لقد بحث علماء الکلام والعقائد عن صفات الله تعالى وأسمائه المبارکة وأن صفاته الکمالیة والجلالیة إنما هی مختصة به ولا یشارکه أحد ، لذا لا یوصف بما توصف به المخلوقات لأنه لیس بجسم ولا صورة ، ولو قلنا بذلک فقد جسدناه معاذ الله .
فهو تعالى منزه عن الجسمیة ، وقد کفر من جسده کالیهود لما قالوا اشتکت عیناه فعادته الملائکة ، وبکى على طوفان نوح حتى رمدت عیناه وإن العرش لیئط من تحته کأطیط الرحل الجدید ... الخ وکذا لما قال آخرون وهم الحشویة من أصحاب الحدیث أنه یجلس على الکرسی کما یجلس البشر متخذین قوله سبحانه دلیلاً : ( وکان عرشه على الماء ) (1) وقوله تعالى : ( ثم استوى على العرش یدبر الأمر )(2) فإن الیهود جعلوا لله صفات هو منزه عنها بل إنما هی للمخلوقین .
وقد حذا بعض طوائف المسلمین حذو الیهود ، کالمجسمة والمشبه إذ وصفوه کیف ینظر وکیف ینزل یتکلم ... ثم روى الحشویة أخباراً عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم تظمنت الصورة وغیرها من أعضاء البدن منها : إنهم رووا عنه صلى الله علیه وآله وسلم إنه سبحانه وتعالى : « خلق آدم على صورة الرحمن » ، وقوله : حتى یضع الجبار قدمه فی النار ، وقوله : قلب المؤمن بین أصبعین من أصابع الرحمن ، وقوله : وضع یده أو کفه على کتفی ، وقوله : حتى وجدت برد أنامله على کتفی وقد زادوا فی الأخبار أکاذیب وضعوها ونسبوها إلى النبی صلى الله علیه وآله وسلم وقد أجروا کل هذه على ما یتعارف فی صفات الأجسام . وهذه کلها من مستلزمات المادة بالعرض ، وإذا قلت بهذه العوارض المادیة فلا بد من القول باجوهر وبالتالی تنتهی إلى الجسمیة وهذا على الله لا یجوز بل إنه من مستلزمات الحادث وسبحانه قدیم .
فسبحانه لا یمکن تشبیهه بشیء ولا شیء له شبیه به . ومما یذکر أن الیهود جاءت إلى النبی صلى الله علیه وآله وسلم : صف لنا ربک فإن الله أنزل نعمته فی التوراة فأخبرنا من أی شیء هو ؟ ومن أی جنس هو ؟ أذهب أم نحاس أم فضة ؟ وهل یأکل ویشرب ؟ وممن ورث الدنیا ومن یورثها ؟
فأنزل الله تبارک وتعالة سورة الإخلاص ، وهی نسبته .
لو حرص البشر جمیعاً أن یمیزوا سبحانه بأوصاف المخلوقات ولو فی أدق المعانی وأجمل العبارات ، فإن ذلک من الأوهام والتخرصات ومهما بالغ العقلاء على أن یصفوه بصفات البشر فلا محالة أنه سیکون مخلوقاً مثلنا ، وکل مخلوق ومصنوع حادث وسبحانه لیس بحادث بل إنه قدیم منذ الأزل .ولا یخفى أن بعض الطوائف والفرق التی انتحلت الإسلام کالحشویة القائلین بالجبر والتشبیه وأن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس والید والسمع والبصر هی مجسمة ومشبه ، إذ جمدوا على ظواهر الألفاظ من القرآن الکریم فلم یسعهم المقام أن یفهموا القرآن فهما صحیحاً وإدراکاً شاملاً لدقائق المعنى وجمال التأویل الوارد من أهل البیت علیهم السلام .
لما کانت معرفة الله تعالى أساس الطاعة والعبادة ، وما لم یعرف لا یمکن أن یطاع ، کما أن معرفته سبحانه لا تتم بإذعان العبد بوجوب وجوده ، ولا یکون هذا الإذعان ما لم یؤمن العبد بوحدانیته أی لا شریک له ، لأن الواجب لا یتعدد .
فعلى کل فرد أ، یوحد هذا الواجب القدیم الفرد الصمد ، وهذا التوحید ، لا یتم إلا بإخلاص له ، ومن جملة الإخلاص هو نفی الصفات الزائده عنه ، فصفاته عین ذاته ، فإن علمه وقدرته وأرادته وسمعه وبصره کلها موجودة بوجود ذاته الأحدیة وذاته جامعة ومستوعبة لها ، وهی عینها ولیست زائدة على الذات , ولا خارجة عنها أما من حیث الصفات فهی على قمسین .
أولاً : الصفات الثبوتیة وهذه على نحوین :
1 ـ الصفات الثبوتیة الحقیقیة والتی تسمى بالصفات الکمالیة . ( صفات الجمال والکمال ) کالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحیاة .2 ـ الصفات الثبوتیة الإضافیة : کالخالقیة والرزاقیة وهذه ترجع إلى صفة القیومیة لمخلوقاته .
ثانیاً : الصفات السلبیة ( الجلال ) وهی ترجع جمیعها إلى سلب واحد وهو سلب الإمکان عنه أو قل سلب نقصه عنه سبحانه ، مثل سلب الجسمیة والسکون والحرکة والثقل والخفة ...
وقد کانت الحشویة تذهب إلى التجسم أو التشبیه ، فإن مضر وکهمس وأحمد الهجیمی : إنهم أجزوا على ربهم الملامسة والمصافحة وإن المسلمین المخلصین یعانقونه فی الدنیا والآخرة إذا بلغوا فی الریاضة والاجتهاد إلى حد الخلاص والاتحاد المحض .
بل وأکثر من هذا فقد حکی عن الکعبی عن بعضهم : إنه کان یجور الرؤیة فی دار الدنیا ، وان یزوروه ویزورهم .
وحکی عن داود الجورابی أنه قال بالنسبة لله تعالى : أعفونی عن الفرج واللحیة واسألونی عما وراء ذلک . وقال أن معبوده : جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من ید ورجل ورأس ولسان وعینین وأذنین ، ومع ذلک فهو جسم لا کالأجسام ولحم لا کاللحوم ودم لا کالدماء .
ثم إن الحشویة قد أجرت الألفاظ التی هی فی القرآن على ظاهرها کالاستواء والوجه والیدین والجنب والمجیء والاتیان والفوقیة وغیر ذلک فهی تعنی فی إطلاقها المعانی الخارجیة الصادقة على الأجسام .
وقد زادت الحشویة على تلک المعانی إنهم ضعوا الأکاذیب وافتعلوا الأخبار ونسبوها إلى النبی صلى الله علیه وآله وسلم وهی فی الحقیقة أخبار مقتبسة من الیهود ، فمثلاً قالوا اشتکت عیناه فعادته الملائکة ، وبکى على طوفان نوح حتى رمدت عیناه ، وأن العرش لیئط من تحته کأطیط الرحل الجدید .
ثم نسبت المشبهة إلى النبی أقوال منها : أنه قال : ( لقینی ربی ، فصافحنی وکافحنی ووضع یده بین کتفی حتى وجدت برد أنامله (3)
ولو تخطینا البحث لوجدنا أن الحشویة کمصطلح یشمل عامة جمهور المسلمین إلا أنهم فی عقائد متباینة ومذاهب مختلفة فهی تشمل فرقة الشکاک والبتریة أصحاب الحدیث وعلى نذهبهم سفیان بن سعید الثوری وشریک بن عبد الله ولبن أبی لیلى ومحمد بن إدریس والشافعی ومالک بن أنس وإضرابهم (4) ...
وقد اختلف جمهور المسلمین ـ أی السلف منهم ـ مع المعتزلة فالأولى کانت تثبت الصفات للخالق والمعتزلة کانت تنفی عنه ، ورأی السلف فی الصفات أنها کما وردت فی القرآن وغیر قابلة للتأویل بل تحمل على ظاهرها ، وفی نفس الوقت اعتقادهم بالله أنه لا شریک له ولیس کمثله شیء ... غیر أن متأخری السلف ، قالوا لا بد من إجراء هذه الصفات على ظاهرها والقول بتفسیرها کما وردت من غیر تعرض للتأویل ولا توقف فی الظاهر ، فوقعوا فی التشبیه الصرف ، وذلک على خلاف ما اعتقده السلف (5) .
ومن جملة المجسمة أو المشبهة طائفة تسمى بالکرامیة وهم أصحاب عبد الله محمد بن کرام وربما تشعبت هذه الفرقة لتشمل اثنتی عشرة فرقة تقول بالتجسیم مع اختلاف فی صورة هذا التجسیم وهیئته .
وإن مقالة محمد بن کرام تنص على أم معبوده جوهر استقر على العرش ، وفی وجوده ذاتاً من فرق وأنه مماس للعرش من الصفحة العلیا ، وجوز الانتقال والتحول النزول وإلى غیر ذلک من مقولات التجسیم التی قالت به أصول هذه الفرقة کالعابدیة والتونیة والزرمینیة والاسحاقیة والواحدیة والهیمصمیة ، فهذه الفرق أثبتت الجهات الست لله سبحانه ، ومنهم أثبت له سبحانه بعض الجهات کافوقیة والتحتیة وقد أخطأ الشهرستانی عندما نسب التشبیه إلى الشیعة فقال : وکان التشبیه بالأصل والواصع فی الشیعة ، وإنما عادت إلى بعض أهل السنة بعد ذلک ، وتمکن الاعتزال فیهم لما رأوا أن ذلک أقرب إلى المعقول وأبعد من التشبیه والحلول (6) .
فی الحقیقة أن التشبیه والتجسیم أخذه السلف أی جمهور السنة من الیهود والنصارى لما دخلت الأخبار والإسرائیلیات فی ثقافتهم وقام رواة الأحادیث یسألون بعض الیهود والنصارى فی مسألة الخالق وبدء الکون وقصص تمیم بن اوس الداری النصرانی الذی کان یبثها بین المسلمین فی مسجد الرسول بإجازة من الخلیفة عمر بن الخطاب وذلک فی الأسبوع ساعة واحدة وقد زادها عثمان بن عفان فی زمنه فجعلها ساعتین فی یومین فی الاسبوع .
أما الغلاة الذین لعنوا على لسان الأئمة المعصومین وتبرؤوا منهم إنما هم خرجوا من ربقة الإسلام بمقولتهم الفاسدة فکیف یصدق علیهم أنهم من الشیعة ؟!.
ففی حدیث الإمام علی بن موسى الرضا علیه السلام للحسین بن خالد توضیح ذلک : قال علیه السلام : من قال بالتشبیه والجبر فهو کافر مشرک ونحن منه یراء فی الدنیا والآخرة یا بن خالد إنما وضع والأخبار عنا فی التشبیه والجبر الغلاة الذین صغروا عظمة الله تعالى ...
ثم إن صدر الحدیث هو قول ابن خالد الرضا علیه السلام یکشف هذه ینسبوننا إلى القول بالتشبیه والجبر لما روی من الأخبار فی ذلک عن أبائک الأئمة علیهم السلام (7) ... فکان جواب الرضا أن الغلاة هی التی وضعت تلک الأخبار . وإلیک نص الحدیث :
قال الصدوق بإسناده عن الحسن بن خالد عن أبی الحسن علی بن موسى الرضا علیه السلام قال : قلت له : یا ابن رسول الله إن الناس ینسبونا إلى القول بالتشبیه والجبر لما روی من الأخبار فی ذلک عن آبائک الأئمة علیهم السلام فقال : یا ابن خالد أخبرنی عن الأخبار التی رویت عن آبائی الأئمة علیهم السلام فی التشبیه والجبر أکثر أم الأخبار رویت عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم فی ذلک ؟
فقلت بل ما ریو عن النبی فی ذلک أکثر ، قال :
فلیقولوا ان رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم کان یقول بالتشبیه والجبر إذاً ، فقلت له : إنهم یقولون : إن رسول الله لم یقل من ذلک شیئاً وإنماروی ذلک علیه ، ثم قال صلى الله علیه وآله وسلم : من قال بالتشبیه والجبر فهو کافر مشرک ونحن منه براء فی الدنیا والآخرة یا ابن خالد إنما وضع الأخبار عنا فی التشبیه والجبر الغلاة الذین صغروا عظمة الله تعالى من أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا ومن والاهم فقد عادانا ومن عادهم فقد والانا ومن وصلهم فقد قطعنا ومن قطعهم فقد وصلنا ومن جفاهم فقد برانا ومن برهم فقد جافانا ومن اکرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أکرمنا ومن قبلهم فقد ردنا ومن ردهم فقد قبلنا ومن أحسن إلیهم فقد أساءنا ومن أساهء إلیهم فقد أحسن إلینا ، ومن صدقهم فقد کذبنا ومن کذبهم فقد صدقنا ومن أعطاهم فقد حرمنا ومن حرمهم فقد أعطانا ، یا ابن خالد من کان من شیعتنا فلا یتخذن منهم ولیاً ولا نصیراً (8) .إن کتبنا العقائدیة والحدیثیة زاخرة بالأخیر والواردة عن أهل البیت والأئمة المعصومین علیه السلام التی تؤکد على نفی التشبیه والتجسیم منه سبحانه وعلى سبیل المثال نذکر بعضها :
الکلینی بإسناده عن الحسین بن سعید قال سئل ابو جعفر الثانی علیه السلام یجوز أن یقال لله إنه شیء ؟ قال نعم نخرجه من الحدین : حد التعطیل وحد التشبیه (9) .
محمد بن یعقوب بإسناده عن هشام بن الحکم عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال للزندیق حین سأله : ما هو ؟ قال هو شیء بخلاف الأشیاء أرجع بقولی إلى إثبات معنى وإنه شیء بحقیقة الشیئیة غیر أنه لا جسم ولا صورة ولا یحس ولا یحبس ولا یدرک بالحواس الخمس لا تدرکه الأوهام ولا تنقصة الدهور ولا تغیره الأزمان ، فقال له السائل : فتقول إنه سمیع بصیر ؟ قال هو سمیع بصیر : سمیع بغیر جارحة وبصیر بغیر إله ، بل یسمع ویبصر بنفسه لیس قولی : إنه سمیع بنفسه وبصیر یبصر بنفسه إنه شیء والنفس شیء آخر ولکن أردت عبارة عن نفسی إذا کنت مسؤولاً وإفهاماً لک إذا کنت سائلاً ، قأقول : إنه سمیع بکله لا إن الکل منه له بعض وکنی أردت إفهامک والتعبیر عن نفسی ولیس مرجعی فی ذلک إلا إلى إنه السمیع البصیر العالم الخبیر بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى .
قال هل السائل : فما هو ؟ قال أبو عبد الله علیه السلام : هو الرب وهو المعبود وهو الله ولیس قولی : الله إثبات هذه الحروف : ألف ولام وهاء ولا راء ولا باء ولکن ارجع إلى معنى وشیء خالق الأشیاء وصانعها ونعت هذه الحروف وهو المعنى سمی به الله والرحمن والرحیم والعزیز وأشباه ذلک من أسمائه وهو المعبود جل وعزّ .
قال له السائل : فإنا لم نجد موهوماً إلا مخلوقاً ، قال أبو عبد الله علیه السلام لو کان ذلک کما نقول لکان التوحید عنا مرتفعاً لأنا لم نکلف غیر موهوم ، لکنا نقول : کل موهوم بالحواس مدرک به تحده الحواس مدرک به تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق ، إذ کان النفی هو الإبطال والعدم .
والجهة الثانیة : البشبیه ، إذ کان التشبیه هو صفة المخلوق الظاهر الترکیب والتألیف فلم یکن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعین والاضطرار إلیهم ، إنهم مصنوعون وإن صانعهم غیر ولیس مثلهم إذ کان مثلهم شبیهاً بهم فی ظاهر الترکیب والتألیف وفیما یجری علیهم من حدوثهم بعد إذ لم یکونوا وتنقلهم من صغر إلى کبر وسواد إلى بیاض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسیرها لبیانها ووجودها (10) ...
الکلینی بإسناده عن داود الرقی قال : سألت ابا عبد الله علیه السلام عن قول الله عز وجل ( وکان عرشه على الماء ) (11) فقال ما یقولون ؟ قلت : یقولون : إن العرش کان على الماء والرب فوقه ، فقال کذبوا من زعم هذا فقد صیر الله محمولاً ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشیء الذی یحمله أقوى منه (12)
المصادر :
1- سورة هود ، الآیة : 7 .
2- سورة یونس ، الآیة : 3 .
3- انظر الملل والنحل 1 / 97 .
4- المقالات والفرق ص 6 .
5- الملل والنحل 1 / 84 .
6- الملل والنحل 1 / 155 .
7- عیون أخبار الرضا 1 / 142 ـ 143 .
8- عیون أخبار الرضا 1 / 143 .
9- أصوا الکافی باب إطلاق القول بأنه شیء ، الحدیث الثانی حـ 1/ 82
10- أصول الکافی 1/ 83 ـ 84 .
11- سورة هود ، الآیة : 7 .
12- أصول الکافی 1 / 132 .
/ج