قد آن الأوان أن نعترف بالحقیقة القائلة: بأنّ البشر لا یستطیعون وضع دستور لهم بدون هدى الله. وبدلاً من المضیّ فی الجهود الّتی لا تأتی بنتائج مثمرة، علینا أن نعترف بالواقع لّذی یدعونا إلیه الدکتور فرویدمان، حین یقول: "یتّضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنّه لا بدّ من هدایة الدّین لتقییم المعیار الحقیقیّ للعدل. والأساس الّذی یحمله الدّین لإعطاء العدل صورة عملیّة ینفرد هو بها فی حقّیته وبساطته. إنّنا نجد فی الدیّن جمیع الأسس اللازمة الّتی یبحث عنها المشرّعون لصیاغة دستور مثالی، ولکی یتّضح صدق ما نقوله، نأتی بالدراسة الوجیزة التالیة فی أهمّ مشکلات التشریع الإنسانیّ:
منهامصدر التشریع، وأوّل الأسئلة وأهمّها بالنسبة لأیّ تشریع هو البحث عن مصدر هذا التشریع: من الّذی یضعه؟! ومن ذا یعتمده حتّى یصبح نافذ المفعول؟
لم یصل خبراء التشریع إلى إجابة عن هذا السؤال حتّى الآن. ولو أنّنا خوّلنا هذا الامتیاز للحاکم، لمجرّد کونه حاکماً، فلیس هناک أساس نظریّ وعلمیّ یجیز تمتّعه هو أو شرکاؤه فی الحکم بذلک الامتیاز، ثمّ إنّ هذا التحویل من ناحیة أخرى لا یجدی نفعا، فإنّ إطلاق أیدی الحکّام لیصدروا أیّ شیء لتنفیذه بوسیلة القوّة؟ أمر لا تُطیقه ولا تحتمله الجماهیر.
ولو أنّنا خوّلنا سلطة التشریع لرجال المجتمع، فهم أکثر جهالة وحمقاً، لأنّ المجتمع، أیّ مجتمع! إذا نظرنا إلیه ککلّ، لا یتمتّع بالعلم والعقل والتجربة، وهی أمور لا بدّ منها عند التشریع. فهذا العمل یتطلّب مهارة فائقة وعلماً وخبرة، وهو ما لا تستطیع العامّة من الجماهیر الحصول علیه، کما أنّها، وإن أرادت، لن تجد الوقت الکافی لدراسة المشکلات القانونیّة وفهمها. وللخروج من هذه المشکلة توصّل رجال القانون إلى حلّ وسط، وهو أن یقوم (البالغون) من أفراد المجتمع بانتخاب ممثّلین لهم، وهؤلاء بدورهم یصدرون التشریعات باسم الشعب. ومن الممکن أن ندرک حماقة هذا الحلّ الوسط، حین نجد أنّ حزباً سیاسیّاً لا یتمتّع إلّا بأغلبیّة 51 % من مقاعد البرلمان یحکم على حزب الأقلیّة، الّذی یمثّل 49 % من أفراد المجتمع البالغین. والأمر لا یقف عند هذا الحدّ، لأنّ هذا الحلّ یحتوی على فراغ کبیر جدّاً تنفذ منه أقلیّة لتحکم على أغلبیّة السکان.
وهکذا نقف مرة أخرى أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره. والدّین یستجیب لهذا التحدّی الخطیر، الّذی قد یدّمر سعادة البشریّة کلّها.. إنّه یقول: إنّ مصدر التشریع هو الله وحده، خالق الأرض والکون، فالّذی أحکم قوانین الطبیعة هو وحده الّذی یلیق أن یضع دستور حضارة الإنسان ومعیشته. ولیس هناک من أحد غیره سبحانه، یمکن تخویله هذا الحقّ. (1)
إنّ هذا الجواب معقول وبسیط لدرجة أنّه یصرخ قائلاً- لو استطعنا أن نسمع نداءه-: هل هناک أحد غیر الله سبحانه وتعالى یستطیع أن یسوّی هذه المشکلة المصیریّة؟
لقد وصلت بنا هذه الإجابة إلى مکانها الحقیقیّ من التشریع والمشرّع، بعد أن استحال علینا المضیّ خطوة ما فی ظلام الضلالة عن الهدى الحقیقیّ. إنّه لا یمکن قبول إنسان حاکماً ومشرّعاً للإنسان، ولا یستمتع بهذا الحقّ إلّا خالق الإنسان، وحاکمه الطبیعی: الله. (وقد یعطی الله سبحانه هذا الحقّ لمن یشاء کالرسول الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم ، حیث یقول سبحانه: ﴿وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(2)، نعم، ولکن الرسول الّذی لا ینطق عن الهوى.
برّ الوالدین
یقول الله سبحانه تعالى فی محکم کتابه:﴿وَقَضَى رَبُّکَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَانًا إِمَّا یَبْلُغَنَّ عِندَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ کِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً کَرِیمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا کَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرًا﴾(3)
یقول أمیر المؤمنین علیه السلام فی إحدى خُطبه: "فما خُلقتُ لیشغلنی أکلُ الطیّبات کالبهیمة المربوطة همُّها علفُها، أو المرسلة شغلها تقمّمها تکترش من أعلافها وتلهو عمَّا یُراد بها"(4) وهو الذبح.
إنَّ الله تعالى لم یخلق السماوات والأرض عبثاً ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَیْنَهُمَا لَاعِبِینَ﴾(5)، وکذلک الإنسان، بمعنى أنَّ هذا الإنسان غیر متروک لیحیا حیاته بطریقة عبثیّة، بل هو مسؤول ویُسأل عن أفعاله.
یقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾(6). کلّ الناس مسؤولون عن أفعالهم، نعم، هناک استثناءات کالصبیّ والصبیّة غیر المکلَّفین، والمجنون. أمّا الکلام هنا فعمّن تتوفّر فیهم الصفات الّتی حدّدها الإسلام للإنسان المسؤول؛ البالغ العاقل، الّذی وقع علیه قول ربّ العزّة سبحانه وتعالى: ﴿فَوَرَبِّکَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِیْنَ* عَمَّا کَانُوا یَعْمَلُونَ﴾(7)، أی عن عملهم بالتکالیف الإلهیّة، و﴿لاَ یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(8) و﴿یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلاَ یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ﴾(9).
وقد روی عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم أنّه قال: "کلّکم راعٍ وکلّکم مسؤول عن رعیَّته"(10). فالأمیر على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعیّته. وربّ الأسرة راعٍ ومسؤول عن أهل بیته. والمرأة راعیة أولادها، وهی مسؤولة عنهم، وهکذا کلّ منّا مسؤول بحسب موقعه من هذه الحیاة.
وفی کلام آخر لأمیر المؤمنین علیه السلام: "اتقوا الله فی بلاده وعباده، فإنَّکم مسؤولون عن البقاع والبهائم"(11). وهذا ما نسمّیه الیوم: الثروات الطبیعیّة والحیوانیّة.
ومسؤولیّة الإنسان متعدّدة الاتجاهات: فهناک مسؤولیّات تجاه نفسه وبدنه وحاجاته الجسدیّة، وتجاه روحه وحاجاته الروحیّة والنفسیّة. وهناک مسؤولیّة تجاه عائلته والأقرباء، وأهل قریته ووطنه، ومسؤولیّة تجاه البشریّة. وهناک مسؤولیّة تجاه الدِّین والقیَم.. ویجب أن یتحمّل الإنسان مسؤولیّته بقدر ما یستطیع، لأنّ الله لا یُکلّف نفساً إلّا وسعها، أی لا یأمرها بشیء إلّا دون طاقتها وإمکاناتها وقدرتها على الامتثال، وهذا من لطف الله تعالى على العباد.
مسؤلیة الإنسان:
1ـ أن یعرف الإنسان تکلیفه والمسؤولیّات الملقاة على عاتقه2ـ أن یعرف شکل وروح المسؤولیّة لیبادر ویعمل ویتحمَّل ویجاهد فی تحمّلها
3ـ أن یعمل ما تقتضیه هذه المسؤولیّة، حتّى إذا سُئل یوم القیامة تکون أجوبته کفیلة بأن تُدخله الجنّة، یقول سبحانه: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(12).
المسؤولیّة تجاه العائلة
أمّا موضوع حدیثنا فهو المسؤولیّة تجاه العائلة. وهذا الموضوع ینبع من باب الحاجة إلى التوجیه النبویِّ الرسالیّ، نتیجة ابتعاد مجتمعاتنا عن القیم الدینیّة والإلهیّة، ونتیجة تطوّر عالم الاتصالات وغزو التقالید الغربیّة لمجتمعاتنا وتقالیدنا، فالوارد إلینا خطِر ومدمّر، وإن لم نکن على جهوزیّة للتصدّی له أو لم تکن لدینا المناعة المستمدّة من روح الدین والعلاقة مع الله تعالى، فإنّ السقوط فی وادی الجهالة والضلالة حتمیّ ومؤکّد إلا من رحم ربّی.تتضمّن العائلة أو الأسرة، الّتی یسمّیها الإسلام بالحلقة الأضیق، الأب والأمّ والزوجة والأولاد. وهناک شبهة عند الناس فی هذا الموضوع، فهم یفترضون أنّ الحلقة الأضیق هی الزوجة والأولاد. وبعضهم یفترض أنّهم عندما یستقلّون فی حیاتهم، فالوالد والوالدة أصبحا خارج الدائرة الأضیق، وهذا فهم خاطئ.
نأتی إلى النظرة الإسلامیّة فی الموضوع الاجتماعیّ، إن على صعید الفرد أو على صعید العائلة، فرؤیة الإسلام ترتکز إلیهما بلحاظ:
1ـ أنّ الفرد هو أصل المجتمع، لذلک نجد کلّ تعالیم الإسلام وتشریعاته، وتعالیم الأنبیاء علیهم السلام ، کلّها ترکّز على تربیته وتنشئته .
2ـ أنّ العائلة هی فی نظر رسالات السماء أساس تکوین أیّ مجتمع إنسانیّ، وفی أیّ مدینة أو أیّ وطن، أمّا فی حالة أفراد مفکّکین، فیفقد المجتمع البشریّ طبیعته وینتج بدلاً عنه مجتمع منحرف لا یستطیع الاستمرار والبقاء .
فالعائلة، ولو فی إطارها الضیّق، عندما تکون متعاونة متراحمة، فهی تشکّل خلایا البیئة الاجتماعیّة السویّة، وهذا ینعکس على المجتمع کلّه.
من هنا تأتی التعالیم والرسالات لتؤکِّد على الزواج، الّذی هو مستحبّ، بل واجب فی بعض الأحیان. الإسلام یتحدّث عن انتقاء الزوج والزوجة، وتسهیلات الزواج،
وتقدیمات الزواج، والحفاظ على الأسرة وبقائها، وتوزیع المسؤولیّات داخل الأسرة، کما یذکر تعقیدات موضوع الطلاق.
أزمة العائلة فی الغرب
ابتلاءاتنا فی المجتمع، هی فیما یأتینا من الغرب؛ ففی الغرب هناک مأساة على المستوى النفسیّ، برغم التطوّر العلمیّ الهائل، وسنشهد خلال السنوات المقبلة، أزمات حادّة جدّاً فی هذه الدول. إنّ ما نقرؤه من تقاریر ودراسات حول مجتمعاتهم، والّذی یعکسونه فی الأفلام السینمائیة الّتی یصدّرونها إلى العالم العربیّ والإسلامیّ، کلّه یتحدّث عن تفکّک الأسرة، وارتفاع هائل فی نسبة العزوبیّة. فلا توجد أسرة وعائلة طالما یظنّ الرجل والمرأة أنّهما یستطیعان تلبیة حاجاتهما الجسدیّة خارج إطار الأسرة، نتیجة الإباحیّة الّتی تنتشر فی تلک المجتمعات. وهناک ارتفاع فی نسبة الطلاق، ونسبة المولودین خارج الزواج الشرعیّ، حتّى خارج الزواج المدنیّ المتداول عندهم. وهذا ما یؤدّی إلى آثار روحیّة واجتماعیّة وأمنیّة سیّئة جدّاً.هناک، عندما یکبر الوالدان، لا یسأل الأولاد عنهما، وإن سألوا یرمونهما فی دور العجزة، وعندما یموتان تتکفّل البلدیّة بدفنهما، وهذا ما یُریدون نقله إلى مجتمعنا!
وإذا دخلنا إلى الدائرة الأضیق (الأسرة) عندنا، ومن خلال بعض التوجیهات النبویّة والإسلامیّة، یمکن تجزئة هذه الدائرة الصغرى إلى ثلاثة أجزاء:
• الزوج والزوجة
• الوالدان
• الأولاد
الوالدان والعنایة الإلهیّة
وسیقتصر حدیثنا عن الوالدین اللّذین نالا عنایة إلهیّة خاصّة؛ یقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَقَضَى رَبُّکَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَانًا إِمَّا یَبْلُغَنَّ عِندَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ کِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً کَرِیمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا کَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرًا﴾(13).إنّ الله تعالى، انتقل وبشکل مباشر من الدعوة إلى عبادته وحده وعدم الشرک به إلى الأمر بالإحسان للوالدین، وهذا ما نراه متکرّراً قبل وفی کلّ آیة ذکر فیها البرّ بالوالدین، وذلک لنرى المرتبة العظیمة لهما، فالبِرّ بالوالدین یرقى إلى مستوى توحید الله سبحانه، ویضاف إلى هذا الفهم فی إدراک أهمیّة العلاقة بالوالدین أمور عدیدة أیضاً منها:
الإرشاد والتوجیه الإلهیّ
إنّ الإرشاد والتوجیه الإلهیّ للإحسان بالوالدین، له مساحته الإنسانیّة، فلا یُشترط فی الوالدین أن یکونا مسلمَین، حتّى إن کانا مشرکَیْن فالمسؤولیّة لا تسقط؛ البِرّ والإحسان فرض واجب على کلّ مؤمن تجاه أبویه مؤمنین کانا أم مشرکین من نفس المذهب أم من غیره، ملتزمین أم لا، من نفس الانتماء السیاسیّ أو مخالفَین. فلا تجوز مقاطعة الأبوین على أیّ حال، حتّى ولو کانا مرتکبَین لذنب یوجب الخلود فی النار ألا وهو الشرک بالله تعالى، یقول سبحانه: ﴿وَإِن جَاهَدَاکَ عَلى أَن تُشْرِکَ بِی مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِی الدُّنْیَا مَعْرُوفًا﴾(14).روی عن معمّر بن خلاد قال: قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام: أدعو لوالدی إذا کانا لا یعرفان الحقّ؟ قال: "ادعُ لهما وتصدّق عنهما، وإن کانا حیّین لا یعرفان الحقّ فدارهما، فإنّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قال: إنّ الله بعثنی بالرحمة لا بالعقوق"(15).
مسؤولیّة حتّى آخر العمر
لا بدّ من التأکید على المسؤولیّة تجاه الوالدین، وبالأخصّ عندما یعجزان وتنطوی سِنیّ شبابهما. فعندما یکبران فی السنِّ تصبح المسؤولیّة أکبر، بل إنّ استمراریّة هذه المسؤولیّة تتأکّد حتّى بعد وفاتهما، من خلال التصدّق عنهما بالمال وإهدائهما ثواب العمل الصالح، أو على الأقلّ بالدعاء لهما بالرحمة، کما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا کَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرًا﴾(16).جاء رجل إلى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فقال له: أوصنی، یا رسول الله.
فمن جملة الوصیّة قال له الرسول صلى الله علیه وآله وسلم: "ووالدیک فأطعهما وبِرَّهما حیَّیْن کانا أو میتین"(17).
وفی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام: "ما یمنع الرجل منکم أن یبرَّ والدیه حیَّیْن ومیتین، یصلّی عنهما، ویتصدّق ویصوم ویحجّ عنهما، فیکون الّذی صنع لهما، وله مثل ذلک فیزیده الله ببرّه وصلته أجراً کثیراً"(18). فالأب والأمّ هما نعمة، حیَّیْن أو میّتیْن.
حقّ أمّک وحقّ أبیک
لقد أکّد الدِّین الإسلامیّ على مقام الوالدین، خصوصاً الأمّ الّتی أُعطیت مکانة ممیّزة. فعن الإمام زین العابدین علیه السلام ، فی رسالة الحقوق: "أمّا حقُّ أبیک فأن تعلم أنّه أصلک، وأنّک لولاه لم تکن، فمهما رأیت فی نفسک ممّا یعجبک، فاعلم أنّ أباک أصلُ النعمة علیک فیه، فاحمد الله واشکره على ذلک، ولا قوّة إلّا بالله"."أمّا حقّ أُمّک فأن تعلم أنّها حملتک حیث لا یحتمل أحد أحداً، وأعطتک من ثمرة قلبها ما لا یُعطی أحد أحداً، ووقتْک بجمیع جوارحها ولم تُبالِ أن تجوع وتُطعمک وتعطش وتسقیک، وتعرى وتکسوک، وتضحى وتُظللک، وتهجر النوم لأجلک، ووقتک الحرّ والبرد لتکون لها، وأنّک لا تطیق شکرها إلّا بعون الله وتوفیقه"(19). وقد روی ما مضمونه أنّ شخصاً حمل والدته على کتفیه وراح یطوف بها الکعبة، وعندما رأى النبی صلى الله علیه وآله وسلم سأله: هل أدَّیت حقَّها، یا رسول الله؟
فقال له النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم: "لا ولا بزفرة واحدة"(20)، ویقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة ، الّتی تغشى الأمّ حین الولادة والوضع.
ومن الأحادیث المعروفة فی حقّ الأمّ: "الجنّة تحت أقدام الأمهات.."(21). و "أُمُّک ثمّ أُمُّک، ثمّ أبوک"(22).
کما ورد أنّه جاء عن النبیّ موسى بن عمران علیه السلام: قال: "یا ربّ، أوصنی. قال: أُوصیک بأُمِّک. قال: أوصنی. قال: أُوصیک بأُمِّک. قال: أوصنی. قال: أُوصیک بأُمِّک. قال: أوصنی. قال: أُوصیک بأبیک"(23).
وسأل أحدهم النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم عن حقّ الوالدین على ولدهما فقال صلى الله علیه وآله وسلم: "هما جنَّتُک ونارُک"(24).
کیفیّة برّ الوالدین
تأسیساً على هذا الفهم على مستوى الآیات والروایات، نخلص إلى أنَّ ما هو مطلوب من الأبناء تجاه الوالدین أمور عدیدة أهمّها:1ـ الحدّ الأدنى عدم إیذائهما وهذا أضعف الإیمان ﴿َلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾(25). ولو
أنَّ الله وجد فی الوقائع واللغة، أخفّ من کلمة ﴿أُفٍّ﴾ لاستخدمها فی الآیة.﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾(26): لا ترفع صوتک فوق صوتهما. لا تنظر إلیهما نظر ماقت؛ ففی الحدیث عن الصادق علیه السلام: "من نظر إلى أبویه نظرة ماقت لهما وهما ظالمان له لم یقبل الله له صلاة"(27).
2ـ إطاعتهما وعدم معصیتهما فی شیء إلا إذا کان ترکاً لواجب أو فعلاً لحرام؛ فلا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق، ولو کان هذا المخلوق أمّاً أو أباً . أمّا موضوع الجهاد وهذا موضوع کبیر وخطیر فالجهاد الواجب لا یحتاج إلى إذن الوالدین، ومع ذلک فللوالدین مکانة عظیمة عند الله ورسوله صلى الله علیه وآله وسلم ، فقد ورد أنّه قد جاء أحدهم إلى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وقال له: إنّی رجل شابٌ نشیط وأحبّ الجهاد ولی والدةٌ تکره ذلک. فماذا أفعل، یا رسول الله؟
فأجابه النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم: "ارجع فکن مع والدتک، فوالّذی بعثنی بالحقِّ، لأنسُها بک لیلةً خیر من جهادک فی سبیل الله سنة"(28)
طبعاً هذا بالنسبة للجهاد المستحبّ، ولا یتعلّق بالجهاد الواجب عیناً.
3ـ الشکر والدعاء والاستغفار لهما
4ـ احترامهما والإحسان إلیهما: ﴿وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً﴾(29), کتقبیل یَدَیهما إذ هی من العادات الطیّبة. روی عن الرسول صلى الله علیه وآله وسلم: "إیّاک وعقوق الوالدین، فإنّ ریح الجنّة توجد من مسیرة ألف عام"(30). لکنّ العاقّ لوالدیه لا یشمّ هذه الریح الطیّبة، فهو بعید عن الجنّة مسیرة ألف عام.
یقول الحدیث الشریف: "برُّوا آباءکم یبرُّکم أبناؤکم"(31).
المصادر :
1- الإسلام یتحدّى، وحید الدین خان، ص 159 - 161، بتصرّف.
2- سورة الحشر، الآیة:7.
3- سورة الإسراء، الآیتان: 23 24.
4- نهج البلاغة، الشریف الرضی، ج 3، کتاب رقم 45،ص 72.
5- سورة الأنبیاء، الآیة: 16.
6- سورة الصافات، الآیة: 24.
7- سورة الحجر، الآیتان: 92 93.
8- سورة البقرة، الآیة: 286.
9- سورة البقرة، الآیة: 185.
10- بحار الأنوار، العلامة المجلسی، ج 72، ص 38.
11- نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 167، ص 80.
12- سورة آل عمران، الآیة: 185.
13- سورة الإسراء، الآیتان: 23 24.
14- سورة لقمان، الآیة: 15.
15- الکافی، الشیخ الکلینی، ج2، ص159.
16- سورة الإسراء، الآیة:24.
17- الکافی، الشیخ الکلینی، ج 2، ص 158.
18- م. ن، ص 159.
19- الأمالی، الشیخ الصدوق، ص 453.
20- شرح رسالة الحقوق، حسن القبانجی، ص 547.
21- جامع أحادیث الشیعة، السید البروجردی، ج 21، ص 428.
22- بحار الأنوار، المجلسی، ج 71، ص 49.
23- الأمالی، الشیخ الصدوق، ص 601.
24- میزان الحکمة، الریشهری، ج 4، ص 3674.
25- سورة الإسراء، الآیة: 23.
26- سورة الإسراء، الآیة: 23.
27- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج 21، ص 501.
28- الکافی، الکلینی، ج 2، ص 163.
29- سورة البقرة، الآیة: 83.
30- الکافی، الکلینی، ج 22.
31- الأمالی، الشیخ الصدوق، ص 364.
/ج