وفي هذه الليلة يحصل لدى الإنسان توجه إلهيّ وروحاني عليه استغلاله ويقرّر التغيير الشامل فيها. فالله سبحانه وتعالى يمنحنا الفرصة ولكن البعض لا يستغلّها، في حين أن عليهم أن يغتنموها ويرسموا من الآن صورة لمستقبلهم الجديد، ويضعوا برنامجاً لحياتهم الآتية.
والبرنامج هذا موجود في الأدعية؛ وخصوصاً في دعاء أبي حمزة الثماليّ الذي نجد في نهايته برنامجاً متكاملاً لحياة الإنسان. فنحن نقرأ في هذا الدعاء الشريف عبارات من مثل: "اللهم خُصّني منك بخاصة ذكرك ولا تجعل شيئاً مما أتقرّب به في آناء الليل وأطراف النهار رياءً ولا سمعةً ولا شرّاً ولا بطراً، واجعلني لك من الخاشعين، اللهم أعطني السعة في الرزق والأمن في الوطن وقّرة العين في الأهل والمال والولد والمُقام في نعمك عندي والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني...". (1)
وبعد؛ فهذا برنامج حياة، ومجموعة تطلّعات، وهذه هي الحياة والسعادة الحقيقيّتان. فلنضع هذا البرنامج أمامنا، ولنطلب من الله عز وجل بشكل جدّي أن يوفّقنا الى تطبيقه في ليلة القدر. فالله يستجيب لا محالة للدعاء الصادر من قلب مخلص، ونفس لا يشوبها الرياء، وقد ضمن لنا هذه الإجابة في محكم كتابه الكريم عندما قال: وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي (البقرة/186)
وإذا كان هذا الوعد صادراً من الله؛ وهو العادل الصادق الكامل، فانّه سيكون بمثابة بشرى يزفّها الى المؤمنين الصادقين الذين عقدوا العزم على تغيير نفوسهم، ونفّذوه من خلال استغلال المناسبات الروحيّة في تزكية أنفسهم، وتطهيرها من الرواسب السيئة، وخصوصاً في ليلة القدر.
محطة المسؤولية
قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم حول ليلة القدر وعظمتها وشرفها:حـم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّـا مُنذِرِيـنَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِندِنَآ إِنَّا كُنَّـا مُرْسِلِيـنَ * رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الدخان/1-6)
وقال عز وجل أيضاً: إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر (القدر/1-5)
وفيما يتعلق بليلة القدر سنتحدث عن ثلاثة أمور، هي:-
1- معنى هذه الليلة، وأهمّيتها، وما يمكننا أن ننتفع به فيها.
2- ارتباط ليلة القدر بالمسؤولية ودعم الإرادة البشرية.
3- علاقتنا بالإمام الحجة عجل الله فرجه، وعلاقته هو بليلة القدر، وبالتالي العلاقة الروحيّة والمادّية التي تربطنا أو التي يجب أن تربطنا بالإمام الحجة.
إنّ ليلة القدر تحدّثنا عن (القدر) الذي يعني التقدير؛ بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى قدّر الأشياء، وجعل فيها سنناً وقوانين، وأجرى هذه السنن والقوانين على الإنسان.
ما هي ليلة القدر؟
ولكن ترى ما هي ليلة القدر؟نحن نعلم أنّ هذه الليلة مرتبطة بنـزول القرآن الكريم، ولأنّنا نؤمن بالقرآن، ونعرف أنّه ميلاد حضارتنا وأمّتنا وشخصيّتنا، وأنّه منقذنا وقوام حياتنا وسلوكنا وبصائرنا في هذه الحياة، فإنّ من الواجب أن نخصّص ليالٍ في العام نحتفل فيها بذكرى نـزول القرآن الكريم.
ولأنّ الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى وبعث به محمداً صلى الله عليه وآله لم يكن دين أشخاص ولا مادّيات، بل كان دين قيم وأخلاق، فإنه أولى لليلة القدر أهمّية تفوق أهمية سائر المناسبات الإسلامية الأخرى كيوم الجمعة، والعيدين الشريفين..
ومن جهة ثانية؛ لأن ليلة القدر هي عيد القرآن، وعيد القيـم والمقدّسات.. والإسلام هو دين المعنويات والروحيات، دين يربطنا بالسماء، وإذا ما ربطنا بالأرض فانّه يربطنا بحيث لا نخلد إليها، ولا نتعلّق بها. فهو يعلّمنا أن نقول: "اللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور".(2) فيجب أن تكون هناك مسافة بيننا وبين الأرض والتراب، وبالتالي بيننا وبين كلّ ما يبعدنا عن الإسلام وقيمه. ولذلك يقول القرآن الكريم عن ليلة القدر: إِنَّآ انزَلْنَاهُ ولأنّا أنزلنا القرآن الكريم في هذه الليلة، فلذلك أصبحت هذه الليلة ليلة شريفة هي خير من ألف شهر؛ وبعبارة أخرى خير من ثمانين سنة بما فيها من مناسبات دينية عظيمة.
بالحق يعرف الرجال
و نحن نرى أن المسلمين يحتفلون بالأعياد الأخرى، ولكنّهم – للأسف–لا يحتفلون بليلة القدر التي يجب أن يكون الاهتمام بها أكثر. والسبب في هذه الظاهرة المؤسفة أنّنا – نحن المسلمين – نعرف الرسالة من خلال الأشخاص، فنعرف القرآن من خلال نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله ومن خلال الإمام علي عليه السلام، ونعرف الجهاد عبر الإمام الحسين عليه السلام، وبالتالي فإنّهم يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق ومن خلال المبادئ والقيم والفطرة الإنسانية.
ومن هنا؛ ندرك سبب تحوّل الأمّة، وسبب تغييرها لوجهتها الحقيقية، وعدم اهتمامها ببعض الأمور التي يجب أن تهتم بها، ومن جملة هذه الأمور "ليلة القدر".
إن بعض المؤمنين قد يجدون وسيلة للدعاء، ولكنهم لا يجدون وسيلة للقرآن الكريم، وللتعرف عليه من جديد، لأنَّ فلسفة الاحتفال بمثل هذه المناسبات أن يعيد الإنسان النظر في حياته وواقعه، ونحن عندما نحتفل بعيد ميلاد القرآن مرة واحدة كلّ عام فإنّنا يجب أن نعيد النظر في علاقتنا بالقرآن، ومستوى فهمنا له، ولكنّنا لا نفعل عادة ذلك للأسف الشديد.
ليلة القدر عيد
وهنا يبقى سؤال آخر، وهو أننا قد تعوّدنا على أن تكون الأعياد أياماً، فكيف يمكن أن تكون في الليالي كما هو الحال في ليلة القدر؟وللجواب على هذا التساؤل نقول إن الإنسان يرتبط في نهاره بالحياة المادية، إذ أنه قد جعل معاشاً للإنسان، أما الليل فهو الوقت المناسب لعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى. ولأنّ الليل كذلك، ولأنّ العيد الحقيقي للاسلام هو عيد القيم، والعلاقات الروحيّة التي تربط بين الإنسان وخالقه، فقد كان وقت عيد مولد القرآن ليلاً لا نهاراً، ولذلك يقول القرآن الكريم: إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍَ (الدخان/3).
وإذا أردنا أن نتعرّف على هذه الحقيقة فلابدّ ان نرجع الى سورة (المزمّل) حيث يقول عز وجلّ: يَآ أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (المزمل/1-2)، والسبب في ذلك يوضحه القرآن الكريم عندما يقـول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيـلاً (المزمل/5-6) فلأنّ الرسول صلى الله عليه وآله كان يريد أن يتلقّى الوحي فقد كان عليه أن يقوم الليل، لأنّ هذا الوقت هو ميلاد الإنسان المتمسّك بالقيم الروحيّة والمعنوية، وهو أيضاً ميلاد القرآن، وطريق توجيه الإنسان من الناحية الروحيّة.
علاقة الأمّة بليلة القدر
وللإجابة على السؤال الثاني وهو: ما هي علاقة الأمة الإسلامية اليوم بليلة القدر؟ نقول: إنّ القرآن الكريم يتحدث في سورة (الدخان) عن ليلة القدر مستعملاً كلمة (الحكيم): ... فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (الدخان/4) وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى يعطي للناس هذه الليلة بعد أن تفرّق حقوقهم عن بعضهم البعض بحكمة، وبمقدار جهادهم وعملهم وتحمّلهم للمسؤولية والصعوبة التي يلاقونها في الدنيا كما قال الإمام علي عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: "حُفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات". (3)وفي هذا المجال يقـول الله جل وعـلا: أَحَسِبَ النَّـاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.... (العنكبوت/2-3)
فحينما نفهم حقيقة ليلة القدر، وندرك أنّ هذه الليلة هي الليلة التي يفرّق فيها الله تبارك وتعالى بين عباده، وأمورهم بالحكمة، فإنّ هذه الحكمة تقتضي منّا أن نخطّط لحياتنا في هذه الليلة وفق المنهاج الإلهيّ وهداه، ووفق ما تأمرنا به عقولنا وفطرتنا وتجاربنا المكتسبة، ثم علينا بعد ذلك أن نسأل الله في هذه الليلة التوفيق والبركة، والإعانة على سدّ ثغراتنا، وهذه هي حقيقة علاقة ليلة القدر بنا كأفراد.
محطة التـزوّد بالوقود الروحيّ
فليلة القدر هي محطّة للتـزوّد بالوقود الروحي. والإنسان يحتاج إلى محطّات في حياته، ويحتاج الى منابع، وهذه المنابع موجودة ومتوفّرة في ليلة القدر كما أن الإنسان تلزمه إعادة النظر في حياته الروحية في ليلة القدر، ولعظمـة هذه الليلة وأهميّتها لما أكّد عليها الخالق عز وجل كلّ هذا التأكيد الذي يفوق أيّ تأكيد آخر على أية مناسبة أخرى، لأنها - أي هذه الليلة - مفعمة بالمعاني والدلالات الروحيّة، ولذلك جاء التأكيد على أداء الممارسات العباديّة فيها، ومنها الصلاة المندوبة التي على الإنسان المسلم أن يؤدّيها فرادى لكي لا يختلط عمله بالرياء. فصلاة الليل هي الصلاة التي سنّت وشرعت لتكريس العلاقة الروحية، هذا التكريس الذي لا يمكن أن يحدث إلاّ إذا أدّى الإنسان العبادات بعيداً عن الناس.
ترى من منّا فكّر أن يخلو الى نفسه في زاوية من الزوايا ليلة أو ليلتين ليعيد النظر في علاقته مع الله عز وجل، وفي سلوكه وتصرّفاته؟ ومن منّا فكّر في أنه هل هو من أهل الجنّة أم من أهل النار، وهل أنّ أعماله قرآنية أم لا؟
وإذا ما مات الإنسان فإنّ فرصته لا يمكن أن تعود، فلماذا يستمرّ في خداع ذاته، ولماذا لا يتنبّه من غفلته، وقد ورد: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". (4)
وأنا أتصوّر إنّ الإنسان يشبه الى حد كبير الرجل الذي ابتلع مجموعة ضخمة من الحبوب المنوّمة، وهو يعرف أن علاجه أن يستيقظ من النوم ليداوي ويعالج نفسه بقوّة إرادته، ثم هو يوقظ نفسه ولكن لعدة دقائق تضعف إرادته بعدها ليتغلّب عليه النوم مرّة أخرى، ثم ينتبه مرّة أخرى من خلال عامل إيقاظ ذاتي أو خارجي ثم إذا به ينام مرّة أخرى وهكذا. وحتى ينتبه الانتباه المطلوب فانه بحاجة الى المزيد من الوقت.
وقد أثبت علم النفس الحديث ان الإنسان إذا تعوّد - مثلاً- أن يطالع في غرفة معينة ووفق شروط خاصّة خلال ساعة محدّدة، فعندما يحين الوقت يجد نفسه مشدوداً الى المطالعة دون إرادته، وهذه عادة النفس البشرية.
النقد الذاتي
ولو أنّنا خصّصنا في كلّ عام ليلة القدر لإعادة النظر في حياتنا، وفي علاقتنا بالله جل وعلا، وفي مجمل سلوكنا ومناهجنا وطرق تفكيرنا، لتعوّدت أنفسنا على أن تفعل ذلك في كلّ عام بمجرّد أن ندخل في ليلة القدر. أمّا إذا تركنا هذه الأمور للصدف، واشتركنا – مثلاً – في مجلس روحيّ وكان الخطيب بارعاً واستطاع أن يوقظنا من نومنا، وأن يجعلنا نفكّر في أن نغيّر حياتنا لفترة موقّتة، فنقول سنحاول أن نغيّر أنفسنا إن شاء الله. فانّ مثل هذا التفكير غير منطقيّ، وغير مقبول شرعاً. فالإنسان يجب أن يكون هو واعظ نفسه بالدرجة الأولى، وأن لا ينتظر من الآخرين أن يفعلوا له ذلك، لأنّ ذلك مشروط بأن يبادر الإنسان نفسه الى تغيير ذاته وخصوصاً في ليالي القدر المباركة التي هي بمثابة الوقود الذي نتـزوّد به لتحصين أنفسنا ضد الأهواء.معنى الروح في القرآن
وأمّا فيما يتعلق بالموضوع الثالث الذي أريد معالجته في هذا الفصل؛ فهو أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن ليلة القدر وعن هبوط الملائكة والروح فيها، وقد جاء ذكر (الروح) في القرآن في عدّة مناسبات من مثل مناسبة (ليلة القدر)، وسؤال اليهود ومشركي مكّة، وعند الحديث عن ا لنبي آدم والنبي عيسى بن مريم عليهم السلام، ويوم القيامة.وفي أحد هذه المواضع يقول القرآن الكريم عن (الروح): وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (الاسراء/85).
وهنا أودّ التذكير بأنه ليس من الصحيح مطلقاً تفسير (الروح) بما هو شائع عندنا من أنّها تعني النفس؛ أي ذلك الكائن اللطيف الموجود في أجسامنا. فالروح في هذه الآية وغيرها من الآيات تعني "روح القدس" التي كانت تنـزل على الأنبياء عليهم السلام. وبغض النظر عن البحوث الفلسفيّة الطويلة التي وردت بشأن تفسير هذه الكلمة، نقول إنّ (روح القدس) هي التي كان من المقرّر أن يسأل عنها اليهود ليعرفوا هل أنّ نبوّة الرسول حقّة أم لا؟
والآية الأخرى التي ذكرت فيها كلمة (الروح) تلك التي نزلت في خلق آدم عليه السلام والتي يقول فيها تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر/29).
فهذه الآية تدلّ على أنّ الروح التي نفخت في آدم لم تكن تلك الروح التي نريد منها النفس، وإنّما هي نوع من النبوّة التي جعلت الملائكة يسجدون لآدم. وإلاّ فإنّ الإنسان ليس بأفضل من الملائكة إلاّ بالإيمان؛ والإيمان لا يتأتى إلاّ بالنبوّة. ولذلك فإنّ الروح التي هبطت على آدم وربط الله سبحانه وتعالى بينها وبين سجود الملائكة لم تكن إلاّ روح القدس التي هي النبوّة.
وهكذا عندما يتحدّث القرآن الكريم عن النبي عيسى قائلاً: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُوحِنَا (التحريم/12) إذ المعلوم أنّ عيسى لم يكن يمتلك الروح الموجودة في جسده، كما أنّ هذه الروح لم تكن روح الله تبارك وتعالى. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ جميع أرواحنا لابدّ ان تتشابه مع تلك الروح.
وفي آية أخرى يقول القـرآن الكريـم: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (البقرة/253) فمن الملاحظ أن الله عز وجل يقـول في الآية السابقـة رُوحنَا، وفي هذه الآية يقول: رُوح القُدس ومن هنا نستنتج انّ المراد من كلمة رُوحنَا هو رُوح القُدُس أيضاً. وهذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ معنى الروح هو (روح القدس) التي هي الواسطة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى؛ بين النبيّ وبين الخالق، والمتمثّلة في جبرائيل عليه السلام.
والمهمّ في سورة القدر المباركة أنّ الله عز وجل يشير فيها إلى الملائكة التي هي – كما جاء في بعض الروايات – مخلوقات مرتبطة بالإشراف على الظواهر الطبيعية كالمطر والرياح والسحاب... ونحن نعلم أن (روح القدس) كان يهبط على الأنبياء عليهم السلام لغرض النبوّة كما يقول تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (البقرة/253) و فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر/29).
الروح يهبط على الإمام الحجة
وقد جاء في تفاسيرنا أنّ الروح كان يهبط أيضاً في ليلة القدر على الأئمة عليهم السلام، كلٌّ في العصر الذي كان يعيش فيه. وأنّه يهبط الآن على إمام العصر المتمثّل في الحجة بن الحسن عجل الله فرجه. فإلى ماذا يرمز هذا المعنى، وبتعبير آخر؛ ماذا يعني أنّ الروح تتنـزّل في هذه الليلة على الإمام الحجة وما علاقة ذلك بنا؟للاجابة على هذا السؤال المهمّ نقول: إنّ التشيّع هو المذهب الوحيد الذي يؤمن أنّ العلاقة بين الإنسان الذي اختاره الله تعالى مبلّغاً لرسالته، وبين الخالق ما تزال قائمة ومستمرّة، وهي من نوع تلك العلاقة التي كانت موجودة في أيام عيسى وموسى ونبيّنا محمد صلى الله عليه وآله، لكي لا يقول الإنسان في القرن العشرين إنّ الله تبارك وتعالى قد بعث الأنبياء الى الأمم السابقة في حين حرمنا منهم في هذا العصر.
إنّ النبوة موجودة ومستمرّة ولا يمكن لها الاّ إن تستمرّ متمثّلة في الإمامة. وإذا كانت هذه العلاقة موجودة فلماذا – إذن – لا نستطيع رؤية الإمام الحجة عجّل الله فرجه ومقابلته؟
أنا -شخصياً- أرى أنّه عليه السلام يتحمّل الآن واجبات ومسؤوليات عليه أن يؤدّيها خفية كما كان حال جميع الأنبياء والأوصياء في بداية دعواتهم. فالعمل السّري ضروريّ، ومن الواجب الاستمرار فيه حتى تتكشّف قدرات الناس وإمكاناتهم، وبعد ذلك يجوز لنا أن نعمل بشكل علني، وهذا ما تؤكّد عليه الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام، حيث اتّفقت هذه الروايات على انه لابد للإمام الثاني عشر من غيبة.
المصادر :
1- مفاتيح الجنان، دعاء إبي حمزة الثمالي.
2- بحار الأنوار، ج95، ص63.
3- بحار الأنوار، ج67، ص78.
4- بحار الأنوار، ج66، ص306