هی من التیارات السلوکیة الإسلامیة تبتنی على اسس اخلاقیة واجتماعیة، وتعتمد فکرتها على تصفیة القلب والتعلق بالمعبود، برزت کطریقة وسلوک فی أواخر القرن الثانی الهجری محورها تربیة الروح ونبذ حطام الدنیا والاستغراق فی الاعتبارات الروحیة، وقد نشطت فی اطار الإسلام وتطورت حتى اتصلت بآراء فلسفیة.
عوامل الظهور :
من العوامل التی ساعدت بشکل کبیر على نشوء التیار الصوفی هی حالة الترکیز على الجانب العقلی لدى معظم الفرق وتفسیرها لکثیر من القضایا فی اطار دائرة الفلسفة والجدل مما دفع ذلک إلى عزوف جماعات عن هذا المنحى والتجائهم إلى تحکیم النفس، وکان لابد لهم من اضفاء الصبغة الدینیة على سلوکهم وطریقتهم فاخذوا یفسرون الآیات القرآنیة ویتأولونها بما یتفق وأهدافهم ونزعاتهم، وقد وضعوا الاحادیث والروایات التی تبرر هذا النمط من النظر والنهج، ویظهر ذلک جلیا فی أراء الصوفیة على مختلف نحلهم وطرائقهم.ان الکثیرین ممن دخلوا الإسلام بعد ان اجتاحت الفتوحات الإسلامیة الدولتین الرومانیة والفارسیة کانوا یدینون بمختلف الأدیان والمعتقدات بما فی ذلک الیهودیة والمسیحیة والبوذیة والمانویة والزرادشتیة وقد تأثروا کثیرا بمعتقدات الهنود والصینین حتى أصبحت مظاهر حیاتهم خلیطا من البوذیة والبرهمیة والدهریة، وکان من الصعب فی مثل هذه الظروف ان ینفذ الدین الجدید الى نفوسهم وقلوبهم وتألفه عقولهم بتلک السرعة بحیث یجتث معها ما توارثوه وألفوه حتى أصبح جزءا من حیاتهم وکیانهم، وقد تهیأ لهم التغلغل فی العواصم الإسلامیة واختلطوا بالعرب الفاتحین فکان لذلک الأثر البالغ فی احیاء الروح التقشفیة الصوفیة وانتشارها فی البلاد الإسلامیة، والاستغراق فی الاعتبارات الروحیة نزعة مشترکة بین مختلف المذاهب والأدیان منها الغربی ومنها الشرقی ومنها الدینی ومنها الفلسفی، ونلمس ذلک جلیا فی أهل الکتاب، ونعنی بهم الیهود والنصارى والمجوس فکتبهم المقدسة .
وهی العهد القدیم والعهد الجدیداً وأوستا، مشحونة بالدعوة إلى اصلاح النفس وتهذیبها ومخالفة هواها. ـ نقل الکثیر من الکتب الأجنبیة وترجمتها إلى العربیة بما تحمل بین طیاتها من آراء ومعتقدات من التوراة والانجیل والمانویة والمزدکیة حیث کان لها، التأثیر الواضح على آراء الصوفیة وتبـنـیهم لها وبلغ ذلک ذروته فی النصف الثانی من القرن الثالث الهجری، ویظهر ذلک جلیا فی أدب الشعر الصوفی فقد جاء فیه :
مواعظ رهبـان وذکـر فعالـهم * واخبار صدق عن نفوس کوافر
مواعظ تشفینا فنحن نـحوزهـا * وان کانت الانباء من کل کافر
مواعظ بر تورث النفس عبـرة * وتترکها ولهاء حول المقـابـر
یضاف إلى هذا کله تأثیر السلوکیة الرهبانیة على الحیاة فی البلدان الإسلامیة بما تحمله من أفکار تدعو إلى ترک الحیاة وتشجع التقشف والاستهانة بالدنیا فقد ورد فی الإنجیل :
«انه لأهون على الجمل ان یدخل خرم الإبرة من ان یدخل غنی ملکوت السماوات ».
وفی موضع آخر :
«لا تهتموا لأنفسکم بما تأکلون ولا لأجسامکم فیما تلبسون انظروا إلى طیر السماء فانها لا تحصد ولا تزرع ولا تخزن شیئا لغدها ومع ذلکم فابوکم الذی فی السماء یقوتها، افلستم انتم بافضل منها ؟ ».وتدعو الصوفیة فی کثیر من برامج إلى محاربة الغرائز واماتتها بالتجویع ولبس الخرق والمرقعات والالتجاء إلى الکهوف والغابات والتنکر لجمیع شؤون، الحیاة فاصحاب السلوکیات والطرق ـ وان اختلفوا فیما بین أنفسهم بعض الاختلاف فی العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والایجاد ـ لکنهم متفقون فی الرأی على وجوب ترویض النفس للحصول على کمال المعرفة وسعادة النشأة. وتبرز سمات التأثیر السلوکی على الشخصیة الصوفیة حینما نلاحظ السلوکیة العامة لرجال الرهبانیة والمسیحیة، وهذا الاشتراک یظهر فی میزات أربع تعد القاسم المشترک العملی بین جمیع اصحاب تلک العقائد على اختلاف مشاربها وهی :
1 ـ الهدوء
2 ـ الاعتزال
3 ـ الایحاءات الریاضیة الروحیة
4 ـ احتقار الأمور المالیة وهجرها
یقول العلامة الفیلسوف الکبیر الطباطبائی (قدس سره) (وأما سائر الفرق المذهبیة من الهنود، کالجوکیة اصحاب الأنفاس والأوهام، وکاصحاب الروحانیات وأصحاب الحکمة وغیرهم : فلکل طائفة منهم ریاضات شاقة عملیة لا تخلو عن العزلة وتحریم اللذائذ الشهوانیة على النفس، واما البوذیة فبناء مذهبم على تهذیب النفس ومخالفة هواها وتحریم لذائذها علیها للحصول على حقیقة المعرفة، وقد کان هذا هو الطریقة التی سلکها بوذا نفسه فی حیاته، فالمنقول انه کان من ابناء الملوک والرؤساء فرفض زخارف الحیاة وهجر أریکة العرش إلى غابة موحشة لزمها فی ریعان شبابه واعتزل الناس وترک التعلق بمزایا الحیاة واقبل عن ریاضة نفسه والتفکر فی اسرار الخلقة وخرج إلى الناس ودعاهم إلى ترویض النفس وتحصیل المعرفة).
تمیـَّزت التربیة الصوفیة الروحیة حینما استـندت على جذور عریقة غاصت بها فی تراث الأمم وخرجت بمفاهیم وبرامج تمخضت عن تجربة صعبة حملت فیها تأریخ الأمم والحضارات وجاءت تعکس أهم ما وصلت إلیه الأمم السالفة من تجارب وأسالیب فی بنائها الإنسانی والروحی والدینی، وکونها تشترک فیما بینها فی الاطار العام فی النظریة الصوفیة ونظرتها وتصورها عن الکیان البشری واعتباره کتلة متلاصقة من الدم والعظام والجلد والعضلات والنخاع واللحم والمنی والدموع والغائط والبول، ویهیمن علیه الشوق والغضب والوجل والشراهة والوهم والشهوة والجوع والعطش والشیخوخة والموت والمرض والألم، وقالوا : کیان کهذا لابد من اماتتة لتحیا الروح وتتصل بخالقها وتنکشف لها حقائق الاشیاء وخفایا الکون، وهذا العمق التأریخی للفکر الصوفی جعله ینفذ بسرعة إلى قلوب الکثیرین ویتفاعل مع النفوس بعد ان ادرک ما تحتویه تلک الأنفس وما ترغب به، فالتصوف الإسلامی لم یبق بمعزل عن المؤثرات الخارجیة التی تتناغى مع الاتجاه الصوفی، ولا یمکن اخفاء التأثیر الأفلاطونی والمسیحی بل والبوذی على التصوف الإسلامی وذهب بعض إلى ان لباس الصوف هو الآخر نوع تأثر بالادریة، وهم عرفاء النصارى ـ التی کانت تتبنى فکراً مزیجا من الفلسفات الشرقیة والغربیة.
النشأة والتطور:
مر التصوف بأدوار مختلفة جعلت منه نظاما خاصا ذا فلسفة ثابتة، ویمکن توزیع تلک الأدوار على ثلاث مراحل :مرحلة الزهد العملی :
وهذه المرحلة تمثل ادوار الحضانة للتصوف، إذ کان التصوف طریقة فی الحیاة اتصفت بالرغبة الشدیدة فی شؤون الدین، والاستهانة بأمور الدنیا، والقیام بالفرائض الدینیة على أتم وجه للتقرب إلى الله سبحانه.هذه المرحلة من وجهة نظر تحلیلیة تأریخیة مثلت عملة ذات جنبتین، جنبتها الایجابیة فی تشدیدها على الاعتبارات الروحیة والفضائل الخلقیة والقدوة الصالحة التی وجدها الناس فی حیاة النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) وسلوک المنتجبین من الصحابة، وجنبتها السلبیة فی الردة العنیفة التی حدثت فی وجه التوسع الاجتماعی والسلوک المنحرف لبعض الحکام المسلمین.وهذه الردة الروحیة بدأت على شکل سلوک فردی، لکن سرعان ما تحولت إلى تیار اجتماعی، ثم تبلورت کاتجاه فی تعالیم الحسن البصری وفی مواعظه الزهدیة فی مسجد البصرة، ولذلک عده المتصوفة رئیسهم ومنظرهم الأول.
مرحلة الفلسفة الصوفیة :
وهی المرحلة الثانیة التی بدأ التأثیر الخارجی یتجلى فیها متمثلا بالنزعة الزهدیة بشکلها المتطور، ویظهر ذلک فی « رابعة العدویة » التی کانت السباقة إلى طرح فکرة الحب الالهی مکان الخوف والرهبنة المسیحیة، وفکرة الحب الالهی مهدت الطریق لفکرة الاتصال أو الفناء التی طبعت الزهد بطابع التصوف الفلسفی.ومن هنا أخذ المذهب الصوفی یتجه فی مجریین : حمل الأول التأثیر الیونانی، وانطبع الثانی بالطابع الهندی.
یرشح الأول من مؤلفات « الحارث بن أسد المحاسبی » التی تتجلى فی فکرة التماس معرفة الحق بالاتصال الاشراقی التی عمل بها ذو النون المصری (المتوفى سنة 245 هـ)، ویبرز الثانی فی فکرة الفناء الروحی التی حملها إلى التصوف أبو یزید البسطامی (المتوفَّى سنة 261) وهو فارسی الأصل اقتبس فکرة الفناء (النرقانا) عن زهاد الهند، ثم جاء الجنید البغدادی (المتوفی سنة 297 هـ) فنسق مبادئ التصوف وربطها بالأصول القرآنیة وافرغها فی نظام روحی فلسفی قوامه الزهد والتقشف، ورکنه ممارسة الریاضة الروحیة.
ـ مرحلة المبادئ المتطرفة : اتسمت هذه المرحلة بتطور الافکار الصوفیة التی ظهرت فی کلماتهم على شکل رموز وتعابیر خاصة اضطرتهم إلى اضفاء جانب السریة لعدم اطلاع (العوام) علیها، فـ (الحلاّج) نجم لامع فی دنیا الصوفیة وتطورت عنده فکرة الفناء حتى زعم ان روحه تتحد فی حال نشوته بالذات الالهیة مما دعاه إلى کشف بعض الاسرار وتصرحه بانه الحق والحق هو، وکان یقول : « سبحانی ما اعظم شأنی » الأمر الذی أودى به إلى القتل مصلوباً، ثم جاء دور أبی حامد الغزالی الذی حاول ان یحرر التصوف ویهذبه مما لحق به ویرده إلى الرصانة، ویؤید أصوله بالشرع، ویحببه إلى القلوب، لکن السمة التی وسمه بها الحلاج عادت إلیه فی صورة عقیدة الحلول وفکرة وحدة الوجود.
وإذا بلغ التصوف الذروة فی مراحله السابقة فانه قد أخذ فی الانحطاط فی هذه المرحلة حتى اقترن بالشعوذة والسحر وادعاء الکرامات بل تحول فی نهایة المطاف إلى مذهب خرافی.
ففی القرن السابع الهجری نزل فی العراق والشرق العربی بشکل عام متصوفون من الهنود والمشعوذین من الحکماء الالهیین فأدخلوا على حلقات الصوفیة صنوفا من المخدرات الصناعیة والطرق الغریبة کالرقص المشاهد حتى یومنا هذا فی تکایا الدراویش الذی یصاحبه اعمال شعبذة واکل للزجاج والنار ووخز البدن بإبر الحدید المحمی.
وتفرعت الصوفیة إلى العدید من المذاهب التی تبنت کل منها اتجاها فلسفیا وعقائدیا میزها عن غیرها من المذاهب نستعرضها کما یلی :
المذهب الاشراقی : وهو أول مذهب غلبت علیه الناحیة الفلسفیة، والاشراق الروحی أساس کل تصوف ظهر داعیا إلى الزهد والتقشف، وأول من « ادعاه ثوبان بن ابراهیم ذو النون المصری ».
المذهب الحلولی : وهو ثانی المذاهب الصوفیة، ومفاده : حلول العنصر الالهی فی العنصر البشری، وبه نادى (الحلاّج)..
مذهب وحدة الوجود : وهو ثالث مذاهب الصوفیة، والقائل به « محیی الدین بن عربی » « والسهروردی » « وابن الفارض » و(الحلاّج) أیضا.
مذهب الفناء فی الله : وهو من المذاهب التی تأمر بالمزید من العبادات، واهمال الجسم ولبس الخشن من الثیاب، وکان یحمل لواءه « ابو یزید البسطامی ».
مذهب حب الله : ویدعو هذا المذهب إلى الحضور الذهنی والتعلق الالهی، والمنظر الاول لهذا المذهب « رابعة العدویة » و« معروف الکرخی ».
وابتکر رجال المتصوفة طرقا عملیة اخرى اتبعت مناهجَ واسالیب مختلفة فی تربیة مریدیها، ویمکن ان نقول ان طرق الصوفیة کثیرة جدا یصعب حصرها إذا ما لاحظنا جانب السریة الذی یکتنف بعضها، واهم تلک الطرق هی :
الطریقة القادریة : مؤسسها الشیخ عبد القادر الکیلانی المعروف بأبی محمد محیـی الدین عبد القادر بن موسى بن عبد الله الکیلانی، ویعرف جده بالاسم الفارسی « حنکی دوست » عرف بالکیلانی نسبة إلى مسقط رأسه « کیلان » بفارس وذلک سنة 471 هـ، وفی سنة 488 هـ انتقل إلى بغداد اثناء خلافة « المستظهر بالله العباسی ».
الطریقة الرفاعیة : مؤسسها احمد بن علی بن أحمد الرفاعی، ولد سنة 512 هـ، بقریة حسنی بإقلیم البطائح ما بین البصرة وواسط، وقیل ان الرفاعی نسبة إلى رفاعة احد البطون القبلیة، کان خاله شیخا للطریقة الصوفیة، وقد أخذ عنه وأصبح المسؤول عن الرفاعیة، توفی ببلدة « أم عبیدة » سنة 578هـ، ودفن فیها، وله مسجد معروف فی القاهرة باسمه.
الطریقة المیلویة :مؤسسها جلال الدین محمد بن محمد بن الحسین الملقب بالبلخی نسبة إلى مسقط رأسه، ولد سنة 604 هـ، وانتقل إلى نیسابور ثم إلى بغداد واستقر بمدینة قونیة الترکیة ابان حکم الأمیر علاء الدین السلجوقی، وهذه الطریقة شائعة بین الاتراک، وکانوا عند الاذکار یجتمعون فی حلقات فیرقصون بلباسهم الخاص، ویستخدمون الطبول الایقاعیة، ولا یزال لهذه الفرقة وجود فی ترکیة ودمشق وایران.
وهناک طُرق صوفیة معروفة عند متصوفة الهنود اهمها :
الطریقة الجشتیة : للشیخ معین الدین حسن السنجری المتوفَّى سنة 627 هـ، ومدارها على الذکر الجلی بحفظ الانفاس، وربط القلب بالشیخ، وصفاء المحبة والتعظیم، والدخول فی الأربعینات، مع دوام الصیام والقیام وتقلیل الکلام والطعام والمنام، والمواظبة على الوضوء.
طریقة النقشبندیة : للشیخ بهاء الدین محمد نقشبند البخاری، ومدارها على تصحیح العقائد ودوام العبادة، ودوام الحضور مع الحق سبحانه.
طریقة السهروردیة : للشیخ شهاب الدین عمر السهروردی، ومدارها على توزیع الأوقات على ما هو اللائق بالناس من الصیام والقیام والمواظبة على الادعیة المأثورة والأوراد..
طریقة الکبرویة : للشیخ نجم الدین ابی الجناب احمد بن عمر بن محمد الخوارزمی المعروف بالکُبری.
طریقة المداریة : للشیخ بدیع الدین المدار المکنبوری، ومدارها على التماشی من مخالفة ظاهر الشریعة، وانشاء اسرار التوحید فی الدرجة القصوى.
طریقة القلندریة : للشیخ قطب الدین العمری الجونبوری المشهور ببنادل.
طریقة الشطاریة : للشیخ عبد الله الشطار الخراسانی.
طریقة العیدروسیة : تنسب للسید عفیف الدین العیدروس الکبیر، ومدارها احیاء العلوم للغزالی.
الأفکار والمعتقدات :
الحلول والاتحاد : وهو ان من هذّب نفسه فی الطاعة وصبر عن اللذات والشهوات یرتقی إلى مقام المقربین، ثم لا یزال یرتقی ویصفو فی درجات المصافاة حتى یصفو من البشریة، فإذا لم یبق فیه من البشریة حظ حل فیه روح الله الذی حل فی عیسى بن مریم ولم یُردْ حینئذ شیئا إلا کان کما أراد وکان جمیع فعله فعل الله تعالى.ونقل ان ابا یزید البسطامی دخل مدینة فتبعه منها خلق کثیر فالتفت إلیهم وقال : (أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدونی) فقال الناس : لقد جن أبو یزید وترکوه.
وحدة الوجود : وهو ان الله هو الروح لکل الموجودات، والموجودات جسم لتلک الروح، وجمیع تلک الأجسام تشیر إلى الروح التی هی الله وهو کل شیء، وانه تعالى متحد وموجود فی کل الصور، والاختلاف بین الناس فی المعبود انما هو فی الشکل لا فی الجوهر، وقال بعضهم فی تحدید حقیقة الوجود : ان الوجود حقیقة هو ذات الحق تعالى ولیس لتلک الأعیان والماهیات الظاهرة وجود حقیقی ذاتی لها والذی نشاهد منها هو انصباغها بنور الوجود الحق على نحو من انحاء الظهور وطور من اطوار التجلی الخفی، فهو الظاهر من جمیع المظاهر المشهور فی کل التعینات بحسب استعدادها، ومن ذلک قول ابن عربی :
لـــولاه لما کنـا * ولا نحن ما کانا
فان قلنـا بانـا هو * یکون الحق إیانا
فیظهـرنا لیظهر هو * سرارا ثم إعلانا
الحقیقة المحمدیة : وهی أول المخلوقات، ومبدأ خلق العالم، وهی النور الذی خلقه الله قبل کل شیء وخلق منه کل شیء، أو هی العقل الإلهی الذی تجلى الحق فیه لنفسه فکان هذا التجلی بمنـزلة أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهی فی صور الوجود، وهی الصورة الکاملة للإنسان الکامل الذی یجمع فی نفسه جمیع حقائق الوجود. ومن الشعر الصوفی فی الحقیقة المحمدیة الأبیات التالیة :
ذات لـهـا فی نفسها وجهـان * للسفل وجه والعلا للثانـی
ولکل وجه فی العـبـادة والادا * ذات وأوصاف وفعل بیان
ان قلت واحدة صدقت وان تقل * اثـنان حـق انـه اثنـان
ان الولایة لا صلة لها بأی شأن من شؤون العالم ولذلک لم یکن لها زمان، دون زمان وان النبوة احدى مراتب الولایة مقضی علیها بالانقطاع لانها من الصفات التی تزول عمن یتصفون بها اما الولایة فلا زوال لها، والعلم الباطن أعلى وأتم من العلم الذی یتوصل إلیه النبی بواسطة الوحی، وان أی رسول من حیث هو ولی أتم وأکمل منه من حیث هو رسول أو نبی. وان الولی یطلق على العبد إذا اکتملت فیه حقا صفات الولایة.
واخص صفات الولایة الإسلامیة هی الفناء فی الله والتحقق بالوحدة الذاتیة بین الحق والخلق، فإذا وصل العبد إلى هذا المقام فقد وصل إلى غایة الطریق الصوفی وحق له ان یسمی نفسه لا باسم الولی وحده بل بأی اسم من الاسماء الإلهیة، وإذا فنی الصوفی عن صفاته البشریة وتخلق بصفات الألوهیة سموا ذلک تخلقا، وإذا فنی عن ذاته وتحقق بوحدته مع الحق سموا ذلک تحققا وإذا بقی بعد الفناء وعرف ان لا وجود له ولا قوام إلا بالله وحصل فی مقام القرب الدائم منه سموا ذلک متحلقا.
ـ للأولیاء ثلاث مراتب : القطب الأول هو القطب الواحد وهی روح محمد وتعد أکمل مظاهره. والثانی قطب العالم الإنسانی، وهی أن الأرض لا تخلو من رسول حی بجسمه. والقطب الثالث هو قطب الغوث وهذا القطب لا یکون منه فی الزمان إلا واحد وهو قد یکون ظاهر الحکم ویحوز الخلافة الظاهرة، وسمی بالغوث من حیث اغاثة العوالم بمادته ورتبته الخاصة. ـ للقطب إمامان وهما بمنزلة الوزیرین احدهما عبد الرب والآخر عبد الملک، ویخلفه احدهما عند موته. کما ان الأوتاد أربعة فی کل زمان یحفظ الله بأحدها المشرق وبالثانی المغرب وبالثالث الجنوب وبالرابع الشمال، وان الابدال سبعة یحفظ الله بهم الأقالیم السبعة، وهم عارفون بما أودع الله سبحانه وتعالى الکواکب السیارة من أمور واسرار فی حرکاتها ونزولها فی المنازل المقدرة.
الأولیاء من رجال الغیب خمسة أقسام :
القسم الأول : هم المقتفون آثار الأولیاء والغائبون عن عالم الأکوان فی الغیب المسمى بمستوى الرحمن.القسم الثانی : أهل المعانی الذین یصور الولی بصورهم فهم أرواح وکأنهم أشباح سافروا عن عالم الشهود، وهؤلاء أوتاد الأرض القائمون لله بالسنة والفرض.
والقسم الثالث : ملائکة الإلهام والبواعث، یطرقون الأولیاء ویکلمون الأصفیاء، لا یبرزون إلىعالم الاحساس ولا یتعرفون لعوام الناس.
القسم الرابع : رجال المناجاة الذین یخبرون بالمغیبات وینبئون عن الاسرار.
والقسم الخامس : أهل الحظوة فی العالم ومن اجناس بنی آدم یظهرون للناس ویغیبون ویکلمونهم فیجیبون وأکثر ما یسکنون الجبال والقفار والاودیة واطراف الانهار.
ان الله تعالى لما تسمى بالملک ورتب العالم ترتیب الممالیک فجعل الخواص من عباده جلساءه، ثم جعل حاجباً من الکروبین اعطاه علمه فی خلقه وسماه نوناً، ثم عیّن من الملائکة ملکاً آخر دونه فی الرتبة سماه القلم واتخده کاتباً وعلمه من علمه ما شاء فی خلقه بواسطة نون.
إمکان رؤیة الله تعالى بالأبصار فی الآخرة، وانه یراه المؤمنون دون الکافرین لان ذلک کرامة من الله تعالى ورؤیته تعالى، جائزة عقلاً واجبة سمعاً، ولا یمکن رؤیته فی الدنیا بالأبصار ولا بالقلوب.
ان الله خلق أفعال العباد جمیعها خیرها وشرها وان کل ما یفعلونه فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشیئته، ولولا ذلک لم یکونوا عبیدا حیث قال الله تعالى ( والله خلقکم وما تعملون )، وفی آیة آخرى، قال الله تعالى : ( ومن شر ما خلق ).
ان الدین على قسمین : شریعة وحقیقة. فأهل الشریعة عندهم أهل الظاهر العوام من الناس الذین یعتمدون على النصوص الشرعیة، ومنهم فقهاء المذاهب وعامة فقهاء الشرع ویسمون بعلماء الرسوم. وأما أهل الباطن فهم أهل الحقیقة والطریقة وهم الخاصة من الناس الذین یعتمدون على تأویل النصوص الشرعیة والتأویل هو صرف النص إلى معنى لا یحتمله إلا عن طریق الأحلام واستفتاء القلوب.
أبرز الشخصیات :
1 ـ محمد بن علی بن أحمد المعروف بـ (محیـی الدین بن عربی) الملقب بالشیخ الکبیر2 ـ محمد بن محمد بن أحمد (أبو حامد الغزالی الطوسی).
3 ـ الحسین بن منصور (أبو مغیث الحلاج).
4 ـ أبو یزید طیفور بن عیسى البسطامی.
5 ـ الحارث المحاسبی.
6 ـ أبو القاسم الجنید بن محمد بن الجنید البغدادی.
7 ـ ثوبان بن إبراهیم (ذو النون المصری) أبو الفیض.
8 ـ بشر بن الحرث الحافی أبو نصر.
9 ـ أبو محفوظ معروف بن فیروز الکرخی.
10 ـ أبو الحسن سری بن المغلس السقطی.
11 ـ عبد الحق بن إبراهیم بن محمد ـ المشهور بـ ـ ابن دارة ـ والملقب بـ (قطب الدین).
12 ـ رابعة العدویة.
الانتشار ومواقع النفوذ :
ـ انتشرت الفرقة الصوفیة فی خراسان واصفهان من بلاد إیران وفی بغداد ـ وهی أکبر معاقل التصوف ـ والبصرة والکوفة من العراق، ونشأت أغلب الطرق الصوفیة فی بلاد المغرب العربی ومنه انتقلت إلى مصر والسودان، وبلغت آراء ومعتقدات الصوفیة وطرقهم شبة القارة الهندیة والباکستان، ولا تزال لحد الآن تلقى الاتباع والمریدین، ویمارس معتنقوها أعمالهم وشعائرهم فی مراکزهم الخاصة لاداء مراسمهم وطقوسهم.
وقائع واحداث :
ـ قیل لابی یزید البسطامی : لا نراک تشتغل بکسب فمن أین یأتیک معاشک ؟ فقال : مولای یرزق الکلب والخنزیر أتراه لا یرزق أبا یزید.ـ ان بعض الصوفیة دخلوا على الجنید وقالوا له : أین نطلب الرزق ؟ فقال : ان علمتم این هو فاطلبوه، فقالوا : نسأل الله تعالى ؟ فقال : إن علمتم انه ینساکم فذکَّروه، فقالوا، اندخل البیت ونقفله علینا ونتوکل ؟ فقال : التجربة مع الله شک، فقالوا : فما الحیلة ؟ قال : الحیلة فی ترک الحیلة.
ـ ومن الاحداث المهمة والظریفة ما جرى للحسین بن منصور الحلاج وهو من کبار الصوفیة على ما نقله شیخ الطائفة الطوسی (ره) حیث قال : لما أراد الله تعالى ان یکشف أمر الحلاج ویظهر فضیحته ویخزیه وقع له ان أبا سهل بن إسماعیل بن علی النوبختی ممن تجوز علیه مخرقته وتتم علیه حیلته فوجه إلیه یستدعیه، وظن ان أبا سهل کغیره من الضعفاء فی هذا الأمر بفرط جهله، وقدر ان یستجره إلیه فیتمخرق به ویتسوف بانقیاده على غیره فیستتب له ما قصد إلیه من الحیلة والبهرجة على الضعفة لقدر أبی سهل فی أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أیضا عندهم، ویقول له فی مراسلته إیاه : (إلى وکیل صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشریف) ـ وبهذا اولاً کان یستجر الجهال ثم یعلو منه إلى غیره ـ وقد أمرت بمراسلتک وإظهار ما تریده من النصرة لک لتقوی نفسک ولا ترتاب بهذا الأمر) فأرسل إلیه أبو سهل یقول له : إنی أسالک أمرا یسیرا یخف مثله علیک فی جنب ما ظهر على یدیک من الدلائل والبراهین وهو إنی رجل أحب الجواری وأصبو إلیهن ولی منهن عدة أتحظاهن والشیب یبعدنی عنهن، واحتاج ان أخضبه فی کل جمعة، واتحمل منه مشقة شدیدة لأستر عنهن ذلک، وإلا انکشف أمری عندهن، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأرید أن تغنینی عن الخضاب وتکفینی مؤونـته وتجعل لحیتی سوداء فانی طوع یدیک، وصائر إلیک، وقائل وداع إلى مذهبک مع مالی فی ذلک من البصیرة ولک من المعونة)، فلما سمع ذلک الحلاج من قوله وجوابه علم انه قد أخطأ فی مراسلته وجهل فی الخروج إلیه بمذهبه، وأمسک عنه ولم یرد إلیه جوابا ولم یرسل إلیه رسولاً وصیره أبو سهل ـ رض ـ احدوثة وضحکة عند کل أحد، وشهر أمره عند الصغیر والکبیر، وکان هذا الفعل سببا لکشف أمره وتنفیر الجماعة عنه.
من ذاکرة التاریخ :
ـ یحکی الغزالی فی باب معاقبة النفس ان أبا مسلم الخولانی قد علق سوطاً فی جدار بیته یخوف به نفسه، فإذا کلت نفسه تناول سوطه وضرب به ساقه ! ویقول : أنت أولى بالضرب من دابتی ! ثم یقول : أیظن أصحاب (محمد) ان یستأثروا به دوننا ؟ کلا والله لنزاحمنهم علیه زحاماً، حتى یعلموا انهم خلفوا وراءهم رجالا ! ثم یستأنف ضرب نفسه !!ـ ویحکی الغزالی أیضا ان صفوان بن سلیم کان قد تعقدت ساقاه من طول القیام وکان إذا جاء الشتاء اضطجع على السطح لیضرب به البرد ! وإذا جاء الصیف اضطجع داخل البیت لیجد الحر فلاینام !!.
ـ اجمع علماء بغداد على قتل الحسین بن منصور المشهور بالحلاّج، ووضعت القیود فی یدیه وحمل إلى السجن، وأمر المقتدر بالله بتسلیمه إلى صاحب الشرطة لیضربه ألف سوط فان مات والا یضربه ألف سوط اخرى، ثم یضرب عنقه. فسلمه الوزیر للشرطی وقال له : ان لم یمت فاقطع یدیه ورجلیه وحز رأسه واحرق جثته ولا تقبل خدعه فتسلمه الشرطی واخرجه إلى باب الطاق یُجر فی قیوده، فاجتمع علیه خلق عظیم وضربه ألف سوط فلم یتأوه، ثم قطع اطرافه وحز راسه واحرق جثته ونصب رأسه على الجسر وذلک فی سنة 309 هـ.
خلاصة البحث :
ـ الصوفیة هی إحدى المذاهب الإسلامیة الکبرى، تبنت طرقا وریاضات روحیة فی بدایة ظهورها أواخر القرن الثانی الهجری، وطرحت عقائد میزتها عن غیرها من الفرق الإسلامیة کالقول بوحدة الوجود والحقیقة المحمدیة والحلول وتأویل الآیات القرآنیة طبقا لما تفرزه المکاشفات والالهامات الشخصیة.ـ أثرت عوامل عدیدة فی إبراز الآراء الصوفیة وفتحت المجال أمام أئمة الصوفیة حیث الاحتدام الفکری العقائدی والترکیز على التفسیر العقلی والفلسفی والاعتماد بشکل متمیز على التحلیل العقلی والنظری مما مهد السبیل وفتح الآفاق أمام التیار الصوفی فی سد الفراغ الروحی ووضعت الریاضات النفسیة التی لم تلتفت إلیها بقیة الفرق الإسلامیة فجاءت الصوفیة باسلوب علیه صبغة الزهد ولباس التقوى وسمة الإیمان واستهوت قلوب الکثیر من ضعفاء الإیمان والمتحجرین فصوروا للجهلاء ان الدین رفض الدنیا وفسخ للارتباط بالمجتمع وهجر الناس والاشتغال بذکر الأوراد والأفکار.
ـ ومن العوامل دخول التیارات المناوئة للرسالة الإسلامیة کالنصرانیة والیهودیة والمجوسیة والبوذیة، وتأثیرها المتقابل على المجتمع الإسلامی، وخصوصا خلال الفتوحات الإسلامیة التی عمت الحضارتین الرومانیة والفارسیة، ودخول الاعداد الغفیرة من الدیانات الأخرى إلى الإسلام الفاتح، ولم تکن الفرصة کافیة کی یتجاوزوا مرحلة التغییر الفکری والعقائدی حسبما یریده ویقرره الدین الجدید المتمثل بالإسلام، فخلطوا بین ما توارثوه من آبائهم وبین أسس ومعتقدات الدین الإسلامی، وکانت النتیجة ظهور عقائد شائبة وسلوکیات معوجة تتنافى مع جوهر العقیدة الإسلامیة الأصلیة وروحها.
استندت حرکة التصوف على عدة محاور ورکزت فیها على مجموعة من المراتب فی اعداد اتباعها وهی:
1 ـ مرحلة الزهد العملی
2 ـ مرحلة الفلسفة الصوفیة
3 ـ مرحلة المبادئ المتطرفة
وکان أبرز ما طرحته الصوفیة من معتقدات وأفکار هی :
1 ـ الحلول والاتحاد
2 ـ وحدة الوجود وهو ان الوجود حقیقة هو ذات الله وانه تعالى موجود فی کل العصور
3 ـ الحقیقة المحمدیة وهی أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهی فی صور الوجود
4 ـ ان للأولیاء ثلاث مراتب
5 ـ وان الأولیاء من رجال الغیب ستة أقسام
من أبرز الشخصیات التی وجهت التحرک الصوفی على مر القرون المتعددة ووضعت النظریات ورسمت أبعاد السلوک الصوفی هی :
1 ـ محمد بن علی المعروف بـ (محیـی الدین بن عربی)
2 ـ محمد بن محمد أبو حامد الغزالی
3 ـ أبو یزید طیفور بن عیسى البسطامی، وغیرهم
المصدر :
تحقیق راسخون2014
/ج