کما تجدرُ المسارعة الى علاج الجسم من جراثیم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مکافحتها، کذلک تجب المبادرة الى تصفیة النفس، وتطهیرها من أوضار الذنوب، ودنس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعسر تدارکها.وکما تعالج الأمراض الصحیحة بتجرع العقاقیر الکریهة، والاحتماء عن المطاعم الشهیة الضّارة، کذلک تعالج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهوات العارمة، والأهواء الجامحة، لیأمن التأثب أخطارها ومآسیها الدنیویة والأخرویة.
حقیقة التوبة:
لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها، واجتیازها أطواراً ثلاثة:فالطور الأول:
هو: طور یَقظَة الضمیر، وشعور المذنب بالأسى والندم على معصیة اللّه تعالى، وتعرضه لسخطه وعقابه، فاذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعی انتقل الى:الطور الثانی:
وهو: طور الانابة الى اللّه عز وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصیانه، فإذا ما أنس بذلک تحول الى:الطور الثالث:
وهو: طور تصفیة النفس من رواسب الذنوب، وتلافی سیئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفیر رصید الحسنات، وتلاشی الشیئات، وبذلک تتحقق التوبة الصادقة النصوح.ولیست التوبة هزل عابث، ولقلقة یتشدق بها اللسان، وإنما هی: الانابة الصادقة الى اللّه تعالى، ومجافاة عصیانه بعزم وتصمیم قویین، والمستغفر بلسانه وهو سادر فی المعاصی مستهتر کذّاب، کما قال الامام الرضا علیه السلام:«المستغفر من ذنب ویفعله کالمستهزئ بربه».
فضائل التوبة:
للتوبة فضائل جمة، ومآثر جلیلة، صورها القرآن الکریم، وأعربت عنها آثار أهل البیت علیهم السلام.وناهیک فی فضلها أنّها بلسم الذنوب، وسفینة النجاة، وصمام الأمن من سخط اللّه تعالى وعقابه.وقد أبَت العنایة الالهیة أن تُهمل العصاة یتخبطون فی دیاجیر الذنوب، ومجاهل العصیان، دون أن یسعهم بعطفه السامی، وعفوه الکریم، فشوقهم الى الأنابة، ومهد لهم التوبة، فقال سبحانه:
«وإذا جاءک الذین یؤمنون بآیاتنا فقل سلام علیکم، کتب ربکم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منکم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فانه غفور رحیم» (1)
وقال تعالى: «قل یا عبادی الذین أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه، إن اللّه یغفر الذنوب جمیعاً، إنه هو الغفور الرحیم»(2) وقال تعالى حاکیاً: «فقلت: استغفروا ربکم إنه کان غفاراً، یُرسل السماء علیکم مدراراً، ویُمددکم بأموال وبنین، ویجعل لکم جنات، ویجعل لکم أنهارا» (3)
وقال الصادق علیه السلام: «إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبه اللّه تعالى فستر علیه فی الدنیا والآخرة. قال الراوی: وکیف یستر اللّه علیه؟ قال: ینسی ملکیه ما کتبا علیه من الذنوب، ثم یوحی اللّه الى جوارحه اکتمی علیه ذنوبه، ویوحی الى بقاع الأرض اکتمی علیه ما کان یعمل علیک من الذنوب، فیلقى اللّه تعالى حین یلقاه، ولیس شیء یشهدعلیه بشیء من الذنوب»(4)
وعن الرضا عن آبائه علیهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: التائب من الذنب کمن لا ذنب له».وقال صلى اللّه علیه وآله فی حدیث آخر: «لیس شیء أحب الى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة»(5)
وعن أبی عبد اللّه أو عن ابی جعفر علیهما السلام قال: «إن آدم قال: یا رب سلّطت علیّ الشیطان وأجریته مجرى الدم منی فاجعل لی شیئاً.
فقال: یا آدم جعلتُ لک أن من همّ من ذریتک بسیئة لم یکتب علیه شیء، فان عملها کتبت علیه سیئة، ومن همّ منهم بحسنة فان لم یعملها کتبت له حسنة، فإن هو عملها کتبت له عشراً.قال: یا رب زدنی. قال: جعلت لک أن من عمل منهم سیئة ثم استغفرنی غفرت له.
قال: یا رب زدنی. قال: جعلت لهم التوبة حتى یبلغ النفس هذه. قال: یا رب حسبی»(6)
وقال الصادق علیه السلام: «العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجله اللّه سبع ساعات، فان استغفر اللّه لم یکتب علیه، وإن مضت الساعات ولم یستغفر کتبت علیه سیئة، وإن المؤمن لیذکر ذنبه بعد عشرین سنة حتى یستغفر ربه فیغفر له، وإن الکافر لینساه من ساعته»(7)
وقال علیه السلام: «ما من مؤمن یقارف فی یومه ولیلته أربعین کبیرة فیقول وهو نادم: «أستغفر اللّه الذی لا إله إلا هو الحی القیّوم بدیع السماوات والأرض ذو الجلال والاکرام وأسأله أن یصلی على محمد وآل محمد وأن یتوب علیّ» إلا غفرها اللّه له، ولا خیر فیمن یقارف فی یومه أکثر من أربعین کبیرة»(8)
وجوب التوبة وفوریتها:
لا ریب فی وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:أما العقل: فمن بدیهیاته ضرورة التوقی والتحرز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الانسان وهلاکه. لذلک وجب التحصن بالتوبة، والتحرز بها من غوائل الذنوب وآثارها السیئة، فی عاجل الحیاة وآجلها.
وأما النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنة فرضاً محتّماً، وشوقت الیها بألوان التشویق والتیسیر.
فعن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه تبوته، ثم قال: إن السنة کثیر، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الشهر لکثیر، من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الجمعة لکثیر، من تاب قبل موته بیوم قبل اللّه توبته. ثم قال: إن یوماً لکثیر، من تاب قبل أن یعاین قبل اللّه توبته»(9)
وعن الصادق عن آبائه علیهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: إنّ للّه عز وجل فضولاً من رزقه یُنحله من یشاء من خلقه، واللّه باسط یدیه عند کل فجر لمذنب اللیل هل یتوب فیغفر له، ویبسط یدیه عند مغیب الشمس لمذنب النهار هل یتوب فیغفر له» (10)
تجدید التوبة:
من الناس من یهتدی بعد ضلال، ویستقیم بعد انحراف، فیتدارک آثامه بالتوبة والانابة، ملبیاً داعی الایمان، ونداء الضمیر الحُر.بید أنّ الانسان کثیراً ما تخدعه مباهج الحیاة، وتسترقه بأهوائها ومغریاتها، فیقارف المعاصی من جدید، منجرفاً بتیارها العَرمِ، وهکذا یعیش صراعاً عنیفاً بین العقل والشهوات، ینتصر علیها تارة، وتنتصر علیه أخرى، وهکذا دوالیک.
وهذا ما یعیق الکثیرین عن تجدید التوبة، ومواصلة الانابة خشیة النکول عنها، فیظلّون سادرین فی المعاصی والآثام.
فعلى هؤلاء أن یعلموا أن الانسان عرضة لاغواء الشیطان، وتسویلاته الآثمة، ولا ینجو منها إلا المعصومون من الأنبیاء والأوصیاء علیهم السلام، وانّ الأجدر بهم إذا ما استزلهم بخدعه ومغریاته، أن یجددوا عهد التوبة والانابة بنیّة صادقة، وتصمیم جازم، فان زاغوا وانحرفوا فلا یُقنطهم ذلک عن تجدیدها کذلک، مستشعرین قول اللّه عز وجل:
«قل یا عبادیّ الذین أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه، أنّ اللّه یغفر الذنوب جمیعاً، إنّه هو الغفور الرحیم» (11).وهکذا شجّعت أحادیث أهل البیت علیهم السلام على تجدید التوبة، ومواصلة الانابة، إنقاذاً لصرعى الآثام من الانغماس فیها، والانجراف بها، وتشویقاً لهم على استئناف حیاة نزیهة مستقیمة.
فعن محمد بن مسلم قال: قال الباقر علیه السلام: «یا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فلیعمل المؤمن لما یستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنها لیست إلا لأهل الایمان.قلت: فان عاد بعد التوبة والاستغفار فی الذنوب، وعاد فی التوبة. فقال: یا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن یندم على ذنبه ویستغفر اللّه تعالى منه ویتوب ثم لا یقبل اللّه توبته!! قلت: فانه فعل ذلک مراراً، یذنب ثم یتوب ویستغفر. فقال: کلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه علیه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفور رحیم، یقبل التوبة، ویعفو عن السیئات،فإیّاک أن تُقنّط المؤمنین من رحمة اللّه تعالى»(12)
وعن أبی بصیر قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام: «یا أیها الذین آمنوا توبوا الى اللّه توبة نصوحاً» (13)؟ قال: هو الذنب الذی لا یعود الیه أبداً. قلت: وأیّنا لم یعد. فقال: یا أبا محمد. إن اللّه یحب من عباده المفتن التوّاب»(14)
المراد بالمفتن التوّاب: هو من کان کثیر الذنب کثیر التوبة.ولا بدع أن یحب اللّه تعالى المفتن التواب، فان الاصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دلیل صارخ على موت الضمیر وتلاشی الایمان، والاستهتار بطاعة اللّه عز وجل، وذلک من دواعی سخطه وعقابه.
منهاج التوبة:
ولا بد للتائب أن یعرف أسالیب التوبة، وکیفیة التخلص من تبعات الذنوب، ومسؤولیاتها الخطیرة، لیکفّر عن کل جریرة بما یلائمها من الطاعة والانابة.فللذنوب صور وجوانب مختلفة:
منها ما یکون بین العبد وخالقه العظیم، وهی قسمان: ترک الواجبات، وفعل المحرمات.
فترک الواجبات: کترک الصلاة والصیام والحج والزکاة ونحوها من الواجبات. وطریق التوبة منها بالاجتهاد فی قضائها وتلافیها جُهد المستطاع.وأما فعل المحرمات: کالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها من المحرمات، وسبیل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على ترکها.
ومن الذنوب: ما تکون جرائرها بین المرء والناس، وهی أشدّها تبعة ومسؤولیة، وأعسرها تلافیاً، کغصب الأموال، وقتل النفوس البریئة المحرمة، وهتک المؤمنین بالسب والضرب والنمّ والاغتیاب.
والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات الى أهلها، ما استطاع الى ذلک سبیلاً، فان عجز عن ذلک فعلیه بالاستغفار، وتوفیر رصید حسناته، والتضرع الى اللّه عز وجل أن یرضیهم عنه یوم الحساب.
قبول التوبة:
لا ریب أن التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالاجماع، لدلالة القرآن والسنّة علیها:قال تعالى: «وهو الذی یقبل التوبة عن عباده» (15)
وقال تعالى: «غافر الذنب، وقابل التوب»(16)
وقد عرضنا فی فضائل التوبة طرفاً من الآیات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبین بشرف رضوان اللّه تعالى، وکریم عفوه ، وجزیل آلائه.
وأصدق شاهد على ذلک ما جاء فی معرض حدیث للنبی صلى اللّه علیه وآله حیث قال: «لولا أنکم تذنبون فتستغفرون اللّه لخلق اللّه خلقاً حتى یذنبوا ثم یستغفروا اللّه فیغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول اللّه «إن اللّه یحب التوابین ویحب المتطهرین»(17)
تتلخص النصائح الباعثة على التوبة والمشوقة إلیها فیما یلی:
أن یتذکر المذنب ما صوَّرته الآیات الکریمة، والأحادیث الشریفة، من غوائل الذنوب، ومآسیها المادیة والروحیة، فی عاجل الحیاة وآجلها، وما توعد اللّه علیها من صنوف التأدیب وألوان العقاب. - أن یستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبین، وما حباهم اللّه به من کریم العفو، وجزیل الأجر، وسمو العنایة واللطف، وقد مرّ ذلک فی بدایة هذا البحث.
محاسبة النفس ومراقبتها:
المحاسبة هی: محاسبة النفس کل یوم عمّا عملته من الطاعات والمبرات، أو اقترفته من المعاصی والآثام، فان رجحت کفة الطاعات على المعاصی، والحسنات على السیئات، فعلى المحاسب أن یشکر اللّه تعالى على ما وفقه الیه وشرّفه به من جمیل طاعته وشرف رضاه.وان رجحت المعاصی، فعلیه أن یؤدّب نفسه بالتأنیب والتقریع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.
وأما المراقبة: فهی ضبط النفس وصیانتها عن الاخلال بالواجبات ومقارفة المحرمات.
وجدیر بالعاقل المستنیر بالایمان والیقین، أن یروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها (أمّارة بالسوء): متى أهملت زاغت عن الحق، وانجرفت فی الآثام والشهوات، وأودت بصاحبها فی مهاوی الشقاء والهلاک، ومتى اُخذت بالتوجیه والتهذیب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمکارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء، «ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زکّاها، وقد خاب من دسّاها»(18)
هذا إلى أن للمحاسبة، والمراقبة أهمیة کبرى فی تأهب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهیبة، ومن ثم اهتمامه بالتزوّد من أعمال البر والخیر الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.
لذلک طفقت النصوص تشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأسالیبها الحکیمة البلیغة:قال الامام الصادق علیه السلام: «إذا أراد أحدکم أن لا یسأل ربه شیئاً الا أعطاه، فلییأس من الناس کلهم، ولا یکون له رجاء الا من عند اللّه تعالى، فاذا علم اللّه تعالى ذلک من قلبه لم یسأل شیئاً إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسکم قبل أن تحاسبوا علیها، فإن للقیامة خمسین موقفاً کل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا «فی یوم کان مقداره خمسین ألف سنة»(19)
وقال الامام موسى بن جعفر علیه السلام: «لیس منّا من لم یحاسب نفسه فی کل یوم، فإن عمل حسنة استزاد اللّه تعالى، وإن عمل سیئة استغفر اللّه تعالى منها وتاب الیه»(20)
وعن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «إن رجلاً أتى النبی صلى اللّه علیه وآله فقال له: یا رسول اللّه أوصنی.
فقال له رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصیتک؟ حتى قال له ذلک ثلاثاً، وفی کلها یقول له الرجل: نعم یا رسول اللّه. فقال له رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: فانی أوصیک، إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن یک رشداً فأمضه، وإن یک غیّاً فانته عنه»وقال الصادق علیه السلام لرجل: «إنّک قد جُعلتَ طبیب نفسک، وبُیّن لک الداء، وعُرّفت آیة الصحة، ودُلِلت على الدواء، فانظر کیف قیاسک على نفسک»(21)
وعن موسى بن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال:
«قال أمیر المؤمنین علیه السلام: إن رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله بعث سریة، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقی علیهم الجهاد الأکبر.قیل: یا رسول اللّه، وما الجهاد الأکبر؟ قال: جهاد النفس. ثم قال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التی بین جنبیه»(22)
دستور المحاسبة:
لقد ذکر المعنیون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأسلوب مفصّل ربما یشق على البعض تنفیذه، بید أنی أعرضه مجملاً ومیسراً فی أمرین هامین:1- أول ما یجدر محاسبة النفس علیه أداء الفرائض التی أوجبها اللّه تعالى على الناس، کالصلاة والصیام والحج والزکاة ونحوها من الفرائض، فإن أداها المرء على الوجه المطلوب، شکر اللّه تعالى على ذلک ورجّى نفسه فیما أعد اللّه للمطیعین من کرم الثواب وجزیل الأجر.وإن أغفلها وفرّط فی أدائها خوّف نفسه بما توعد اللّه العصاة والمتمردین عن عباده بالعقاب الألیم، وجد فی قضائها وتلافیها.
2- محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنکرات، وذلک: بزجرها زجراً قاسیاً، وتأنیبها على ما فرط من سیئاتها، ثم الاجتهاد بملافاة ذلک بالندم علیه والتوبة الصادقة منه.
ولقد ضرب النبی صلى اللّه علیه وآله أرفع مثل لمحاسبة النفس، والتحذیر من صغائر الذنوب ومحقراتها:
قال الصادق علیه السلام: «إن رسول اللّه نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتونا بحطب. فقالوا: یا رسول اللّه نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. قال: فلیأت کل إنسان بما قدر علیه، فجاءوا به حتى رموا بین یدیه بعضه على بعض، فقال رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: هکذا تجتمع الذنوب.
ثم قال: إیاکم والمحقرات من الذنوب، فإن لکل شیء طالباً، ألا وانّ طالبها یکتب:
«ما قدموا وآثارهم وکل شیء أحصیناه فی إمام مبین»(23)
وکان بعض الأولیاء یحاسب نفسه بأسلوب یستثیر الدهشة والاکبار:
من ذلک ما نقل عن توبة بن الصمة، وکان محاسباً لنفسه فی أکثر أوقات لیله ونهاره، فحسب یوماً ما مضى من عمره، فاذا هو ستون سنة، فحسب أیامها فکانت احدى وعشرین ألف یوم وخمسمائة یوم، فقال: یاویلتاه!!، ألقى مالکاً باحدى وعشرین ألف ذنب، ثم صعق صعقة کانت فیها نفسه(24)
وما أحلى هذا البیت:إذا المرء أعطى نفسه کل شهوة*** ولم ینهها تاقت الى کل باطل
اغتنام فرصة العمر:
لو وازن الانسان بین جمیع مُتع الحیاة ومباهجها، وبین عمره وحیاته لوجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جمیعاً، وأنه لا یعدله شیء من نفائس الحیاة وأشواقها الکثر، إذ من الممکن اکتسابها او استرجاع ما نفر منها.أما العمر فإنه الوقت المحدد الذی لا یستطیع الانسان إطالة أمده، وتمدید أجله المقدر المحتوم «ولکل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا یستأخرون ساعة ولا یستقدمون»(25)
کما یستحیل استرداد ما تصرم من العمر، ولو بذل المرء فی سبیل ذلک جمیع مقتنیات الحیاة.
وحیث کان الانسان غفولاً عن قیم العمر وجلالة قدره، فهو یسرف عابثاً فی تضییعه وإبادته، غیر آبه لما تصرم منه، ولا مغتنم فرصته السانحة.
من أجل ذلک جاءت توجیهات آل البیت علیهم السلام موضحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فیما یوجب سعادة الانسان ورخائه فی حیاته العاجلة والآجلة.
قال سید المرسلین صلى اللّه علیه وآله فی وصیته لأبی ذر: «یا أبا ذر، کُن على عمرک أشحّ منک على درهمک ودینارک»(26)
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: «إنما الدنیا ثلاثة أیام: یوم مضى بما فیه فلیس بعائد، ویوم أنت فیه فحقّ علیک اغتنامه، ویوم لا تدری أنت من أهله، ولعلک راحل فیه.
أما الیوم الماضی فحکیم مُؤدب، وأما الیوم الذی أنت فیه فصدیق مودّع، وأمّا غد فإنما فی یدیک منه الأمل».
وقال علیه السلام: «ما من یوم یمر على ابن آدم، إلا قال له ذلک الیوم: أنا یوم جدید، وأنا علیک شهید، فقل فیّ خیراً، واعمل
فیّ خیراً، أشهد لک به یوم القیامة، فإنک لن ترانی بعد هذا أبداً»(27).وروی أنه جاء رجل الى علی بن الحسین علیهما السلام یشکو الیه حاله، فقال: «مسکین ابن آدم، له فی کل یوم ثلاث مصائب لا یعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت علیه المصائب وأمر الدنیا:
فأما المصیبة الأولى: فالیوم الذی ینقص من عمره. قال: وإن ناله نقصان فی ماله اغتم به، والدهر یخلف عنه والعمر لا یردّه شیء.
والثانیة: انه یستوفی رزقه، فان کان حلالاً حُوسِبَ علیه، وان کان حراماً عوقب.
قال: والثالثة أعظم من ذلک. قیل: وما هی؟ قال: ما من یوم یمسی إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة، لا یدری على جنة أم على نار.
وقال: أکبر ما یکون ابن آدم الیوم الذی یولد من أمّه.
«قالت الحکماء ما سبقه الى هذا أحد»(28)
وقال الصادق علیه السلام: «إصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عن معصیة اللّه، فإنما الدنیا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم یأت فلست تعرفه، فاصبر على تلک الساعة التی أنت فیها فکأنک قد اغتبطت »(29)
وقال الباقر علیه السلام: «لا یغرّنک الناس من نفسک، فإن الأمر یصل إلیک دونهم، ولا تقطع نهارک بکذا وکذا، فإنّ معک من یحفظ علیک عملک، فأحسن فانّی لم أر شیئاً أحسن درکاً، ولا أسرع طلباً، من حسنة محدثة لذنب قدیم»(30)
وعن جعفر بن محمد عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله علیه وآله: «بادر بأربع قبل أربع، بشبابک قبل هرمک، وصحتک قبل سقمک، وغناک قبل فقرک، وحیاتک قبل موتک»(31)
وعن الباقر علیه السلام عن النبی صلى اللّه علیه وآله قال: «لا یزولُ قدم (قدما) عبد یوم القیامة من بین یدی اللّه، حتى یسأله عن أربع خصال: عمرک فیما أفنیته، وجسدک فیما أبلیته، ومالک من أین اکتسبته واین وضعته، وعن حبنا أهل البیت؟»(32).وقال بعض الحکماء: إنّ الانسان مسافر، ومنازله ستة، وقد قطع منها ثلاثة وبقی ثلاثة:
فالتی قطعها: -
1- من کتم العدم الى صلب الأب وترائب الأم.
2- رحم الأم.
3- من الرحم الى فضاء الدنیا.
وأما التی لم یقطعها : -
فأولها القبر. وثانیها فضاء المحشر. وثالثها الجنة أو النار.
ونحن الآن فی قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدة قطعها مدة عمرنا، فأیامنا فراسخ، وساعاتنا أمیال، وأنفاسنا خطوات.
المصادر :
1- الأنعام: 54
2- الزمر: 53
3- نوح: 10 - 12
4- الوافی ج 3 ص 183 عن الکافی
5- البحار م 3 ص 98 عن عیون اخبار الرضا علیه السلام
6- الوافی ج 3 ص 184 عن الکافی
7- البحار م 3 ص 103 عن الکاف
8- الوافی ج 3 ص 182 عن الکافی
9- الوافی ج 3 ص 183 عن الکافی
10- البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق
11- الزمر: 53
12- الوافی ج 3 ص 183 عن الکافی
13- التحریم: 8
14- الوافی ج 3 ص 183 عن الکافی
15- الشورى: 25
16- غافر: 3
17- البقرة: 222
18- الشمس: 7 - 10
19- المعارج : 4 / الوافی الجزء الثالث ص 62 عن الکافی
20- الوافی ج 3 ص 62 عن الکافی
21- الوافی ج 3 ص 62 عن الکافی
22- البحار م 15 ج 2 ص 40 عن معانی الأخبار وأمالی الصدوق
23- یاسین: 12/ الوافی ج 3 ص 168 عن الکافی
24- سفینة البحار ج 1 ص 488.
25- الأعراف: 34
26- الوافی قسم المواعظ فی وصیة النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) لأبی ذر
27- الوافی ج 3 ص 63 عن الفقیه
28- عن کتاب الاختصاص المنسوب للشیخ المفید
29- الوافی ج 3 ص 63 عن الکافی
30- الوافی ج 3 ص 62 عن الکافی
31- البحار م 15 ص 165 عن کتاب کمال الدین للصدوق
32- البحار م 7 ص 389 عن مجالس الشیخ المفید
/ج