بالمهدي نهتدي

الأدلة على أحقِّيّة الشيعة الإماميّة في موضوع الإمامة والخلافة كثيرة جدًّا، وقد التفت إليها علماء السنة، وحاولوا توجيهها، غير الذي حذفوه منها؛ وذلك لأنّ الحكام المعارضين لأهل البيت (عليهم السلام) لا يستقر بهم القرار مع وجود تلك الأدلة
Monday, September 29, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
بالمهدي نهتدي
 بالمهدي نهتدي

 






 

الأدلة على أحقِّيّة الشيعة الإماميّة في موضوع الإمامة والخلافة كثيرة جدًّا، وقد التفت إليها علماء السنة، وحاولوا توجيهها، غير الذي حذفوه منها؛ وذلك لأنّ الحكام المعارضين لأهل البيت (عليهم السلام) لا يستقر بهم القرار مع وجود تلك الأدلة التي تبيّن أنّ الإمامة والخلافة هي لآل محمد صلوات الله عليهم، ولذلك وجّه أولئك الحكام علماء زمانهم إلى إيجاد حل لتلك الروايات بشكل عام، فمنيت تلك الروايات إمّا بالحذف أو التحريف اللفظي أو المعنوي، وقد كان تركيز أولئك العلماء على الروايات الواردة في شأن الإمام علي والحسنين (عليهم السلام)؛ وذلك لأنّ أولئك الحكام كانوا يرون أنّ الصراع بينهم وبين الأئمة الموجودين في عصرهم من أهل البيت (عليهم السلام)؛ ولذا وجّه أولئك الحكام علماءهم إلى حذف أو تحريف أو توجيه كلِّ تلك الروايات، التي تُبيّن مقام آل محمد صلوات الله عليهم، وحينها لم تسلم أيَّةُ رواية من تلك الحملة، فإمّا الحذف أو التحريف أو التوجيه، أو إيجاد ما يقابل تلك الروايات في غير آل محمد صلوات الله عليهم.. ولكنّ أولئك العلماء غفلوا بعض الشي عن المساس بالروايات الواردة في المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ فقد سلمت هذه الروايات إلى حدٍّ ما مِن أيدي أولئك العلماء أتباع السلاطين، وبقيت هذه الروايات لتبيّن لنا شيئًا من وجه الحقيقة التي حاولوا طمسها وإخفاء ذكرها، ومن هنا يستطيع الباحث المنصف ـ من خلال النظر والتدبُّر في الروايات الواردة في المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ أن يعرف الفرقة الناجية، ونستطيع حقًّا أن نهتدي بالمهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من هذه الناحية أيضاً؛ أي نهتدي بما ورد في موضوع المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من روايات لمعرفة الفرقة الناجية والعقيدة الصحيحة، وعليه سنذكر في بحثنا هذا بعض المسائل الواردة في تلك الروايات التي غفل عنها المحرّفون؛ لتكون تلك المسائل علامات وإشارات نهتدي بها لمعرفة الحق.

المسألة الأولى

بماذا تثبت الإمامة أو الخلافة للأشخاص؟
وبعبارة أخرى: كيف يصبح الخليفة خليفة، أو الإمام إماماً، وما هي الطريقة الصحيحة في تنصيب الإمام أو الخليفة حسب الشريعة الإسلامية؟
هنا ثلاث نظريات في الجواب عن هذا السؤال، وهي كما يلي:
أ ـ نظرية أهل السنة والمعتزلة: تصح الخلافة أو الإمامة للأشخاص عن طريق الشورى، وهي الطريقة الأساسية عندهم، حسب ادعائهم كما ذكر ذلك النووي في شرحه على " صحيح مسلم": "أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ الخليفة إذا حضرته مقدِّمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمربالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل إلخ.."(1(
وفي "فلك النجاة" نقلاً من كتاب "حجة الله البالغة" لولي الله الدهلوي: "تنعقد الخلافة بوجوه: بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء، وأمراء الأجناد ممن يكون له رأي ونصيحة للمسلمين (كما انعقدت خلافة أبي بكر)، وبأن يوصي الخليفة الناس به (كما انعقدت خلافة عمر)، أو تجعل (شورى) بين قوم (كما كان عند انعقاد خلافة عثمان، بل علي أيضاً)(2)
ب ـ نظرية الزيدية : تثبت عندهم الخلافة أو الإمامة بعد الإمام علي والحسنين (عليهم السلام) مع الدعوة إليها، بالشروط الأربعة عشر(3)، كما أشار إلى ذلك صاحب "عدة الأكياس في شرح معاني الأساس" في عدة مواضع، منها ما يلي: "من دعا الناس إلى نصرته والجهاد معه وهو جامعاً لشروط الإمامة صار إماماً تجب طاعته"(4)
وجاء في موضع آخر من الكتاب نفسه ما يلي: "... ثم الإمام بعده [أي أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)] الحسن والحسين بالنص، ثم هي [أي الخلافة أو الإمامة] بينهم [أي ذرية أهل البيت (عليهم السلام)] شـورى فمن خرج من أولادهما [أي الحسن والحسين (عليهما السلام)] جامعاً لشروط الإمامة فهو إمام"
جـ ـ نظرية الشيعة الإمامية : تثبت عندهم الإمامة أو الخلافة بالاختيار من الله تعالى، كما أشار إلى ذلك الشيخ المفيد (رحمه الله) في "أوائل المقالات"، حيث قال: "واتفقت الإمامية على أنّ الإمامة لا تثبت مع عدم المعجز لصاحبها إلا بالنصّ على عينه والتوقيف"(5)
هذه هي النظريات المشهورة في هذا الموضوع.
وهنا سؤال يوجّه إلى أهل النظرية الأولى مفاده: أنتم وجميع المسلمين مجمعون على أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) رجل منصور لا يُهزم، وأنّه يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وهذا المضمون ورد في روايات كثيرة جداً، بحيث لا يشك فيه أحد من المسلمين، وعندكم أنّ الإمامة أو الخلافة تصح بالشورى، ونحن اليوم نرى المسلمين في أشدِّ الحاجة لرجل يُنقذهم من غطرسة أمريكا والصهاينة، فلماذا لا تجتمعون و تتشاورن وتختارون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لكي يُنقذ المسلمين وجميع المظلومين في العالم؟!
فأيَّ شيء تنتظرون والحلُّ بين أيديكم واختيار الإمام موكول إليكم؟!
هل تنتظرون أن يختار الله رجلاً لهذا الأمر؟!
هذه عقيدة الإمامية؛ إذ أنّهم أهل القول بلزوم اختيار الإمام أو الخليفة من قبل الله عزّ وجل، وأمّا أنتم فتقولون بالشورى في هذا الأمر وتستقبحون بشدّة قول الإمامية في هذا المجال.. فلماذا هذا السكوت والحلُّ موكول إليكم؟!
إنّ سكوتكم هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّكم في قرارة أنفسكم تعلمون أنّ هذا الأمر ـ وهو تعيين وتنصيب المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) كخليفة ـ لا يكون إلا باختيار من الله عزّ وجلّ، فكيف تقولون أنّ الإمامة أو الخلافة تصح بالشورى؟!
وأنتم تعلمون أنّكم لو اخترتم رجلاً باعتباره المهديَّ المنتظر فإنّ اختياركم لن يجعل ذلك الرجل هو المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) حقيقةً؛ وذلك لأنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) مؤيد بتأييدات إلهيّة كبيرة، وإن أنتم اخترتم رجلاً باعتباره المهديَّ المنتظر ،ولم يَحْظَ بتلك التأييدات الإلهية فسيظهر أنَّ مَن اخترتموه ليس مصداقًا لتلك الروايات؛ لذا لا بدّ لكم من الرجوع إلى قول الإمامية القائلين بأنّ اختيار المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) وتعيينه كخليفة يكون من قبل الله تعالى. وهذه هي نظرية الإسلام الصحيحة الثابتة التي لا ينقضها الزمان ولا المكان.
وأمّا نظريتكم وهي: القول بالشورى في اختيار الإمام أو الخليفة فلا بدّ أن تنتقض هنا ـ أي في تعيين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ـ، وليس من قواعد الإسلام ما ينقضه الزمان.
ويُوجَّه هذا السؤال نفسه إلى إخواننا الزيدية أيضاً؛ بأن يُقال لهم: بما أنّكم وجميع المسلمين مجمعون على أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) لا تُهزم رايته، وترون كما نرى وضع الأُمَّة الإسلامية، وما تعانيه، وأنتم تقولون إنّ الإمامة بعد علي والحسن والحسين (عليهم السلام) تثبت للأئمة الباقين ومنهم الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) بوجود الشروط الأربعة عشر، فلماذا لا تبحثون عن رجل توجد فيه الشروط الأربعة عشر، ويكون اسمه كاسم الرسول (صلّى الله عليه وآله)، واسم أبيه كاسم أبيه!!، كما تعتقدون، وتبايعونه للإمامة لكي تُحلَّ مشكلة هذه الأُمَّة، وتسترجع مجدها وعزَّتها، فأيَّ شيء تنتظرون؟
هل تنتظرون أن يختار الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر اختيارًا مباشرًا من عنده؟
فأين ذهبت ـ في هذا المورد ـ قاعدة الأربعة عشر شرطاً؟
أولستم تتصوَّرون أنّ الناس يحقُّ لهم اختيار الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) إذا وجدت تلك الشروط الأربعة عشر في المختار، ولا تعتقدون باختيار أحد من أهل البيت (عليهم السلام) بعينه إلَّا الإمام عليًّا والحسنين (عليهم السلام)؟
فلماذا لا تختارون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) وتخلِّصون الأُمَّة من هذه الغمَّة؟
إنّكم هنا لا بدّ أن ترجعوا إلى عقيدة الإمامية، وأنتم فعلاً تمارسونها عمليًا، وتشعرون وجميع المسلمين بضرورة اختيار المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من قبل الله عز وجل، وعندئذ لا بدّ أن تنتقض النظريات البشرية يوماً ما، ولو كانت لها صولة وجولة في فترة من التاريخ، وتبقى القواعد الإلهية ثابتة لا تتغير، بل تزداد جلاءاً وجمالاً، كلما مرّ الزمان.

المسألة الثانية

كيف يَعرِف المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) أنّه هو المهدي الموعود؟
يعتقد جميع المسلمين أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، سيملأ الأرض كلَّها قسطاً وعدلاً، فهو إذاً ليس شخصية عادية، ومَهمَّته مَهمَّة صعبة، وغير عادية؛ لذا لا بدّ أن يكون الشخص المدَّعي لأمر المهدوية على يقين قاطع بأنّه هو المهدي المنتظر، ونلاحظ أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أنّه شاهد جبريل (عليه السلام) وأُنزل عليه القرآن الكريم، وأُسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث عُرج به إلى السماء ـ مع ذلك كلِّه ـ كان يقصُّ الله عز وجل عليه قصص الأنبياء، ما يثبِّت به فؤاده، كما قال تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْـحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(6) وذلك التأييد والتثبيت لازم له (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ مَهمَّته صعبة وسوف تكون فيها حروب دامية، وخروج من الديار والأهل وغير ذلك، فكيف بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يريد أن يحكم الكُرة الأرضية كلَّها ليملأها قسطاً وعدلاً؟ ألا يحتاج إلى ما يوصله إلى أعلى درجات اليقين، بأنّه هو المهدي المنتظر المقصود والموعود به لتلك الـمَهمَّة العظيمة؟
ومن هنا يظهر الإشكال عند إخواننا أهل السنة؛ حيث يعتقدون أنّه مع انقطاع الوحي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، انقطع اتصال الملائكة بأولياء الله في الأرض، وبشكل عامّ يعتبرون دعوى نزول الملائكة على أحد من الخلق بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منكرًا من القول، ويتّهمون من يقول بذلك بأنه يدَّعي النبوَّة لمن تنزل عليهم الملائكة، أو يتّهمونه بالغلو، وغير ذلك من التَّهم؛ ولذا يشنُّون على الشيعة الإمامية الحملات الإعلامية القاسية، لوجود روايات ـ عند الإمامية ـ تذكر نزول بعض الملائكة على الزهراء (عليها السلام) بعد وفات النبي (صلّى الله عليه وآله) لمواساتها (عليها السلام)، ويعتبرون ذلك من الغلوُّ، ويعتقدون أيضاً أنّه لا يوجد معصوم من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله).. لذا نسألهم:
كيف يَعرِف المهدي المنتظر ـ باليقين الذي لا يخالطه شكٌّ ـ أنّه هو المهدي الموعود؟ مع العلم أنّه قد ظهر في المجتمعات السنية والزيدية مَن ادِّعى لنفسه المهدوية، ولكن لم يفلحوا، ولم يقبلهم عامّة الأُمَّة.
فالمهدي يلزم أن يتوفَّر على اليقين بكونه هو المهديُّ المنتظر الموعود، وهذا اليقين لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ من أحد طريقين:
فإمّا أن يحصل له اليقين المذكور من خلال نزول الملائكة عليه، أو أن يخبره معصومٌ قولُه حجة بأنّه هو المهدي المنتظر الموعود. وكِلا الطريقين عند أهل السنة والزيدية ممنوع وغير ممكن.. فكيف يَعرِف ويتيقّن المهدي أنّه هو المهدي المنتظر حقيقةً؟
فلم يبقَ لهم إلَّا طريقٌ واحدٌ، وهو الوصول إلى ذلك اليقين المذكور من خلال المنامات، وهذا الطريق بإجماع الأمَّة لا يوجب العلم الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يُقيم حدًّا من حدود الله عزّ وجلّ، فكيف بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يُريد أن يقوم بمهمة صعبة للغاية، يحتاج في تنفيذها إلى أن يدخل في معارك ضارية، قد يُقتل فيها ملايين البشر، أضف إلى ذلك أنّنا ـ والتاريخ يشهد بذلك ـ نعرف أناسًا في منتهى التديُّن والإخلاص، ولكنْ كلُّ واحد منهم يرى في مناماته أنّه هو المهدي المنتظر، ولذا يخبرون بعض الناس بذلك، وتتكوّن لهم جماعات صغيرة ثمّ يموتون، أو ينصرفون عن دعواهم، وتنتهي مسألتهم، أو قد يهجم عليهم عوامّ الأمَّة بتحريك من العلماء، فتقتلهم أو تطردهم، فما حكم هؤلاء؟.. وهل يحقُّ لنا عدم قبول دعواهم؟ وهم في الواقع صادقون في أنّهم رأوا تلك المنامات، بل قد تحصل رؤيا أو أكثر لدى بعض الناس بما يؤيِّد دعواهم، فهل يصحُّ أن نقبل هذه الطريق كطريق لمعرفة مسألة مُهمَّة كمسالة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؛ مع ما نلاحظه في هذه الطريقة من الفوضى؟
إذاً سيرجع الجميع إلى رأي ومذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهو القول بأنّ الملائكة تنزل على أولياء الله، وتبلّغهم أوامر الله عزّ وجلّ، أو أنّه لا بدّ من معصوم قبل المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) يُخبره بأنّه هو المهدي المنتظر. وهذا هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فمن فكّر مليًّا في هذه الأُمور، ودرس القضية من جميع نواحيها، وأنصف فطرته وعقله؛ فسوف يرى أنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو المذهب الوحيد الذي تنسجم فيه تلك البشائر النبوية مع الواقع.. وأمَّا مهديٌّ ليس لديه دليلٌ على أنّه هو المهدي المنتظر إلَّا مجرَّد أحلام ومنامات، كيف يستطيع أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويُزيل الظَّلمة والعتاة، ويُدمِّر أهل الشرك والعناد؟.. إنّه أمر واضح لمن أراد أن يتدبَّر فيه ويتأمّل.
وهذا الإشكال نفسه يُطرح على إخواننا الزيدية أيضاً، حيث يقولون بانقطاع العصمة الفردية عن أهل البيت (عليهم السلام) بعد الحسين، وانقطاع اتصال الملائكة بأهل البيت(عليهم السلام) بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله).ولا زلتُ أتذكّر جيّداً، حينما سألت يوماً أحد كبار علماء الزيدية هذا السؤال: كيف يَعرِف المهدي أنّه هو المهدي الموعود؟
فسكت قليلاً، ثم قال: المهدي لا يعرف أنّه هو المهدي المنتظر، بل هو رجل من أهل البيت (عليهم السلام)، يدعوا الناس لإحياء الإسلام، ويواجه الظلمة والمتكبرين، وينتصر عليهم انتصارات عظيمة، وبعد أن يملأ الأرض عدلاً وقسطاً؛ يعرف أنّه هو المقصود بتلك الروايات الـمُبشِّرة بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله).
فكان هذا هو جواب ذلك العالم الكبير. وهذا الجواب لم يرفع تلك الشبهة من ذهني في ذلك الحين، بل رأيته قد زاد الإشكاليةَ تعقيدًا؛ إذ ما هو حكم الذين يقاتلونه، وهم لا يعرفون أنّه المهدي، في حين أنّه لم يدَّعِ ذلك ليُلزمهم الحجة باتِّباعه؟
فمثلاً: إذا قرَّر المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي لم يَعرف بمهدويَّته بعد، إذا قرَّر فتحَ بعض البلاد؛ فإنَّ أحرارَ تلكَ البلاد سينظرون إليه كغازٍ ومهاجم يقصد استعمار بلادهم.. فلا هم يعلمون أنَّه المهديُّ المنتظر الذي تجب عليهم طاعته والانقياد لأوامره، ولا هو بالذي يعلم ذلك حتَّى يخبرهم فيُتمَّ الحجَّةَ عليهم.
فهذا إشكال أكبر من إشكالي الأول، وكان ذلك الجواب، كالمثل القائل: (وزاد في الطين بلة).

المسألة الثالثة

المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) بإجماع المسلمين سيكون من علماء هذه الأُمَّة، والسؤال هنا هو:
هل هو ـ أي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ سيكون عالماً مجتهداً، كبقية علماء المسلمين، بحيث لا يجوز للعلماء المجتهدين تقليده، والأخذ برأيه في المسائل الفرعية الفقهية، أم أنّه ـ أي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ سيكون عالماً معصوماً، قوله كقول الرسول (صلّى الله عليه وآله)، يجب على العالم والجاهل والمجتهد والمقلِّد أن يطيعوه في جميع المجالات؟
إنَّ الواضح من الروايات المجمع عليها أنّه واجب الطاعة على الجميع بلا استثناء، وفي جميع الأمور، السياسية منها والعقائدية والفقهية وغيرها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، فهو إذا أراد ـ مثلاً ـ أن يُحرِّم بعض الأمور الفقهية التي اجتهد فيها المجتهدون وأباحوها، فإن حرَّمها الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ولم يقبل قوله المجتهدون، وأصرَّ كلّ واحد منهم على ما أفتى به حسب علمه واجتهاده، فلن يتحقَّق ـ مع هذه الحالة ـ العدل الموعود به على لسان النبي (صلّى الله عليه وآله).إذًا لا بدّ لجميع المسلمين أن يستثنوا الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أنّه عالم مجتهد كبقية علماء الأُمَّة، ويجب عليهم جميعاً ـ شيعةً وسنّةً ـ القول بأنّ لديه ميزة خاصّة، تلزم بها طاعته بشكل مطلق في جميع الأمور كبيرها وصغيرها، وهذه هي العصمة التي لا يوجد القول بها للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) إلاَّ في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ومن هنا يلزم جميع المسلمين الرجوع إلى هذه العقيدة المنسجمة مع كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبشارته.
وأذكر هنا قصة ترتبط بهذه المسألة:
لـمَّا عرف بعض زملائنا من مُبَلِّغي الزيدية ومُرشديهم إيماننا بالعقيدة الإمامية، ضجُّوا علينا ضجّة كبيرة، ووتَّروا الأوضاع علينا بصورة غير طبيعيَّة، وفي تلك الظروف بدأ بعضهم يقول على المنابر: إنّ الجعفرية أخطر من الوهابية.
فقلتُ لهم: لا يجوز لكم ذلك.. وإذا كنتم أتباعًا لعلماء الزيدية فأنا على يقين من أنّهم لا يقولون بهذا المقال، ولا يرضونه أبداً، وقد عاشرتُ كبارهم سنين، فلم أسمع منهم مثل هذه المجازفات. ولكنّ أولئك المجموعة من المبلِّغين والمرشدين لم يعتنوا بكلامي، وأصرُّوا على القول بأنّ كبارهم وعلماءهم لهم نفس النظرة والعقيدة بالنسبة إلى الجعفرية.
فاتَّفقنا ـ أنا وثلاثة من كبارهم ـ على أن نذهب إلى صنعاء، ونسأل علماء الزيدية هناك بهذا السؤال، وهو: هل الجعفرية أخطر من الوهابية على الزيدية أم لا؟
واتّفقنا على ألَّا يقوم أحد بفعل أي مقدِّمات تجعل الجواب في صالحه، فصمّمنا على أن نبدأ بالعلَّامة السيد حمود عباس المؤيد نائب مفتي الجمهورية اليمنية، ولـمَّا وصلنا إلى جامع النهرين، وهو جامعه الذي يستقرُّ فيه، وجدناه جالسًا في المحراب، وبجواره السيد محمّد المنصور(وهو من أكبر علماء الزيدية في اليمن ولا يقلّ شأنًا عن السيد حمود عباس المؤيد.)، فتقدّم أحد الإخوان المبلِّغين، وبدأ يتكلَّم مع فضيلة العلامة المؤيد حفظه الله تعالى، ويقول له: الجعفرية بدأت تهاجم الناس في عقائدهم، وهناك مؤسَّسات كبيرة تدعمهم لنشر الكتب، أخذ يتكلَّم بهذا الكلام، وينقض بذلك اتِّفاقنا، ولـمَّا سكت، قال لي السيد المؤيد حفظه الله تعالى: ما تقول يا ولدي، وقبل أن أتكلَّم تكلَّم ذلك الشخص، وقال: يقول: المعصومون اثنا عشر، فقال السيد المؤيد حفظه الله تعالى: ما فيه معصومين إلَّا الخمسة ـ وهو يهزُّ رأسه يميناً وشمالاً ويُكرِّر ويقول ـ: ما فيه معصومين إلا الخمسة.. يقصد أهل الكساء، وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم صلوات الله. وكان بجانبه السيد محمد المنصور هو الآخر أخذ يُكرِّر نفس العبارة ويقول: ما فيه معصومين إلاّ الخمسة.. وأضاف السيد محمّد المنصورحفظه الله تعالى: و الإمام الخميني عظيم عظيم..
فقلت للسيِّد المؤيد حفظه الله تعالى: لماذا الخمسة فقط؟
فقال: لأنّه توجد آية من القرآن الكريم تذكر ذلك، أي عصمة الخمسة أهل الكساء ـ يقصد آية التطهير ـ فقلت له: سيدنا هناك روايات كثيرة تبيّن استمرار العصمة في أهل البيت عليهم السلام)، مثل حديث الثقلين، وحديث السفينة، وحديث الأمان، وحديث "لا تقدموهم فتهلكوا..."، وحديث "رزقوا علمي وفهمي..." وغيرها.. ألا يدلّ مجموع هذه الروايات على استمرار العصمة في أشخاص آخرين من أهل البيت (عليهم السلام) بعد أصحاب الكساء (عليهم السلام)؟
فقال: تلك رواياتٌ، ونحن نريد لإثبات ذلك المُدَّعى آية من القرآن مثل آية التطهير، فتحيَّرتُ في هذا الأمر، وأحسست بالحرج، وقلت في نفسي: من أين آتي له بآية مثل آية التطهير وتكون في غير أصحاب الكساء من أهل البيت (عليهم السلام)؟
فخطر في بالي أن أسأله هذا السؤال وهو: هل المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) معصوم؟
فلما سألته قال: المهدي؟! قلت: نعم.
فإذا بوجهه يتغيَّر لونه إلى الحُمرة.. ثمّ قال: المهديُّ معصوم.
لم أكد أصدق ما سمعتُ منه، وذلك لشدّة إنكاره عليّ القول بعصمة غير الخمسة أهل الكساء (عليهم السلام)، ولكنّه كان رجلاً من أهل التقوى، ومن هذه حاله فلا يستنكف أن يعترف بالحقيقة حتّى لو كانت خلاف قوله ونظره.. وقلت له حين ذاك: سيدنا إذاً ما هو دليلك على عصمة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) في حين أنّه لم يُذكَر في آية التطهير؟
فقال: الروايات؛ إذ كيف يمكن لإنسان أن يملأ الأرض قسطًا وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً وهو ليس معصومًا؟
فقلت له: سيِّدي دليلنا على عصمة الأئمة الاثني عشر هي الروايات أيضًا، والتي ذكرتُ آنفاً، فكيف يكون أهل البيت (عليهم السلام) الثقل الثاني بعد القرآن وقُرَنَآءه، وسـفينة نوح، وأمان أهل الأرض و.. ولا يكونون معصومين؟
لم يجب السيد المؤيد حفظه الله تعالى، واختار السكوت، ثمّ قال: هيّا نذهب إلى البيت ونتكلّم هناك.
ولـمَّا وصلنا إلى البيت أكرمنا، وقدّم لنا بعض المأكولات، فلمَّا جلسنا قليلاً سألته ذلك السؤال الذي سافرنا من أجله، وقلت له: هؤلاء الإخوان يقولون في المساجد: إنّ الجعفريةأخطر من الوهابية.. فما رأيكم في قولهم هذا؟
فقال: لا؛ هذا غير صحيح، الجعفرية إخواننا، ونحن نحبهم، وأناأفتخر أنّي أوّل من دافع عن الجعفرية في اليمن، فقد دافعت عنهم في الاجتماع الذي عقده الشيخ عبد المجيد الزنداني(والزنداني من علماء الوهابية ومؤسسيها في اليمن.)، واستضاف فيه كبار علماء اليمن وطلب منّا في ذلك الاجتماع الإفتاء بكفر الجعفرية، حيث قال: إنّ خطر الجعفرية مقبل على اليمن، وهم لديهم قرآن آخر غير هذا القرآن ـ قال السيد المؤيد حفظه الله تعالى ـ فقلت له ـ أي للزنداني ـ: من أخبرك بهذا؟ قال: أحد المؤمنين أخبرني أنّه رأى ذلك القرآن بنفسه. قال السيد المؤيد حفظه الله تعالى: لا بدّ أن نرى هذا القرآن بأنفسنا؛ لنفتي عن يقين. فارتبك الزنداني وظهر منه تلعثُمٌ في المقال وتأتأةٌ وتلكُّؤ.
قال السيد المؤيَّد حفظه الله تعالى: عند ذلك قمتُ من المجلس وقلت له: ما سمعنا بهذا، إذا كان لديهم قرآن آخر كما تقول فأتِ به، وخرجت من المجلس، وتبعني بقيَّة العلماء، وانفضَّت تلك الجلسة.ثمَّ طلب السيد المؤيد حفظه الله تعالى منّا جميعاً أن نتّحد ونتعاون لنشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، ثمّ قال لي: يا ولدي الناس ما قبلونا ونحن متلاينون مع المخالفين، فكيف يقبلونكم؟
فقلت له: سيِّدنا أنا لا يهمّني قبول الناس وعدم قبولهم؛ لأنّي أريد أن يرتاح ضميري بما أعتقده.
ثمّ ذكر السيّد قصة وهو يخاطبني فقال: ذات مرّة ذهب أحد المرشدين إلى منطقة عشائرية وبدأ يعظهم ويذكرهم في الخطبة، وأثناء الكلام ذكر لهم قصة ذلك الرجل الذي قتل تسعة وتسعين إنسانًا، وعندما أوصل عدد القتلى إلى مئة تاب، وغفر الله له. فقام رجل من طرف المسجد في أثناء الخطبة وقال للخطيب: يا رجل! أنت الآن تكلّم بدوًا وعشائر بهذا الكلام، وهم بعد سماعهم هذه القصة سوف يقتل بعضهم بعضاً، ويؤمِّلون بعد ذلك التوبة والمغفرة.
وقد فهمتُ من هذه القصة، أنّ السيّد المؤيّد حفظه الله تعالى يريد أن يقول لي: يا ولدي بعض الحقائق يجب ألَّا تقال؛ لأنّ الناس سوف يستخدمونها في الشر، وليسوا أهلاً لها، فهذا الخطيب الذي أراد بذكر هذه القصة أن يفتح عند الناس باب الأمل في الله سبحانه ويخرجهم من القنوط، لكنّه لم يدرك الخطر، وهو أنّه بين عشائر مسلَّحة سوف تتساهل بقتل الأبرياء، وتؤمِّل التوبةَ.
فكأنّ السيد حفظه الله تعالى يريد أن يقول لي: الجعفرية حقيقة عظيمة ولكن يجب ألَّا تُقال إلاَّ في مجالس خاصّة.. هذا ما فهمتُ والله أعلم(7)
وبالفعل فأنا أعتقد الآن أنّ نصيحته تلك كانت في محلِّها؛ ولذا سكتُّ ولم أكلّمه بعدُ عن ذلك الموضوع.
وبعد ذلك اقتنع الإخوة المبلِّغون بتلك الفتوى، ولم يسألوا أحدًا من العلماء بعد السيد المؤيد حفظه الله تعالى؛ لأنّه لم يترك لهم مجالاً لذلك، ورجعنا إلى مناطقنا.وبعد فترة من تلك الرحلة تحوَّل اثنان من أولئك المبلِّغين إلى مذهب الإماميَّة، وهدأ التَّوتُّر الذي كان سائدًا في المنطقة.
ولا عجب أن يُغيِّر السيد العلَّامة حمود عباس المؤيد حفظه الله تعالى رأيه في العصمة، ويضيف المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) إلى المعصومين الخمسة فيصير العدد ستّة، ناقضاً بذلك التراجع السريع أبنية العقيدة الزيدية بهذه السهولة؛ وذلك لأنّ مسألة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) فيها حقائق عظيمة، تكشف عن الفراغ العقائدي عند الزيدية وأهل السنة في هذه المسألة، وهذا يدلّ على أنّ تلك العقائد غير مقتبسة من الوحي الإلهي؛ لذا كانت فيها تلك الفجوات الكبيرة.

المسألة الرابعة

ثبت عند جميع المسلمين صحّة الروايات القائلة أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، وقد نقلنا بعض تلك الروايات في آخر هذا البحث.. والسؤال هنا موجَّه إلى أولئك الذين يتصوّرون أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم نساء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) مع الخمسة أصحاب الكساء، كبعض أهل السنة، وإلى من يتصوَّرون أنّ أهل البيت هم الخمسة أهل الكساء فقط، كبعض الزيدية وبعض السنة.. فهؤلاء جميعًا يوجّه إليهم السؤال التالي:
كيف سيكون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، وأهل البيت قد تُوفِّي آخرهم قبل أكثر من الف سنة ـ حسب هذا التصوّر المفترض ـ؟
هذا السؤال لا يكون فيه إشكال بالنسبة لكثير من الزيدية الذين يقولون بأنّ أهل البيت مع القرآن بدليل حديث الثقلين، ولا يكون فيه أي إبهام للإمامي المعتقد ببقاء أهل البيت (عليهم السلام) إلى يوم القيامة، ولكنْ كثيرٌ هم أولئك الذين يتصوّرن أنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد انقرضوا، ولم يبقَ منهم أحد، لا سيَّما أهل السنة والوهابية، فإذا كان الأمر كما يتصوّرون، فكيف سيكون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام) كما تدلّ عليه كلُّ تلك الروايات المجمع عليها، وهو ما ينفي التصوّر الذي يفترضه أهل السنة والوهابية على الخصوص.

المسألة الخامسة

وردت الروايات عند جميع المسلمين بوصف المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بـ(المنتظر)، وقد لاحظنا كتبًا كثيرة لأهل السنة، وخصوصًا لقدمائهم؛ كُتبت حول المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، ولا يكادون يذكرونه إلاَّ ويذكرون هذه الصفة له، وهي كونه منتظراً، بل كثيرًا ما يلتزمون بذكر هذا الوصف (المنتظر) في عناوين الكتب التي كتبوها حول الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، من قبيل كتاب "القول المختصر في علامات المهدي المنتظر" للفقيه ابن حجر المكِّي، ومن قبيل كتاب "فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر" لمؤلِّفه مرعي بن يوسف الحنبلي، ومن قبيل كتاب "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح" للقاضي محمد بن علي الشوكاني، وغير ذلك..
والسؤال هنا هو: كيف يكون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)،وهو لم يولد ولم يوجد على وجه الأرض ليكون منتظراً، أي كيف ينتظر الناس عدماً؟
فهذه التسمية النبوية للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، لم تكن عبثاً، ولم تكن مجرّد مصادفة، وقد أكَّد عليها النبي (صلّى الله عليه وآله)، حتّى صارت مشهورة عند جميع المسلمين، ولا يختلف اثنان في تسمية الإمام المهدي بـ(المنتظر)، والانتظار يكون للغائب الحي الـمُؤمَّل رجوعُه؛ ولذا نسأل إخواننا السنة والزيدية عن حكمة هذه التسمية النبوية واتفاقها مع عقيدة الإمامية.. ألا يدعو ذلك ـ على أقل تقدير ـ إلى التأمُّل والتدبُّر في تلك النبوءة المحمّدية الصادقة؟

المسألة السادسة

ورد أيضاً في الروايات أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ كما سيتضح في آخر البحث ـ أنَّه يصلِّي بعيسى (عليهما السلام).. فكيف يصلِّي رجل غير معصوم حسب قول السنة والزيدية بنبي من الأنبياء أولي العزم، مثل عيسى (عليه السلام)، والذي كان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله؟
هذا مع أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) يعرض على نبي الله عيسى (عليه السلام) إمامة الصلاة فيأبى إلاَّ أن يكون مؤتمّاً بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) كما هو واضح في الروايات الواردة في آخر البحث.
وقد حاول جمع كثير من علماء السنة تأويل هذه الروايات؛ لأنّهم شعروا بأنّ لها مدلولاً عظيمًا لا ينسجم مع اعتقاداتهم في أهل البيت (عليهم السلام)، فهم لا يرون لهذا الأمر مثيلاً في سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتّى يقيسوا هذه الحادثة عليها، فيقولون ـ مثلاً ـ قد صلَّى الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)خلف غير المعصوم رافضًا إمام الصلاة بعد أن عُرضت عليه.. فلا يوجد شئ من هذا القبيل في سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله). وكلُّ ما أورده أهل السنة في هذا الموضوع ـ على فرض صحته ـ هو أنّه (صلّى الله عليه وآله) انضمّ إلى جماعة قد شُكِّلت قبل تواجده، بينما لم يرد في التاريخ أنّه عُرض عليه (صلّى الله عليه وآله) إمامة الصلاة فأبى وقدّم غير المعصوم وائتَمَّ به.
عندما لم يجد أهل السنة مخرجاً من هذا المأزق اضطرُّوا إلى البحث عن طرق أخرى لحلّ هذه المشكلة، فهم لا يستطيعون أن يقولوا إنّ عيسى بن مريم ليس من أُمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فهو ـ أي عيسى (عليه السلام) ـ لا يسعه إلاّ أن يكون من أتباع النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما جاء في الحديث عنه عليه وآله الصلاة والسلام: "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي"، ولا يستطيعون أن يقولوا: إنَّ عيسى ليس معصومًا وليس من أولي العزم، فاضطر ابن أبي ذئب إلى تفسير الحديث بقوله: "فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه [وآله]" فحاول بهذا التأويل الغريب للرواية إلى القول بأنّ الإمامة هنا ليست في الصلاة، ولكن بمعنى الحكم والإدارة، وقد كان ابن أبي ذئب يحاول إثبات هذا المراد ولكن على استحياء؛ لأنَّ الروايات الكثيرة تردُّ على تأويله هذا بصراحة، كما يلاحظ القارئ ذلك في ما أوردناه من أحاديث في آخر هذا البحث.
كما أنّه لم يقبل عامّة علماء السنة هذه المحاولة غير الموفَّقة من ابن أبي ذئب، فحاولوا إيجاد حلٍّ آخر لهذه الرواية، وقالوا ـ كما نقلناه عنهم في آخرهذا البحث ـ: إنّ المقصود بتقديم روح الله عيسى (عليه السلام) للمهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في الصلاة والاقتداء به هو تكريم هذه الأُمَّة، ونسوا أنَّ عيسى (عليه السلام) لا يسعه أن يكون من غير هذه الأمّة، فهو كغيره مُلزَم بأن يكون من أتباع محمد (صلّى الله عليه وآله) كما في الحديث عنه عليه وآله الصلاة والسلام: "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي" ولا فرق بين عيسى وموسى وبقية الأنبياء (عليهم السلام) في ذلك، فأيٌّ منهم يأتي في زمان ما بعد بعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله) فلا بدّ له من أن يكون من أتباعه، وعليه سيكون عيسى (عليه السلام) من أمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله)، سواء صلَّى عيسى (عليه السلام) بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) أو العكس فكلاهما من أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله).لذلك فالقول بأنَّ تقديم عيسى عليه السلام للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) للصلاة والائتمام به من أجل تكريم أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله).. هذا القول يعتبر غفلة عن هذه الحقيقة، وهي كون عيسى (عليه السلام) من أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله) أيضًا.بالإضافة إلى أنَّ هذا التأويل يعتبر فرارًا من ظاهر النص بدون داعٍ منطقي، فظاهر فعل عيسى (عليه السلام) هو تكريم للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) وتبيين لمقامه وقدره كما هو واضح. وهذا التكريم والاحترام من قبل عيسى (عليه السلام) ـ وهو من الأنبياء أولي العزم ـ للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)لا ينسجم مع ما يعتقده أهل السنة والزيدية حول المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، نعم.. ينسجم مع عقيدة الإمامية بدون أيِّ إشكال.(8)
لذلك حاول أهل السنة تأويل فعل عيسى (عليه السلام) بأي نحوٍ كان، ولكن كلّما حاولوا إيجاد حلٍّ من جهة فسدت عليهم جهة أخرى، وهذا ما يلاحظه المتتبِّع المتأمِّل.
وأذكر أنّي كنت في حوار مع أحد كبار علماء الزيدية في صعدة، فوصل بنا الحوار إلى المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، فسألته: هل عيسى (عليه السلام) سيصلي خلف المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؟
فقال: الله، ـ أي مائة بالمائة (في تعبير أهل صعدة)
فقلت له: كيف يصلي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) بعيسى ويؤمُّه في الصلاة، وهو أي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) غير معصوم عندكم وعيسى (عليه السلام) معصوم عند الجميع؟
فقال ذلك العالم الزيدي حفظه الله: عيسى في زمن ظهور المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) لم يعد نبياً، وذلك لذهاب أُمَّته.
فقلت له: لماذا ينزع الله سبحانه عن عيسى (عليه السلام) مقام النبوة، وهو لم يقترف ذنباً؟ أضف إلى ذلك أنّكم كزيدية تعتقدون أنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) معصوم وهو ليس نبيًّا فلا تنتزع العصمة عن عيسى (عليه السلام) حتى لو سلّمنا بعدم كونه نبياً في زمن ظهور المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؟وبعد ذلك لم يجبني وحاول الخروج من الموضوع.. وأنا لم أصرّ عليه؛
لأنَّ الهدف هو تعريف الحقيقة وليس إجبار الناس عليها، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً}(9)

المسألة السابعة

لقد وعد الله سبحانه وتعالى، رسوله إبراهيم (عليه السلام) حين وهب له مقام الإمامة بأن يجعل ذلك المقام في ذريته ـ غير الظالمين منهم ـ إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(10)
فبشارة الرسول (صلّى الله عليه وآله) للمسلمين بظهور عيسى (عليه السلام) وصلاته خلف المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) واجتماع هذين السيدين في زمان واحد من أجل هداية البشرية، هذا كلُّه ليس من قبيل الصدفة، بل المسألة هي أنَّ هذين السيدين (عليهما السلام) بينهما تشابه كبير من جهات كثيرة، أرادت الأحاديث الشريفة أن تلفت نظرنا إليها، وتوجِّهنا إلى عدم الاستغراب لما يكون للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أمور من قبيل الغيبة وطول العمر وغير ذلك، فقد كان لعيسى (عليه السلام) من قبله ما يشابه ذلك، ومن أبرز جهات التشابه بينهما (عليهما السلام) ما يلي:
1 ـ كلاهما (عليهما السلام) حجة لله تعالى
2 ـ كلاهما (عليهما السلام)، من أولاد إبراهيم (عليه السلام)، الذي وعده الله سبحانه وتعالى، أن يجعل مقام الإمامة في ذريته.
3 ـ عيسى (عليه السلام) آخر حجة لله تعالى من أولاد إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام)، والمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) آخر حجة لله تعالى من أولاد إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام).
4 ـ كلاهما (عليهما السلام) غاب عن قومه
5 ـ كلاهما (عليهما السلام) أراد الظلمة والمعاندون قتله
6 ـ كلاهما (عليهما السلام) موعود به لإنقاذ البشرية في آخر الزمان
7 ـ كلاهما (عليهما السلام) لديه آيات إلهية كبيرة
8 ـ كلاهما (عليهما السلام) عاش عمراً طويلاً يتجاوز مئات السنين، في حال اختفاء عن الأنظار، حتى يئس الكثير من رجوعهما (عليهما السلام)
فإذا لاحظنا هذا التشابه الكبير بينهما (عليهما السلام)، ولاحظنا الحديث الذي رواه الزيدية بسند زيدي في "كتاب عدة الأكياس في شرح معاني الأساس"، نشعر بأنّ ذلك التشابه ليس عن عبث، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) أرشدنا إلى ذلك التشابه مِن قَبْلُ لأجل حكمة بالغة، ومن أجل أن نأخذ الدروس والعبر، ولا نستبعد ما يفعل الله بأوليائه وحججه من إطالة للعمر، أو التغييب عن الناس، أو غير ذلك، والرواية هي كما يلي:
"روى الحسين بن القاسم العياني عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: ستأتي من بعدى فتن متشابهة كقطع الليل المظلم فيظن المؤمنون أنّهم هالكون فيها، ثمّ يكشفها الله عنهم بنا أهل البيت برجل من ولدي خامل الذكر، لا أقول خاملاً في حسبه ودينه وحلمه، ولكن لصغر سنِّه وغيبته عن أهله واكتتامه في عصره. على منهاجي ومنهاج المسيح في السياحة والدعوة والعبادة يُؤيِم عرسه ويخلص نفسه ويكن بدء ناصريه من أهل اليمن"(11)

تنبيهان

1 ـ لقد لاحظنا تلك المسائل المطروحة في هذا البحث، وهي في الواقع نتيجة للتدبُّر والتأمُّل في كلام المصطفى (صلّى الله عليه وآله) المروي عند جميع المسلمين، بصورة غير قابلة للإنكار، وقد أُمرنا بالتدبُّر في كلامه (صلّى الله عليه وآله)، وينبغي للمسلم المنصف أن يتدبَّر ويتأمَّل في جميع ما يسمعه من النصوص الدينية، وأن لا يأخذ دينه من أفواه الرجال فتميل به الرجال من يمين إلى شمال، وقد أمر سبحانه بالتدبُّر في كتابه، حيث قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(12). فالتدبُّر في القرآن والحديث والتأمُّل فيهما، إذا كان مصحوباً بالإخلاص، وصدق النية، وعدم العجلة في الحكم، فإنَّه هو الوسيلة الصحيحة لمعرفة الحقيقة.. وهذه المسائل المطروحة في هذا البحث ما هي إلَّا نماذج بسيطة ونتائج قليلة للتدبُّر والتأمُّل في حديث المصطفى (صلّى الله عليه وآله). ولو تدبّر إخواننا من أهل السنة في الأحاديث الواردة في مصادرهم في شأن أهل البيت (عليهم السلام) لاكتشفوا الكثيرمن هذه الحقائق التي تنسجم مع الفطرة والعقل السليم. فلو تفكّروا مثلاً في حديث الغدير "من كنت مولاه فعلي مولاه..." وجعلوا بجواره حديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى..." وجعلوا بجوارهما "أنت ولي كلِّ مؤمن بعدي" وغيرها من الأحاديث النبوية التي رواها كبار محدثي السنة وصححوا الكثير منها، ـ كما هو مُوضَّح في الكتب المختصّة بهذا المجال، والتي ينبغي لكلِّ باحث مطالعتها، والتدبُّر والتأمُّل فيها ـ لوجدوا الكثير من الحقائق التي غابت عنهم، ولعرفوا عمليًّا شأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(13). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(14)
وقد كنَّا فيما سبق نتَّهم الشيعة بأنّ عقائدهم ليست سوى خرافات لا يمكن للعاقل الإيمان بها، حتّى فتح الله سبحانه لنا بصر الهدى، ورأينا العكس تماماً وعلمنا أنَّ كلَّ ما توصلنا إليه من تصورات عن الشيعة كان إمَّا بسبب العجلة في الحكم، أو عدم التدبُّر الكافي للنصوص، أو بسبب تصديق أعدائهم والمغرضين، أو بسبب الاكتفاء بملاحظة الظواهر التي عليها الشيعة، وعدم التدبُّر والتعمُّق في دراسة الدين، وعدم معرفة وتمييز أصول الدين من فروعه.. وغير ذلك من العوامل التي تجعل الإنسان قد يظلم الكثير من الناس بدون علم. وعليه لا بدّ من الدِّقّة ثمَّ الدِّقّة ثمَّ الدِّقّة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بأمور الدين.
2 ـ من الواضح أنَّ الإمامة أمر إلهيٌّ؛ لذا ينتظر الجميع للاختيار الإلهي للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، ولا أحد يستطيع أن يدعي أن لديه الحق في اختياره وتعيينه (عجّل الله فرجه الشريف) وقد قال تعالى في أمر الإمامة بشكل عام: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(15)، فالله سبحانه هو الذي يجعل الإمام ويختاره. وعليه فنظريّة الشورى، ونظريّة الأربعة عشر شرطاً ـ والتي في الواقع تُعتبر شورى لكن في إطار أضيق ـ تلك النظريتان تهافتتا في مسألة إمامة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؛ وذلك لأنَّ الله سبحانه لم يجعل الشورى في الأمور الإلهيّة، بل الذي أذن لنا فيه هو التشاور في أمورنا الخاصّة بنا فقط، فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(16)، فقال: {وأمرهم} ولم يقل وأمرنا شورى بينهم. والإمامة والخلافة هما من الأمور التي لم يجعل الله جلّ شأنه للبشر حقَّ التصرّف فيها.. والآيات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة لا يسعنا ذكرها كلَّها في المقام، فمنها قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْـهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَـهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(17)، ومنها قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(18)، ومنها قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَـبِيلِ الله وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}(19)
وأوضح من ذلك كلِّه: ما جاء في قصّة طالوت (عليه السلام)، فإنّ فيها عِبَرًا عظيمةً لكلِّ مسلم عاقل، فبنو إسرائيل كانوا على الشريعة الإلهية، وجاءوا إلى نبيٍّ لهم وطلبوا منه أن يعيِّن لهم قائداً ليقاتلوا معه في سبيل الله، فكان جوابه أنْ عيَّن لهم بأمر الله طالوت ملكاً. ولم يقل لهم: يا بني إسرائيل! أنتم الذين اختاركم الله على علم على العالمين، وهذا الأمر يرجع إليكم فاختاروا أفضلكم، والله سبحانه سيُمضي اختياركم.. بل اختار ذلك النبيُّ طالوتَ لهم مَلِكاً بأمر الله تعالى، وكان طالوت في أعينهم لا يستحقّ ذلك المقامَ، فحاجَّهم نبيُّ الله بأنَّ الحكمَ وقيادةَ البشر لا يحقُّ لأحدٍ أن يبتَّ فيها إلاَّ الله وحده تبارك وتعالى، فهو الذي يعطيها لمن يشاء، ولا يحقُّ للعبد أن يتدخَّل بفرض إرادته في مُلْك الله تبارك وتعالى، ولا سيما في ما هو من شؤونه تعالى التي أعلن عن اختصاصه بها، كما بيَّنَ القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَـهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَـهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْـمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(20)
فالتدبُّر في هذه الآيات يكفي لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد. أضِفْ إلى ذلك أنَّ الشورى لا تكون في تشريع الأحكام الإلهية، فلا يصحُّ أن يتشاور المسلمون في تشريع الجهاد وعدم تشريعه مثلاً، بل قد يجوز لهم أن يتشاوروا في كيفية إجراء هذا الحكم ووقته ومكانه فقط.. وأمر الإمامة تتعلّق به أحكام في الشريعة كبيرةٌ وكثيرةٌ، وهى جُلّ أحكام الشريعة، فكيف يُترك هذا الأمر للبشر، ولم يُترك لهم ما هو دونه من أمور الشريعة؟!
ولذا ينبغي التدبُّر والتأمُّل في جميع أمور ديننا، والسعي من أجل الوصول إلى الحقِّ، وعدم التعصُّب للآباء والأهواء وغير ذلك.
الأحاديث الشريفة في المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)
لقد ذكرنا في ما سبق مسائل متعلِّقة بموضوع المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، من قبيل أنّه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، ومن قبيل أنّه يصلِّي بعيسى بن مريم (عليه السلام)، ومن قبيل أنّه (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، وغير ذلك..
فهذه المسائل تُعتبر من المسلَّمات بين المسلمين؛ لكثرة ما ورد فيها من الأحاديث من طرق السنّة والشيعة، ولكن ربّما يطّلع على هذا البحث من ليس له اطِّلاع كافٍ على كتب الحديث، ويتصوَّر أنَّ هذه المسائل المذكورة في هذا البحث لم ترد عند أهل السنة، وأنّها ممَّا اختصَّت به الشيعة؛ لذا أردت أن أذكر جزءاً يسيراً ممّا ورد في تلك المسائل من أحاديث وأقوال، خصوصًا من طرق أهل السنة.
ولم أذكر فيما سبق مع كلِّ مسألة ما يدلُّ عليها من الأحاديث والأقوال تجنّباً لتكرار تلك الأدلَّة؛ إذ بعض الأحاديث قد يدلُّ على أكثر من واحدة من تلك المسائل؛ فلذا أفردنا كلَّ تلك الروايات والأقوال بعض ما جاء عند أهل السنة في هذا المبحث المرتب كما يلي:
روى أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: "لا تقوم الساعة حتَّى يملك رجل من أهل بيتي أجلى أقنى، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت قبله ظلماً يكون سبع سنين"(21)
وأورد الهيثمي في "مجمع الزوائد" عن قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: "سيكون من بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثمَّ يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثمَّ يؤمر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه"(22)
وروى ابن حبَّان في صحيحه عن أبى سعيد قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "لا تقوم الساعة حتَّى يملك رجل من أهل بيتي أقنى يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت قبله ظلماً، يملك سبع سنين"(23)
وروى ابن حبَّان أيضاً عن ابن شهاب أنَّ نافع بن أبي نافع مولى أبي قتادة أخبره أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(24)
وأخرج الطبراني في "المعجم الصغير" عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "لا تذهب الدنيا حتَّى يملك رجل من أهل بيتي يوطئ اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً"(25)
وفي "المعجم الأوسط" أيضًا: عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: "كيف بكم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم"(26)
وأخرج البخاري في صحيحه أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(27)
وأخرج مسلم في صحيحه أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(28)
وأورد السيوطي في "الجامع الصغير": "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟"(29)
وأورد المتَّقي الهندي في "كنز العمال": "كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(30)
وقال القندوزي الحنفي في "ينابيع المودة لذوي القربى": "أخرج الكُنجي: بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): كيف أنتم إذا نزل بكم ابن مريم (علیه السلام) فيكم وإمامكم منكم. قال: هذا حديث حسن صحيح. أيضا رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما"(31)
وفي "فيض القدير" للمناوي ما نصُّه: "(كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم) أي الخليفة من قريش على ما وجب واطَّرد، أو وإمامكم في الصلاة رجل منكم، كما في مسلم أن يقال له [أي لعيسى (عليه السلام)]: صلِّ بنا، فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعض أُمراء تكرمة لهذه الأمَّة. وقال الطيبي: معنى الحديث أي يؤمُّكم عيسى حال كونكم في دينكم، وصحح المولى التفتازاني أنّه يؤمهم ويقتدي به المهدي لأنّه أفضل فإمامته أولى. وفي رواية ـ بدل إمامكم منكم ـ: ويؤمكم منكم، ومعناه: يحكم بشريعة الإسلام. وهذا استفهام عن حال من يكونون أحياء عند نزول عيسى؛ كيف يكون سرورهم بلقاء هذا النبي الكريم وكيف يكون فخر هذه الأمَّة وعيسى روح الله يصلي وراء إمامهم. وذلك لا يلزم انفصال عيسى من الرسالة؛ لأنَّ جميع الرسل بعثوا بالدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل والنهي عمَّا خالف ذلك من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث أنَّ كل واحدة منها حقٌّ بالإضافة إلى زمانها، مراعًى فيه صلاح من خوطب به، فإذا نزل المتقدِّم في أيام المتأخِّر نزل به على وقفه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: لو كان موسى حيًّا لما وسعه إلَّا اتِّباعي تنبيها على أنَّ اتباعه لا ينافي الإيمان به بل يوجبه".


المصادر :
1- شرح مسلم للنووي: 12/205
2- فلك النجاة لعلي محمد فتح الدين الحنفي: 129.
3- الشروط الأربعة عشر عند الزيدية، كما أوردها صاحب عدة الأكياس في شرح معاني الأساس ما يلي: 1ـ البلوغ والعقل. 2 ـ الذكورة. 3 ـ الحرية. 4 ـ المنصب [أي النسب الخاص]. 5 ـ الاجتهاد. 6 ـ الورع. 7 ـ اجتناب المهن المسترذلة. 8 ـ الأفضلية [أفضل أهل زمانه]. 9ـ الشجاعة. 10 ـ التدبير. 11 ـ القدرة على القيام بثمرة الإمامة. 12 ـ السخاء. 13ـ السلامة من المنفرات [كالجذام]. 14 ـ سلامة الحواس والأطراف
4- عدة الأكياس في شرح معاني الأساس للعلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي القاسمي: 2/136و138
5- أوائل المقالات للشيخ المفيد: 40
6- هود: 120
7- كتاب «المستغيثين» لابن بشكوال (ت 578 هـ) ص27
8- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 5/74
9- الإسراء: 13
10- البقرة: 124
11- عُدَّة الأكياس في شرح معاني الأساس / أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي القاسمي: (2/380)
12- النساء: 82
13- النساء: 94
14- الحجرات: 6
15- البقرة: 124
16- الشورى: 38
17- ص: 26
18- البقرة: 124
19- النساء: 75
20- البقرة: 246, 247
21- مسند أحمد: 3/17
22- مجمع الزوائد للهيثمى: 5/190
23- صحيح ابن حبان: 15/238
24- المصدر نفسه: 15/213
25- المعجم الصغير للطبراني: 2/148
26- المعجم الأوسط للطبراني: 9/86
27- صحيح البخارى: 4/143
28- صحيح مسلم: 1/94
29- الجامع الصغير للسيوطي: 2/299
30- كنز العمال, المتقي الهندي: 14/332
31- ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي: /299

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.