"يا من وعدهم (أي خلقه) على نفسه بتفضله حسن الجزاء1... رب قد أوقفت نفسي موقف الأذلاء المذنبين، موقف الأشقياء المتبحرين عليك المستخفين بوعدك..."2
الصحيفة السجادية
أ- في رحاب الدعاء:
في هذه الفقرة الشريفة يشير الإمام عليه السلام إلى آفة من آفات التعامل مع الوعد، ألا وهي الاستخفاف بالوعد الإلهي حيث ورد النهي عنه في الكتاب الكريم، يقول سبحانه: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ"3 فلا يحق لنا أن نستخف بما وعدنا اللَّه تعالى وأعدّه لعباده الصالحين سواء في هذا العالم كالنصر على الأعداء والتسديد في ميادين الجهاد وساحات العمل أو في العالم الآخر من الجزاء المقيم والعطاء الكريم.
وهناك مشكلة أخرى تكمن في الوعد الذي يكون بين الناس، فلا يجدون صدقاً ووفاء فيما بينهم حيث لا يفي الرجل بما وعد، ولا يعمل على ما عاهد، مما يؤدي إلى انتشار البغضاء والعداوة، وسقوط البعض منهم، وعدم الانتظام إلا الذي يراعون هذا الحق ويلتزمون بهذا الواجب الذي مدح اللَّه تعالى به نبيّه إسماعيل عليه السلام وأثنى عليه في قوله عزّ من قائل: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً"4، ومما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "العدة دين ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل لمن وعد ثم أخلف"5.
وللأسف الشديد فإن الكذب بالوعد يشكل ظاهرة شائعة خصوصاً في بعض الأوساط، وهو ما يدعونا إلي إيضاح أهمية الوفاء والصدق بالوعد عبر الكتاب والسنّة والتنبيه على المخاطر والشوائب الناتجة عن عدم الالتزام والاستخفاف به، مع أن الذي يجب أن ينتشر هي تلك الصورة البيضاء الناصعة لعدة المؤمن كما رسمها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: عدة المؤمن دين وعدة المؤمن كالأخذ باليد6، وفي الحديث: "وعد الكريم نقد وتعجيل، وعد اللئيم تسويف وتعليل"7.
ب- كيف نتعامل مع الوعد؟
تتمثل مشكلة عدم الوفاء في أمرين هما:
الأول: أن يعد المؤمن أخاه وهو قادر على الوفاء ثم لا يفي.
الثاني: أن يعده وهو عالم أنه غير قادر على الوفاء من البداية ولا شك أنه ينبغي تلافي الأمر الأول طالما لم يطرأ عجز غير متوقع وإلا كان الإنسان معذوراً إذا عجز بعد أن كان قادراً ويجمل في هذه الحالة اطلاع الآخر على حقيقة ما جرى، وأن يحمل المؤمن في نفسه همّ الوعد يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ما بات لرجل عندي موعد قط فبات يتململ على فراشه ليغدو بالظفر بحاجته، أشد من تململي على فراشي حرصاً على الخروج إليه من دين عدته، وخوفاً من عائق يوجب الخلف، فإن خلف الوعد ليس من أخلاق الكرام"8.
وعن الرضا عليه السلام: "إنا أهل بيت نرى ما وعدنا علينا ديناً كما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم"9.
وكذلك ينبغي تلافي الأمر الثاني وهو الوعد مع العلم بعدم القدرة على الوفاء لأنه قبيح ونوع من أنواع الكذب وقد نهانا الإسلام عن ذلك نهياً شديداً قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون"10
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها"11.
ومما قاله الصادق عليه السلام: "لا تعدن أخاك وعداً ليس في يدك وفاؤه"12.
وقد جمع أحد الشعراء الموقف المطلوب في بيتين من الشعر قائلاً:
حسن قبل نعم قولك لا / وقبيح قول لا بعد نعم
إن لا بعد نعم فاحشة / فبلا فابدأ إذا خفت الندم
ومما ورد في ذم الخلف بالوعد ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام للأشتر لما ولاّه مصر: "وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيّد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان والتزيّد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند اللَّه والناس قال اللَّه تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ"13
ج- الوعد والصغار
ربما يتراءى أنه ليس هناك ضرر في أن يعد الرجل أطفاله ثم يخلف منهم خاصة فيما إذا ألجوا في الطلب ورغبوا بأشياء لا يحب أن يجيبهم إليها بدعوى أنه الذي يمسك بزمام أمورهم وله المونة عليهم، فما هي ردّة فعلهم يا ترى طالما أنه فوق رؤوسهم؟! وقد يبرّر بعض الناس هذا السلوك الخاطئ في التعامل مع الصغار بأن إبقاءهم على أمل الاستجابة لهم خير من ردعهم ومنعهم من أول الطريق تخلصاً من تذمرهم أو بكائهم المؤدي إلى إزعاجه.
والصحيح أن هذه الطريقة لا تتصل بالمنهج التربوي الذي تدعونا إليه الأخلاق الإسلامية ومدرسة أهل البيت عليهم السلام حيث يقول مولانا الكاظم عليه السلام: "إذا وعدتم الصغار فأوفوا لهم، فإنهم يرون أنكم أنتم الذين ترزقونهم، وإن اللَّه لا يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان"14.
لذلك يبقى الخلف بالوعد على قبحه سواء كان مع الكبار أو مع الصغار.
د- خلف الوعد والنفاق
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع من كن فيه فهو منافق وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر"15.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الخلف بالوعد نفاقاً حيث إن النفاق ليس إلا أن يظهر الإنسان غير ما يضمر حقيقة وبالتالي فالمسافة بين خلق الوعد والنفاق أقرب مما قد نظن.
هـ- الوعد في سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل المحدثون عدة وقائع ترتبط باهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشديد بالحفاظ على الوفاء بالوعد مكاناً وزماناً وتحمله المتاعب لقاء ذلك، نذكر منها نموذجين فقط علّنا نقتدي به ونستفيد من سيرة حياته المباركة.
النموذج الأول: يقول أحدهم: بايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ببيع قبل أن يبعث، فبقيت له بقية ووعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو مكانه، فقال: "يا فتى لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك"16.
النموذج الثاني: ما قاله مولانا الصادق عليه السلام: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم واعد رجلاً إلى الصخرة فقال: أنا لك ها هنا حتى تأتي قال: فاشتدت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول اللَّه لو أنك تحولت إلى الظل، قال: وعدته ها هنا وإن لم يجيء كان منه المحشر"17.
و- إسماعيل عليه السلام وصدق الوعد
هناك سؤال يتوجه أنه لماذا سمي إسماعيل عليه السلام صادق الوعد في القرآن الكريم ولم تطلق هذه التسمية على غيره في الآيات مع أننا لا نشك في أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا صادقي الوعد.
والجواب يأتينا من مولانا الصادق عليه السلام قائلاً: "إنما سمي إسماعيل عليه السلام صادق الوعد لأنه وعد رجلاً في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه اللَّه عزّ وجلّ صادق الوعد ثم قال: إن الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل عليه السلام: ما زلت منتظراً لك"18.
من فقه الاسلام
س: هل يحتاج العهد في انعقاده إلى صيغة معينة أو يكفي مجرد النية؟
ج: لا ينعقد العهد بمجرد النية بل يحتاج إلى الصيغة على الأقوى وصورتها عاهدت اللَّه، أو عليّ عهد اللَّه.
س: هل يشترط أن يكون العهد معلقاً على شيء أو لا؟
ج: يقع العهد مطلقاً، ومعلقاً على شرط كالنذر، والظاهر أنه يعتبر في المعلق عليه إن كان مشروطاً ما اعتبر فيه في النذر المشروط.
س: هل يعتبر في العهد ما يعتبر في اليمين أن لا يكون مرجوحاً ديناً أو دنيا؟
ج: ما عاهد عليه هو بالنسبة إليه كاليمين يعتبر فيه أن لا يكون مرجوحاً ديناً أو دنيا، ولا يعتبر فيه الرجحان فضلاً عن كونه طاعة، فلو عاهد على فعل مباح لزم ولو عاهد على فعل كان تركه أرجح أو على ترك أمر كان فعله أولى ولو من جهة الدنيا لم ينعقد، ولو لم يكن كذلك حين العهد ثم طرأ عليه ذلك انحل.
س: هل هناك كفارة واجبة حال مخالفة العهد؟
ج: مخالفة العهد بعد انعقاده توجب الكفارة والأظهر أن كفارتها كفارة من أفطر يوماً من شهر رمضان19.
19- تحرير الوسيلة، ج2، ص124.
قال تعالى: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً"20
عن الصادق عليه السلام: "إن عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف اللَّه بدأ، ولمقته تعرض"21.
الوفاء وحفظ العهد
أوقف الباص لكي أصلّي وإلا رميت بنفسي منه!نقل أحد المؤمنين، أنه سمع أحد الخطباء يقول: كنت جالساً في حافلة لأسافر إلى مدينة نائية من مدن إيران.
لم يكن على المقعد بجانبي أحد، وكنت أخشى أن يجلس من لا أرغب في جواره، فيضايقني في هذا الطريق البعيد. فسألت اللَّه تعالى في قلبي:
إلهي إن كان مقدراً أن يجلس عندي أحد، فاجعله إنساناً متديناً طيباً!
وهكذا جلس المسافرون على مقاعدهم، ولم أرَ من يشغل المقعد الذي بجانبي، فشكرت اللَّه أني وحيداً!
ولكني فوجئت في الدقيقة الأخيرة قبل الحركة!
بشاب يبدو عليه مظهر الهيبيز (جماعة من الناس لا تهتم بمظهرها) وبيده حقيبة صغيرة من صنع بلد أجنبي، وكأنه من غير ديننا، فتقدم حتى جلس عندي، وأنا أقول في قلبي: يا ربّ أهكذا تستجيبَ الدعاء؟!
تحركت السيارة ولم يتفوه أحد منا للثاني بكلمة، لأن الانطباع المأخوذ في أذهان هؤلاء الأشخاص عن المعمّمين كان إنطباعاً سيّئاً، بفعل الدعايات المغرضة التي كانت تبثها أجهزة النظام الشاهنشاهي ضد علماء الدين. لذلك آثرت الصبر والسكوت وأنا جالس على أعصابي، حتى حان وقت الصلاة (أول وقت الفضيلة)، وإذا بالشاب وقف ينادي سائق الباص: قف هنا، لقد حان وقت الصلاة! فرد عليه السائق مستهزئاً وهو ينظر إليه من مرآته: إجلس، أين الصلاة وأين أنت منها، وهل يمكننا الوقوف في هذه الصحراء؟
قال الشاب: قلت لك قف وإلاّ رميتُ بنفسي، وصنعتُ لك مشكلة بجنازتي!
ما كنتُ أستوعب ما أرى من هذا الشاب، أنه شيء في غاية العجب، فأنا كعالم دين أولى بهذا الموقف من هذا الشاب الهيبيز!
فعدم مبادرتي إلى ذلك كان إحترازاً عن الموقف العدائي الذي يكنّه البعض لعلماء الدين، لذلك كنت أنتظر لأصلي في المطعم الذي تقف عنده الحافلة في الطريق.
وهكذا كنت أنظر إلى صاحبي بإستغراب شديد، وقد اضطر السائق إلى أن يقف على الفور، لما رأى إصرار الشاب وتهديده.
فقام الشاب ونزل من الحافلة، وقبمت أنا خلفه ونزلت، رأيته فتح حقيبته وأخرج قنينة ماء فتوضأ منها ثم عيّن إتجاه القبلة بالبوصلة وفرش سجادته، ووضع عليها تربة الحسين الطاهرة وأخذ يصلي بخشوع، وقدّم لي الماء فتوضأت أنا كذلك وصليت!
ثمّ صعدنا الحافلة، وسلّمت عليه بحرارة معتذراً من البرودة التي استقبلته بها أولاً، ثم سألته: مَن أنت؟
قال: أن لي قصة لا بأس أن تسمعها، فقد كنت لا أعرف الدين ولا الصلاة يوم كنت أدرس الطب في فرنسا، وأنا الولد الوحيد لعائلتي التي دفعت كل ما تملك لأجل دراستي هذه.
كانت المسافة بين سكني والجامعة التي أدرس فيها مسافة قرية إلى مدينة.
وكان الوقت بارداً جداً عندما ركبتُ السيارة التي كنت أستقلّها يومياً إلى المدينة مع ركاب آخرين، وكنت على موعد مع الامتحان الأخير الذي تترتب عليه نتيجة جهودي كلّها.
فلما وصلنا إلى منتصف الطريق عطبت السيارة، وكان الذهاب إلى أقرب مصلِّح (ميكانيك) يستغرق من الوقت ما يفوّت عليّ الحضور في الامتحانات النهائية للجامعة، لقد أرسل السائق من يأتي بما يحرّك سيارته وأصبحتُ أنا في تلك الدقائق كالضائع الحيران، لا أدري أتجه يميناً أو يساراً، أم يأتيني من السماء من ينقذني، كنتُ في تلك الدقائق أتمنى لو لم تلدني أمي، (وأن تشق الأرض لأخفي فيها نفسي)، إنها كانت أصعب دقائق تمرّ عليّ خلال حياتي وكأن الدقيقة منها سهم يرمى نحو آمالي، وكأني أشاهد أشلاء آمالي مقطعة أمامي، ولا يمكنني إنقاذها أبداً.
فكلما أنظر إلى ساعتي كانت اللحظات تعتصر قلبي، فكدتُ أخرّ إلى الأرض، وفجأة تذكرتُ أن جدتي في إيران عندما كانت تصاب بمشكلة أو تسمع بمصيبة، تقول بكل أحاسيسها: يا "صاحب الزمان".
هنا ومن دون سابق معرفة لي بهذه الكلمة وصاحبها ومعناها الاعتقادي، قلت بكل ما في قلبي وفكري من حبّ وذكريات عائلية: "يا صاحب زمان جدتي"!
ذلك لأني لم أعرف من هو (صاحب الزمان)، فنسبته إلى جدتي على البساطة، قلت: فإن أدركتني، أعدك أن أصلي دائماً وفي أول الوقت! وبينما أنا كذلك، وإذا برجل حضر هناك، فقال للسائق بلغة فرنسية: شغّل السيارة!
فاشتغلت في المحاولة الأولى، ثم قال للسائق: أسرع بهؤلاء إلى وظائفهم ولا تتأخر، وحين نزوله التفتَ إليّ وخاطبني بالفارسية:
لقد وفينا بوعدنا، يبقى أن تفي أنت بوعدك أيضاً! فاقشعرّ له جلدي وبينما لم أستوعب الذي حصل ذهب الرجل فلم أرَ له أثراً.
من هنا قرّرتُ أن أصلي وفاءً بالوعد، بل وأصلي في أول الوقت. المصادر :
1- د12، ص55، س أ.
2- د53، ص225، س4.
3- الروم:60.
4- مريم:54.
5- ميزان الحكمة، حديث: 21955.
6- م.ن. 21956.
7- م.ن. 21963.
8- غرر الحكم: 9692.
9- البحار، 20 97 75.
10- الصف:3.
11- غرر الحكم: 10297.
12- ميزان الحكمة، حديث: 21974.
13- نهج البلاغة: الكتاب 53.
14- ميزان الحكمة: 21981.
15- الخصال، ج1، البحار، ج72.
16- الترغيب والترهيب: 12 9 4.
17- مكارم الأخلاق، ج1، ص64.
18- أصول الكافي، ج2، ص105.
20- الإسراء:2.
21- أصول الكافي، ج2، ص363.