قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ .
بين الوعد والوعيد
إِنَّ كلّ مَن يتأمّل في هذه الآية وما تلاها تأمّل وعي وبصيرة يلتفتُ إِلَى أَنَّها ترمي إِلَى تحقيق غرضين:
أـ الترغيب في الجهاد في سبيل الله، ومقاتلة أعدائه وأعداء دينه، وتحرّضهم على ذلك، وعلى ضرورة أنْ يشدُّوا العزم، ويعقدوا الهمم على هذا الأمر المهم والخطير، وهو القتال في سبيل الله.
فالآية ذكرت وبشكلٍ صريح: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾، ولا شكّ في أَنَّ ما يحبّه الله عزّ وجلّ فإنَّه يرغّب المؤمن في القيام به وارتكابه.
ب- كما أَنَّ الآية بيّنت جانباً سلبياً في حياة المؤمنين، وهو: أَنَّ عليهم أنْ لا يقولوا ما لا يفعلون، ولا يُخلِفوا فيما يعِدون, فإنّ هذا يستوجب مقتاً من الله وغضباً شديداً، وبالتالي، قد ينجرّ الأمر إِلَى الطرد من رحمته الواسعة.
سبب النزُّول
من أسباب نزول هذه الآيات: أَنَّ جماعةً من المؤمنين كانوا يقولون: إذا لقينا العدو لن نفرَّ ولن نرجع عنهم، إِلَّا أَنَّهم لم يَفُوا بما قالوه يوم أُحد، حتّى شُجَّ وجهُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكُسِرت رباعيّته المباركة .
ومن هنا يُعرف الوجه في اجتماع الحديث عن الجهاد مع الاتّصاف بصفة القول بما لا يفعلون في هذه الآيات المباركة.
ما الَّذِي مقته الله في المؤمنين؟
عرفنا أَنَّ سبب النزول كان يرتبط بالجهاد في سبيل الله، وفرار كثيرٍ من المؤمنين في غزوة أُحد، حيث لم يلتزموا بما التزموا به على أنفسهم، إِلَّا أَنَّ الآية المباركة يستفاد منها أَنَّها بصدد التوبيخ على أيّ تخلُّفٍ في الفعل عن القول، الأمر الَّذِي يعني: ضرورة أنْ يكون قولُ المؤمن توأمَ عمله، فيبقى ثابتاً في مواقفه، لا يتزلزل أو يحيد عمّا قاله والتزم به، ولا يُخلف وعده، أو ينقض بعهده، أو يتثاقل عن الخروج إِلَى ساحات الوغى نصرةً لدينه وإعزازاً لشريعته، وما إِلَى ذلك من أشباه هذه الالتزامات .
فكم وكم مراراً ضربنا على صدورنا، وأخذنا على عاتقنا في مجالس السّهر والسّمر، ولّبَّيْنا بالقول: لبَّيْك لبَّيْك، ولكن ما إنْ تحِنْ ساعةُ الجدّ حتى ترى كُعُوبَنا تضربُ برؤوسنا لسرعة الفرار من الواجب.
وما أبْعَدَ ما بين هؤلاء وبين سبعةٍ من فقراء الأنصار جاؤوا إِلَى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا منه أنْ يزوّدهم بما يمكّنهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدم وجدانه ما يطلبون، فتوَلَّوا وأعينهم تفيضُ من الدمع، فعُرفوا بالبكائين، ونزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾ .
فهؤلاء يحزنون ويتحسّرون ويتأسّفون على ما امتنع في حقّهم ولم يقدّم إليهم، والحال أَنَّ رغبتهم الحثيثة كانت على المضي إِلَى الجهاد وساحات الوغى، وهذا آية الإيمان، وعلامة الشوق إِلَى الخير، وإلى الله سبحانه وتعالى، وإلى إطاعة أوامره والاجتناب عن نواهيه. ويسبّب هذا الحزنُ دفعَ الإنسان ـ دائماً ـ إِلَى جهة الكمال .
الصّف المرصوص
هل المطلوب القتال كيفما اتّفق؟ وكيفما شئنا؟
نلاحظ في الآية أَنَّ التأكيد ليس على القتال بما هو قتال، وكيف اتّفق، بل على قتالٍ من نوعٍ خاص تتجلّى فيه مظاهر الوحدة والانسجام التّام، كالبنيان المرصوص في مواجهة الأعداء القتال الَّذِي يعكس وحدة القلوب والأرواح، ويعكس العزائم الحديدية الراسخة في مشهدٍ متراصٍّ ليس فيه تصدّع أو خلل.
وما دام أَنَّ العدو يزحف كالسيل العارم المدمّر والهادر، فإنّه لا نجاة لنا من تبعاته إِلَّا بأنْ نشكّل سدّاً محكماً في وجهه، وأنْ لا نتساهل مع كلّ جزءٍ جزءٍ من هذا السدّ, فإنّ أيّ ثغرةٍ يُحدثها العدوّ في هذا السدّ فسوف يكون لها آثارٌ خطيرةٌ ووخيمة.
أجل، هكذا ينبغي أنْ يكون القرآن حاضراً بيننا، نبثّه وَجَعَنا وشكوانا، فيغدق علينا تِرياق الحياة الشامخة والعزيزة.
أجل، لو فتحنا مغاليق هذه الآية لوجدنا أَنَّها ركّزت على مسألة مهمّة: وهي لا بدّية أنْ يكون الجسم الجهادي بكافّة أقسامه ومتفرّعاته بمنزلة بنيان محكم، يشدّ بعضُه أزر بعض, فاليد اليسرى عونُ اليد اليمنى، وإحدى العينين تُرْفِدُ الأخرى، والحركة الجهادية متوزّعة بين القدمين ومتّكئةٌ عليهما، والقاعدة الشعبية مرتبطةٌ ارتباطاً عضوياً مع أُولي الأمر والنهي الَّذِين يمثّلون الرأس من الجسد.
هذا النمط الجهادي الَّذِي دعا إليه الله ورغّب فيه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
كما قد حذّر من المشهد المضاد بقوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ، في أجمل تعبيرٍ يمكن أن يخطر على البال، فالتنازع يؤدّي إِلَى الفشل، والفشل مصيره إِلَى ذهاب صولتكم وقوّتكم وشوكتكم ودولتكم.
كَبُرَ مقتاً
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
تعرّضت هذه الآية المباركة لذكر واحدةٍ من الصِّفات المذمومة التي ينبغي للمؤمن تجنُّبها والتنزّه عنها، وهي: (أنْ لا يقف المؤمن عند قوله)، فكأنّ الكلام لا يزال في وثاق المؤمن ما دام لم يخرج من فيه، فإذا خرج صار رهينَ كلامه وأسيرَ أقواله، على حدّ ما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْكَلَامُ فِي وِثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وِثَاقِهِ" ، وقال أيضاً: "إِذَا تَكّلَّمْتَ بِالْكَلِمَةِ مَلَكَتْكَ، وَإِذَا أَمْسَكْتَهَا مَلَكْتَهَا" .
المؤمن يُوَبَّخ ويُعَاتَب
تكفّلت هذه الآية توبيخاً مغلّظاً واستنكاراً عالي اللهجة للمؤمنين: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ .
والسبب في ذلك: اشتمال بعضهم على أخلاق وصفات بطبيعتها تُبعِد المرءَ عن الله تعالى، وهي: قولهم: ما لا يفعلون.
وهذه أَخلاق لا تتلاءم مع المؤمن الَّذِي يعيش دوماً في محضر الله... فإنَّ العالَم كلَّه في محضر الله... والذي يفترض به أن لا يكون غافلاً عنه تعالى، وأنْ يكون شاعراً بمعيّته له، وأنّه تعالى معه في كلّ حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله، قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .
- أليس من أَحبّ شخصاً كان دائم التفكير فيه؟!
- ألا يسعى دوماً لجعل أفعاله مطابقةً لما يقرّبه من محبوبه؟!
- هل يحسن أن يتكلّم بكلام يجعل المحبوبَ يُعرضُ عنه ويَحْرَدُ عليه؟!
- أبداً... هذا بعيدٌ من ساحة العشق.
إذاً، فما بالُ بعضنا يلتزم على نفسه أمامَ الله وأمامَ الناس، ثمّ لا يلبث أنْ يتراجع عمّا قال هل يبغي من عمله هذا معاداة الله؟!
أيّها العزيز!
إِنَّ من السّمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التّام بين أقواله وأفعاله، وكلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل كان أبعدَ من حقيقة الإيمان.
عتبُ الله تعالى على المؤمن بقدر محبّته له
من الغريب حقّاً والملفت للنظر طريقة مخاطبة الله تعالى الشريحةَ الواسعةَ مِمَّن آمن به واعترف بألوهيته وأقرَّ بعبوديته. فإنّ الحقّ تعالى اسمه قد صدّر بما يربط ويجمع بين الله والمؤمنين، وبما يُمَتِّن العلاقة بينهما، فخاطبهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، مقدّماً في خطابه محاسن العباد، وحسناتِ أفعالهم، ومعترفاً بالقَدْر الَّذِي أَتَوا به اتّجاه خالقهم ومربِّيهم من الإيمانِ به عزّ اسمه.
ثُمّ عقَّب بعد هذا بذكر ما قاموا به مِمَّا كان موضعَ سخطه، ومحطّ غضبه، ومعرضَ توعّده وتهديده مستنكراً عليهم: ﴿أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، فإنَّه ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾, فهو من الأعمال الممقوتة والمبغوضة لديه تعالى بغضاً شديداً، وفاعله مستحقُّ جنهّم.
ولعلّ السرّ في تقديم المحاسن على قبائح الأفعال أمران:
الأوّل: إِنَّ القرآن الكريم لمّا كان كتابَ هداية وتربية يعمل على تغذية الروح وتربيتها كما يعمل على تغذية الفكر والعقل، هَدَفَ من خلال هذا التوبيخ المغلّظ أنْ يقول لهؤلاء المؤمنين: يا أيُّها الَّذِين يُفترض أَنَّكم آمنتم بي!
لا تتعرّضوا لسخطي وغضبي...
لا تتشبّهوا بأهل النفاق الَّذِين يقولون ما لا يفعلون, فإنّ لأهل الإيمان سلوكاً وعلامات، ولأهل النفاق سلوكاً وعلامات، وإنّما يستدلّ على الصالحين بعلاماتهم وسلوكهم، وعلى المنافقين بعلاماتهم وسلكهم، والتي منها: أنْ يقولوا ما لا يفعلون.
ناداهم بوصف الإيمان تعريضاً بأنَّ الإيمان من شأنه أنْ يردع المؤمن عن أنْ يخالفَ فعلُهُ قولَه فيما وعد به من خير وإحسان والتزام تجاه الفرد أو المجتمع.
الثاني: الإشارة إِلَى معنى خفيّ ولطيف, وذلك أَنَّ الإنسان في مسيرته في الحياة ربما يتعثّر، أو يخطئ هنا أو هناك، بل ربّما يتعمّد في بعض الأحيان.
وكلّ ذلك لا ينبغي أنْ يجعلنا نتناسى الماضي، وما قدّمه من خير وعمل صالح، بل لا بدّ من تذكيره بماضيه الإيماني، والصلاح الَّذِي كان عليه قبل مساوئ الأخلاق وذميم الصفات, أيْ على قاعدة: (إنْ كان ولا بدّ، فاسقه ماءً ثمّ اذبحه).
في التوبيخ والعتاب صلاح أولى الألباب
كما أَنَّ الخضر عليه السلام خرق السفينة وكان في ذلك صلاحُ حال أهلها، واستقامة أمورهم، كذلك الآية المباركة تهدف من خلال هذا التعنيف والتوبيخ والخرق المعنوي لسفينة النفس الأمارة بالسوء، أنْ تصلح حال العباد، فيما يرتبط بأمور دنياهم وآخرتهم.
قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان:
"والصالحون من هؤلاء المؤمنين إِنَّما صَلُحوا نفساً، وجَلُّوا قَدْراً بالتربية الإلهية التي تتضمّنها أمثال هذه التوبيخات والعقابات المتوجهة إليهم تدريجاً، ولم يتّصفوا بذلك من عند أنفسهم" .
فإنّ المؤمن يُصنعُ على عين الله تعالى وتحت نظره، يرعى مولاه شؤونه، ويربّيه على حدّ قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ .
إلهي، خصّني برحمةٍ من عندك جامعةٍ مانعةٍ، أبلغ بها خيرَ الدّنيا والآخرة.
من أين لي النجاة يا ربّ ولا تُستطاع إِلَّا بك...
إلهي، أصلح حالي، أفعالي وأقوالي...
المصادر :
راسخون2018