نویسنده : الشهید السید محمد باقر الصدر
أود أن أذکر مبررا عملیا وهو ان شوط التفسیر التقلیدی شوط طویل جدا لانه یبدأ من سورة الفاتحة وینتهی بسورة الناس وهذا الشوط الطویل بحاجة من أجل اکماله الى فترة زمنیة طویلة ایضا ولهذا لم یحض من علماء الاسلام الاعلام الا عدد محدود بهذا الشرف العظیم ، شرف مرافقة الکتاب الکریم من بدایته الى نهایته ونحن نشعر بأن هذه الایام المحدودة المتبقیة لا تفی بهذا الشوط الطویل ولهذا کان من الافضل اختیار أشواط أقصر لکی نستطیع ان نکمل بضعة أشواط من هذا الجولان فی رحاب القرآن الکریم . من هنا سوف نختار موضوعات متعددة من القرآن الکریم ونستعرض ما یتعلق بذلک الموضوع وما یمکن أن یلقی علیه القرآن من أضواء . وسوف نحاول أن یکون البحث مربوطا بقدر الامکان لکی نستطیع أن نصل الى عدد من المواضیع المهمة . فنقتصر على الافکار الاساسیة والمبادئ الرئیسیة بالنسبة الى کل موضوع وسوف أحرص على أن لا یستوعب کل موضوع الا عددا محدودوا من المحاضرات . أرجو أن یکون بین خمس محاضرات الى عشر محاضرات لکی نستطیع أن نستوعب مواضیع متنوعة من القرآن الکریم .. الان نواجه هذا السؤال :
ما هو الموضوع الاول الذی سوف نبدأ به الان انشاء الله تعالى ؟
الموضوع الاول الذی سوف نختاره للبحث هو « سنن التاریخ فی القرآن الکریم » ! هل للتاریخ البشری سنن فی مفهوم القرآن الکریم ، هل له قوانین تتحکم فی مسیرته وفی حرکته وتطوره ، ما هی هذه السنن التی تتحکم فی التاریخ البشری ، کیف بدأ التاریخ البشری ، کیف نما ، کیف تطور ، ما هی العوامل الاساسیة فی نظریة التاریخ ، ما هو دور الانسان فی عملیة التاریخ ، ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة الاجتماعیة . هذا کله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان ، عنوان سنن التاریخ فی القرآن الکریم ، وهذا الجانب من القرآن الکریم قد بحث الجزء الاعظیم من مواده ومفرادته القرآنیة لکن من زوایا مختلفة ، فمثلا قصص الانبیاء (علیهم السلام) التی تمثل الجزء الاعظم من هذه المادة القرآنیة . بحثت قصص الانبیاء من زاویة تاریخیة تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التی تکلم عنها القرآن الکریم ، وحینما لا حظوا الفراغات التی ترکها هذا الکتاب العزیز ، حاولوا ان یملؤا هذه الفراغات بالروایات والاحادیث ، او بما هو المأثور عن أدیان سابقة ، أو بالاساطیر والخرافات فتکونت سجلات ذات طابع تاریخی لتنظیم هذه المادة القرآنیة ، کذلک أیضاً بحثت هذه المادة القرآنیة من زاویة أخرى ، من زاویة منهج القصة فی القرآن ، مدى ما یتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وابداع ، ما تزخر به القصة القرآنیة من حیویة ، من حرکة ، من أحداث ، هذا أیضا زاویة أخرى للبحث فی هذه المادة یضاف الى زوایا عدیدة . نحن الآن نرید ان نتناول هذه المادة القرآنیة من زاویة أخرى ، من زاویة مقدار ما تلقی هذه المادة من أضواء على سنن التاریخ ، على تلک الضوابط والقوانین والنوامیس التی تتحکم فی عملیة التاریخ اذا کان یوجد فی مفهوم القرآن شیء من هذه النوامیس والضوابط والقوانین .
الساحة التاریخیة کأی ساحة أخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر کما ان الساحة الفلکیة ، الساحة الفیزیائیة ، الساحة النباتیة زاخرة بمجموعة من الظواهر ، کذلک الساحة التاریخیة بالمعنى الذی سوف نفصل من التاریخ انشاء الله بعد ذلک ، زاخرة بمجموعة من الظواهر ، کما ان الظواهر فی کل ساحة أخرى من الساحات لها سنن ولها نوامیس فمن حقنا أن نتساءل : هل ان هذه الظواهر التی تزخر بها الساحة التاریخیة ، هل هذه الظواهر ایضا ذات سنن وذات نوامیس ، وما هو موقف القرآن الکریم من هذه السنن والنوامیس ، وما هو عطاؤه فی مقام تأکید هذا المفهوم ایجابا أو سلبا ، اجمالا أو تفصیلا ، وقد یخیل الى بعض الاشخاص ، اننا لا ینبغی ان نترقب من القرآن الکریم أن یتحدث عن سنن التاریخ ، لان البحث فی سنن التاریخ بحث علمی کالبحث فی سنن الطبیعة والفلک والذرة والنبات ، والقرآن الکریم لم ینزل کتاب اکتشاف بل کتاب هدایة ، القرآن الکریم لم یکن کتابا مدرسیا ، لم ینزل على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)بوصفه معلما بالمعنى التقلیدی من المعلم لکی یدرس مجموعة من المتخصصین والمثقفین ، وانما نزل هذا الکتاب علیه لیخرج الناس من الظلمات الى النور ، من ظلمات الجاهلیة الى نور الهدایة والاسلام . اذن فهو کتاب هدایة وتغییر ولیس کتاب اکتشاف ، ومن هنا لا نترقب من القرآن الکریم ان یکشف لنا الحقائق والمبادئ العامة للعلوم الاخرى ولا نترقب من القرآن الکریم ان یتحدث لنا عن مبادئ الفیزیاء أو الکیمیاء أو النبات أو الحیوان ، صحیح أن فی القرآن الکریم اشارات الى کل ذلک ، ولکنها اشارت بالحدود التی تؤکد على البعد الالهی للقرآن ، وبقدر ما یمکن أن یثبت العمق الربانی لهذا الکتاب الذی أحاط بالماضی والحاضر والمستقبل والذی استطاع أن یسبق التجربة البشریة مئات السنین فی مقام الکشف عن حقائق متفرقة فی المیادین العلمیة المتفرقة ، لکن هذه الاشارات القرآنیة انما هی لاجل غرض عملی من هذا القبیل لا من أجل تعلیم الفیزیاء والکیمیاء . القرآن لم یطرح نفسه بدیلا عن قدرة الانسان الخلاقة ، عن مواهبه وقابلیاته فی مقام الکدح ، الکدح فی کل میادین الحیاة بما فی ذلک میدان المعرفة والتجربة ، القرآن لم یطرح نفسه بدیلا عن هذه المیادین ، وانما طرح نفسه طاقة روحیة موجهة للانسان ، مفجرة طاقاته ، محرکة له فی المسار الصحیح . فاذا کان القرآن الکریم کتاب هدایة وتوجیه ولیس کتاب اکتشاف وعلم فلیس من الطبیعی أن نترقب منه استعراض مبادئ عامة لأی واحد من هذه العلوم التی یقوم الفهم البشری بمهمة التوغل فی اکتشاف نوامیسها وقوانینها وضوابطها ، لماذا ننتظر من القرأن الکریم أن یعطینا عمومیات ، أن یعطینا مواقف ، أن یبلور له مفهوما علمیا فی سنن التاریخ على هذه الساحة من ساحات الکون بینما لیس للقرآن مثل ذلک على الساحات الاخرى ، ولا حرج على القرآن فی ان لا یکون له ذلک على الساحات الاخرى . لان القرآن لو صار لمقام استعراض هذه القوانین ، وکشف هذه الحقائق لکان بذلک یتحول الى کتاب آخر نوعیا ، یتحول من کتاب للبشریة جمعاء الى کتاب للمتخصصین یدرس فی الحلقات الخاصة ، قد یلاحظ بهذا الشکل على اختیار هذا الموضوع الا ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فیها صحیحة بمعنى ان القرآن الکریم لیس کتاب اکتشاف ، ولم یطرح نفسه لیجمد فی الانسان طاقات النمو والابداع والبحث ، وانما هو کتاب هدایة ، ولکن مع هذا یوجد فرق جوهری بین الساحة التاریخیة وبقیة ساحات الکون ، هذا الفرق الجوهری یجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبطا أشد الارتباط بوظیفة القرآن ککتاب هدایة ، خلافا لبقیة الساحات الکونیة والمیادین الاخرى للمعرفة البشریة ، وذلک ان القرآن الکریم کتاب هدایة وعملیة تغییر هذه العملیة التی عبر عنها فی القرآن الکریم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وعملیة التغییر هذه فیها جانبان « الجانب الاول » جانب المحتوى المضمون الیه هذه العملیة التغییریة من احکام ، من مناهج ، ما تتبناه من تشریعات ، هذا الجانب من عملیة التغییر جانب ربانی ، جانب الهی سماوی ، هذا الجانب یمثل شریعة الله سبحانه وتعالى التی نزلت على النبی محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)وتحدت بنفس نزولها علیه کل سنن التاریخ المادیة لان هذه الشریعة کانت اکبر من الجو الذی نزلت علیه ، ومن البیئة التی حلت فیها ، ومن الفرد الذی کلف بأن یقوم بأعباء تبلیغها . هذا الجانب من عملیة التغییر ، جانب المحتوى والمضمون ، جانب التشریعات والاحکام والمناهج التی تدعو الیها هذه العملیة ، هذا الجانب جانب ربانی الهی ، لکن هناک جانب آخر عملیة التغییر التی مارسها النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)وأصحابه الاطهار ، هذه العملیة حینما تلحظ بوصفها عملیة متجسدة فی جماعة من الناس وهم النبی والصحابة ، بوصفها عملیة اجتماعیة متجسدة فی هذه الصفوة ، وبوصفها عملیة قد واجهت تیارات اجتماعیة مختلفة من حولها واشتبکت معها فی ألوان من الصراع والنزاع العقائدی والاجتماعی والسیاسی والعسکری ، حینما تؤخذ هذه العملیة التغییریة بوصفها تجسیدا بشریا على الساحة التاریخیة مترابطا مع الجماعات والتیارات الاخرى التی تکتنف هذا التجسید والتی تؤید أو تقاوم هذا التجسید ، حینما تؤخذ العملیة من هذه الزاویة تکون عملیة بشریة ، یکون هؤلاء اناسا کسائر الناس تتحکم فیهم الى درجة کبیرة سنن التاریخ التی تتحکم فی بقیة الجماعات وفی بقیة الفئات على مر الزمن . اذن عملیة التغییر التی مارسها القرآن ومارسها النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)لها جانبان من حیث صلتها بالشریعة وبالوحی ومصادر الوحی ، هی ربانیة ، هی فوق التاریخ ولکن من حیث کونها هی عملا قائما على الساحة التاریخیة ، من حیث کونها جهدا بشریا یقاوم جهودا بشریة اخرى ، من هذه الناحیة یعتبر هذا عملا تاریخیا تحکمه سنن التاریخ وتتحکم فیه الضوابط التی وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظیم ظواهر الکون فی هذه الساحة المسماة بالساحة التاریخیة ولهذا نرى ان القرآن الکریم حینما یتحدث عن الزاویة الثانیة ، عن الجانب الثانی من عملیة التغییر یتحدث عن أناس ، یتحدث عن بشر ، لا یتحدث عن رسالة السماء ، بل یتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحکم فیهم القوانین التی تتحکم فی الاخرین حینما أراد أن یتحدث عن انتصار المسلمین فی غزوة أحد بعد ان احرزوا ذلک الانتصار الحاسم فی غزوة بدر ، بعد ذلک انکسروا وخسروا المعرکة فی غزوة أحد ، تحدث القرآن الکریم عن هذه الخسارة ، ماذا قال ، هل قال بان رسالة السماء خسرت المعرکة بعد ان کانت ربحت المعرکة ؟ لا .. لان رسالة السماء فوق مقاییس النصر والهزیمة بالمعنى المادی ، رسالة السماء لا تهزم ، ولن تهزم ابدا ، ولکن الذی یهزم هو الانسان ، الانسان حتى ولو کان هذا الانسان مجسدا لرسالة السماء ، لان هذا الانسان تتحکم فیه سنن التاریخ ، ماذا قال القرآن ؟ قال « إِن یَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْکَ الْأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیْنَ النَّاسِ وَلِیَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَیَتَّخِذَ مِنکُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الظَّالِمِینَ » (1) . هنا اخذ یتکلم عنهم بوصفهم اناسا قال بان هذه القضیة هی فی الحقیقة ترتبط بسنن التاریخ ، المسلمون انتصروا فی بدر حینما کانت الشروط الموضوعیة للنصر بحسب منطق سنن التاریخ تفرض ان ینتصروا ، وخسروا المعرکة فی اُحد حینما کانت الشروط الموضوعیة فی معرکة اُحد تفرض علیهم ان یخسروا المعرکة . « ان یمسکم قرح فقد مس القوم قرح مثله » ، « وتلک الایام نداولها بین الناس » لا تتخیلوا ان النصرن حق الهی لکم ، وانما النصر حق طبیعی لکم بقدر ما یمکن ان توفروا الشروط الموضوعیة لهذا النصر بحسب منطق سنن التاریخ التی وضعها الله سبحانه وتعالى کونیا لا تشریعیا ، وحیث انکم فی غزوة اُحد لم تتوفر لدیکم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعرکة . فالکلام هنا کلام مع بشر ، مع عملیة بشریة لا مع رسالة ربانیة ، بل یذهب القرآن الى اکثر من ذلک ، یهدد هذه الجماعة البشریة التی کانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاریخ ، یهددهم بانهم اذا لم یقوموا بدورهم التاریخی ، واذا لم یکونوا على مستوى مسؤولیة رسالة السماء فان هذا لا یعنی ان تتعطل رسالة السماء ، ولا یعنی ان تسکت سنن التاریخ عنهم بل انهم سوف یستبدلون ، سنن التاریخ سوف تعزلهم وسوف تأتی بأمم اخرى قد تهیأت لها الظروف الموضوعیة الافضل لکی تلعب هذا الدور ، لکی تکون شهیدة على الناس اذا لم تتهیأ لهذه الامة الظروف الموضوعیة لهذه الشهادة « إِلَّا تَنفِرُوا یُعَذِّبْکُمْ عَذَابًا أَلِیمًا وَیَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَیْرَکُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَیْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ » (2) ، « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَن یَرْتَدَّ مِنکُمْ عَن دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْکَافِرِینَ یُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِکَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَن یَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ » (3) . اذن فالقرآن الکریم انما یتحدث مع الجانب الثانی من عملیة التغییر ، یتحدث مع البشر فی ضعفه وقوته ، فی استقامته وانحرافه ، فی توفر الشروط الموضوعیة له وعدم توفرها . من هنا یظهر بان البحث فی سنن التاریخ مرتبط ارتباطا عضویا شدیدا بکتاب الله بوصفه کتاب هدى ، بوصفه اخراج للناس من الظلمات الى النور لان الجانب العملی من هذه العملیة ، الجانب البشری یخضع لسنن التاریخ ، فلا بد اذن ان نستلهم ، ولا بد اذن ان یکون للقرآن الکریم تصورات وعطاءات فی هذا المجال لتکوین اطار عام للنظرة القرآنیة والاسلامیة عن سنن التاریخ . اذن هذا لا یشبه سنن الفیزیاء والکیمیاء والفلک والحیوان والنبات ، تلک السنن لیست داخلة فی نطاق التأثیر المباشر على عملیة التاریخ ولکن هذه السنن داخلة فی نطاق التأثیر المباشر على عملیة التغییر . باعتبار الجانب الثانی ، اذن لا بد من شرح ذلک ولا بد ان نترقب من القرآن اعطاء عمومیات فی ذلک ، نعم لا ینبغی ان نترقب من القرآن ان یتحول ایضا الى کتاب مدرسی فی علم التاریخ وسنن التاریخ بحیث یستوعب کل التفاصیل وکل الجزئیات حتى ما لا یکون له دخل فی منطق عملیة التغییر التی مارسها النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)وانما القرآن الکریم یحتفظ دائما بوصفه الاساسی والرئیسی ، یحتفظ بوصفه کتاب هدایة ، کتاب اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وفی حدود هذه المهمة الکبیرة العظیمة التی مارسها یعطی مقولاته على الساحة التاریخیة ویشرح سنن التاریخ بالقدر الذی یلقی ضوءا على عملیة التغییر التی مارسها النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)بقدر ما یکون موجها وهادیا وخالقا لتبصر موضوعی للاحداث والظروف والشروط . ونحن فی القرآن الکریم نلاحظ ان الساحة التاریخیة عامرة بسنن کما عمرت کل الساحات الکونیة الاخرى بسنن . هذه الحقیقة نراها واضحة فی القرآن الکریم ، فقد بینت هذه الحقیقة باشکال مختلفة وبأسالیب متعددة فی عدد کثیر من الآیات بینت على مستوى اعطاء نفس هذه المفهوم بالنحو الکلی ، ان للتاریخ سنن وان للتاریخ قوانین ، وبینت هذه الحقیقة فی آیات اخرى على مستوى عرض هذه القوانین وبیان مصادیق ونماذج وامثلة من هذه القوانین التی تتحکم فی المسیرة التاریخیة للانسان وبینت فی سیاق آخر على نحو تمتزج فیه النظریة مع التطبیق أی بین المفهوم الکلی وبین فی اطار مصداقه وفی آیات اخرى حصل الحث الاکید على الاستفادة من الحوادث الماضیة وشحذ الهمم لایجاد عملیة استقراء للتاریخ وعملیة الاستقراء للحوادث کما تعلمون هی عملیة علمیة بطبیعتها ، ترید ان تفتش عن سنة عن قانون والا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة او قانون . اذن هناک السنة متعددة درجت علیها الآیات القرآنیة فی مقام توضیح هذه الحقیقة وبلورتها .
قلنا ان هذه الفکرة القرآنیة عن سنن التاریخ بلورت فی عدد کثیر من الآیات باشکال مختلفة وألسنة متعددة فی بعض هذه الآیات اعطیت الفکرة بصیغتها الکلیة وفی بعض الآیات اعطیت على مستوى التطبیق على مصادیق ونماذج ، فی بعض الآیات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائی للشواهد التاریخیة من اجل الوصول الى السنة التاریخیة وهناک عدد کثیر من الآیات الکریمة استعرضت هذه الفکرة بشکل وآخر وسوف نقرأ جملة من هذه الآیات الکریمة وبعض هذه الآیات التی سنستعرضها واضح الدلالة على المقصود والبعض الآخر له نحو دلالة بشکل وآخر او یکون معززا ومؤیدا للروح العامة لهذه الفکرة القرآنیة ... فمن الآیات الکریمة التی اعطیت فیها الفکرة الکلیة ، فکرة ان التاریخ له سنن وضوابط ما یلی : « قُل لَّا أَمْلِکُ لِنَفْسِی ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِکُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا یَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا یَسْتَقْدِمُونَ » (4) .
نلاحظ فی هذه الایة الکریمة ان الاجل اضیف الى الامة ، الى الوجود المجموعی للناس ، لا الى هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات ، اذن هناک وراء الاجل المحدود المحتوم لکل انسان بوصفه الفردی ، هناک أجل آخر ومیقات آخر للوجود الاجتماعی لهؤلاء الافراد ، للامة بوصفها مجتمعا ینشیء ما بین افراده العلاقات والصلات القائمة على مجموعة من الافکار والمبادىء المسندة بمجموعة من القوى والقابلیات . هذا المجتمع الذی یعبر عنه القرآن الکریم بالامة . هذا له أجل ، له موت ، له حیاة ، له حرکة ، کما ان الفرد یتحرک فیکون حیا ثم یموت کذلک الامة تکون حیة ثم تموت ، وکما ان موت الفرد یخضع لاجل ولقانون ولناموس کذلک الامم لها آجالها المضبوطة وهناک نوامیس تحدد لکل امة هذا الاجل ، اذن هاتان الآیتان الکریمتان فیهما عطاء واضح للفکرة الکلیة ، فکرة ان التاریخ له سنن تتحکم به وراء السنن الشخصیة التی تتحکم فی الافراد ، بهویاتهم الشخصیة « وَمَا أَهْلَکْنَا مِن قَرْیَةٍ إِلَّا وَلَهَا کِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا یَسْتَأْخِرُونَ » (5) . « أَوَلَمْ یَنظُرُوا فِی مَلَکُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَیْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن یَکُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَیِّ حَدِیثٍ بَعْدَهُ یُؤْمِنُونَ » (6)
ظاهر الآیة الکریمة ان الاجل الذی یترقب ان یکون قریبا او یهدد هؤلاء بأن یکون قریبا هو الاجل الجماعی لا الاجل الفردی لان قوما بمجموعهم لا یموتون عادة فی وقت واحد وانما الجماعة بوجودها المعنوی الکلی هو الذی یمکن ان یکون قد اقترب أجله . فالاجل الجماعی هنا یعبر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد او بذاک ، لان الناس عادة تختلف آجالهم حینما ننظر الیها بالمنظار الفردی ، لکن حینما ننظر الیهم بالمنظار الاجتماعی بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة فی ظلمها وعدلها ، فی سرائها وضرائها ، حینئذ یکون لها أجل واحد . فهذا الاجل الجماعی المشار الیه انما هو أجل الامة وبهذا تلتقی هذه الآیة الکریمة مع الآیات السابقة ... « وَرَبُّکَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ یُؤَاخِذُهُم بِمَا کَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن یَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا » (7)
تحدث القرآن الکریم عن انه لو کان الله یرید ان یؤاخذ الناس بظلمهم وبما کسبوا لما ترک على ساحة الناس من دابة ولا هلک الناس جمیعا . وقد وقعت مشکلة فی کیفیة تصویر هذا المفهوم القرآنی حیث ان الناس لیسوا کلهم ظالمین عادة ، فیهم الانبیاء ، فیهم الائمة الاوصیاء هل یشمل الهلاک الانبیاء والائمة العدول من المؤمنین ، حتى ان بعض الناس أستغل هاتین الآیتین لانکار عصمة الانبیاء (علیهم السلام) والحقیقة ان هاتین الآیتین تتحدثان عن عقاب دنیوی لا عن عقاب أخروی ، تتحدث عن النتیجة الطبیعیة لما تکسبه امة عن طریق الظلم والطغیان ، هذه النتیجة الطبیعیة لا تختص حینئذ بخصوص الظالمین من ابناء المجتمع بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هویاتهم وعلى اختلاف انحاء سلوکهم . حینما وقع التیه على بنی اسرائیل نتیجة ما کسب هذا الشعب بظلمه وطغیانه وتمرده ، هذا التیه لم یختص بخصوص الظالمین من بنی اسرائیل وانما شمل موسى (علیه السلام)شمل اطهر الناس واذکى الناس ، واشجع الناس فی مواجهة الظلمة والطواغیت ، لان موسى (علیه السلام)جزء من تلک الامة وقد حل الهلاک بها قد قرر نتیجة ظلمهم ان یتیهوا أربعین عاما وبهذا شمل التیه موسى (علیه السلام). حینما حل البلاء والعذاب بالمسلمین نتیجة انحرافهم فاصبح یزید بن معاویة خلیفة علیهم یتحکم فی دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم ، حینما حل هذا البلاء لم یختص بالظالمین من المجتمع الاسلامی ، وقتئذ شمل الحسین (علیه السلام)، أطهر الناس وأزکى الناس واطیب الناس وأعدل الناس . شمل الامام المعصوم (علیه السلام)فقتل تلک القتلة الفظیعة هو واصحابه وأهل بیته ، هذا کله هو منطق سنة التاریخ والعذاب حینما یأتی فی الدنیا على مجتمع وفق سنن التاریخ ، لا یختص بالظالمین من ابناء ذلک المجتمع ولهذا قال القرآن الکریم فی آیة اخرى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنکُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ » (8) بینما یقول فی موضع آخر « ولا تزر وازرة وزر اخرى » . فالعقاب الاخروی دائما ینصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنیوی فیکون اوسع من ذلک ، اذن هاتان الآیتان تتحدثان عن سنن التاریخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروی والعذاب بمقاییس یوم القیامة بل عن سنن التاریخ وما یمکن ان یحصل نتیجة کسب الامة ، سعی الامة ، جهد الامة ... « وَإِن کَادُوا لَیَسْتَفِزُّونَکَ مِنَ الْأَرْضِ لِیُخْرِجُوکَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا یَلْبَثُونَ خِلَافَکَ إِلَّا قَلِیلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِیلًا »(9)
هذه الآیة الکریمة أیضا تؤکد المفهوم العام ، یقول « ولا تجد لسنتنا تحویلا » ، هذه سنة سلکناها مع الانبیاء من قبلک وسوف تستمر ولن تتغیر ، أهل مکة یحالون أن یستفزوک لتخرج من مکة لانهم عجزوا عن امکانیة القضاء علیک وعلى کلمتک وعلى دعوتک ، ولهذا صار أمامهم طریق واحد وهو اخراجک من مکة .
وهناک سنة من سنن التاریخ سوف یأتی شرحها بعد ذلک یشار الیها فی هذه الآیة الکریمة . وهی أنه اذا وصلت عملیة المعارضة الى مستوى اخراج النبی من هذا البلد بعد عجز هذه المعارضة عن کل الوسائل والاسالیب الاخرى فانهم لا یلبثون بعده الا قلیلا . لیس المقصود من انهم لا یلبثون الا قلیلا یعنی انه سوف ینزل علیهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء ، لان أهل مکة اخرجوا النبی بعد نزول هذه السورة . استفزوه وارعبوه وخرج النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)من مکة اذ لم یجد له أمانا وملجأ فیها فخرج الى المدینة ولم ینزل عذاب من السماء على أهل مکة ، وانما المقصود فی أکبر الظن من هذا التعبیر أنهم لا یمکثون کجماعة صامدة معارضة یعنی کموقع اجتماعی لا یمکثون ، لا کأناس ، کبشر ، وانما هذا الموقع سوف ینهار نتیجة هذه العملیة ، لا یمکثون الا قلیلا لان هذه النبوة التی عجز هذا المجتمع عن تطویقها سوف تستطیع بعد ذلک ان تهز هذه الجماعة کموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا . فان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حین أخرج من مکة لم یمکثوا بعده الا قلیلا ، اذ فقدت المعارضة فی مکة موقعها ، وتحولت مکة الى جزء من دار الاسلام بعد سنین معدودة .
اذن الآیة تتحدث عن سنة من سنن التاریخ ، وتؤکد وتقول « ولا تجد لسنتنا تحویلا » « قد خلت من قبلکم سنن فسیروا فی الارض فانظروا کیف کانت عاقبة المکذبین » . تؤکد هذه الآیة على السنن وتؤکد على الحق والتتبع لاحداث التاریخ من اجل استکشاف هذه السنن والاعتبار بها ، « ولقد کذبت رسل من قبلک فصبروا على ما کذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لکلمات الله ولقد جاءک من نبأ المرسلین ... » . هذه الآیة ایضا تثبت قلب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة توضح له ان هناک سنة تجری علیه وتجری على الانبیاء الذین مارسوا التجربة من قبله وان النصر سوف یأتیه ولکن للنصر شروطه الموضوعیة : الصبر والثبات واستکمال الشروط ، هذا هو طریق الحصول على هذا النصر ، ولهذا یقول « فصبروا على ما کذبوا وأوذوا حتى اتاهم نصرنا ، لا مبدل لکلمات الله » اذن هناک کلمة لله لا تتبدل على مر التاریخ هذه الکلمة هی علاقة قائمة بین النصر وبین مجموعة من الشروط والقضایا والمواصفات وضحت فی آیات متفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا . اذن فهناک سنة للتاریخ « ... فلما جاءهم نذیر ما زادهم الا نفورا استکبارا فی الارض ومکر السیء ولا یحیق المکر السیء الا بأهله فهل ینظرون الا سنة الاولین فلن تجد لسنة الله تبدیلا ولن تجد لسنة الله تحویلا » . « لو قاتلکم الذین کفروا لولوا الادبار ثم لا یجدون ولیا ولا نصیرا سنة الله قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبدیلا »
هناک آیات استعرضت نماذج من سنن التاریخ « ان الله لا یغیر ما بقوم حتى یغیروا ما بأنفسهم »المحتوى الداخلی النفسی والروحی للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعی هو البناء العلوی ، لا یتغیر هذا البناء العلوی الا وفقا لتغیر القاعدة على ما یأتی انشاء الله شرحه بعد ذلک . هذه الآیة اذن تتحدث عن علاقة معینة بین القاعدة والبناء العلوی ، بین الوضع النفسی والروحی والفکری للانسان وبین الوضع الاجتماعی ، بین داخل الانسان وبین خارج الأنسان ، فخارج الأنسان یصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغیر ما بنفس القوم تغیر وضعهم ، وعلاقاتهم والروابط التی تربط بعضهم ببعض . اذن فهذه سنة من سنن التاریخ ربطت القاعدة بالبناء العلوی « ذلک بأن الله لم یکن مغیرا نعمة انعمها على قوم حتى یغیروا ما بأنفسهم » (10) . « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما یأتیکم مثل الذین خلوا من قبلکم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى یقول الرسول والذین آمنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قریب » (11) . یستنکر علیهم ان یأملوا فی ان یکون لهم استثناء من سنن التاریخ ، هل تطمعون ان یکون لکم استثناء من سنة التاریخ ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر وانتم لم تعیشوا ما عاشته تلک الامم التی انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التی تصل الى حد الزلزال على ما عبر القرآن الکریم ، ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التی تتعملق على مستوى الزلزال هی فی الحقیقة مدرسة للامة ، هی امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لکی تستطیع بالتدریج ان تکتسب القدرة على ان تکون امة وسطا بین الناس . اذن نصر الله قریب لکن النصر له طریق . هکذا یرید ان یقول القرآن . نصر الله لیس أمرا عفویا ، لیس أمرا على سبیل الصدفة ، لیس امرا عمیاویا . نصر الله قریب ولکن اهتدی الى طریقه ، الطریق لا بد ان تعرف فیه سنن التاریخ ، لا بد وان تعرف فیه منطق التاریخ لکی تستطیع ان تهتدی فیه الى نصر الله سبحانه وتعالى ، قد یکون الدواء قریبا من المریض لکن اذا کان هذا المریض لا یعرف تلک المعادلة العلمیة التی تؤدی الى اثبات ان هذا الدواء یقضی على جرثومة هذا الداء ، لا یستطیع ان یستعمل هذا الدواء حتى ولو کان قریبا منه .
اذن الاطلاع على سنن التاریخ هو الذی یمکن الانسان من التوصل الى النصر . فهذه الآیة تستنکر على المخاطبین لها ان یکونوا طامعین فی الاستثناء من سنن التاریخ « ... وما ارسلنا فی قریة من نذیر الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به کافرن وقالوا نحن اکثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبین .. » (12) . هذه علاقة قائمة بین النبوة على مر التاریخ وبین موقع المترفین والمسرفین فی الامم والمجتمعات . هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاریخ ، ولیست ظاهرة وقعت فی التاریخ صدفة والا لما تکررت بهذا الشکل المطرد لما قال « وما ارسلنا فی قریة من نذیر الا قال مترفوها » اذن هناک علاقة سلبیة ، هناک علاقة تطارد وتناقض ، بین موقع النبوة الاجتماعی فی حیاة الناس على الساحة التاریخیة والموقع الاجتماعی للمترفین والمسرفین ، هذه العلاقة ترتبط فی الحقیقة بدور النبوة فی المجتمع ودور المترفین والمسرفین فی المجتمع . هذه العلاقة جزء من رؤیة موضوعیة عامة للمجتمع ، بما سوف یتضح انشاء الله حینما نبحث عن دور النبوة فی المجتمع والموقع الاجتماعی للنبوة ، سوف یتضح حینئذ ان النقیض الطبیعی للنبوة هی موقع المترفین والمسرفین . اذن هذه سنة من سنن التاریخ « .. واذا أردنا ان نهلک قریة أمرنا مترفیها ففسقوا فیها فحق علیها القول فدمرناها تدمیرا . وکم أهلکنا من القرون من بعد نوح وکفى بربک بذنوب عبادة خبیرا بصیرا » (13)
هذه الآیة أیضا تتحدث عن علاقة معینة بین ظلم یسود ویسیطر وبین هلاک تجر الیه الامة جرا . وهذه العلاقة ایضا الآیة تؤکد انها علاقة مطردة على مر التاریخ وهی سنة من سنن التاریخ « ولو انهم اقاموا التوراة والانجیل وما أنزل الیهم من ربهم لاکلو من فوقهم ومن تحت أرجلهم ... » (14)
( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا علیهم برکات من السماء والارض ولکن کذبوا فأخذناهم بما کانوا یکسبون ) (15) . « بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون » (16)
هذه الآیات الثلاث تتحدث عن علاقة معینة هی علاقة بین الاستقامة وتطبیق احکام الله سبحانه وتعالى وبین وفرة الخیرات وکثرة الانتاج ـ وبلغة الیوم بین عدالة التوزیع وبین وفرة الانتاج ـ القرآن یؤکد ان المجتمع الذی تسوده العدالة فی التوزیع هذه العدالة فی التوزیع التی عبر عنها القرآن ـ تارة ـ « ألو استقاموا على الطریقة لاسقیناهم ماء غدقا » ـ وأخرى ـ « لو ان اهل القرى آمنوا واتقوا » ـ واخرى ـ بأنهم « لو أنهم اقاموا التوراة والانجیل » ، لان شریعة السماء نزلت من اجل تقریر عدالة التوزیع ، من اجل انشاء علاقات التوزیع على اسس عادلة ، یقول لو انهم طبقوا عدالة التوزیع لما وقعوا فی ضیق من ناحیة الثروة المنتجة وفی فقر بل لازداد الثراء والمال وازدادت الخیرات والبرکات . لکنهم تخیلوا ان عدالة التوزیع تقتضی الفقر بینما الحقیقة السنة التاریخیة تؤکد عکس ذلک ، تؤکد بأن تطبیق شریعة السماء وتجسید احکامها فی علاقات التوزیع تؤدی دائما وباستمرار الى زیادة الانتاج والى کثرة الثروة ، الى ان یفتح على الناس برکات السماء والارض . اذن هذه ایضا سنة من سنن التاریخ . وهناک آیات اخرى اکدت على الاستقراء والنظر والتدبر فی الحوادث التاریخیة من اجل تکوین نظرة استقرائیة من اجل الخروج بنوامیس وسنن کونیة للساحة التاریخیة « ... افلم یسیروا فی الارض فینظروا کیف کان عاقبة الذین کانوا من قبلهم دمر الله علیهم وللکافرین امثالها .. » (17) . « افلم یسیروا فی الارض فینظروا کیف کان عاقبة الذین من قبلهم » (18) . « وکأی من قریة أهلکناها وهی ظالمة وهی خاویة على عروشها وبئر معطلة وقصر مشید ، أفلم یسیروا فی الارض فتکون لهم قلوب یعقلون بها او آذان یسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولکن تعمى القلوب التی فی الصدور ... » (19)
من مجموع هذه الآیات الکریمة یتبلور المفهوم القرآنی .. وهو تأکید القرآن على ان الساحة التاریخیة لها سنن ولها ضوابط کما یکون هناک سنن وضوابط لکل الساحات الکونیة الاخرى .. وهذا المفهوم القرآنی یعتبر فتحا عظیما للقرآن الکریم .. لاننا بحدود ما نعلم القرآن اول کتاب عرفه الانسان أکد على هذا المفهوم وکشف عنه وأصر علیه وقاوم بکل ما لدیه من وسائل الاقناع والتفهیم ، قاوم النظرة العفویة او النظرة الغیبیة الاستسلامیة بتفسیر الاحداث ، الانسان الاعتیادی کان یفسر احداث التاریخ بوصفها کومة متراکمة من الاحداث ، یفسرها على اساس الصدفة تارة وعلى اساس القضاء والقدرة والاستسلام لامر الله سبحانه وتعالى . القرآن الکریم قاوم هذه النظرة العفویة وقام هذه النظرة الاستسلامیة ونبه العقل البشری الى ان هذه الساحة لها سنن ولها قوانین وانه لکی تستطیع ان تکون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لک ان تکتشف هذه السنن ، لا بد وان تتعرف على هذه القوانین لکی تستطیع ان تتحکم فیها والا تحکمت هی فیک وانت مغمض العینین ، افتح عینیک على هذه القوانین وعلى هذه السنن لکی تکون أنت المتحکم لا لکی تکون هذه السنن هی المتحکمة فیک .
هذا الفتح القرآنی الجلیل هو الذی مهد الى تنبیه الفکر البشری بعد ذلک بقرون الى ان تجرى محاولات لفهم التاریخ فهما عملیا بعد نزول القرآن بثمانیة قرون بدأت هذه المحاولات على أیدی المسلمین انفسهم فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاریخ وکشف سننه وقوانینه ثم بعد ذلک بأربعة قرون ( على اقل تقدیر ) اتجه الفکر الاوربی فی بدایات ما یسمى بعصر النهضة ، بدأ لکی یجسد هذا المفهوم الذی ضیعه المسلمون ، والذی لم یستطع المسلمون ان یتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه الفکر الغربی فی بدایات عصر النهضة وبدأت هناک ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاریخ وفهم سننه ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالیة ومادیة ومتوسطة ومدارس متعددة ، کل واحدة منها تحاول ان تحدد نوامیس التاریخ . وقد تکون المادیة التاریخیة اشهر هذه المدارس واوسعها تغلغلا واکثرها تأثیرها فی التارخ نفسه ، اذن کل هذا الجهد البشری فی الحقیقة هو استمرار لهذا التنبیه القرآنی ویبقى للقرآن الکریم مجده فی انه طرح هذه الفکرة لاول مرة على ساحة المعرفة البشریة .
المصادر :
1- آل عمران 140
2- التوبة 39
3- المائدة 54
4- یونس 49
5- الحجر 4 ، 5
6- الاعراف 185
7- الکهف58
8- الانفال 25
9- الاسراء76 ، 77
10- سورة الانفال : الآیة 53
11- سورة البقرة : الآیة 214
12- سورة سبأ : الآیات 34ـ35
13- سورة الاسراء : الآیة 16ـ17
14- سورة المائدة : الآیة 66
15- سورة الاعراف : الآیة 96
16- سورة الزخرف : الآیة 22
17- سورة محمد : الآیة 10
18- سورة یوسف : الآیة 109
19- سورة الحج : الآیة 120
/ج