"اللهم صل على محمد وآله، وسدّدني لأن.. أغضي عن السيئة1... اللهم إني أعتذر إليك.. من مسيىء اعتذر إليّ فلم أعذره2.. اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه وانتهك مني ما حجرت عليه، فمضى بظلامتي ميتاً، أو حصلت لي قبله حياً.. فاغفر له ما ألمّ به مني، واعف له عما أدبر به عني، ولا تقفه على ما ارتكب فيّ، ولا تكشفه عما اكتسب بي، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم، وتبرّعت به من الصدقة عليهم أزكى صدقات المتصدقين وأعلى صلات المتقربين وعوّضني من عفوكِ عنهم عفوك"3.
الصحيفة السجادية
أ- في رحاب الدعاء:
العفو فضيلة أكثر أهل البيت عليهم السلام دعوة الناس إليها واعتبروها سبباً رئيساً في استقرار المجتمعات وثباتها، وركناً في الإصلاح البشري والتعايش ومن ذلك ما ورد في هذا الدعاء المبارك لمولانا السجاد عليه السلام بأسلوب ساحر في البيان ورائع في إيصال المعاني إلى حيث تستقر في القلوب وتتمكن منها لتترجم فيما بعد سلوكاً عملياً، وبناءً نفسياً عاطفياً نابعاً من العقل والشرع معاً، فإذا كان المخلوق الضعيف قدّر له أن يعفو فكيف بالخالق العظيم الذي لا شك أنه سيعوّضنا من عفونا عمن ظلمنا عفوه عنّا لأنه أكرم بالعفو، ومما ورد عن العترة الطاهرة عليهم السلام في أهمية العفو ما عن أمير المؤمنين عليه السلام العفو تاج المكارم4 العفو أعظم الفضيلتين5 شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل6 قلة العفو أقبح العيوب والتسرّع إلى الانتقام أعظم الذنوب7.
وفي الحديث: "إذا أوقف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجره على اللَّه وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجره على اللَّه؟ قال: العافون عن الناس"8.
ب- العفو الجميل والعفو القبيح:
ليس بالإمكان أن نقول أن العفو جميل في كل الموارد وعامة المواضيع وسائر شؤون العباد والبلاد، وعلى ضوء ذلك يقال ليس هناك عفو غير جميل، بل الصحيح أنه يوجد عفو قبيح حذّرنا منه الإسلام ولا يعتبر من الفضائل بل هو من الرذائل والذي لا بد من معرفته أنه ما هو الضابط الذي على ضوئه يصبح العفو جميلاً أو قبيحاً والجواب أن العفو بأصله جميل إلا ما ورد النهي عنه والتنبيه منه، والأمر الذي يعتبر قاعدة في المقام هو ما كان فيه العفو عنصر مساعدة على الإصلاح والبناء سواء من ناحية فردية أو جماعية من حيث كونه مقرباً إلى اللَّه سبحانه ومعاوناً على التزام خط الاستقامة فهو مطلوب ومرغوب وأما ما يشكل عنصر مساعدة على الانحراف وتشجيع على تكرار الاعتداء وانتهاك الحقوق لأنه كلما عفا صاحب الحق كرّر المعفو عنه الجرم مرة أخرى وهكذا فهو غير مرغوب ولا مطلوب بل ويقبح في مثل هذه المواطن. إلى حد يوجب استنكار الآخرين.
ومثال العفو الجميل ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لرجل شكى إليه خدمه: "اعف عنهم تستصلح به قلوبهم" فقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إنهم يتفاوتون في سوء الأدب. فقال: "اعف عنهم" ففعل9.
وفي هذا الحديث تصريح واضح أن الاستصلاح ركيزة في العفو عنهم. ومثال العفو القبيح ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "جاز بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"10 هنا أشار عليه السلام إلى عنوانين لا يحسن التجاوز عن السيئة فيهما:
الأول: الثلم في الدين وهو أمر لا يمكن الدعوة إلى تسبيبه على الإطلاق.
والثاني: الضعف في حكومة الإسلام وسلطته وكذلك هو أمر خطير نهانا اللَّه تعالى عنه.
وهناك عنوان ثالث عام أشار إليه مولانا السجاد عليه السلام وهو لزوم الضرر حيث قال: "حق من أساءك أن تعفو عنه وإن علمت أن العفو عنه يضرّ انتصرت قال اللَّه تبارك وتعالى: "وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ""11.
ويجمع المعنيين للعفو حديث أمير المؤمنين عليه السلام حيث يكشف عن ضابطة الإصلاح والإفساد مع الكريم في الأول ومع اللئيم في الثاني قائلاً: "العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم"12.
ج- العفو الأكبر والعفو الأصغر:
هناك نحوان من العفو كلاهما فضيلة أعد اللَّه تعالى على التحلي بها ثواباً عظيماً ومكانة عالية غير أن أحدهما أهم وأكبر وأحسن من الآخر وهو العفو مع القدرة أي حينما يقدر الإنسان أن يأخذ حقه من المعتدي وكانت الظروف ملائمة والشروط الشرعية متوفرة لكنه آثر أن يعفو عنه مع مقدرته عليه رجاء أن يعفو اللَّه عنه ورغبة في الثواب والنجاة من العقاب يوم الجزاء، والحث عليه في الروايات كثير فقد ورد: "أحسن العفو ما كان عن قدرة"13، "العفو مع القدرة جنة من عذاب اللَّه سبحانه"14، "أحسن أفعال المقتدر العفو"15، "أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة"16، "العفو زكاة القدرة",17 "العفو زين القدرة"18.
والنحو الثاني مهم لكنه أصغر من صاحبه وهو العفو حالة العجز الفعلي عن تحصيل الحق وإمكان تجدد القدرة في المستقبل على معاقبة المسيء إليه، فينوي أنه إذا قدر عليه أن يعفو عنه ويسقط حقه لقاء وجه اللَّه وإن كان في الحاضر غير قادر على مجازاته أو استيفاء ماله عنده من حقوق إلا أنه قد سامحه يقول تعالى: "الَّذِينَ ينْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"19.
ويقول الصادق عليه السلام: "إنا أهل بيت مروّتنا العفو عمن ظلمنا"20.
ومما جاء في الحديث: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك"21.
د- آثار العفو:
1- ذهاب الحقد والضغينة: يقول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "تعافوا تسقط الضغائن بينكم"22.
2- إقالة العثرة يوم القيامة: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أقال مسلماً عثرته أقال اللَّه عثرته يوم القيامة"23.
3- العزة في الدنيا والآخرة: في الحديث: "من عفا عن مظلمة أبدله اللَّه بها عزاً في الدنيا والآخرة"24.
4- إطالة العمر: روي: "من كثر عفوه مدّ في عمره"25.
5- النصر: يقول الرضا عليه السلام: "ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمهما عفواً"26.
6- بقاء الملك: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "عفو الملوك بقاء الملك"27.
7- النجاة من عذاب النار: في الحديث: "تجاوزوا عن ذنوب الناس يدفع اللَّه عنكم بذلك عذاب النار"28.
8- الوقاية من سوء الأقدار:
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم اللَّه بذلك سوء الأقدار"29.
9- مغفرة اللَّه ورضوانه:
من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام قبل أن تفيض روحه المقدسة: "إن ابقَ فأنا ولي دمي، وإن أفنَ فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم"30.
10- قصور مشرفة على الجنة:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "رأيت ليلة أسري بي قصوراً مستوية مشرفة على الجنة فقلت: يا جبرئيل لمن هذا؟ فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللَّه يحب المحسنين"31.
من فقه الاسلام
س: ما هي الإقالة وبأي لفظ تقع؟ج: الإقالة حقيقتها فسخ العقد من الطرفين، وتقع بكل لفظ أفاد المعنى المقصود عند أهل المحاورة كأن يقولا: تقايلنا أو تفاسخنا أو يقول أحدهما: أقلتك فقبل الآخر، بل الظاهر كفاية التماس أحدهما مع إقالة الآخر.
س: هل يعتبر في الإقالة اللفظ العربي؟
ج: لا يعتبر فيها العربية، والظاهر وقوعها بالمعاطاة بأن يرد كل منهما ما انتقل إليه إلى صاحبه بعنوان الفسخ.
س: هل تصح الإقالة في النكاح؟
ج: لا تصح الإقالة في عقد النكاح.
س: هل يمنع تلف أحد العوضين من صحة الإقالة؟
ج: التلف غير مانع من صحة الإقالة، فلو تقابلا رجع كل عوض إلى مالكه، فإن كان موجوداً أخذه، وإن كان تالفاً يرجع إلى المثل في المثلي والقيمة في القيمي.
س: هل تجوز الإقالة مع زيادة على الثمن المتفق عليه في العقد أو نقصان منه؟
ج: لا تجوز الإقالة بزيادة على الثمن المسمى ولا نقصان منه، فلو أقال المشتري بزيادة أو البائع بوضيعة بطلت وبقي العوضان على ملك صاحبهما.
س: هل تصح الإقالة في بعض ما وقع عليه العقد لا في المبيع كاملاً؟
ج: تصح الإقالة في بعض ما وقع عليه العقد ويقسط الثمن حينئذٍ على النسبة32.
قال تعالى: "إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً"33.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شر الناس من لا يعفو عن الزلة ولا يستر العورة"34.
ما دخلت المسجد إلا لأستغفر لك!
كان مالك الأشتر ماراً في سوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة من خام أيضاً.. فرآه شخص يغلب عليه الطيش فاحتقره لثيابه العادية هذه.. ورماه ببندقة طين فلم يلتفت إليه الأشتر ومضى.فقيل له: هل تعرف من رميت؟
قال: لا.. قيل: هذا مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد كان حديث مالك بين الناس على كل شفة ولسان.
فارتعد الرجل.. وتبع الأشتر ليعتذر إليه.. فوجده قد دخل مسجداً.. وهو قائم يصلي.
فلما فرغ من صلاته وقع الرجل على قدميه يقبلهما فقال الأشتر: ما هذا..
قال: أعتذر إليك مما صنعت.
قال الأشتر: لا بأس عليك فواللَّه ما دخلت المسجد إلا لأستغفر لك(القصص العجيبة لدستغيب)
من ينجيك مني يا محمد!
عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: "نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشد على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي وربك. فنسفه جبرئيل عليه السلام عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد، فتركه، فقام وهو يقول: واللَّه لأنت خير مني وأكرم"(الكافي، ج8)
الملك بهرام والراعي السارق!
حكي أن بهرام الملك خرج يوماً للصيد فرأى صيداً فتبعه وانفرد عن عسكره فمرّ براعٍ تحت شجرة فنزل لحاجة وقال للراعي: حافظ على فرسي، فعمد الراعي إلى عنانه الذهب وقطع أطرافه، فوقع نظر بهرام عليه فاستحيى وأطرق رأسه وأطال الجلوس حتى أخذ الرجل حاجته فقام بهرام واضعاً يديه على عينيه يقول للراعي: قدّم إليّ فرسي فقد دخل في عيني من سافي الريح فما أستطيع فتحها، فركب وسار حتى بلغ عسكره فقال لصاحب مراكبه: إن أطراف اللجام وقد وهبتها فلا تتهمنّ بها أحداً.المصادر :
1- الصحيفة السجادية الدعاء 20، ص83، س8.
2- الصحيفة السجادية الدعاء 38، ص147، س2.
3- الصحيفة السجادية الدعاء 39، ص149، س4.
4- ميزان الحكمة، حديث: 13170.
5- م.ن. 13193
6- م.ن. 13192.
7- م.ن. 13194.
8- م.ن. 13173.
9- م.ن. 13222.
10- م.ن. 13224.
11- م.ن. 13225.
12- كنز الفوائد للكراجكي، ج2، ص182.
13- ميزان الحكمة، حديث: 13217.
14- م.ن. 13215.
15- م.ن. 13216.
16- م.ن. 13209.
17- م.ن. 13213.
18- م.ن. 13214.
19- آل عمران:134.
20- أمالي الصدوق، 238.
21- الكافي، ج2، ص107.
22- ميزان الحكمة، حديث: 13176.
23- م.ن. 13179.
24- م.ن. 13183.
25- أعلام الدين: 315.
26- الكافي، ج2، ص108.
27- البحار، ج77، ص168.
28- تنبيه الخواطر، ج2، ص120.
29- م.ن.
30- نهج البلاغة الكتاب، 23.
31- ميزان الحكمة، الحديث: 13178.
32- تحرير الوسيلة، ج1، ص509 (القول في الاقالة).
33- النساء:149.
34- غرر الحكم: 5735.