه بذلك يدافع عن الحق ويدافع عن الانسان (عن نفسه) لأن الجنبة الأساسية الملحوظة في الرسالة هي في استمرارية السلوك الانساني إلى الحق فيترتب مما ذكر: أن قيمة المكان تؤخذ من الإنسان وأن قيمة الإنسان تكون بقربه من الحق وامتثاله له، فلو ربطنا مباشرة بين المكان وبين الحق نصل إلى أن شرافة أي مكان في مدى توفير الأسباب لانتشار الحق ولتحققه، وبما أن الإسلام هو النموذج الحق (الهدى ودين الحق) الأمثل، فإنه يعلو على كل مكان وعلى نفس الإنسان مهما بلغ (إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي...)، لأن الإسلام هو المنهج الحق الموصل للإنسان الى غايته ولولاه لتعذر هذا الهدف ولانتفت الحكمة من وجود الإنسان (فالدفاع عن الاسلام هو دفاع عن نهج الحق المحقق لغاية الانسان فهو دفاع عن الانسان وعن الإنسانية).
وبالتالي فإن مشروع الإسلام في حقانيته هو المقدم وصاحب الاولوية المتصدرة كل أولوية وعليه يقاس المكان والزمان والإنسان وباقي المفردات.
وإن الانتماء إلى الإسلام لا يعني مجرد الانتماء إلى بلاد المسلمين، إنه الانتماء إلى أمة الإسلام باعتبارها الإطار الاجتماعي الحاضن للاسلام والحامل للوائه، وإن الانتماء الى أمة الإسلام هو انتماء إلى الأمة الوسط التي تقف في منتصف عالم الإنسان بلا تطرف ولا إفراط ولا تفريط لتعيش الحجية والشهادة مع كل البشر على اختلاف صنوفهم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).
وهذه الوسطية تقرب المسافات والأمكنة وتحتضن الخصوصيات ولا تتنافى معها، فلا مجال للقول بالتنافي بين الانتماء إلى الإسلام (كأمة) وإلى الوطن كجغرافيا وحتى كتاريخ.
وما يمكن أن يحصل عند التنافي لجهة الحكم لا لجهة الانتماء وهذا ما سيتضح في النقطة ما قبل الأخيرة حول الانتماء الى حزب الله (ولاية الفقيه) والى الوطن (التعارض والتلاقي).
لبنان الوطن بمشخصاته الجغرافية
إذا كان المكان هو ما بالاعتبار فمن باب أولى أن ما يحدده المعتبرون أو المقسمون هو ما بالاعتبار أيضاً، لأن الحدود الجغرافية سواء الطبيعية منها أو السياسية إذا كانت مدعاة لنشوء الأوطان على نحو مستقل بفعل العوامل التاريخية، أو بفعل فاعل كما حصل بالنسبة لتقسيم الدولة العثمانية بعد سقوطها، فكلا الأمرين بالاعتبار لا بالحقيقة. فقبول أو رفض الجغرافيا التي حددت الوطن لا يكون بلحاظ أنها بفعل سايكس –بيكو ؛ فالذين قسموا الدولة العثمانية لا بد وأنهم لحظوا القدرة على السيطرة، وعزل الشعوب بعضها عن بعض وتحويل المصالح الضيقة إلى مصالح ذات أولوية ومقدسة، لكن في نفس الوقت قد يكون في جملة ما لحظوه أيضاً إمكانية التقسيم الفعلي، على خلاف ما يحصل اليوم لأن المقسّم هدفه التقسيم القسري الذي يحدث تشققات وبالتالي اضطرابات بما يسمح بالارتهان للمقسم من الأطراف كلها، لكن هل هذا ما حصل بالنسبة للتقسيم في بلاد الشام والذي نتجت عنه البلاد الثلاثة أو الأربعة المعروفة ؟!وهنا لا بد من الاستنجاد بالتاريخ لفهم اللحاظات التي على أساسها كان التقسيم وهل أن الولايات التي كانت تتبع تارة لعكا وطوراً لدمشق كانت تبعيتها ذاتية وقائمة على معايير عقلائية ثابتة بحيث إنها في التقسيم الجديد يجب أن تلحق بما كانت تلحق به من ذي قبل وعليه
يبقى لبنان الجبل مع بعض الساحل، أو أنه لا يبقى لأن مقومات نشوء الوطن الدولة لا تتوفر في هذه الجغرافيا المستحدثة؟ وإذا عدنا الى التاريخ أيضا فقد وردت تسمية لبنان في الزمن السحيق حتى قيل أن أحد الأحجار التي بني منها أساس الكعبة على يدي آدم عليه السلام كان من لبنان (رواية الطبري)، وإن لبنان كان مشهوراً عبر الأحقاب المتعاقبة بانه بر الشام، وقيل إنه جبل عامل الذي استوطنته تلك القبيلة اليمنية بعد سيل العرم الذي أصاب مملكة سبأ قبل الاسلام بعدة قرون من الزمن، مما يشير الى إمكانية وجود محددات لهذا الاسم (لبنان) قبل حصول الفرز النهائي الذي قد يكون قد أهمل أو أضاف أجزاءً خلال هذا الفرز.
وإذا كان لبنان الجغرافيا متمايزاً قبل حصول الفرز، وجاء الفرز ليحافظ إلى حد كبير على هذا التمايز فلا ضير من اعتماده مع بقائه على الاعتبارية (لكونه مكاناً على نحو عام، أو مكاناً تم تحديده وتسميته بلبنان).
المصادر :
1- الدكتور بلال نعيم باحث إسلامي.